الأب متى المسكين … إعادة الإعتبار للرهبنة

كل من جرب السهر ـ عملاً أو أرقاً ـ حتى مطلع الفجر يكتشف أن أشد ساعات الليل حلكة تلك التي تسبق الفجر، ويعيش لحظة إنبثاق النور بغير مقدمات في مشهد مبهر، ولعل هذا يفسر حتمية المثابرة في سعى الاستنارة ومقاومة موجات اليأس والإحباط التي تغشانا في مسيرة الحياة، شيء من هذا لابد أن تخرج به بعيد قراءة كتاب [ الأب متى المسكين ـ السيرة التفصيلية ] الصادر عن دير القديس أنبا مقار في مناسبة الذكرى الثانية لرحيل الأب متى المسكين ( 1919 ـ 2006 )، وأحسب أن الكتاب يعد بمثابة رد اعتبار لمنظومة الرهبنة إذ جاء مواكباً للحملة الشعواء التي يشنها البعض عليها ـ عمداً أو جهلاً ـ خاصة بعد أحداث دير أبو فانا وتصويرها عند البعض بأنها حركة انعزالية ضد الطبيعة البشرية وتصب في مجرى الهرب من المشاركة الحياتية والهم العام، وعند بعض آخر هي تنظيم غامض يبعث على الارتياب يجيش الأقباط للحظة انقضاض وتمتلئ كهوفه ومغائرة بـ " الذخيرة " !!( وهكذا ) .

والكتاب يتجاوز كونه سرداً تاريخياً لحياة إنسان إلى ما هو أعمق إذ يقدم لنا محطات حياتية ذات مغزى إنساني واجتماعي وسياسي وروحي تفجر قضايا وإشكاليات عديدة، وتحدد معالم الطريق الشاق والطويل أمام أجيالنا الشابة تبعث فيهم قيماً راقية كادت تندثر تحت وطأة وزحف موجات الانفلات المادي العبثي واختلال المعايير ومن ثم العلاقات الإنسانية المجتمعية التي تتبدل بين لحظة وأخرى وفق خط سير المصالح والتوازنات وسطوة السلطة ومعها تتبدل القناعات والمواقف .

وسطوري هنا محاولة للاقتراب من بعض هذه المحطات التي تلقى الضوء على منهج هذا الرجل وكيفية مواجهته لمختلف المواقف على أصعدة مختلفة .

فعندما اندلعت حرب يونيو 1967 بادر إلى جمع أولاده الرهبان وحثهم على الاستعداد للموت ودعاهم للصلاة من أجل الوطن والمتحاربين، وكتب مقالاً تحت عنوان " كلنا تحت السلاح " ( أكد فيه أنه مستعد هو ورفقاؤه الرهبان أن يخرجوا من عزلتهم للدفاع عن مصر بأنفسهم وأن يضحوا بحياتهم، وكان مما قاله " إخوتنا في الميدان يحملون السلاح ويضمدون الجراح، وماذا نحن فاعلون ؟ هل نطلى زجاج النوافذ باللون الأزرق ونجلس في الصالونات نتسامر ؟! كلا يا سادة فنحن كلنا تحت السلاح. سلاح جنودنا في أيديهم يتكلم دماً وناراً، أما سلاحنا فهو في القلب يتكلم إيماناً بل دعاءً بل غيظاً بل عهداً على المقاومة حتى الموت ) وبعد انتهاء الحرب ألف كتابين ـ ما وراء خط النار، وميناء إيلات وحرب النقب ـ حملا دعوة نارية لكل مواطن مصري أن يهب للدفاع عن الوطن، وتلقى في أعقاب النشر خطاب شكر دافئ من الرئيس عبد الناصر. ويورد الكتاب واحدة من كلمات الأب متى المسكين عن هذه المحنة الكارثية يقول فيها ( لم أكن في حياتي كلها محملاً بمشاعر الحب والإخلاص لبلادي مثلما كنت يوم إعلان الحرب، فقد كنت أود أن أبذل كل شئ، كنت أود أن أكون وسط المحاربين لأبثهم شجاعتي وإيماني وحبي .. أود من كل قلبي أن تهتموا جداً بالأيديولوجية الأخلاقية التي تقدِّر نقطة الوصل بين السياسة والدين، وبين الحرب والسلام، وبين التقدم والتقهقر، والنصرة والانهزام… إن الفترة الحرجة التي تمر فيها مصر الآن هي مرحلة إيقاظ الوعي النائم، وتعنيف الضمير المتقهقر، وبناء لسيكولوجية شعبية أخلاقية، ربما لم يكن ممكناً أن يأتي الزمان بمثلها لمصر في مائة عام، إن الحرب الحاضرة طويلة، ولكن الذين يتمسكون بالله والإيمان يهون عليهم كل شيء).

وعلى صعيد أخر يضع يده على أحد مفاتيح ضبط الخدمة الكنسية عندما اجتمع مع بعض الشباب المتحمس للتكريس والخدمة فيؤكد لهم أن عملهم التكريسى يقتضى أمرين غاية في الأهمية هما، توفر العلاقة الشخصية بالرب يسوع واختبار خلاصه ومفاعيله قبل التكريس وقبل الخدمة، وتوقيع هذه الحياة على الروحانية الآبائية الأرثوذكسية القائمة على شركة الحياة والمحبة، وكان يؤكد على خطورة الفردية في الحياة الروحية والخدمة عموماً، وعندما ترجمت دعوة التكريس في شكل تنظيمي مرتب، وجد فيها الأب متى عودة للنسق الصحيح للخدمة وشكل من أشكال مساهمة العلمانيين فيها فقال (إن درجة النسك العالية في الدير كان يجب أن تولد منها في نفس الوقت أخوية من العلمانيين المكرسين لخدمة الكنيسة… ويستطرد: وأنا أرى أنه بدون خدمة العلمانيين بهذه الصورة فستنهار خدمة الكهنوت، في الكنيسة الأولى كان الموهوبون من أعضاء شعب الكنيسة هم الذين يقومون بالخدمة، بينما الأسقف هو الذي يرتبهم ويرعاهم، وكان الكهنة خداماً  للأسرار الكنسية، فلما تشددت الرهبنة ابتلعت الخدمة والخدام من أعضاء شعب الكنيسة، وهكذا ترك العلمانيون الخدمة للرهبنة، ولما ضعفت الرهبنة ضعفت الخدمة، كما أصبح العلمانيون لا يقومون بعملهم ولا يعرفون مسئولياتهم في الخدمة .

وقد نبه الأب متى المسكين إلى حاجة الكنيسة لتأسيس تيار مواز للرهبنة فيما يعرف بالتكريس، له ضوابطه وآلياته ونمطه وربما يكون هذا مماثلاً للدعوة إلى نمط الرهبنة الخادمة في العالم وقد طبقتها كنائس تقليدية شقيقة وأنتجت مئات بل وآلاف المدارس والمستشفيات ودور الإيواء وكان لها تأثيرها الواضح في نشر قيم وروح السلام والمحبة وخدمة البشرية في مجتمعات تعانى من الفقر والجهل والمرض .

وقد استطاع الأب متى المسكين أن يعبر هوة الصراع الطائفي والعقائدي، كنتيجة طبيعية لعمق الحياة في المسيح، وقد روى العديد من الاختبارات التي كانت محل تعزية وتعضيد له في مرحلة إقامته في وادي الريان ( 1960 ـ 1969 ) وهى مرحلة جسدت كل معاني الألم والحروب الروحية والمتاعب والمضايقات من هنا وهناك، يقول الكتاب ( سرد لنا أبونا هذه الرؤيا إذ أرسلت له السماء أثناء هذه التجارب روح قديسة راهبة، تكللت في المجد وجاءت لتعزيه وتعينه في جهاده، إذ حدث أن أرسل أحد الأحباء إلى وادي الريان نسخة من كتاب حياة القديسة تريزا للطفل يسوع ـ من أشهر القديسات الكاثوليك ـ فقرأها الرهبان وتأثروا بها، ثم أعطوها لأبينا الروحي لكي يقرأها، وإذ كان في ذلك الوقت يعانى من شدة التجارب والضيقات فقد تعزى بهذه السيرة المقدسة، ثم أرادت السماء أن تعزيه أكثر، إذ ظهرت له القديسة تريزا في رؤيا مع جماعة من العذارى الراهبات المكللات بالمجد وأخذته القديسة بالروح إلى موضع رقاد جسدها في كنيستها بفرنسا ـ كاتدرائية ليزيو ـ وكان أبونا وكأنه يشرف من أعلى على الكنيسة ويراها من فوق منارتها، فرأى كل موضع في الكنيسة مع أدق تفاصيلها، ثم قالت له القديسة تريزا " نحن نصلى من أجلك فلا تخف ولا تحزن " فتعزى جداً أبونا بهذا الكلام، ثم في نهاية الرؤيا أعطته هدية قائلة له خذ هذه الهدية هي لك، وكانت عبارة عن ريشة كتابة وحولها جناحان من ذهب وفى نهايتها مبراة لبرى سن الريشة كلما لزم الأمر، وكانت الهدية تعنى موهبة الكتابة الروحية، التي أعطاها الله لأبينا الروحي وأغنى بها الكنيسة ونفوس المؤمنين بالكتابات الروحية واللاهوتية التي أنارت نفوسهم وأذهانهم في هذا الجيل ) وفى موقع أخر يذكر الكتاب أن الأب متى المسكين كان يسمح للرهبان الأجانب الذين يقضون خلوة لأكثر من يوم بالاشتراك مع رهبان الدير في الأعمال اليومية وأثناء ذلك كان الجميع يشعرون برباط الألفة والمحبة الإلهية التي تربطنا فوق كل اعتبارات حالت منذ قرون طويلة من الفرقة .. وحين سئل عن الوحدة بين الكنائس قال هي موجودة وتحتاج فقط إلى قلب يسكن فيه حب وسلام وخال من الذاتية والتحزب والتعصب، نحن نعيش الوحدة في ملء الفرح أما تحقيقها الزمني فهذا متروك للرؤساء حينما يصطلحون بعضهم مع البعض .

ومازال الإبحار في حياة هذا الرجل مستمراً، لنتعرف على رؤيته لآداب التعليم وضوابطه وتصوره للمحاكمات الكنسية بحسب الآباء ودور الكنيسة في رعاية الأسرة وإشكالية الطلاق ثم رؤية الراهب والرهبنة للجمال وللحياة فإلى لقاء

 Kamal_zakher@ hotmail.com