لنتأمل مع بندكتس 19-31 اغسطس

التاسع عشر من أغسطس

روما، الأربعاء 20 أغسطس 2008 (zenit.org).

 ننشر في ما يلي تأمل اليوم من اغسطس للبابا بندكتس السادس عشر، من كتاب "بندكتس".

 العبادة وهويتنا الحقة

الابتعاد عن الله يقود لا محالة إلى الاختباء تحاشيًا لله. تتحول ثقة المحبة فجأة إلى خوف من الإله الجبار الخطير والمرعب… العبادة، إذا ما فهمناها بمعناها المناسب، تعني أنني أنا ذاتي حقًا فقط عندما أقيم علاقات، وفقط في تلك الحال، أنا أمين لمبدأ كياني الداخلي. وحياتي في هذا الإطار هي توق إلى إرادة الله، أي نحو حياة مطابقة أكثر للحقيقة والحب. لا يتعلق الأمر بالقيام بأمور لاسترضاء الله. العبادة تعني أن أقبل أن ما من شيء محدود يستطيع أن يكون هدفي أو أن يقرر وجهة حياتي، بل أنه يجب عليّ أن أتسامى على كل الأهداف الممكنة… يعتنق الله دومًا ما يبدو غير مهم ويُظهر نفسه للإنسان في ما يبدو مجرد غبار تافه، أو، كما في الناصرة، في ناحية صغيرة مجهولة. ولذا، فالله يصلح دومًا مقاييسنا وأحكامنا… والإنسان عبر إعطاء أهمية متضخمة لذاته يدمر ذاته الحقيقية.

العشرون من أغسطس

لا تدخلنا في تجربة

مجرد كلمة "أَب" التي ندخل عبرها في علاقة أبناء مع الله هي كلمة لا يسبر غور عمقها. ولكن الـ "نحن" [أبانا] هو جزء لا يتجزأ منها. فليس عبر قولي "أنا" بل عبر قولي "نحن" أدخل ضمن هذه العلاقة البنوية. ولذا فإن بنية هذه الصلاة تتضمن غنىً أظهرته فقط بشكل تدريجي التفاسير والشروح على مر العصور. وما يصح بشأن كلمة الله في الكتاب المقدس يصح بشأن صلاة الأبانا: فهي لها بنيتها الخاصة – وهي ذاتها دومًا – ومع ذلك، فلا يمكن سبرها بالكلية، وهي دائمة التجدد. وهي تقودنا دومًا إلى أبعاد عميقة… الشخص المصلي يعرف أن الله لا يريد أن يرغمه على القيام بما هو خطأ. ويطلب من الله أن يهديه في التجربة، إذا جاز التعبير. تقول رسالة القديس يعقوب بوضوح أن الله، الذي لا ظلال فيه، لا يجرب أحدًا. ولكن الله يمتحننا – فكروا بإبراهيم – لكي يجعلنا ننضج، لكي يوقفنا وجهًا لوجه أمام أعماقنا بغية أن يقودنا إلى ذاته بشكل أكمل. بهذا المعنى، تحمل كلمة "تجربة" جملة من المعاني. الله لا يريد أبدًا أن يقودنا إلى ما هو شر؛ وهذا أمر واضح تمامًا. ولكن من الممكن ببساطة أنه لا يبقي التجربة بعيدة عنا، وأنه، كما سبق وقلنا، يساعدنا في التجربة ويخرجنا منها. نطلب إليه ألا يدخلنا في التجارب التي قد تقودنا إلى سبل الشر؛ ألاّ يخضعنا للامتحان الذي يرهقنا أكثر من قدراتنا؛ ألاّ يحجب قوته ويتركنا وحدنا، لأنه يعرف ضعفنا وبالتالي يساعدنا لكي لا نضيع. 

الحادي والعشرون من أغسطس


علاقة الآب-الابن

 أعتقد أنه من الأهمية بمكان أن أسلط الضوء على علاقة الآب-الابن الفريدة جدًا. هناك، في المقام الأول، قاعدة شاملة للمعرفة تعبر عنها هذه العبارة: "ما من أحد يعرف الآب إلا الابن؛ ما من أحد يعرف الابن إلا الآب". وهي تشير إلى أن المِثل وحده يستطيع أن يعرف المِثل. حيث ينتفي التماثل الداخلي مع الله تنعدم إمكانية معرفة الله. فمعرفة الله ممكنة، بالمعنى الحصري، لله وحده. وبالتالي، أن تُسبغ معرفة الله على الإنسان، يعني أن الله يجذب الإنسان إلى علاقة صداقة وأن الإنسان يصبح مماثلاً لله لدرجة كبيرة بحيث يصبح التعرف والمعرفة ممكنين. وعندها يتابع يسوع: ما من أحد يعرف الآب إلا الابن، والذي يريد الابن أن يكشفه له". بكلمات أخرى: التعرف والمعرفة هما فقط ثمرة اتحاد إرادات… ما كان لنموذج العلاقات بين الأب والابن [البشريين] أن يكون تشبيهاً يرفعنا فنتمكن من إلقاء نظرة بعيدة إلى سر الله الباطني، لو لم يكن هناك أثرًا لله فيه. هذه العلاقة المحددة بين الأب وابنه – والتي هي علاقة عطاء وأخذ وعطاء في المقابل – هي أساسية للحياة البشرية. إذا تابع المرء التفلسف من هذا المنطلق، فعليه لا محالة أن يطرح مسألة العائلة البشرية، ويصل المرء بالتالي إلى مواجهة بعض المحدوديات. ولكن، على كل حال، هذه العلاقة الخاصة هي عظيمة بحق لدرجة أنها تستطيع أن ترتفع وتسمو مثلما سبابة تشير إلى العلاء.

الثاني والعشرون من أغسطس

 نوعية أمانة مريم

 في مريم، نالت الأرض وجهًا إنسانيًا، وأكثر من ذلك: وجهًا مسيحيًا، وجه أم يسوع. عبر اللجوء إليها، تتحول الروحانية الطبيعية إلى إيمان، إلى لقاء بتعامل الله مع تاريخ البشر، والذي يظهر ثمره في حياة مريم، في تجسد الله. لذا من الصحيح القول بأن الإيمان والدين الطبيعي تصالحا في مريم… لقد حفظت مريم الكلمة في قلبها وتأملت بها (لو 1، 29؛ 2، 19؛ 2، 51). قبل كل شيء، يتم تصوير مريم إذًا كمنهل للتقليد. فهي تحفظ الكلمة في ذاكرتها؛ ولذا هي شاهدة وثيقة لما حدث. ولكن الذاكرة تتطلب أكثر من مجرد تسجيل خارجي للأحداث. يمكننا أن ننال ونتمسك بالكلمة فقط إذا ما جعلناها تلمسنا في داخلنا. إذا لم يمسني شيء ما فلن يلج إلى داخلي؛ وسيذوب في تيار الذكريات ويفقد وجهه الخاص. إنه لواقع ملموس أن ما نفهمه وما نحفظه يتماشيان معًا. إذا لم أفهم حقًا أمرًا ما، فلن أتمكن من إشراك الآخرين به بشكل مناسب. فقط عبر الفهم يمكنني أن أنال حقًا واقعًا ما؛ والفهم، بدوره، يرتكز على مقياس داخلي من التماثل مع ما فهمت. يرتكز على الحب. لا يمكنني أن أفهم أبدًا ما لا أحب. ولذا فنقل رسالة الإنجيل يحتاج إلى أكثر من ذاكرة تستطيع أن تحفظ أرقام الهاتف: ما تحتاجه هو ذاكرة القلب، التي من خلالها أستثمر أمرًا ما في ذاتي. الالتزام والأمانة ليسا متضادين بل هما أمران مترابطان.

الثالث والعشرون من أغسطس

أبوة الله

إذا ما ألقينا نظرة على الميثولوجيا الوثنية، يتم تصوير الإله-الأب زيوس، على سبيل المثال، كمزاجي، متقلب، وعنيد: الأب يجسد القوة والسلطان، ولكن دون مستوى مناسب من المسؤولية، ومن تحديد للقوة عبر العدالة والطيبة. أما الآب، كما يصوره لنا العهد القديم فهو مغاير جدًا، وهو مختلف أكثر بكثير في ما يقوله يسوع عن الآب: ففي هذا الحال، ينسجم السلطان مع المسؤولية؛ نحن بصدد صورة قوة موجهة توجيهًا صائبًا، هي قوة حب، لا تطغى بالجبروت بل تخلق الثقة. أبوة الله تعني إخلاصه لنا، وقبول لنا في أعماق كياننا من قبل الله، بحيث نستطيع أن نكون خاصته ونتوجه إليه بحب طفل لأبيه. بكل تأكيد، إن أبوته تعني أنه يضع المقاييس ويصلحنا انطلاقًا من صرامة تكشف عن حبه الذي هو مستعد دومًا أن يغفر لنا. لعل قصة الابن الشاطر هي أكثر التصاوير تأثيرًا لله الآب التي تفوه بها فم يسوع في كامل العهد الجديد. بهذا المعنى، يتم إصلاح خبرتنا للأبوة؛ ويتم وضع مقياس للأبوة انطلاقًا من أبوة الآب. صورة الله الآب في الكتاب المقدس ليست إسقاطًا ينطلق من خبرتنا الذاتية؛ بل على العكس: فانطلاقًا من العلاء، نتعرف بشكل جديد بالكلية على ماهية الأبوة الحقة، وما يمكن ويجب أن يكون الأب حقًا في ما بين البشر.

الرابع والعشرون من أغسطس

الخلاص، العهد، والعبادة

السبت هو علامة العهد بين الله والإنسان؛ يلخص السبت الكنه الباطني للعهد. يمكننا وهذه الحال أن نشرح الغاية من سرد الخلق بهذا الشكل: لقد وُجدت الخليقة لكي تكون فسحة للعهد الذي يريد الله إقامتَه مع الإنسان. هدف الخلق هو العهد، أي علاقة الحب بين الله والإنسان. حرية البشر ومساواتهم التي يسعى السبت إلى إحقاقها، ليست مجرد نظرة أنثروبولوجية أو اجتماعية؛ بل يمكننا أن نفهمها أيضًا ببعدها اللاهوتي. فقط عندما يدخل الإنسان في عهد مع الله يستطيع أن يكون حرًا حقًا. وعندها فقط تظهر جليًا مساواة وكرامة كل البشر. وبما أن كل شيء يهدف إلى العهد، فمن الأهمية بمكان أن نرى أن العهد هو علاقة: هو هبة الله ذاته للإنسان، ولكن أيضًا جواب الإنسان لله. جواب الإنسان لله الصالح هو الحب، وحب الله يعني عبادته. إذا كان الخلق فسحة للعهد، أي الفسحة التي يلتقي فيها الله والإنسان، يجب إذًا أن نفهم هذه الفسحة كفسحة عبادة… ما هي العبادة؟ ماذا يجري في العبادة؟… العبادة تعني الخروج من حالة الانفصال، من الاستقلالية الظاهرة، من العيش فقط من أجل الذات وفي الذات. تعني أن نخسر ذاتنا كالسبيل الوحيد لإيجاد ذاتنا (مر 8، 35؛ مت 10، 39). لهذا السبب تمكن القديس أغسطينوس أن يقول أن "الذبيحة" الحقة هي "مدينة الله"، أي البشرية التي حولها الحب، تأليه الخليقة واستسلام كل الأشياء لله: الله كلٌ في الكل (1 كور 15، 28). هذه هي غاية العالم. هذا هو كنه الذبيحة والعبادة.

 الخامس والعشرون من أغسطس

التعاون مع الله في الليتورجية

هذا هو جوهر جدة الليتورجية المسيحية وعلامتها الفاصلة: الله بالذات يعمل ويقوم بما هو جوهري. يفتتح الله خلقًا جديدًا، ويمكننا من الوصول إليه، لكيما عبر عناصر الأرض، عبر تقادمنا، نستطيع أن نتواصل معه بطريقة شخصية… هل يستطيع الإنسان الخاطئ والمحدود أن يعاون في عمل الله اللامتناهي والقدوس؟ نعم يستطيع، وذلك لأن الله بالذات صار إنسانًا، صار جسدًا، وفي الليتورجية يأتي مرارًا وتكرارًا عبر جسده إلينا نحن العائشين في الجسد. إن حدث التجسد برمته، مع الصليب والقيامة والمجيء الثاني حاضر كالسبيل الذي من خلاله يجذب الله الإنسان إلى التعاون معه… طبعًا، لقد سبق الله وتقبل ذبيحة اللوغوس وهي قائمة إلى الأبد. ولكن يجب أن نصلي أيضًا لكي تضحي هذه الذبيحة ذبيحتنا نحن، ولكي نتحول نحن بالذات إلى اللوغوس، لكي نمتثل إلى اللوغوس، ولكي نضحي جسد المسيح الحق. هذه الصلاة بالذات هي سبيل إلى التجسد والقيامة، سبيل نستقله في وجودنا المتنقل… في كلمات القديس بولس، المسألة هي مسألة "اتحاد بالرب" لكي نصير "روحًا واحدًا معه" (1 كور 6، 17). محور المسألة هو أن الفرق بين عمل المسيح وبين عملنا قد تلاشى الآن. هناك عمل واحد فقط، وهذا العمل هو في الوقت عينه عمله وعملنا – وهو خاصتنا لأننا صرنا "جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا" معه. تقوم وحدة الليتورجية الافخارستية في أن الله بالذات يعمل وأننا ننجذب إلى صلب عمل الله هذا.

السادس والعشرون من أغسطس

السيامة الكهنوتية والافخارستيا

ارتباط الاحتفال بالافخارستيا بالسيامة الكهنوتية ليس أمرًا من اختراع الكنيسة… التلفظ بتلك الكلمات ممكن فقط في سر الكنيسة ككل، وعبر السلطة التي تملكها الكنيسة وحدها، في وحدتها وملئها. السيامة الكهنوتية هي أن يوكل إلى شخص ما الرسالة التي تحملها الكنيسة برمتها في وحدتها والتي نالتها بدورها… هناك أمر عظيم يحدث هنا وهو أعظم من كل ما نستطيع القيام به من تلقاء ذاتنا. لا تعتمد عظمة ما يحدث على طريقة قيامنا به، ولكن كل جهودنا للقيام حسنًا بهذه الخدمة تصب فقط في إطار خدمة هذا العمل العظيم الذي يسبق عملنا والذي لا نستطيع القيام به من تلقاء ذاتنا. يجب أن نتعلم من جديد أن الافخارستيا ليست أبدًا ما تقوم به الجماعة فقط، بل أننا ننال فيها من الرب ما قد وهبه للكنيسة بأسرها. أتأثر دومًا لدى سماعي سرد الأخبار التي جرت في السجون النازية، أو في المعتقلات الروسية، حيث اضطر الناس أن يتخلوا عن الافخارستيا لأسابيع أو لشهور ولكنهم لم يقوموا بالعمل العشوائي المتألف بالاحتفال بها من تلقاء ذواتهم؛ بل إنهم جعلوا من شوقهم، ومن انتظارهم للرب الذي وحده يستطيع أن يهب ذاته لهم، احتفالاً بالافخارستيا. في افخارستيا الشوق هذه استعدوا لقبول هبته بشكل جديد، وتقبلوها كأمر جديد، عندما كان أحد الكهنة بشكل أو بآخر يجد قليلًا من الخبز والخمر.

السابع والعشرون من أغسطس

سبيل المعرفة المؤدي إلى الله

عندما يقف المرء بصدد الأسئلة الأخيرية لا يعود التفكير منفصلاً عن العيش. خيار الله هو في الوقت عينه قرار عقلي ووجودي – والواحد يقرر الآخر بشكل متبادل. لقد مثّل أغسطينوس هذا الترابط بشكل دراماتيكي في قصة ارتداده. يتحدث عن عوائد حياة تائهة موجهة بالكلية إلى الأمور المادية… يتحدث عن سعيه للانعتاق لكي يوضح سبيله صوب الله، صوب الإله العامل، ويشبه هذه الحالة بحالة شخص حالم يسعى إلى أن يستيقظ ليتملص من الحلم، ولكنه يعود مرة وثانية فيغوص في عالم الأحلام. يصف كيف أنه اختبأ وراء ظهره، إذا جاز التعبير، وكيف أن الله أخرجه من مخبئه عبر كلمة صديق، فاضطر أن ينظر إلى ذاته وجهًا لوجه. تتطلب المعرفة الجديدة أن تُرفق بحياة متجددة تفتح آفاقنا المنغلقة. لهذا السبب كانت الكنيسة القديمة تنظر إلى الارتداد إلى الإيمان… كصداقة حياة جديدة، تضحي ممكنة فيها خبرات جديدة وتقدم داخلي… إن سبيل المعرفة التي تقود إلى الله وإلى المسيح هي أسلوب عيش. في اللغة الكتابية: لكي نتعرف إلى المسيح من الضروري أن نتبعه. فقط بهذا الشكل نعرف أين يقيم. ردًا على السؤال: "أين تقيم؟" (من أنت؟)، يجيب يسوع دومًا بهذا الشكل: "تعال وانظر" (يو 1، 38 – 39). لقد تمكن التلاميذ -أن يعطوا جوابًا للسؤال عن يسوع يختلفه عن أجوبة "البشر" [بشكل عام]، لأنهم عاشوا برفقة يسوع.

 

الثامن والعشرون من أغسطس

الارتداد كبداية جديدة

يرتكز اللاهوت على بداية جديدة في الفكر ليست هي ثمرة تفكيرنا، بل هي ثمرة اللقاء مع "الكلمة" الذي يسبقنا جميعًا ودومًا. الارتداد هو فعل قبول لهذه البداية الجديدة. "بما أن لا لاهوت دون الإيمان، لذا ما من لاهوت دون ارتداد. وللارتداد أشكال مختلفة عدة. فليس من الضروري أن يكون حدثًا فوريًا، كما كان الحال مع أغسطينوس… ولكن بشكل أو بآخر يجب على المرتد أن يجاهر شخصيًا معلنًا نَعَمه لهذه البداية الجديدة ويتحول حقًا من الـ "أنا" إلى الـ "لست أنا من بعد"… هذا هو السبب وراء تعلق الإيمان بالمرتدين تعلقًا وثيقًا؛ هذا هو السبب الذي يوضح لنا لِمَ يستطيع التائبون مساعدتنا على وعي أسباب الرجاء الكامنة فينا (1 بط 3، 15) وعلى الشهادة لها. الارتباط بين الإيمان واللاهوت لا يقتصر على نوع من العاطفية أو الهذر التقوي بل هو نتيجة مباشرة لمنطق الأمور وهو ثمرة التاريخ بكامله… لا يمكننا فهم أغسطينوس بمعزل عن مسيرته المولعة نحو حياة مسيحية جذرية. وأيضًا، ما كان اللاهوت البونافنتوري والفرنسيسكاني في القرن الثالث عشر ممكنًا بمعزل عن الصورة الجديدة والمعبرة للمسيح التي حملتها شخصية القديس فرنسيس الأسيزي، وما كان توما الأكويني ليُوجد لولا نهضة الإنجيل والتبشير التي حملها القديس عبد الأحد.

التاسع والعشرون من أغسطس

ظلمة يوحنا المعمدان

هذا هو الواجب الذي يقع على عاتق المعمدان أثناء وجوده في السجن: أن يضحي طوباويًا عبر قبوله إرادة الله الغامضة دون طرح أسئلة؛ أن يصل إلى تلك النقطة حيث لا يطلب وضوحًا خارجيًا، مرئيًا، لا غموض فيه، بل حيث يكتشف الله في ظلمة هذا العالم وفي ظلمة حياته، ويضحي بهذا الشكل طوباويًا بالعمق. بالواقع، لا يمكننا أن نرى الله كما نرى شجرة تفاح أو كما نرى إشارة نيون، فهذه طريقة خارجية بحت لا تتطلب التزامًا داخليًا. يمكننا أن نراه تعالى فقط عبر صيرورتنا مثله، وعبر توصلنا إلى مستوى الحقيقة التي فيها يتواجد الله؛ بكلمات أخرى، عبر تحررنا من كل ما هو معادٍ للألوهة… ولذا، كان على يوحنا في سجنه أن يجيب مرة أخرى ومن جديد على دعوته إلى الارتداد (metanoia) أي إلى تغيير في الذهنية، لكي يتمكن من التعرف على إلهه في الليل الذي تقوم فيه كل أمور الأرض. لا يمكننا أن ندل مسيحيي اليوم على سبيل الصداقة مع الله إلا كتخلٍ عن البحث عن الوضوح الخارجي والبدء في الانكفاء عن المرئي والتوجه إلى اللامرئي، وإيجاد الرب الذي هو الركيزة والدعامة الحقة لوجودنا. فقط عبر تصرفنا بهذا الشكل يمكننا أن نفهم أهم أقوال المعمدان: "ينبغي له أن ينمي ولي أن أنقص" (يو 3، 30). سنتعرف على الله بقدر ما ننعتق من ذواتنا.

الثلاثون من أغسطس

كيف تدخلنا الليتورجية في حياة الله؟

يشمل "اليوم" كامل زمن الكنيسة. ولذا، في الليتورجية المسيحية، لا نتقبل فقط شيئًا من الماضي، بل نضحي معاصرين لما هو ركيزة تلك الليتورجية. هذا هو القلب الحقيقي والعظمة الحقة للاحتفال الافخارستي، الذي هو أكثر، بل أكثر بكثير من وليمة. فالافخارستيا تجتذبنا وتجعلنا معاصرين لسر المسيح الفصحي، في عبوره من الخيمة العابرة إلى حضور الله والإقامة تحت نظره… وإذا كان الماضي والحاضر يتداخلان بهذا الشكل، وإذا لم يكن كنه الماضي مجرد أمر عابر بل قوة تصل إلى الحاضر وتمتد إلى المستقبل أيضًا، وهو حاضر في ما يحدث في الليتورجية: فيجب أن نسميها، في جوهرها، استباقًا لما سيأتي… ترتكز هذه الليتورجية على آلام رجل يصل عبر أناه إلى سر الإله الحي بالذات، عبر الإنسان الذي هو الابن. كما ويحمل أصل الليتورجيا مستقبلها بمعنى أنها تجسيد، وذبيحة تفويضية، تحمل في طياتها كل الذين تمثّلهم؛ وهي ليست خارجًا عنهم، بل هي تأثير يحولهم. أن نضحي معاصرين لفصح المسيح في ليتورجية الكنيسة هو أيضًا واقع أنثروبولوجي. الاحتفال ليس مجرد طقس، ليس مجرد "لعبة" ليتورجية. فالغاية منها هي أن تجعل وجودي مشرّبًا من اللوغوس، وتُماثل  آنيتي الباطنية مع هبة الذات التي يقوم بها المسيح. على هبة ذاته أن تضحي خاصتي، وبهذا الشكل أضحي معاصرًا لفصح المسيح وأدخل في حياة الله.

الحادي والثلاثون من أغسطس

الليتورجية كولوج في الواقع

هناك تجربة تكمن في اعتبار هذا البعد من الليتورجية –  أي تعليقها بين صليب المسيح وولوجنا الحي في ذلك الذي تألم بدلاً عنا ويريد أن يضحي واحدًا معنا (غل 2، 13 . 28) – كتعبير عن متطلباتها الخلقية. من دون شك، تتضمن العبادة المسيحية بعدًا خلقيًا، ولكنها تتجاوز إلى حد كبير الخلقية البحتة. لقد مضى الرب أمامنا. لقد سبق وفعل ما يجب علينا فعله. افتتح السبيل الذي لم يكن بوسعنا أن نكون فيه روادًا، لأن قوانا لا تستطيع أن تمتد لتبني جسر تواصل بيننا وبين الله. لقد صار هو بالذات الجسر. والتحدي الآن هو أن نسمح له بأن يعانقنا بذراعيه المشرعتين اللتين تجذباننا إليه. هو القدوس، يبجلنا بقداسته التي لا يستطيع أحد منا أن يحوزها لذاته. يتم إدخالنا في هذه العملية التاريخية الضخمة التي تقود العالم نحو تحقيق صيرورة الله "كلاً في الكل"… لم تعد الليتورجية المسيحية عبادة تعويضية، بل مجيء المخلص الذي يمثلنا إلينا، ودخول في تمثيله الذي هو ولوج في الواقع بالذات… الليتورجية هي السبيل الذي بواسطته يدخل الزمان الأرضي في زمن يسوع المسيح وحاضره. إنها نقطة التحول في عملية الفداء. يحمل الراعي الخروف الضال على كتفيه ويقوده إلى الحظيرة.