بدايةً ينبغي أن نؤمن أن الله ليس فكرة عامة بل يدخل في علاقة شخصية، وهذه العلاقة ليست علاقة عاطفية ضيقة بل هي علاقة في التاريخ من أجل تحريرنا، وهي تهدف دائماً لصنع التحرير تاريخياً و جماعياً دون أن يذوب الشخص في الجماعة .ومشيئة الله الآب هي مشيئة خير الإنسان : فلا مكان لتعصّب أو إذلال أو تسلّط من الآب. فمشيئته مشيئة محبّة، إذْ جاد بابنه وخلّص به، وتبنّى به، وقدّس به، وإذ أرسل روحه القدوس .وتُوجّه مشيئة الآب هذه الإنسان نحو الأعمال الصالحة للملكوت والمجد .لنسترجع كلمات الملك الذي يقول في الدينونة العظمى إنَّ الملكوت معدّ لكم منذ إنشاء العالم لا يقول في حديثه عن النار إنها معدَّة (لكم) بل [ لإبليس و ملائكته ] (مت25/34،41). وفي رواية يوحنا عن الدينونة، لا يتحدث عن القضاء إلاّ بمعنى الحياة لا الإدانة :[كما أنَّ الآب يقيم الموتى ويحييهم فكذلك الابن يحيي من يشاء لأنَّ الآب لا يدين أحداً ](يو5/21-22). فمشيئةُ الله كلها لخير الإنسان، مبنية على علاقة مع الثالوث – بنوّة للآب وأخوّة للابن وسكنى الروح القدس – لذا فهي علاقة تتجاوز { الخير / الشرّ، الحلال / الحرام، الثواب / العقاب } .
مشيئة الآب مشيئة أزلية – قبل إنشاء العالم –و لم تبطل خطيئة الإنسان الحرّ قصدَ الله الأزلي بل جعلتْه يبدع الخلاص و الفداء لتتم مشيئته الأزلية كاملة، التي لا تلغي حرّيةَ الإنسان بل تستدعيها، فالآب ينتظرُ تجاوب الإنسان مع مشيئته، فيحثه على الاشتراك معه في الخلاص و القداسة، فيثمر ثمارَ الأعمالِ الصالحة، فينال هكذا الملكوت و المجد. لا تعني مشيئة الله هنا مجرّد رغبة كالتي تخطر على قلب الإنسان، بل رغبة ملحة يريدها الإنسان بكلِّ عواطفه وأفكاره و وجدانه، لذا عندما نتحدّث عن مشيئة الله، إنما نتحدّث ونعبِّر عن مقاصدِ الله السامية للبشر التي يريدها أن تتحقق في حياتهم .ولا يكفي أن نعرف مشيئة الله معرفة العقل بل أن نختبرها عمليا في حياتنا ونقرأ قول الكتاب :[ تغيروا… لتختبروا ما هي مشيئة الله ](رو12/2) ويصلّي بولس الرسول من أجل أعضاء كنيسة كولوسي […أن تمتلئوا من معرفة مشيئته في كل حكمة وفهم روحي](كو1/9). ومشيئة الله حكيمة لايمكن للبشر أن يدركها إدراكًا تامًا [ولكن من يعلم أفكارك أيها الرب الإله أو يدرك مشيئتك. ] (حك 9/13) ونجد في كتاب ميخا : [ قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح و ماذا يطلب منك الرب إلاّ أن تصنع الحق و تحب الرحمة و تسلك متواضعًا مع إلهك ] ( ميخا 6/8)
ويمكن التعبير عن مشيئة الله من خلال النقاط الخمسة التالية :
1-الخلاص :
إن معرفة مشيئة الله هي جزء من بناء حياة الإيمان المسيحي، فعلاقة البنوّة تعتمد أساسا على معرفة الابن بأبيه، و بالتالي معرفة الابن لمشيئة أبيه ولاسيّما بالنسبة له .وإرادة الله خلاص البشر : [ لأن هذه (مشيئة) الذي أرسلني أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير .](يو6/40) فالخلاص يقود إلى البنوة، كما ورد في الكتاب :[ الذي بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا من العالم الحاضر حسب مشيئة الله وأبينا .](غلا 1/ 4) .
2- القداسة :
لا تقف مشيئة الله عند الإنقاذ من الخطيئة بل تمتد إلى تقديس الإنسان، فإن [مشيئة الله قداستنا ] (تسا 4/3).[ كونوا قديسين لأنني قدوس ]( 1بط1/14-16)، فالإنسان هيكل لروح الله (1كو 3/6)، وبذلك [ لا يصبح الإنسان ملكا لذاته بل لله ](1كو 6/9).
3- الأعمال الصالحة :
يترجم الخلاص و القداسة في حياة البشر العملية بنعمة مجانية من الله الآب وهو مصدر الخلاص .
4- الملكوت :
تقود هذه الأعمال الصالحة إلى ملكوت الله :[تعالوا، يا من باركهم أبي، فرثوا الملكوت المعد لكم منذ إنشاء العالم ](مت25/34)
5- المجد
إن الملكوت يجعل البشر في حالة مجد ،وكثيرا ما يشيد بها الرسول بولس، وهي من صميم مشيئة الله الآب : [ شاء الله … أن يخبر عن سعة مجده في آنية الرحمة التي سبق أن أعدها للمجد أي فينا نحن الذين دعاهم، لا من بين اليهود وحدهم، بل من بين الوثنيين أيضا.](رو9/23-24)
مشيئة الله وحرّية الإنسان
أليست مشيئة الله تتعارض مع حرّية الإنسان ؟؟ ألا تتنافى الحرّيتان ؟؟ أليست الواحدة على حساب الأخرى، فإما الله قدير وإما الإنسان حرّ؟؟
لمعرفة المزيد عن موضوع حرية الانسان راجع المقالات التالية ( مايعني ان تكون حرا؟ الحرية من وجهة نظر مسيحية، واقع حرية الانسان)