عمل الروح القدس في الجهاد اليومي المتواصل

  جميل ولذيذ عمل روح الله داخل النفس البشرية فهو يعمل فى عمق كيان الانسان (الفكر، الضمير، الكيان، الذهن)، لأن الدوافع والأسباب الحقيقية التي تحرك الإنسان ويعمل بمقتضاها، لا توجد الا في عمق ذاته. أما على السطح لا توجد إلا الدوافع المزيفة التي تحركها التقاليد البشرية، وإيحاءات الغير الغير، وفي عمق الكيان نشعر بعمل روح الله من خلال الآتي: 

أولاً: الصراع الداخلي

يجد الإنسان في داخل أعماقه صراع دائم بين الخير والشر، العادات الرديئة والجيدة، وهدف هذا الصراع هو أن يبغض الإنسان الخطيئة على كل المستويات وخاصة في عمق كيانه. هذا من صميم عمل الروح القدس، وإذا انحاز الإنسان واستجاب لعمل روح الله بضميره وفكره وعقله، يجد الروح القدس مسكنا له داخل هذا الشخص "وأنا فى أعماق كياني أبتهج بشريعة الله" رو 7/22. أما اذا انحاز الشخص بعقله وضميره للشر نهائيا، ورفض بإصرار قبول عمل روح الله، فينعدم التبكيت داخله وكذلك الصراع بين الخير والشر ويفقد ذلك الإنسان النور الإلهي ويفرح بالشر (رو1/32 ). وهنا يجد ابليس مسكنا له، فيضعف الإرادة ويشكك في كل عمل صالح ويستسلم الإنسان للشر بدون تبكيت، أما إذا ساد الروح القدس على الذهن وقبل الإنسان تبكيته واستجاب له يصبح انسانا روحيا.

ثانيا: يجعل الإنسان روحيا

نتيجة عمل روح الله يصبح الإنسان منساقا له، وبالتالي يكون روحيا، بمعنى أن يصل الى القناعة الشديدة بشناعة الخطيئة فيتقدس ذهنه وترتفع فيه القدرة القتالية للإرادة لمواجهة الخطيئة الساكنة في الجسد والمتحركة بفعل الشهوة التى يلهبها الشيطان ولكن بدون ذلك أي الإحساس بشناعة الخطيئة، وقدرة الإرادة، يبقى بر المسيح فينا بلا ثمرة، ولا يكون له فى حياتنا شهادة.

ومن هنا نستطيع القول بأن القداسة تنتقل من الذهن الى الإرادة الفعلية (عمليا) وبالتالي الى الجسد فيسود روح الله على الإنسان كما فى الذهن كذلك في سائر الأعضاء.

ثالثا: يحول فينا الإيمان الى عمل

الروح يجعلنا نؤمن بموت الرب الكفاري من أجلنا، ودمه المسفوك لتبريرنا، ويحول هذا الإيمان الى عمل بمعنى يعطي القوة والمعونة للجهاد ضد الخطيئة، فننعم بهذا الخلاص ونتبرر بالدم. فمن خلال الإيمان ينفذ الروح القدس الى عمق كيان الإنسان "الفكر، الارادة، الذهن" فيجعل فكرنا وارادتنا في حالة خضوع لفكر الرب وارادته. وبيد الإنسان يدخل في حالة تغيير شديد في سلوكه اليومي، فيحل المسيح فيه وبذلك يصل الى قامة ملء المسيح. وهنا يصبح مواصلة الجهاد والنمو فيه ليست من ارادة بشرية أو طموح ذاتي بل هو في الحقيقة طاعة لصوت الروح القدس وحثه المقنع والمفرح لمواصلة الجهاد، فيصبح كل عمل صالح نعمله هو عمل روح الله، وبدونه تصير كل أعمالنا هشة الكسر، لا معنى لها ولا قيمة.

والروح القدس لا يعمل وحده، لا بد من إرادة الشخص واستعداده لهذا العمل كما يقول القديس أنبا مقار "ولكن لم يسمع قط أن أحد اقتنى نفسه، واقتنى روح المحبة السماوي دون أن يبتعد عن أشياء هذا العالم، ويبذل نفسه فى حب المسيح، جاعلا عقله كله وقاصرا اعتناءه وتلهفه على طلب جوهر النفس العقلي، منتظرا برجاء كامل مجيء روح الله عليه".

وأنت هل تشعر بوجود الروح القدس معك في صراعك ضد الخطيئة، هل كيانك مسكن مريح له كما يقول مار بولس "أنتم هياكل الروح القدس، والروح القدس ساكن فيكم". هل أعمالك نابعة من عمق أعماقك، ونتيجة تأثير روح الله فيك؟ ولها صبغة روحية، أم سطحية ليس لها عمق روحي.

عوائق امتلاء الخادم من الروح القدس مت23/1-36

عندما دخلت المسيحية الى العالم هتفت الملائكة بنشيد المجد لله والفرح للناس والسلام للأرض، ولكن قليلا قليلا دخل العالم في كيان المسيحية فقل تمجيد الله في قلوب الناس وانحبس الفرح الحقيقي وضعف السلام على الأرض، والأكثر خطورة عندما يدخل العالم في كيان خادم الله فيجف عمل الروح القدس فيه، وتصبح رسالته وظيفية روتينية، يؤديها بفتور، وبدون روح الرسالة والفرح، وهذا يرجع لعوائق كثيرة منها:

أولا: المادية في حياة الخادم

الخادم الذي يعتمد على المال لتأمين مستقبله، وعلى القوة لحفظ هيبته أمام مخدوميه، والتجائه للملذات ليجد دفئه وسلامه فيسعى وراء التعزية من غير المعزي، فهو يتجاهل اختصاص الروح القدس المعزي الوحيد، فيقف عند حد الشكلية في العبادة والخدمة بدون اتصال مباشر بالروح القدس، يهمه الحضور وامتلاء الكنيسة، وازدياد عدد اجتماعاته، ولكن فاته أن روح الله يعمل في الباطن فبدون التجديد والامتلاء من وسائط النعم كل ما يمارسه يأتي بدون ثمار.

ثانيا: الدعاية في حياة الخادم

كثيرا ما نهتم بالدعاية للأشخاص من (صوت جميل، عظات رنانة…) كأننا نعظ بأنفسنا ونمجد أنفسنا والآخرين، وبذلك نسلب مجد الله. فالمسيحية لا تعلن عن الكرامات حسب قول الرب "كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدا من بعض ( يو5/44) فلا كرامة للخادم خارج الصليب إذ كان يحمله جيدا، أما إذا زاغت نفس الخادم عن آلام الصليب وهامت وراءه حلاوة الكرامة، وارتاحت الى صوت الأبواق ينحصر عنها الروح القدس. فلا يجد فى تلك النفس راحته لأنه لا يرتاح الا في مديح المسيح "ذاك يمجدني".

فالروح وديع كالحمام ومحرق كالسان نار، فهو يستقر ويستريح في النفوس المنحنية، ويحرق ويبدد كبرياء الإنسان.

فهو لا يعمل في النفوس التى تريد تمجيد ذاتها، ولا من تحت الألقاب، ولا في ضجيج الدعاية للأشخاص لنتذكر ما قاله الرب "أنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب الى الجميع، مشيدا الى الصليب. فنجاح الخدمة ليس فى شهرة المتكلمين وأسمائهم وألقابهم ولا حتى عدد الحاضرين، انما يتوقف على مدى استعلان الصليب في حياة المتكلم والسامع، بمعنى أن يكون المسيح ظاهرا بقوة آلامه وقيامته في حياة كل من المتكلم والسامع، فإذا عاش الخادم بهذه الروح يكون سبب بركة لكثيرين، وعامل جذب عظيم لشخص المسيح.

ثالثا: الاحتكارية فى حياة الخادم

الخادم الذي يظن ويعتقد أنه صاحب السلطان، فهو الآمر والناهي في كل كبيرة وصغيرة بكنيسته، بكل كبرياء وعناد، وكأن مخدوميه ملك لشخصه، يفقد معونة الروح القدس وينسى أنه "في أشياء كثيرة نعثر جميعا" يع3/2.

ونتيجة لذلك تتدهور حياته وينطفئ نوره مهما حاول الظهور باحتفاظ مركزه وكرامته.

عزيزي خادم الرب اسأل ذاتك الى أي مدى متمسك بالأمور المادية ومتكل عليها فى خدمتك من "صوت، مال، كرامة، قوة، ملذات جسدية؟" الى أي مدى تريد تمجيد ذاتك في الخدمة ومديح الآخرين؟. لا تنسى أن أصحاب هؤلاء يتخلى عنهم الروح القدس.

frbishoi@hotmail.com

عن موقع ابونا الأردني