أمريكا… بين علمانية الهوية ودينية الهوى

 

من أكثر السمات التي تتصف بها الولايات المتحدة الأمريكية هي أنها دولة "تكافؤ الأضداد في الروح الواحدة" أي أنها دولة مزدوجة الأوجه وليس أدل على صحة هذا القول من أن هذا البلد صاحب الدستور العلماني اسما ورسما هو أكثر الدول المغرقة في الدين والتدين نفسا وجسما. ولعل هذا يستدعي تساؤلا ونحن على عتبات الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2008: ما هو تأثير التيارات الدينية داخل البلاد في توجيه دفة الانتخابات الرئاسية 2008؟ وهل أمريكا بلد علماني ام ديني؟

 واقع الحال هو أن الدستور الأمريكي والذي هو بالفعل من أرقى الدساتير في العالم يعد ضربا من ضروب العلمانية البحتة والمتشددة لجهة إشكالية فصل الدين عن الدولة ولهذا تعد أمريكا بحسب التعبير الحرفي دولة علمانية الهوية فدستورها ينطلق بعبارة "نحن الشعب" ولا يوجد فيه أي أشارات دينية، بل العكس إذ تشدد الفقرة السادسة منه على انه ليس من الوارد أجراء اختبار ديني لأي شخص يرغب في شغل أي وظيفة حكومية، كما نص أول تعديل ادخل على الدستور على أن الكونجرس لن يقوم بأي حال من الأحوال بتشريع قانون قائم على أساس ديني. غير أنه ومنذ نهايات الحرب العالمية الثانية والصراع الذي نشا مع المعسكر الشرقي الذي مثله الاتحاد السوفيتي بملامحه الإلحادية إنما دفع الولايات المتحدة للارتماء في حضن الهوي الديني الإيماني درءا للإخطار الشيوعية وحماية منها وكانت المكارثية السياسية مصحوبة بمد ديني مسيحي.

ولان انتخابات الرئاسة الأمريكية هي أفضل موقع وموضع لتفعيل كافة الأوراق الدينية والسياسية فقد سعى الديمقراطيون ولا يزالوا في استقطاب شرائح واسعة من الإنجيليين الأمريكيين الذين يفوق عددهم الثمانين مليونا إلى جانبهم سيما وان أعدادا كبيرة منهم غاضبة على سياسات بوش سواء الخارجية أو الداخلية.

 يكتب "ايف كونانت" من النيوزويك الأمريكية يقول "إن الكثير من الشباب المنتمين إلى التيار الديني يشعرون بالقلق الشديد بشان قضايا أخرى تتعدى قضايا الصراع التقليدي كالإجهاض والصلاة في المدارس وزواج المثليين إذ بات هؤلاء اليوم يعبرون عن أرائهم علنا في قضايا البيئة والفقر والابادة الجماعية وهي مجموعة جديدة من القيم التي يتعامل معا الديمقراطيون براحة اكبر". والتساؤل ماذا يعني هذا الحديث؟

 باختصار غير مخل يعني أن الفرصة ربما قد واتت الديمقراطيين أخيرا لاكتساح هذه الحركة وهو ما يتبدى من تصريحات هوارد دين رئيس اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي وفيها انه "كان ينظر إلينا في الماضي على أننا نرفض التيار الديني لكن حزبنا بدا يشعر بارتياح اكبر في الحديث عن قضايا الدين والقيم" هذه التصريحات عطفا على الشعور بعدم الرضا من جراء الانتكاسات التي أحدثتها سياسات بوش داخليا وخارجيا أثرت بشكل واضح على اتجاهات التأييد في داخل الحزبين وهذا ما بان واضحا في استطلاع للرأي أجراه في شهر شباط فبراير الماضي معهد بيو في واشنطن حيث ارتفعت نسبة التأييد لمرشحي الديمقراطيين بين أتباع التيار الديني المتشدد ممن هم دون سن أل 30 من 16% إلى 26% في الفترة مابين انتخابات 2004 و 2006.

 والظاهر للعيان أن هناك حالة من الرفض داخل الجماعات الدينية الأمريكية لقولبتها في اطر التكتلات السياسية وإرادة واضحة منها على الظهور بمظهر أصحاب المذهب والفكر الإيماني غير الخاضع أو التابع لحزب أو جماعة سياسية كما يؤكد على ذلك ليث اندرسون رئيس الجمعية الوطنية للمسيحيين المتشددين.

أضف إلى المشاهد السابقة احتمال خسارة الجمهوريين للتيارات الدينية الأمريكية المتشددة من أصول لاتينية والذين تعرضوا لضرر بالغ من جراء قوانين الهجرة الأخيرة وهذا ما يمكن أن يجذب أصواتهم إلى الديمقراطيين بعد أن كانت نزعاتهم الإيمانية عامل جذب من قبل الجمهوريين إلى صناديق الاقتراع.

 وفي ضوء النتائج الأولية لعملية الفرار المحتملة من المعسكر الجمهوري إلى الديمقراطي كان لابد وان يعيد الجمهوريين تنظيم صفوفهم والإعداد لمعركة جديدة يحاولون من خلالها السيطرة على مقدرات الأمور بالنسبة للجماعات الدينية ويمكن القول وبلغة الأرقام أن هناك حالة من النزوح في العامين الأخيرين تهدد بالحضور التقليدي للجمهوريين في أوساط المتدينين الأمريكيين بشكل عام سيما وان نسبة القائلين بان الحزب الجمهوري اقرب إلى الدين نقصت من 55% عام 2005 إلى 47% عام 2006 وكان الانخفاض الأكبر بين الإنجيليين الأصوليين حيث بلغ نحو 14 نقطة مئوية منخفضا من 63% عام 2005 إلى 49% عام 2006 وتشير بيانات مركز بيو لاستطلاعات الرأي إلى أن المتدينين بشكل عام سواء كاثوليك أم بروتستانت هم الأكثر استياءا من الحزب الجمهوري، أما عن العلاقة بين البروتستانت غير المتشددين ناهيك عن العلمانيين المتحررين من ربقة التوجهات الثيولوجية فلا يرون علاقة للحزب الجمهوري بالدين والمعنى الواضح هنا هو قرب انحلال العقد بين الحزب الجمهوري وإيمان تابعيه بفكرة غطاءه الديني حتى ولو كان الأمر غطاءا ابوكريفيا منحولا.

 وباختصار غير مخل يمكن القول أن المحافظين من المسيحيين الأمريكيين قوة كبيرة لا يستهان بها أدت من قبل إلى فوز رونالد ريجان في أوائل الثمانينات وجورج بوش في مطلع الألفية الثالثة فقد صوت 59% من البروتستانت و 52% من الكاثوليك و 78% من اليهو مسيحيين و 61% من مرتادي بقية الكنائس الأخرى لصالح جورج بوش غير أن شعبية الرئيس الأمريكي في تلك الأوساط تدنت كثيرا في العامين الأخيرين فمن 57% في يناير 2005 إلى 37% في نوفمبر 2006 والتساؤل هل يشكل هذا التدهور مؤشرا على خسارة مؤكدة للجمهوريين في انتخابات الرئاسة 2008؟

 في سياق التذكير بفكرة الازدواجية وتكافؤ الأضداد في المجتمع الأمريكي يرصد المرء ظواهر غريبة تتمثل في استطلاعات رأي متباينة بعضها يؤكد فاعلية العنصر الديني كمحدد رئيس في انتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة 2008 وبعضها الأخر يخلص للقول بان الدين لن يكون مؤثرا في المستقبل القريب كما كان في انتخابات العقود الثلاث الأخيرة.

 وبين هذه وتلك تبقى المسافة الزمنية المتبقية حتى يوم الانتخابات كفيلة بإحداث تغيرات جوهرية سيما بعد بلورة كل حزب لبرنامج تتشابك فيه الزمنيات مع الروحيات، وقد جاء استطلاع مركز بيو الأخير ليقلب ثبات الفكرة عن دور الدين في توجيهات الناخبين سيما بعد أن اظهر "أن المرشحين للرئاسة الأمريكية في غير حاجة ضرورية للظهور بمظهر القريبين من الإيمان والمتدينين شكلا أو موضوعا وذلك حتى يحظوا بقبول واسع بين الناخبين الأمريكيين".

 ومما لاشك فيه أن هذا الاستنتاج صادم ويخالف كثير من القراءات السابقة وربما يمثل تجسيدا لحالة من حالات الضبابية التي تعيشها الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب ثماني سنوات من حكم يعتمد في ركائزه الأساسية على منطلقات دوجماطيقية عقائدية لا علاقة لها بملامح الدستور العلماني من عينة تصريحات بوش أن "الله قال لي أو "أوحى لي بغزو العراق".

 والشاهد أن الأمريكيين ربما فقدوا ثقتهم في الأحاديث المطلقة عن الدين وربطها ربطا لصيقا بأمور الحياة وشؤون السياسة وأضحى اهتمامهم يتمحور حول القضايا المحلية خاصة الاقتصاد الذي تدهور والرعاية الصحية التي اختزلت إلى أدنى حد والبيئة التي من جراءها كره العالم الأحادية الأمريكية الرافضة للتوقيع على اتفاقية كيوتو، لكن رغم ذلك يبقى اللعب على الأوتار الإيمانية شانا مهما للغاية وبخاصة في ضوء المواجهة الأمريكية الإيرانية القادمة والتي ربما يخلفها بوش للرئيس القادم والتي هي عند جموع اليمينيين المسيحيين وتيارات اليهو- مسيحيين معركة على المطلق بين من يؤيد قيام الحرب لأسباب دينية اسكاتولوجية أي تتعلق بعلم قيام الساعة وعودة السيد المسيح للأرض ثانية كما يروج الإنجيليون الجدد وبين فقه شيعي إيراني يعد العدة لمواجهة مع العالم الكافر استعدادا لعودة المهدي المنتظر مما يدعو نهاية للقول بان دور التيارات الدينية الأمريكية سيكون حاسما ولاشك في الانتخابات الرئاسية القادمة مهما أشارت نتائج الاستطلاعات إلى عكس ذلك.

 emileamen@gmail.com

  عن موقع ابونا الأردني