بابا الفاتيكان.. وفرنسا العلمانية

البيان الاماراتية

 فرنسا، بالتعريف الدستوري، هي "جمهورية علمانية". وهي في الواقع أحد أكثر بلدان أوروبا علمانية بالقياس إلى بلدان القارّة القديمة الأخرى.

ما يسمح بقول هذا انّه منذ عقد الثمانينات في القرن التاسع عشر قرر جول فيري، الذي شغل آنذاك منصب وزير التربية ورئاسة الحكومة في ظل الجمهورية الفرنسية الثالثة -نحن الآن في الخامسة-، جعل المدرسة الابتدائية "مجانية وإجبارية وعلمانية". هذه الصفة الأخيرة استلزمت أيضا "علمنة الأماكن" بحيث جرى نزع جميع الصور وكل ما له دلالة دينية من المدارس الحكومية؛ واستلزمت أيضا "علمنة المناهج" بحيث أصبحت المواطَنة هي المرجعية وليس الانتماء الديني.

وفرنسا هي التي تبنّت عام 1905، بقرار من أغلبيتها البرلمانية، الفصل بين الدولة والكنائس -بصيغة الجمع- وهو القرار الذي لا يزال ساري المفعول حتى اليوم. للتذكير كان ذلك القرار قد أثار حفيظة بابا الفاتيكان آنذاك إلى درجة أنه حرم من رعاية الكنيسة الكاثوليكية جميع البرلمانيين الفرنسيين الذين اقترعوا لصالح ذلك الفصل. ثم لا يخفى على أحد أن هناك نوعاً من "التنافر التاريخي" بين ممثلي هذه الكنيسة وبين المفكرين من ورثة عصر التنوير الذين كانوا قد خاضوا معركتهم الأساسية ضدها وتعتبرهم فرنسا اليوم بمثابة الآباء المؤسسين لجمهوريتها العلمانية.

 فرنسا هذه هي التي استقبل عشرات، بل مئات، الآلاف من مواطنيها، ومن بينهم نسبة كبيرة من الشباب، بابا الفاتيكان بندكتوس السادس عشر في مطلع الشهر الحالي. وهي التي كرّست صحفها كلّها، وبكل تعبيراتها ومشاربها العديد من مقالاتها لهذا الحدث.

وذهبت هذه المقالات في كل الاتجاهات إذ تراوحت بين الأكثر ترحيبا مثل "ما يطلبه بندكتوس السادس عشر منّا" و "من أجل دين للسلام الدائم" ووصولا على الأكثر نقداً كالقول "بابا مؤيد لصدام الحضارات" ومرورا بمقالات من نوع "العلمانية كما يراها بندكتوس السادس عشر" و "بندكتوس السادس عشر والعلمانية"… الخ.

وبالإجمال كانت كثيرة هي الآراء المرحّبة من مثقفين ورجال سياسة رأت في البابا منقذا من حالة ما من الخواء وفاتحا لآفاق مستقبلية واعدة. ولكن ليست قليلة هي أصوات المثقفين ورجال السياسة أيضا الذين اعترضوا على إنفاق ملايين اليورو من صناديق المال العام لاستقبال البابا.

ولا ينبغي في هذا السياق نسيان أصوات العديد من المثقفين اليساريين الذين رفعوا صيحات التنديد حيال ما أسموه بالتحالف "المشبوه" بين العرش والهيكل.

 ما يمكن تأكيده هو أن القليل، بل النادر، من رؤساء الدول قد عرفوا مثل الاستقبال الشعبي الذي عرفه البابا في فرنسا. هذا ناهيك عن الاستقبال الرسمي الفرنسي رئاسة وحكومة، مع فرش السجاد الأحمر في مطار أورلي والحفل التكريمي الكبير في قصر الإليزيه.

تنبغي الإشارة هنا إلى أن هذا ليس في رؤساء الجمهورية الفرنسية الثلاثة السابقين كانوا قد فعلوا الشيء نفسه مع البابا السابق يوحنا بولس الثاني.

الجديد في الواقع هو السياق الذي تأتي فيه زيارة بندكتوس السادس عشر والأطروحات التي تفوّه بها. وما أثارته من نقاشات وجدل.

 وتأتي هذه الزيارة بعد الزيارة التي كان الرئيس نيكولا ساركوزي قد قام بها إلى الفاتيكان في شهر ديسمبر من عام 2007. وهي الزيارة التي طرح فيها مقولته عن "العلمانية الإيجابية" وأكّد أن المعلّم لن يستطيع أبدا أن يحل محل الكاهن فيما يتعلق بتناقل القيم.

هذا إلى جانب العديد من الأفكار في نفس النهج التي رأى فيها العلمانيون تجاوزا لمبدأ الفصل بين السلطات وبالتالي لدوره كحامي لمبادئ الجمهورية العلمانية التي ينص عليها الدستور والتي تحترم جميع المعتقدات دون أي امتياز لأي منها« مع ضمان حيادها وحريتها في التعبير بنفس الوقت.

 وقد يفيد التذكير هنا أن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك كان قد زار الفاتيكان خلال نصف السنة الأول من رئاسته. ولكنه نصّب نفسه كمدافع عن العلمانية المتشددة. ولم يدّخر أي جهد من أجل استبعاد مرجعية الجذور المسيحية لأوروبا من مشروع الدستور الأوروبي بنسخته لأولى.

هذه الجذور المسيحية هي بالتحديد التي ذكّر فيها البابا فرنسا الابنة البكر للكنيسة، ومن خلالها أوروبا، في جميع محطات زيارته.

وقد كان صريحا عندما قال أوروبا هي قارّة ثقافية وليست جغرافية. عن ثقافتها هي التي تعطيها هويتها المشتركة. أمّا الجذور التي شكّلت هذه القارّة فهي جذور مسيحية؛ وصريحا عندما ألحّ على ضرورة الدفاع عن الثقافة الخاصّة للمجتمع وعدم القبول بالتعرّض للامتصاص من قبل الآخرين.

 ولم ينس البابا أن يشدد على القول بأن الكنيسة لا تسعى إلى أخذ مكان الدولة. هذا تعني ترجمته أنها لا تريد التدخّل في السياسة. ولكن السياسة ترشح  إنّما بشكل لطيف من حديثه عن العلمانية والمجتمع والهوية وشؤون الساعة. حول هذه المسائل كلّها وغيرها من شؤون الحياة العامّة طالب البابا بدور أكبر للكنيسة.

وتأتي الدعوة لتنشيط هذا الدور في نفس نهج حركة بدأت عمليا في الولايات المتحدة الأميركية منذ سنوات الثمانينات المنصرمة بحيث غدت بعض تعبيراتها من إنجيليين وغيرهم بمثابة أوراق لها قدرة الحسم أحيانا للنتائج الانتخابية بكل ما يتضمّنه هذا من أبعاد سياسية.

وعلى غرار ما عرفه السياق الأميركي قرأ البعض التناغم، ولو الجزئي، بين أطروحات بابا الفاتيكان والرئيس الفرنسي كنوع من التحالف السياسي في مواجهة اليسار العلماني الذي يطالب بتقطيع الأوصال مع كل ما يمتّ للكنيسة بصلة،وذلك تحديدا باسم مرجعية التنوير.

 بكل الحالات وفيما هو أبعد من الموالاة  والمعارضة لزيارة البابا ولأطروحاته يبقى من الملفت للانتباه هذا التعبير المتعدد الأصوات عن النفس والمشاعر والمواقف والانتماءات دون تهديد أحد. هناك الـ"مع" وهناك الـ"ضد" لكن الحياة اليومية تابعت مسارها أثناء زيارة البابا لفرنسا.

 بقي هناك من استمروا في ممارسة رياضتهم الصباحية مثل أولئك الذين صادفتهم على ضفاف نهر المارن، وهناك من كانوا قد افترشوا العشب منذ الساعة السادسة صباحا من نفس ذلك اليوم بانتظار سماع الكلمات المباركة للبابا بعد ساعات طويلة.

كم هي جميلة وجليلة ومتجددة الكلمة- الحكمة الشهيرة القائلة الدين لله والوطن للجميع. إنها دعوة للتسامح وقبول الآخر، المختلف؛ ودائما دون تهديد على الطريقة المفجعة التي عرفتها مدينة طرابلس بشمال لبنان قبل حين.