هبة الحياة للرسالة: رسالة إلى جمعيّة المبشّرين، القدّيسة سابين، روما 1994

مقال باللغة الفرنسية

الأب تيموتي رادكليف، ج. م

ترجمه الخورية

اندريه نعيم انطونيوس ابراهيم

 

عهد الشبّان، في زمن القدّيس دومينيك (عبد الأحد) أن يتهافتوا للانضمام إلى الجمعيّة بأعداد كبيرة، لأنّه، بولعه بالتبشير، كان يدعوهم للمشاركة في مغامرة تستحقّ أن تُخاض.  فبماذا نُشغف نحن اليوم، وما هي مغامرات عصرنا؟  من هم كوماناتنا (Cumans  ها يواجهنا تحدّي أن نقيم جمعيّتنا في جزءٍ كبير من آسيا حيث يعيش نصف البشر وأن نتهيّأ للتعليم في الصين.  فهل من رهبانٍ دومينيكان شباب مستعدّون لتلقّن اللغة الصينيّة وأن يعطوا ذواتهم من دون أن يعرفون ثمن ما يقومون به؟  وها يرسلوننا في أنحاء العالم كافّة للحوار مع الإسلام، فهل نحن مستعدّون لبذل حياتنا في هذا السبيل؟

مثل دومينيك، علينا نحن أيضاً أن نبشّر بالإنجيل في المدن الجديدة، بيد أنّ هذه المدن الجديدة هي اليوم حواضر ضخمة أخطبوطيّة تسكنها نسبة من السكّان في تزايد مستمرّ.  فلا ننس غابات لوس أنجلوس وساو باولو ومكسيكو ولاغوس وطوكيو ولندن المدينيّة وغيرها الكثير.  تشكّل هذه، في غالب الأحيان، برارٍ مدينيّة، سِمَتُها الإجرام والعنف والعزلة الهائلة المحيطة بمن يعيشون وحيدين في وسط ملايين الناس.  كيف سنتمكّن من ولوج عالم الشبيبة الجديد وهو عالم يتصّف أكثر فأكثر بالأحاديّة الثقافيّة مع ما يرافقها من طلبٍ للدين ومن ريبة، من احترامٍ للأفراد وشكٍّ بالمؤسّسات، من حذر من الكلمات ودهشة أمام تكنولوجيا المعلومات، من موسيقى وأغانٍ؟  كيف نتصّل بما هو زخم حياة وابتكار في هذه الثقافة الجديدة، كيف نستفيد منها ونستقبلها لبشارة الإنجيل؟

وأكثر من هذا كلّه، كيف نبشّر بالرجاء في عالم، غالباً ما يميل إلى اليأس والقدريّة وغالباً ما يضرّ به نظامٌ إقتصاديّ يقوّض الهيكليّات الإجتماعيّة والاقتصاديّة لمعظم بلدان الأرض؟  أيّ إنجيل نقدر أن نبشّر به في أميركا اللاتينيّة أو عندما تترسّخ الجمعيّة في إفريقيا أو تنبعث من جديد في أوروبا الشرقيّة؟  كما هنالك مغامرة الفكر اللامتناهية، مغامرة الدراسة ومواجهة كلمة الله وطلب الحقيقة وطرح التساؤلات وتلقّيها والشغف بالفهم.  ولكننا سنخصّص لهذه المغامرة رسالة أخرى.

إذن، إخوتي وأخواتي، ثمّة أمرٌ لا ريب فيه وهو أنّ دعوتنا كمبشّرين بالإنجيل ضروريّة اليوم كما كانت بالأمس (1).  نستطيع تخطّي هذه التحدّيات إذا تحلّينا بالشجاعة، وتجرّأنا على ترك التزامات قديمة فنتحرّر للقيام بمبادرات جديدة ولو تعرّضنا للفشل.  لن نتمكّن أبداً من هذا ما لم يقدّم بعضنا للبعض الآخر الثقة والشجاعة.  فهيكليّة معقّدة بقدر جمعيّة رهبانيّة تنقل إمّا التشاؤم والشعور بالهزيمة، إمّا الرجاء والمساعدة المتبادلة على التخيّل وابتكار الجديد.  فلو اختارت جمعيّتنا الطريق الثاني لتوجّب علينا الوقوغ امام أسئلة عديدة. 

هل نتجرّأ على قبول، في الجمعيّة، عناصر شابّة عندها الشجاعة لتواجه هذه التحديّات الجديدة بإقدام ومبادرة، علماً أنّ بمقدور هؤلاء الشباب أن يعيدوا الكثير ممّا كنّاه وما فعلناه إلى بساط البحث؟  هل يسرّنا أن نستقبل في إقليمنا رجلاً مثل توما الأكويني اعتنق فلسفة جديدة، مشكوكاً فيها وطرح أسئلة صعبة وأساسيّة؟  أوَنستقبل أخاً من قبيل برتولوميو دي لاس كازاس بما تميّز به من ولع بالعدالة الاجتماعيّة؟  هل يسعدنا أن يعيش بيننا فرا أنجيليكو آخر خَبِر طرقاً جديدة للتبشير بالإنجيل؟  هل نقبل نذور كاترين السيانيّة بكلّ صراحتها؟  أونرحّب بمارتن دي بورّيس الذي من المحتمل أن يقلق سلام الجمعيّة بدعوته شتّى ألوان الفقراء؟  هل نقبل بدومينيك؟  أم انّنا نفضّل مرشّحين يتركوننا بسلام؟  فإلامَ يقودنا إعدادنا الأوّل؟  هل ينتج إخوة وأخوات نموا في الإيمان والشجاعة، فيجرأون على المحاولة وعلى المجازفة اكثر من وقت وصولهم إلينا؟  أم أنّه يجعلهم باهتين فاترين؟

إذا أردنا أن نواجه التحدّيات الجسام والشائقة المطروحة اليوم وان نجدّد معنى المغامرة في الحياة الرهبانيّة لتوجّب علينا أن نتأمّل في عدّة أوجه من حياتنا كجمعيّة رهبانيّة في الرسائل المقبلة.  ولكنّني لن اتفحّص في هذه الرسالة إلاّ مسألة واحدة ظهرت لي إبّان رحلاتي في مناطق انتشارنا كلّها.  كيف تشكّل النذور التي تلفّظنا بها مصدر حياة وديناميّة ودعم لنا في تبشيرنا؟  ليست النذور كلّ شيءٍ في حياتنا الرهبانيّةبيد انّ غالباً ما تأتي اسئلة الإخوة والأخوات العميقة في شأنها وعلينا معاً أن نتطرّق إليها.  نقول مراراً وتكراراً إنّ النذور ما هي سوى وسيلة.  هذا صحيح، لأنّ الجمعية لم تتأسّس لنتمكّن من عيش النذور ، بل لنبشّر بالإنجيل.  بيد أنّ النذور ليست وسيلة بالمعنى المنفعيّ حصراً كما هو حال السيّارة مثلاً التي تفيدنا في الانتقال من مكانٍ إلى آخر.  النذور وسيلة من شأنها ان تجعل منّا أشخاصاً مُرسلين حقّاً.  يقول القدّيس توما إنّ النذور جميعها تؤول إلى غاية واحدة، إلى المحبّة (2) وهْي هِيَ حياة الله.  خدمتها الوحيدة ان تساعدنا على النموّ في المحبّة فنستطيع ان نتكلّم بسلطان عن إله المحبّة.

النذور في تعارضٍ أساسيّ مع مبادئ المجتمع الرئيسة، خصوصاً مع مبدأ ثقافة الإستهلاك التي سرعان ما تصير الثقافة السائدة في كوكبنا.  فها نذر الطاعة يرتفع عكس فهم للكائن البشريّ على انّه كائن متجذّرٌ في استقلاليّة ذاتيّة وفرديّة جذريّتين.  ويكوّن الفقر، في ثقافتنا، إشارة إلى الفشل وعدم القيمة وتبدو العفّة بمظهر رفضٍ غير معقول للحقّ العالميّ بالحياة الجنسيّة الذي يتمتّع به الإنسان.  وإن نحن أقدمنا على اعتناق هذه النذور، من المحتمل، في وقتٍ من الأوقات، أن نجد الوفاء بها صعبا فمن الممكن ان تبدو وكأنّها تحكم علينا بالحرمان والعقم.  وإن نحن قبلناها كوسيلة مفيدة لغاية أو انزعاج لا بدّ منه في حياة المبشّر، من المستطاع ان تظهر لنا ثمناً لا يستحقّ العناء علينا ان ندفعه.  أمّا إذا عشناها في خطّها المؤدّي إلى المحبّة، كسبيلٍ من بين سبل أخرى نشارك فيها في حياة إله المحبّة، آمنّا عندئذٍ أنّ بمقدور الألم ان يثمر وبقدور الموت الذي نختبره أن يعبّد طريقاً إلى الحياة.  نستطيع حينها القول على مثال أخينا رجينالد دي أورليان:  "لا أظنّ أنّني كسبت أيّ استحقاق لعيشي في هذه الجمعيّة لأنّني وجدت فيها دوماً الكثير الكثير من الفرح." (3)

أودّ في هذه الرسالة أن  أقدّم بعض الملاحظات البسيطة حول موضوع النذور.  بالطبع تطبع محدوديّتي هذه الملاحظات على نحو كبير كما تطبعها الثقافة التي أعدّتني.  أتمنّى أن يساهم ما يلي في إقامة حوار نستطيع من خلاله أن نتوصّل إلى رؤية مشتركة تقدّرنا على أن يشجّع الواحد منّا الآخر وتعطينا القوّة لنشكّل جمعيّة تجرؤ على مواجهة تحدّيات العصر الآتي.

الجرأة على تكريس الحياة

شهدت مناطق عديدة من العالم، لا سيّما تلك التي تسمها الثقافة الغربيّة، فقداناً كبيراً للثقة في فعل الالتزام بالوعد.  يمكن ملاحظة ذلك في تدهور الزواج، أو في نسبة الطلاق المرتفعة أو، داخل جمعيّتنا، في الطلبات المنتظمة للإعفاء من النذور،  هذا النزيف البطيء والمنتظم لنُسغ جمعيّتنا الحيويّ.  فماذا يمكن أن تعني كلمتنا التي نعطيها إلى حين موتنا usque ad mortem؟

ثمّة سبب باستطاعته أن يعلّل عدم جديّة أن يعطي المرء كلمته وهو ربّما ضعفٌ بالشعور لأهميّة كلماتنا.  هل للكلمات أهميّة كبيرة في مجتمعنا؟  هل بإمكانها أن تقود إلى فرق؟  هل بمقدورنا أن نقدّم حياتنا لآخر، أكان الله أم إنساناً آخر في الزواج بتلفظّنا بكلماتٍ قليلة؟  دعونا لا ننسى ونحن مبشّرون بكلمة الله أنّنا شهودٌ على أهميّة الكلمات.  نحن على صورة الله الذي قال كلمة فكانت السموات والأرض.  وقال "كلمة" صارت جسداً لخلاصنا.  كذلك الكلمات التي يتلفّظ بها البشر لبعضهم البعض تعطي الحياة ام الموت، وتبني الجماعة ام تدمّرها.  أمّا العزلة الموحشة السائدة في مدننا الواسعة فهي من دون شكّ إشارة إلى ثقافة توقّفت، في بعض الأحيان، عن الإيمان بأهميّة الكلام وبمقدرته على بنيان الجماعة باللغة المتبادلة.  ونحن، عندما نعطي كلمتنا في النذور، إنّما نشهد على دعوة إنسانيّة أساسيّة، هي النطق بكلمات لها وزنها وسلطتها.

بيد أنّنا لا نستطيع أن نعرف ما المعنى الذي ستحمله نذورنا وإلى أين يمكن أن تؤدّي بنا، فلماذا نتجرّأ على نذرها؟  ببساطة، لأنّ هذا ما فعله إلهنا ولأنّنا أولاده.  فنحن نُقْدِم على فعل ما سبق لأبينا أن قام به أوّلاً.  فمن البدء، كانت قصّة التاريخ، قصّة إله قام بوعود، إله وعد نوحاً انّ الطوفان لن يغمر الأرض في ما بعد ووعد إبراهيم بذريّة تفوق رمل الشاطئ عدداً ووعد موسى بإخراج شعبه من تحت نير الاستعباد.  ثمّ جاءت ذروة هذه الوعود وإتمامها المدهش في يسوع المسيح، "نعم" الله الأبديّ.  نحن نجرؤ على إعطاء كلمتنا، كوننا اولاد الله، حتّى لو لم ندرك ما الذي ستعنيه.  وهذه دلالة على الرجاء، بما انّ الوعد وحده موجود بالنسبة إلى كثير من الناس.  وإذا انغلق أحدهم في اليأس أو حطّمه الفقر  أو البطالة أو سجنه فشلٌ شخصيّ بين قضبانه، لربّما لم يجد من يضع فيه رجاءه وثقته، سوى الله الذي تلفّظ بتعهّداتٍ لنا والذي قدّم على الدوام عهداً للبشريّة، وبالأنبياء، دعانا إلى رجاء الخلاص (4). 

من المحال أن نجد، في هذا العالم الساقط في غواية عدم الرجاء، مصدراً آخر لهذا الأخير، في غير الثقة بهذا الإله الذي أعطانا "كلمته".  وما هي الإشارة الدالّة على التزام الله هذا غير رجالٍ ونساءٍ يتجرّأون على نذر نذورٍ في الزواج أو الحياة الرهبانيّة؟  لم أفهم قطّ بهذا الوضوح، معنى نذورنا إلاّ لمّا ذهبت لزيارة حيٍّ فقير على حدود لشبونة يسكنه افقر الفقراء والمنسيّون وغير المنظورين في المدينة.  هناك وجدت حيّاً يعيش في فرح لأنّ أختاً تشاركهم حياتهم كانت على اهبة التلفّظ بنذورها فعاشوا الاستعداد هذا عيداً خاصّاً بهم.

أُطلق على ثقافتنا عنوان "جيل الآن"، مّما يعني أنّها ثقافة لا تعرف سوى الزمن الحاضر.  قد يشكّل هذا مصدر عفويّة رائعة ومصدر انتعاش وفوريّة نسعد بهما.  ولكن، إذا كان الوقت الحاضر وقت فقر وفشل، وقت انكسار أو انهيار، فأيّ رجاءٍ يبقى؟  من جهتها، تقود النذور إلى مستقبل مجهول.  فقد رأى القدّيس توما انّ التلفّظ بالنذور هو فعل كرمٍ مطلق لأنّ من يقدم عليه يهب بلحظة حياةً سوف تُعاش تدريجيّاً على مدى الزمان (5).  ويعتبر الكثيرون في ثقافتنا أنّ هبة مستقبل لا يمكن توقّعه، عملٌ مجرّد من ايّ مغزى.  فكيف يمكنني ان أتقّيد أنا نفسي حتّى الموت عندما لا أعلم من سأصير وما الذي سينتهي بي الأمر إليه؟  من سأكون بعد عشر سنوات أو عشرين سنة؟  بمن أكون قد التقيت وما الذي سيمسّ قلبي؟  ولكنّ هذا في نظرنا، إشارة إلى كرامتنا كأبناء الله وإلى ثقتنا بإله العناية الذي يقدّم، على نحو غير مُنتظر، الكبش العالق في الأدغال.  يبقى التلفّظ بالنذور عملاً ذا دلالة قصوى، وإشارة إلى الرجاء في الله الذي يعدنا بمستقبل، ولو تخطّى خيالنا، والذي يفي بكلمته.

صحيح أنّ، في بعض الأحيان، يحصل لأحد الإخوة او إحدى الأخوات أن يعتبر/تعتبر نفسه / نفسها غير قادر / قادرة على متابعة الحياة وفقاً لمقتضيات النذور.  قد يعود هذا إلى نقصٍ في التمييز في فترة الإعداد الأوّلي، أو ببساطة لأنّهم ما عادوا يقدرون على النهوض بمتطلّبات هذه الحياة.   فيظهر حينها اللجوء الحكيم إلى إمكانيّة الإعفاء من النذور، فلنؤدّ عندئذٍ، على الأقلّ، الشكر على ما قدّموه لنا ولنفرح بما قد تشاركنا فيه معهم!  ولنسأل أنفسنا ما إذا قمنا، في جماعاتنا بجلّ ما كان بمقدورنا لندعمهم في حفظ نذورهم.

الطاعة:  حريّة أبناء الله

بدأ تبشير يسوع بإعلان إتمام وعد أشعيا، الخلاص للأسرى والحريّة للمظلومين (لو 4).  والإنجيل الذي نحن مدعوّون للتبشير به هو إنجيل حريّة أبناء الله التي لا تُكظم.  "أثبتوا إذن في الحريّة التي قد حرّرنا بها المسيح." (غل 5، 1) بالتالي، تبدو مفارقة أن نعطي حياتنا للجمعيّة وان نعلن هذا الإنجيل  من خلال نذر بالطاعة وهو النذر الوحيد الذي ننذره.  فكيف نستطيع الحديث عن الحريّة طالما قد اعطينا حياتنا؟

نذر الطاعة فضيحة في عالم يصبو إلى الحريّة كما إلى قيمته الأسمى.  ولكن، جوعنا إلى أيّ حريّة هو؟  هذا سؤال يطرح ذاته بقوّة خاصّة، في البلدان التي تحرّرت من الشيوعيّة.  دخلت هذه البلدان "العالم الحرّ"، ولكن أفي سبيل هذه الحريّة ناضلوا؟  لا شكّ انّ أهل هذه البلدان كسبوا حريّة ما، مهمّة في العمليّة السياسيّة، بيد أنّ حريّة السوق غالباً ما تحمل الخيبة في طيّاتها.  فهي لا تجلب معها الحريّة الموعودة، بل تمزّق نسيج المجتمع البشريّ أكثر فأكثر.  والأسوأ من هذا انّ عالمنا المُفترض حرّاً، يتميّز في أحيانٍ كثيرة بشعور عميقٍ بالقدريّة وبعجزٍ عن التحكّم بمصائرنا، وعن اتّخاذ القرار الحقيقيّ في ما يخصّ حياتنا، ممّا من شأنه أن يدعونا للتساؤل عن الحريّة في ثقافة الاستهلاك.  على هذا الواقع أن يواجهنا بعلامة الاستفهام التالية: أيّ حريّة نطمح إليها في المسيح؟  كيف يمكن لنذر الطاعة ان يعني هذه الحريّة وأن يساعدنا كمبشّرين بالملكوت أن نعيش حريّة أبناء الله الفرحة؟

عندما وجد التلاميذ يسوع متحدِّثاً إلى السامريّة قرب البئر، قال لهم:  "طعامي أن اتمّم مشيئة الذي أرسلني" (يو 4، 34).  ليست طاعة يسوع للآب طاعة تحدّ من حريّته، ولا هي تقييد لاستقلاله الذاتيّ.  هذه الطاعة هي الغذاء الذي يمدّه بالقوّة ويشدّده.  علاقة يسوع بالآب، موهبة جل ّما هو عليه، هذا هو كيانه بالذات.

إذن، حريّة يسوع العميقة وانتماؤه إلى الآب يشكّلان السياق الذي نضع ذواتنا فيه لنفكّر في معنى ان نكون احراراً ونقدّم حياتنا للجمعيّة.  ليست هذه حريّة المستهلك الذي أمامه خيارات لا حدّ لها بين مشتريات مختلفة أو أنماط عمل متنوّعة، بل هذه حريّة الكينونة ، حريّة من يحبّ.  وفي تقليدنا الدومينيكانيّ الخاصّ، يطبع انتماءَنا المشترك في الطاعة المتبادلة، شدٌّ بين خاصّتين:  إعطاء حياتنا كاملة للجمعيّة من جهة والبحث عن توافق قائمٍ على الجدال والانتباه والاحترام بتبادل، من جهة ثانية.  هاتان الميزتان ضروريّتان لنبشّر بحريّة المسيح التي يعطش العالم إليها.  فإذا فشلنا في أن نكون بكليّتنا للجمعيّة، من دون شروط، عندها نكوّن مجموعة أفراد مستقلّين فقط، أفرادٍ يتعاونون إذا سنحت الفرصة.  هذا إذا ما عشنا الطاعة كشيءٍ يفرضه الرئيس علينا، من دون التفتيش عن فكرٍ مشترك، فتصير طاعتنا كابتة للحريّة وغير إنسانية.

1.                                                                                                                 الطاعة والإصغاء

لا تنحصر الطاعة ، بحسب تقليدنا، أساساً بإخضاع إرادة أخٍ أو أختٍ لرئيسٍ أو رئيسة لأنّها تعبير عن أخوّتنا البعض تجاه البعض الآخر وعن حياتنا المشتركة في الجمعيّة وهي تقوم على الحوار والمناقشة.  وكما أشرنا مرّات عديدة، تاتي كلمة "obedire" (أطاع) من ob-audire   أي أصغى.  فبداية الطاعة الحقّة هي عندما نجرؤ على ان ندع إخوتنا واخواتنا يتكلّمون فنصغي إليهم.  هذا هو "مبدأ الوحدة" (6) وهي ايضاً عندما يُفترض بنا ان ننمو بالإنسانيّة من خلال اهتمامنا بالآخرين.  لننظر مثلاً إلى المتزوّجين الذين لا خيار امامهم سوى أن يذهبوا إلى أبعد من حدودهم الخاصّة من جرّاء متطلّبات أولادهم أو شركاء حياتهم.  وبإمكان نمط حياتنا، بصمته وعزلته، أن يساعدنا على التقدّم في الاهتمام والكرم كما بمقدوره أن يغلق علينا في داخل ذواتنا وضمن حلقة انشغالاتنا.  يمكن للحياة الرهبانيّة أن تنتج اشخاصاً متجرّدين كلّيّاً أو أشخاصاً شديدي حبّ الذات.  يرتبط هذا بإصغائنا او عدمه ويستلزم منّا انتباهنا التامّ وقابليّة انفعال كاملة.  لنتذكّر أنّ وقت خلاصنا أثمر لمّا أطاعت مريم التي تجرّأت على الإصغاء لملاك.

يستوجب منّا هذا الإصغاء أن نستخدم ذكاءنا.  دعونا نفتكر معاً هنا أنّنا، في تقليدنا، نلجأ إلى العقل، لا للسيطرة على الآخر، بل للاقتراب منه.  وكما عهد الأب روسلو أن يقول، فإنّ الإصغاء هو "مُكنة الآخر"، هو يفتح آذاننا.  لنطّلع على ما كتب هيربيرت مككاب: 

 

"الإصغاء أوّلاً انفتاح ذهنٍ كما نجد في أيّ تعلّم.  ولا تصير الطاعة كاملة إلاّ لمّا يتشاطر الآمر والطائع فكراً واحداً.  وليس من مطرحٍ للطاعة العمياء في تقليدنا كما ما من مطرح فيه للتعلّم الأعمى.  فمَثَل الجماعة المطيعة بالكامل كمثل جماعة لم يُضطرّ فيها أحدٌ على القيام بشيءٍ البتّة." (7)

نستنتج ممّا سبق أنّ المكان الأوّل الذي نمارس فيه الطاعة في التقليد الدومينيكانيّ، هو مجمع الجماعة حيث نتناقش مع بعضنا البعض لا سيّما وانّ مهمّة المناقشة في المجمع هي البحث عن وحدة القلب والفكر متزامنة مع الخير العام.  نتناقش معاً كدومينيكان صالحين، ليس بهدف الانتصار على الغير، بل أملاً بالتعلّم المتبادل.  ما نبحث عنه شيءٌ غير إحراز الأغلبيّةِ الغلبةَ، إنّما الإجماع، قدر المستطاع.  وحتّى لو تبيّن أنّ من المستحيل الوصول إلى التفتيش عن الإجماع في بعض الأحيان، إلاّ أنّه لا يعبّر فقط عن رغبة العيش بسلام ضمن الجماعة.  هذا التفتيش هو أصلاً شكلٌ من أشكال الحكم متأتٍ من اعتقادنا الراسخ أنّ من لا نتّفق معهم لديهم ما يقولونه، بالتالي أنّنا لا نملك الحقيقة حصريّاً.  فلا يغيبنّ عن بالنا أنّ الحقيقة والجماعة زوجٌ لا يفترق أبداً.  هكذا كتب ملاخي أودوير:

 

"لماذا أودع دومينيك اصحابه هذا القدر من الثقة والتصديق؟  الجواب بسيط.  عاش دومينيك رجلاً لله  في العمق، مقتنعاً أنّ يد العليّ تستريح على كلّ شيء وكلّ شخص…وبما انّه صدّق أنّ الله يخاطبه حقّاً بأصواتٍ غير صوته، كان لا بدّ له من أن ينظّم عائلته على نحوٍ يمكّن كلّ فرد فيها من أن يحظى بالإصغاء." (8)

ينجم عن هذا أنّ الحكم يأخذ وقته اللازم وفقاً لتقليدنا.  تكثر انشغالات غالبيّتنا وقد يبدو انّ فترات المناقشة هذه، ساعات ضائعة.  لمَ نكرّس الوقت لنتناقش في حين يمكننا أن نكون خارجاً نبشّر ونعلّم؟  نفعل هذا لأنّ هذه الحياة المشتركة وهذا التضامن المُعاش، هما اللذان يجعلان منّا مبشّرين.  لا يمكننا أن نتحدّث عن المسيح سوى انطلاقاً ممّا نعيشه، والجهد الذي نبذله لنصير قلباً واحداً وفكراً واحداً يعدّنا لنتكلّم بسلطان عن المسيح الذي فيه تقوم كلّ مصالحة.

ليست الطاعة، بالنسبة إلينا هرباً من المسؤوليّة وهي تبني الأساليب المتعدّدة التي نتشارك فيها بها.  غالباً أيضاً ما يصعب دور رئيس الدير لأّن بعض الإخوة يظنّون أنّهم بانتخابهم إيّاه، يصير هو مُلزماً بحمل العبء وحده.  إنّما يعبّر هذا عن فهمٍ ساذج للسلطة.  بيد أنّ الطاعة تتطلّب من كلّ واحدٍ منّا أن يمسك بمقاليد المسؤولية الملقاة على عاتقه، فبغير ذلك لن نقدر أبداً على تخطّي التحدّيات التي تواجه الجمعيّة.  قلت في لقاء رؤساء الأقاليم في براغ سنة 1993:

"المسؤولية هي القدرة على الإجابة، فهل نريد هذا؟  رأيت في خبرتي الخاصّة كرئيسٍ إقليميّ "لغز المسؤوليّة المفقودة".  هذا غامضٌ مثل إحدى قصص شرلوك هولمز!  يلاحظ مجمع إقليميّ مشكلة ما ويكلّف رئيس الإقليم بمعالجتها وحلّها.  لا بدّ من أخذ قرار شجاع.  فيطلب الرئيس رأي المجلس الإقليميّ الذي يكلّف بدوره لجنة لتنظر في ما يجب القيام به.  وتطول مدّة النظر وتمتدّ إلى سنتين أو ثلاث لمزيد من الإيضاحات حول معطيات المشكلة، ثمّ تحال القضيّة إلى المجمع الإقليميّ التالي وهكذا تستمرّ حلقة اللامسؤوليّة."

يشلّ الخوف من قبول المسؤوليّة ومن المجازفة بقطف فشلٍ ما أحياناً الجمعيّة ويمنعنا من الإقدام على القيام بما هو جديد.  لنتذكّرأنّ على كلٍّ منّا أن يمسك بحزم بالمسؤوليّة التي تعود إليه، حتّى لو آلمنا هذا وحتّى لو خاطرنا باتّخاذ القرار غير الصائب، وإلاّ لمُتْنا من جرّاء فقدان الشجاعة.

من الممكن الاعتراض بالقول إنّ نظام حكمنا ليس أكثر الأنظمة نجاعة لا سيّما وأنّ حكماً أكثر مركزيّة وسلطة يزيد من سرعة استجابتنا للأزمات ومن قدرتنا على اعتماد القرارات الحكيمة المبنيّة على معرفة أكثر شموليّة للجمعيّة.  لا شكّ أنّنا نشهد مراراً وتكراراً محاولات نحو تركيز السلطة. ولكن كما كتب بيدي جارّيت ج. م، منذ سبعين عاماً: 

"تشكّل الحريّة في الحكم الانتخابيّ، بالنسبة إلى من يعيشون في ظلّها، حقيقة كثيرة القدسيّة لنتمكّن من إبعادها، حتّى لو ترافقت وخطر اللافاعليّة.  فبالرغم من ضعفها الضمنيّ، تبقى، في نظرهم، أكثر ملاءمة من الحكم الفرديّ، على ما فيه من إفادة، لاستقلال العقل البشريّ ولتعزيز الإرادة البشريّة.  قد تُفسِد الديمقراطيّة النتائج بيد أنّها تصنع الرجال." (9)

من المحتمل، أن تبدو غير فعّالة، من وقتٍ إلى آخر ولكنّها تخرج مبشّرين.  فنمط الحكم خاصّتنا مرتبطٌ بعمق بدعوتنا كمبشّرين لأنّ من المستحيل أن نتحدّث بسلطان عن حرّيتنا في المسيح إلاّ إذا عشناها في ما بيننا.  غير أنّ تقليدنا القائم على الديمقراطيّة واللامركزيّة، لا يمكن أبداً أن يشكّل عذراً للجمود واللامسؤوليّة ولا يجب علينا البتّة اتّخاذه سبيلاً للانسحاب من أمام تحدّيات رسالتنا.

2.                                                                                                                 الطاعة وهبة الذات

يجوز أن يوحي تقليد الجمعيّة الديمقراطيّ وتشديدنا على المسؤوليّة المشتركة وعلى النقاش والحوار أنّ مقتضيات الطاعة عندنا أقلّ من تلك التي يفرضها نظامٌ ذات حكم أكثر فرديّة ومركزيّة.  أوليست الطاعة، إذن، دائماً، تسوية بين ما أريد وما تطلبه منّي الجمعيّة؟  ألا نستطيع التفاوض حول بعضٍ من استقلالٍ ذاتيٍّ محدود؟  لا أظنّ ذلك.  تتطلّب منّا الأخوّة جلّ ما نحن عليه وبما أنّ الطاعة المنظّمة على المحبّة، هي تعبير عن الحبّ، مثلها مثل أيّ نذرٍ آخر، لا بدّ لها من أن تكون من دون تحفّظ.  هنالك، لا محال، شدٌّ بين عمليّة الحوار والبحث عن توافق والوقت الذي يجب فيه تسليم الذات إلى أيدي الإخوة، لكنّ هذا شدٌّ مثمر، بدل أن يكون تسوية تمّ التفاوض عليها.  وأتمنّى أن عناصر عدّة ممّا يلي تحمل الفائدة لأخواتنا الراهبات ولو أنّني أتكلّم انطلاقاً من خبرتي في الحكم بين الإخوة.

بدأت بالإشارة إلى ضخامة التحديّات التي نواجهها كجمعيّة.  فنحن نستطيع الوقوف أمام هذه بشرط واحدٍ ألا وهو أن نتمكّن من إنشاء مشاريع مشتركة جديدة وأن نترك الرسالات التي قد تكون عزيزة علينا أفراداً أو أقاليم.  من المفترض بنا أن نُقدِم على محاولة خبرات جديدة وإن تعرّضنا للفشل.  علينا أن نتحلّى بالشجاعة لنغادر مؤسّسات اكتست أهميّة في الماضي ولربّما ما زالت بارزة اليوم.  فإن نحن لم نفعل هذا، بقينا خلف قضبان ماضينا.  يجب علينا أن نمتلك الشجاعة على الموت إذا اردنا الحياة.  يستوجب هذا من الأقاليم والأفراد سهولة في حركة الفكر والقلب والجسد. فلو أردنا إنشاء مراكز إعدادٍ ودراسة خاصّة بالجمعيّة في إفريقيا وأميركا اللاتينيّة ولو أردنا إعادة بناء الجمعيّة في أروروبا الشرقيّة ومواجهة تحدّيات الصين وتحدّيات التبشير في عالم الشبيبة ولو شئنا رفع تحديّات الحوار مع الإسلام وغيره من الديانات، لا بدّ لنا من التخلّي عن بعض الرسالات وإلاّ ما استطعنا القيام بأيّ جديد على الإطلاق.

 

أرى أنّ هبة الحياة الخاصّة للإخوة، من دون تحفّظ، تمثّل أكثر من مجرّد المرونة التي تتطلّبها منظّمة معقّدة لتلبية حاجات ورش عملٍ جديدة.  ترتبط هذه الهبة بالحريّة في المسيح التي نبشّر بها وترتبط بشريعة الحريّةlex libertatis (10) في "العهد الجديد".  في الليلة التي أُسلم فيها، وبينما آلت حياته إلى الفشل، أخذ يسوع خبزاً بيديه وكسر وأعطى تلاميذه قائلاً:  "هذا هو جسدي، أعطيكم إيّاه."  لمّا وُضع يسوع أمام مصيره، بما أنّ "كان ضروريّاً أن يُسلم ابن الإنسان"، أقدَمَ على فعل الحريّة الأسمى هذا ووهب حياته.  فنذرُنا نحن، عندما نضع حياتنا بين يديّ الرئيس الإقليميّ هو، في الحقيقة، عملٌ إفخارستيٌّ نابع من حريّة مجنونة.  هذه حياتي وأنا أعطيك إيّاها.  هكذا نعطي ذواتنا لرسالة الجمعيّة "منتدبين بالكامل للتبشير التامّ بكلمة الله." (11)

عندما يضع أحد الإخوة حياته بين أيدينا، يعني هذا أنّنا مرتبطون بواجبٍ مناسب.  علينا أن نجرؤ على طلب الكثير منه.  على الرئيس الإقليميّ أن يتّصف بالشجاعة ليعتقد أكيداً أنّ الإخوة في إقليمه قادرون على إنجاز أمور رائعة، أكثر بكثير ممّا يمكنهم تصوّره.  ويُفترض بنظام حكمنا أن يعبّر عن ثقة مدهشة بكلّ فرد، على مثال دومينيك الذي عهد أن يرسل المبتدئين ليبشّروا قائلاً لهم:  "إنطلقوا بثقة فسيكون الربّ معكم وهو من سيضع كلمات التبشير على شفاهكم." (12) فكان بذلك يصدم معاصريه.  إذا قدّم أحد أعضاء الجمعيّة حياته بحريّة، فنحن نكرّم هذه الهبة عندما نطلب الكثير من بعضنا البعض، في الحريّة، حتّى لو أدّى ذلك بأحد الإخوة إلى أن يهجر مشروعاً عزيزاً على قلبه وجد فيه نموّه وانفتاحه.  وإلاّ شلّت الجمعيّة.  يُفترض بنا أن ندعو بعضنا البعض لنهب حياتنا لمشاريع جديدة ولنقدم على وضع أيدينا على المسائل الآنيّة بدل أن نكتفي بالحفاظ على مؤسّسات أو جماعات فقدت حيويّتها بالنسبة إلى تبشيرنا.

ثمّة اليوم تحديّات تفرض نفسها علينا وتستلزم جواباً من الجمعيّة ككلّ.  لربّما شكّل تبشير الصين أحدها.  على الرئيس العام، في مثل هذه الحالات، أن يناشد كرم الأقاليم لتقدّم إخوة يعملون في مناطق رسالة لم يطرقوها من قبل ولو جاءت ارتدادات هذا ثقيلة، صعبة التحمّل.  إلتقيت برئيس إقليميّ لأناقش معه تقديم أخٍ لنيابتنا الجديدة في روسيا وأوكرانيا.  فعلت ذلك بكثير من التردّد لعلمي بأنّ ذاك كان أخاً لن يسهل على الرئيس فقدانه.  أجابني الرئيس الإقليمي، قائلاً:  "إذا أعدّت عناية الله هذا الأخ لهذا العمل، لا بدّ لنا نحن أيضاً من أن نؤمن بعناية الله لاحتياجاتنا."

لن يرى أيّ جديد النور على الإطلاق إن نحن لم نجرؤ على ترك ما قد ظهر مقبولاً لنتحوّل إلى ما قد يؤول إلى الفشل.  لا يمكن لأحد أن يعلم النتيجة مسبقاً.  يريد ضغط المجتمع أن نبني لنا مهنة، أن نحيا حياة تقودنا إلى مكانٍ ما، بيد أنّ تكريس حياتنا للتبشير بالإنجيل، تنزع منّا هذه الضمانة، فنحن أشخاصٌ من دون مهنة ومن دون مشاريع محدَّدة.  هنا تكمن حريّتنا.  أفكّر بشجاعة إخوتنا العاملين على ترسيخ الجمعيّة في كوريا، متصارعين مع لغة وثقافة جديدتين، من غير ضمانة مسبقة أنّ هبة حياتهم هذه ستحمل ثمارها.  هذه هي فقط هبة من الربّ كما جاءت قيامته بعد فشل الصليب.  هذه هبة حقيقيّة، هذه مفاجأة.

إحدى الطرق ليعيش الواحد منّا هذا الكرم تقوم على قبول انتخابه رئيساً لدير أو رئيساً إقليميّاً أو عضواً في المجلس الديريّ أو المجلس الإقليميّ.  تشهد أقاليم عديدة صعوبة في العثور على إخوة مستعدّين لتحمّل الأعباء.  وقد صار بحث الرئيس عمّن يقبل أن يتمّ اقتراح اسمه في المجمع مشكلة.  نبحث عن "مرشّحين".  بيد أنّني أظنّ أنّ السبب الوحيد الكامن وراء قبول مثل هذه الوظيفة هو أنّنا نطيع رغبة الإخوة وليس رغبتنا في الـ"الترشّح".  قد توجد أسباب موضوعيّة وجيهة لرفض مسؤوليّة ما، لا بدّ من أخذها على محمل الجدّ ولربّما من الإذعان لها في نهاية الأمر بعد موافقة السلطة العليا.  ولكن، على هذه أن تكون موجبات خطيرة لا تقتصر على عدم ميلنا لفكرة تحمّل مثل هذا العبء أو ذاك.

إنشدَهَ بطرس، على جبل التجلّي بمظهر المجد الذي عاينه، لذا تمنّى أن ينصب خياماً يمكث فيها مع من معه.  ولكنّه يتردّد في تلبية نداء يسوع للسير على طريق أورشليم حيث عليه أن يتألّم ويموت.  لا يستطيع بطرس أن يرى أنّ المجد سينكشف في هذا الموت على الصليب.  ونحن أيضاً نقف أحياناً مشدوهين أمام مجد ماضينا، مجد المؤسّسات التي شيّدها إخواننا قبلنا.  بيد أن عرفاننا بالجميل نحوهم عليه أن يتجسّد في البحث عن طرقات تسمح بالاستجابة للأسئلة الحاضرة.  يمكننا، مثل بطرس أن نُبهر وأن تُشلّ حركتنا ومثله باستطاعتنا أن نقاوم الدعوة الموجّهة إلينا لنقف ونمشي حتّى نحصل على حصّتنا من الموت والقيامة.  لا بدّ لكلّ إقليم، في كلّ جيل، أن يواجه الموت، بيد أنّ هناك الموت العقيم الذي يصيب من يبقون معلّقين على جبل التجلّي بعد أن يتركه الربّ وهنالك الموت المثمر الذي يموته من يجرأون على السير والسفر معه في الطريق نحو جبل الجلجلة المؤدّي إلى القيامة.

الفقر:  كرم إله النعمة

الفقر هو النذر الذي نجد أكبر صعوبة في اختيار كلمات تعبّر عنه، يسهل تصديقها وذلك لسببين.  فالإخوة والأخوات الذين عرفوا الفقر الحقيقيّ هم غالباً الأكثر تردّداً في الحديث عنه، فهم يعرفون كم هو بيانيّ محض، قسمٌ كبير ممّا نقوله عن الفقر وعن "خيار الفقراء".  هم يعرفون جيّداً كم هي رهيبة حياة الفقراء وأنّها كثيراً ما تفتقر إلى الرجاء في حين تختبر العنف اليوميّ الثقيل الوطأة والملل وعدم الاستقرار والتبعيّة.  فالذين من بيننا، رأوا ولو من بعيد كيف يبدو الفقر، يحذرون من الكلمات السهلة.  فهل نستطيع نحن أنفسنا أن نعرف ما معنى هذا الحرمان وعدم الاستقرار هذا وهذا اليأس؟

أمّا السبب الآخر لصعوبة الكتابة عن الفقر فهو أنّ معنى الفقر يتغيّر للغاية من مجتمعٍ إلى آخر ويتعلّق كثيراً بالروابط العائليّة والنموذج الاقتصادي والتدابير الاجتماعيّة لدى الدولة، إلخ.  فالفقر يعني شيئاً في الهند المعروفة بتقليد التسوّل المقدّس العريق القدم وشيئاً آخر في إفريقيا حيث يعتبر الغنى في معظم الثقافات بركة من الله وشيئاً آخر أيضاً في مجتمع الاستهلاك الغربيّ.  وما يعنيه لنا التلفّظ بنذر الفقر تحدّده الثقافة أكثر ممّا تفعله بالنسبة إلى نذريّ الطاعة والعفّة.  كما أنّ حجم الجماعة وموقعها ورسالات الإخوة، تفرض قيوداً مختلفة من شأنها أن تحيدَنا عن أحكام سهلة جدّاً في ما يخصّ الدرجة التي يعيش فيها الآخرون هذا النذر بشكلٍ جيّد. 

فالفقر مثل النذور الأخرى هو أوّلاً وسيلة.  فهو يقدّم لنا حريّة الذهاب للتبشير في أيّ مكان.  كيف تستطيع أن تعيش مبشّراً متنقّلاً لو كان عليك أن تنقل معك أمتعتك كافّة في كلّ مرّة تتحرّك فيها.  كتب البابا هونوريوس الثالث في رسالته Cum spiritus fervore، سنة 1217 أنّ دومينيك وإخوته،

"عمدوا إلى التخلّص، في حرارة الروح التي كانت تحرّكهم، من أعباء أغنياء هذا العالم وأسرعوا بحماس ينشرون بشرى الإنجيل السارّة.  لقد قرّروا ممارسة مهمّة التبشير في حالة الفقر الطوعيّ الوضيعة، معرّضين أنفسهم لآلامٍ وأخطار لا عدّ لها من أجل خلاص الآخرين." (13)

لسنا مدعوّين لترك الثروات فقط لنتبع المسيح، بل أيضاً "إخوة وأخوات وأمهّات وآباء حبّاً بي".  ويتضمّن التخلّي الذي يعطينا الحريّة فكّاً جذريّاً لروابطنا العائليّة، أي فقداناً للميراث.  ولكن  يجب النظر إلى تبِعات هذا الأمر بدقّة كبيرة لأنّ طبيعة هذه الروابط العائليّة تغيّرت في العديد من المجتمعات.  فاليوم، غالباً ما تشهد عائلاتنا حالات طلاق وزواج من جديد كما أنّ إخوتنا وأخواتنا الآتين من بعض المجتمعات، هم أكثر فأكثر أولادٌ وحيدون.  واجباتنا حقيقيّة تجاه ذوينا ولكن كيف نوفّق بين هذه الواجبات وهبة ذاتنا التامّة التي أقدمنا عليها لمّا كرّسنا حياتنا للتبشير بالإنجيل عبر نذورنا في جمعيّتنا الرهبانيّة؟  فمن المفراقة أن نعتبر في كثيرٍ من الأحيان، أنّ المكرّسين من بين أعضاء عائلة ما والملتزمين بنذور رهبانيّة "أحرارٌ" للمساعدة في الاعتناء بالأهل المسنّين أو المرضى.  علينا أن نفكّر بهذا بانتباه كبير.

يهبنا نذر الفقر الحريّة لنكرّس ذواتنا من دون تحفّظٍ للتبشير بالإنجيل، إنّما هو ليس وسيلة بالمعنى الضيّق والمنفعيّ للكلمة وحسب.  فكما النذور الأخرى، غايته المحبّة على ما كتب توما، غايته الحبّ الذي هو حياة الله.  فكيف نعيش الفقر فنقدر أن نتكلّم عن الله بسلطان؟

ثمّة طريقة للإجابة تقوم على فحص كيف أنّ الفقر يطال الأوجه الرئيسة لسرّ الحبّ الذي هو الإفخارستّيا.  فالإفخارستيّا هو سرّ الوحدة التي يدمّرها الفقر، هو سرّ الضعف الذي يعاني منه الفقير، هو زمن العطاء الذي يرفضه مجتمعنا الإستهلاكيّ.  فأن نتساءل كيف يمكننا وكيف يجب أن نكون فقراء يعود إلى أن نتساءل كيف يُفترض بنا أن نعيش بطريقة إفخارستيّة.

1.                                                                                                                 غير مرئيّين

في الليلة التي قبل موته، جمع يسوع تلاميذه حول المائدة للاحتفال بالعهد الجديد.  شكّل هذا ولادة مسكنٍ يستطيع الجميع الانتماء إليه بما أنّه تحمّل جلّ ما يمكنه تدمير الجماعة البشريّة، أيّ الخيانة والنبذ وحتّى الموت.  فضيحة الفقر أنّه يمزّق ما قد وحّده المسيح وليس الفقر حالة إقتصاديّة فحسب أو نقص في المأكل أو الملبس أو العمل.  يحطّم الفقر العائلة البشريّة ويجعلنا غرباء عن إخوتنا وأخواتنا.   لنتذكّر لعازارعلى باب الغنيّ، فهو لم يُقص فقط عن المشاركة في طعام الرجل بل أبعد أيضاً عن مائدته ولا تبيّن الهوّة غير القابلة للردم التي تفصل بينهما بعد الموت إلاّ ما كان عليه الوضع في حياتهما.  هكذا، نرى أنّ الهوّة، في أيّامنا هذه بين البلدان الغنيّة والبلدان الفقيرة وداخل هذه البلدان كذلك، تزداد اتّساعاً وعمقا.  حتّى في بلدان المجموعة الأوروبيّة الغنيّة، ثمّة ما يقارب العشرين مليوناً من العاطلين عن العمل.  ها جسد المسيح مفكّك.

مقبولٌ الفقر الطوعيّ الذي ننذره ولكن ليس لأنّه بمعنى من المعاني حسنٌ لنا أن نكون فقراء فالفقر شيءٌ مريع ولا مغزى له سوى إذا سمح باجتياز الحدود الفاصلةََ البشر بعضهم عن بعض وإذا كان حضوراً إلى جانب إخوتنا وأخواتنا المنفصلين.  أيّ سلطانٍ تكتسيه كلماتنا عن الوحدة في المسيح إن نحن لم نجرؤ على اتّباع هذا الدرب؟  لمست العام الماضي إلى أيّ مدى يمكن لأخواتنا أن يعلّمن الإخوة بمجرّد حضورهنّ البسيط والمستتر إلى جانب الفقراء في مناطق عديدة من العالم.  فهنّ تعلمن أهميّة أن يكنّ هنا، ببساطة، كإشارة للملكوت. 

الإفخارستيّا هي أساس المسكن الإنسانيّ الشامل.  فهل يشعر فقيرٌ ما بالراحة والترحاب في جماعاتنا؟  هل يشعر أنّ كرامته مُصانة؟  أم أنّ شعوراً من الخوف وقلّة الشأن ينتابه؟  هل أبنيتنا تجذب أم تنفّر؟  نعلم جيّداً أنّ إحدى الطرق التي تنبذ الفقراء من الجماعة الإنسانيّة تقوم على أن يصيروا غير مرئيّين وغير مسموعين.  عندها، يختفي البؤساء مثل لعازار عند باب الغنيّ.  عند وصولكم إلى محطّة كلكتا، يهرع المتسوّلون نحوكم ويفرضون عليكم عاهاتهم، يريدون أن يراهم الناس، أن يكونوا مرئيّين.  أمستعدّون نحن لمواجهة الخوف ممّا قد نرى، أخاً أم أختا؟

2.                                                                                                                 الضعف

تحمّل المسيح، في العشاء الأخير الآلام والموت.  قبل ضعف الكائن البشريّ الأقصى وقبل إمكانيّة أن يُجرح ويموت.  يدعونا نذر الفقر الذي ننذر، من دون شكّ، إلى أن نتحمّل ضعفنا البشريّ.  يمتدح البابا هونوريوس الثالث، في رسالته التي ذكرت أعلاه دومينيك وإخوته، ليس فقط لأنّهم فقراء، إنّما أيضاً، لأنّهم "يعرّضون ذواتهم لآلام وأخطارٍ جمّة من أجل خلاص الآخرين".  فبأيّ وجه من الوجوه نشاطر الفقراء ولو في ظلّ ضعفهم؟

نحن، مهما قلّ طعامنا، يبقى لنا دوماً مخرجٌ إذا لم نعد نحتمل، فالجمعيّة لن تتركنا نتضوّر جوعاً.  بيد أنّني التقيت إخوة وأخوات تجاسروا على الذهاب إلى أقصى ما يقدرون عليه فقصدوا مثلاً أحد أكثر أحياء كراكاس الفقيرة عنفاً.  هناك يحتملون الخطر والإجهاد من جرّاء العيش يوميّاً في عالمٍ يطال فيه العنف كلّ شيء.  هذا مثلاً ضعفٌ حقيقيّ قد يكلّفهم الحياة.  أفكّر بإخوتنا وأخواتنا في هاييتي الذين يخاطرون بحياتهم بسبب مناداتهم الشُجاعة بالعدالة.  كما اختارغيرهم البقاء في الجزائر والقاهرة، على الرغم من الأخطار، علامة على رجائهم بالمصالحة بين المسلمين والمسيحيّين.  وترتدي أخواتنا اللواتي من غواتيمالا ويعملن هناك، زيّ شعبهنّ فيشاركنه الخزيّ يوميّاً، فلو هنّ ارتدين ثوب الأخوات الراهبات لكنّ في مأمن.  لسنا جميعاً مدعوّين لهذه الدرجة من التعرّض، فثمّة مهام مختلفة في الجمعيّة.  إنّما بإمكاننا مساندة من يتعرّضون أكثر منّا والإصغاءإليهم والتعلّم منهم.  فتربة لاهوتنا الخصبة إنّما هي خبرتهم.

يجب على نداء المسيح هذا إلى الضعف أن يحملنا على التساؤل حول طريقتنا في العيش معاً نذر الفقر.  هل نجرؤ، على الأقلّ أن نحيا الضعف الذي تفترضه الحياة المشتركة؟  هل نعيش حقّاً من كيسٍ مشترك؟  هل نعيش ما يحمله إعطاؤنا الجمعيّة ما نحصل عليه كلّه من عدم استقرار عندما نعرّض أنفسنا لمخاطرة ألاّ يعطونا جلّ ما نظنّ أنّنا بحاجة إليه؟ كيف نتكلّم عن المسيح الذي وضع ذاته بين أيدينا، إن لم نفعل نحن ذلك؟  هل تنقسم جماعاتنا وفق طبقاتٍ ماليّة؟  أيوجد بيننا من ينالون مالاً أكثر من سواهم؟  أهنالك مشاركة حقيقيّة بين جماعات الإقليم الواحد أو بين الأقاليم؟

3.                                                                                                                 عطاء

يقوم، في مركز حياتنا، الاحتفال بلحظة الضعف الكامل والكرم الكامل، حين أخذ يسوع الخبز وكسر وأعطى تلاميذه قائلاً:  "خذوا، كلوا، هذا هو جسدي الذي يُسلم من أجلكم".  في قلب الإنجيل، إذن، لحظة عطاء تامّ.  هنا، نلمس بالأكثر المحبّة التي هي حياة الله.  هي كرم يصعب على مجتمعنا أن يفقه كنهه لأنّه سوقٌ لا تعرف سوى البيع والشراء.  أيّ معنى يمكن لمجتمعنا هذا أن يجد لإلهٍ صرخ:  "تعالوا إليّ يا أيّها العطاش جميعاً وأنا أعطيكم الغذاء مجّاناً"؟  للمجتمعات البشريّة كلّها أسواق، كلّها تشتري وتبيع وتتبادل السلع.  نشير هنا إلى أنّ المجتمع الغربيّ مختلف لأنّه هو ذاته سوق.  هذا النموذج الأساسيّ الذي يسيطر على تصوّرنا للمجتمع والسياسة وحتّى الأشخاص ويعطيه شكلاً.  كلّ شيءٍ معروض للبيع، فخصب الطبيعة الفائق والأرض والمياه، جميعها صارت سلعاً.  حتّى نحن، البشر، صرنا في "سوق العمل".  كم تهدّد ثقافة الاستهلاك هذه أن تجتاح العالم بأسره وهي تدّعي أنّها تفعل ما تفعله باسم الحريّة في حين انّها تُغلق علينا في عالمٍ لا شيء فيه حرّ.  حتّى عندما نعي شقاء الفقير وعندما نسعى للاستجابة، غالباً ما يتمّ إدخال "المحبّة" جوّ النقد، فها هي تحوّلت إلى "إحسان" حيث يحلّ عطاء المال، محلّ المشاركة في الحياة.

كيف لنا أن نبشّر بإله نعمة وكرم، يهبنا حياته إن نحن بقينا سجناء هذه الثقافة التي تغزو كلّ شيء؟  فإحدى متطلبّات نذر الفقر الإلزاميّة هي بالطبع أن نعيش في بساطة ترينا العالم من منظار آخر وتمكّننا من أن نفهم بعضاً من صفات الله الكليّ اللطف.  لا بدّ للحياة في جماعاتنا من أن تتسّم ببساطة تساعدنا على التحرّر من الوعود الخدّاعة التي تقدّمها لنا ثقافة الاستهلاك و"سيادة الثروات" (14).  تتغيّر ملامح العالم ما بين مقعد سيارة مرسيدس خلفيّ ومقعد درّاجة.  قال جوردان دي ساكس إنّ دومينيك كان "عاشقاً حقيقيّاً للفقر"، ليس ربّما لأنّ للفقر ما يحبّب الناس به بل لأنّ بإمكانه أن يكشف لنا رغباتنا الأكثر عمقاً.  من جهتي، لطالما أدهشني الفرح والتلقائيّة عند إخوتنا وأخواتنا العائشين في البساطة والفقر.

كذلك، تدعونا اللغة التي نستخدم، في بعض مناطق انتشار جمعيّتنا، للحديث عن حياتنا المشتركة، إلى التنبّه لمخاطر استيعاب قيم عالم الأعمال.  من خلال هذه اللغة، يتحوّل الإخوة والأخوات إلى "موظّفين" ويكون لدينا "مكتب إدارة"، كما يحصل الرئيس على دور "إداريّ" ونقوم نحن بدراسة "تقنيّات الإدارة".  هل يستطيع أحدكم تخيّل دومينيك رئيساً أوّلاً لشركة "جمعيّة المبشّرين" المُغفلة؟  كم وكم من المرّات يحبط رئيسٌ إقليميّ عزيمة أخٍ يودّ البحث عن أساليب جديدة مبتكرة للتبشير والتعليم بسبب أنّ ماليّة الإقليم ستتأثّر سلباً؟

 

الأبنية التي نعيش فيها هي هبات فهل نشغلها ونعاملها كما يتطلّب منّا عرفان الجميل؟  أنتصرّف بمسؤوليّة تجاه ما قد قُدّم إلينا وما نحصل عليه؟  هل نحن بحاجة إلى ما لدينا؟  هل يمكننا تحسين استعمال أبنيتنا؟  غالباً ما يضطلع وكلاء الماليّة بمهمّة صعبة بالرغم من أنّ دورهم حيّويّ لمساعدتنا في تحمّل المسؤوليّة الملقاة على عاتقنا تجاه من أبدوا الكرم تجاهنا.

العفّة:  صداقة الله

حاجتنا طارئة لأنْ نفكّر معاً، في الجمعيّة، في معنى نذر العفّة الذي يطال معطيات مركزيّة من إنسانيّتنا، أعني بها:  حياتنا الجنسيّة،  جسدنا، حاجتنا للتعبير عن العاطفة ولنوالها، ومع ذلك، كثيراً ما نخاف من الحديث عن هذا الشأن.  فيشكّل في غالب الأحيان موضوع صراع منفرد بالخوف من الدينونة أو من سوء الفهم.  ولكن، من المفيد إعداد رسالة أخرى حول هذه النقطة، في المستقبل.

على مثال النذور الأخرى، نذر العفّة هو، بالطبع، وسيلة.  يوفّر لنا حريّة التبشير وسهولة الحركة للاستجابة لاحتياجات الجمعيّة.  ولكن، من الأهميّة بمكان، بالنسبة إلى هذا النذر بنوع خاصّ، ألاّ يتمّ الشعور به فقط كضرورة مؤلمة.  فإن نحن لم نتعلّم، ربّما بعد وقتٍ طويل، ان نضطلع بمتطلّباته بشكلٍ إيجابيّ، سمّم هو حياتنا.  بيد أنّ بإمكاننا أن نتحمّله، لأنّه، مثل النذور السابقة، يؤول، هو أيضاً إلى المحبّة، إلى هذا الحبّ الذي هو عينه، حياة الله  فالعفّة طريقة خاصّة للحبّ أو تقودنا إلى القهر والجدب.

الخطيئة الأولى ضدّ الطهارة هي قلّة الحبّ.  قيل عن دومينيك إنّه "أحبّ الجميع فأحبّه الجميع" (15).  والمسألة هنا مرّة أخرى هي سلطان تبشيرنا.  كيف نتحدّث عن إله المحبّة إن لم تكن المحبّة سرّاً نحياه؟  وإن حييناه، تطلّب منّا الموت والقيامة.  قد نقع في تجربة الهرب، كما تشكّل النشاطيّّة تجنيبة معتادة.  فنضيّع ذواتنا في عمل كثير، عملٍ جيّد وحتّى مهمّ لنهرب من الوحدة.  من المحتمل أن نقع في تجربة الهرب من واقع جنسيّتنا ومن واقع جسدنا، ولكنّ الجمعيّة ولدت تماماً في الصراع ضدّ هكذا ثنائيّة.  لقد تميّز دومينيك بالوعظ ضدّ الانقسام بين الجسد والنفس وبين الروح والمادّة.  ويبقى هذا تجربة حاليّة ويبقى قسم كبير من ثقافتنا المعاصرة ثنائيّاً بعمق.  لننظر إلى الخلاعيّة.  يبدو وكأنّها تستمتع بالجنسيّة.  في الحقيقة، هي هروبٌ منها ورفضٌ لهذا الضعف الذي تستوجبه العلاقة الإنسانيّة.  فالرنّاء هنا، يبقى بعيداً عن هذه العلاقة، حصيناً، تحت السيطرة بسبب الخوف.

 

يبارك التجسّد جسدنا ويقدّسه، فلو أردنا أن نبشّر بكلمة صار جسداً، لن يمكننا أن ننفي ما نحن عليه أو ننساه.  هل نعبأ بجسد إخوتنا فنتأكّد من نوالهم ما يكفيهم من قوت، هل نعتني بهم في مرضهم، هل نمنحهم الحنان في شيخوختهم؟  لمّا أراد بيدي جارّيت أن يشدّد من عزيمة راهب بندكتيّ شاب يعاني أوّل آلام الصداقة، كتب له ما يلي: 

أنا سعيد لأنّني أظنّ أنّ  تجربتك جاءت تجربة تزمّت وبعض الضيق في النظر، تجربة نوعٍ من لاإنسانيّة.  كنت تنزع إلى رفضٍ لتقديس المادّة.  أبديت الحبّ للربّ إنّما ليس فعلاً للتجسّد.  باختصار، شعرت بالخوف." (16)

من المحال أن يشكّل الخوف أساساً لعفّتنا.  الخوف من جنسيّتنا ومن جسدنا ومن الجنس الآخر.  ليس الخوف أبداً أساساً صالحاً للحياة الرهبانيّة.  فلا ننسَ أنّ الله الذي اقترب منّا، تجرّأ على أن يصير لحماً ودما ولو قاده ذلك إلى الصليب.  أخيراً، يستوجب منّا هذا النذر أن نمرّ حيث مرّ اللهّ قبلنا.  لقد تأنّس الله وهو يدعونا أن نحذو حذوه.

يؤكّد القدّيس توما الأكوينيّ أنّ علاقتنا بالله هي علاقة صداقة amiticia.  والبشرى السارّة التي نذيع هي أنّنا نشارك في السرّ اللامحدود لصداقة الآب والابن التي هي الروح.  كذلك، يشرح توما أنّ "النصائح الإنجيليّة"هي النصائح التي يقدّمها المسيح في الصداقة (17).  فإحدى الطرق لعيش هذه الصداقة تكمن في نذرنا العفّة.  والآن، لنفكّر هنيهة بوجهين من وجوه الحبّ الثالوثيّ، إذا ما أردنا أن نرى بوضوحٍ أكبر ما يطلبه منّا:  هو حبّ كريمٌ الكرم كلّه وغير ممتلك وهو حبّ بين أنداد.

1.                                                                                                                 حبّ غير ممتلك

هو هذا الحبّ الكريم الكرم كلّه وغير الممتلك الذي يعطي الله فيه الابنَ جلّ ما هو عليه، حتّى ألوهيّته. هو ليس شعوراً أو عاطفة بل الحبّ الذي يبني كيان الابن.  فلا بدّ لكلّ حبٍّ بشريٍ، بين متزوّجين كان أم في قلب الرهبان والراهبات، من أن يسعى ليعيش هذا السرّ وليشارك في كرمه غير الممتلِك.

يجب أن نخلو من أيّ التباس حول ما الذي يطلبه هذا الحبّ منّا نحن الذين نذرنا العفّة.  فهو لا يعني ألاّ نتزوّج فحسب، بل أن نمتنع عن أيّ نشاطٍ جنسيّ، ممّا يستوجب منّا تخلٍّ واضحٍ وحقيقيّ، لا بل يستوجب منّا زهداً حقيقيّاً.  فإذا ما كان في نيّتنا أن نفعل شيئاً آخر وأن نقبل بالتسويات، قد ندخل سبيلاً لا تُطاق نهايته فنجعل من أنفسنا، مثل غيرنا ممّن نهجوا هذا النهج، بؤساء للغاية.

أمّا الأمر الأوّل الذي نحن مدعوّون إليه فهو أن نقتنع اقتناعاً تامّاً أنّ بإمكان نذر العفّة حقّاً أن يشكّل طريقة لحبّ ولو أنّه سيمرّرنا في أوقات حرمان وغمّ، بيد أنّه طريق باستطاعته أن يحوّلنا إلى أشخاصٍ أغنياء بالعاطفة وإنسانيّين حتّى الملء.  لا ننسى، عند هذا الحدّ أنّ كبار جمعيّتنا هم غالباً علامة رجاءٍ لنا.  فها نحن نعيش جنباً إلى جنب، مع رجالٍ ونساءٍ عبروا تجارب العفّة وبلغوا حريّة من يمكنهم أن يحبّوا بحريّة.  فبمقدورهم إذن أن يكونوا لنا إشارات إلى أنّ ما من مستحيلٍ مع الله.

يستلزم ولوجنا هذا الحبّ الحرّ وغير الممتلك وقتاً.  وقد نلاقي في الطريق إليه الفشلَ والقنوط.  أمّا الآن وتستقبل الجمعيّة عدّة أشخاصٍ في أعمارٍ متقدّمة مرّوا بخبرات جنسيّة، لا يُفترض بنا تصوّر العفّة كبراءة يمكن أن نفقدها إنّما كمالاً للقلب بقدورنا أن ننمو فيه.  حتّى أنّ باستطاعة أوقات الفشل، بنعمة الله، أن ترسم لنا الطريق التي ننضج أكثر فأكثر بسيرنا عليها، لأنّنا "نعلم أنّ الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبّون الله" (رو 8، 28).

على جماعاتنا أن تكوّن المكان الذي فيه نعطي بعضنا البعض الشجاعة عندما يتردّد القلب والمسامحة عندما يقع أحدنا والحقيقة عندما تقبض تجربة الكذب على الذات على أحدنا.  لا بدّ لنا من أن نؤمن بطيبة إخوتنا أو أخواتنا لمّا يتوقّفون هم أنفسهم عن الإيمان بها فما من سمّ أكثر فتكاً من احتقار الذات.  لنقرأ ما كتبه داميان بيرنه في رسالته عن الحياة المشتركة:

"صحيحٌ أنّ الهيكل الأكثر عمقاً في قلوبنا مكرَّسٌ لله ولكن لنا أيضاً احتياجاتٌ أخرى.  هو من صنعنا وحيّزٌ كبيرٌ من حياتنا يسهل على الآخرين الوصول إليه ويطلبه الآخرون.  يحتاج كلّ واحد منّا أن يختبر انتباه أعضاء الجمعيّة الآخرين الحقيقيّ له ومحبّتهم  وتقديرهم وصداقتهم…فالعيش معاً يعني أن نكسر معاً خبز عقولنا وقلوبنا وإذا لم يجد الراهب او الراهبة هذا في الجمعيّة ذهب أو ذهبت تبحث عنه في مكانٍ آخر."

يستلزم منّا عبورنا إلى حريّة القلب الحقيقيّة وكماله أحياناً، أن نجتاز وادي الموت حيث يبدو لنا أنّ جلّ ما نواجه هو القحط والحرمان.  ولكن، أيعقل هذا العبور حقّاًُ من دون صلاة؟ هنالك أوّلاً الصلاة التي نتشارك فيها مع الجماعة، الصلاة اليوميّة الأساسيّة لحياتنا.  وهنالك أيضاً الصلاة الصامتة والخاصّة التي تضعنا وجهاً لوجه مع الله، في أوقاتٍ حقيقة لا بدّ منها وغفرانٍ مؤثّر.  هنا بقدورنا أن نتعلّم الرجاء.  حتّى دومينيك، لمّا كان يمشي، عهد أن يسأل الإخوة أحياناً أن يتقدّموا عنه كي يتمكّن من السير وحيداً ليصلّي وقد جاء في نسخة أوّليّة لـ"التأسيسات" أنّ دومينيك قال إنْ على معلّم المبتدئين أن يلقّن تلاميذه الصلاة بصمت (18).  وكم لدى أخواتنا الراهبات ما يعلّمنه للإخوة عن قيمة الصلاة في الصمت.

2.                                                                                                                 الحبّ المساوي

أخيراً، نقول إنّ الحبّ الذي في قلب الله خصبٌ للغاية.  فهو يولد ويخلق الموجود كلّه.  فما نناضل من أجله في ممارسة العفّة، ليس الحاجة للحبّ فحسب، إنّما أيضاً الرغبة في الإنجاب، في الإيلاد.  بالطبع، على انتباهنا المتبادل أن يشتمل على اهتمامٍ بالقوّة الإبداعيّة التي لكلّ واحدٍ منّا والتي على حياتنا كدومينيكان أن تطلق في سبيل الإنجيل.  فمن المحتمل أن تؤول إبداعيّة أخٍ أو أخت بجمعيّة ما إلى أن تصير رعيّة أو قد نرى العمل الفكريّ للاهوتيٍّ معيّن أو مسرحيّة تولد تلقائيّاً من مخيّلة طلاّب فترة الاختبار في السلفادور.  فلتنأ عفّتنا كليّاً عن الجدب.

نعلم يقيناً أنّ الحبّ الذي هو الله خصبٌ بما يكفي ليبدع مساواةً.  والثالوث حرٌّ من أيّ سيطرة أو إدارة ومجرّد من أيّ عقليّة أبويّة أو متنازلة.   هو الحبّ الذي يدعونا نذرنا للعفّة إلى عيشه والتبشير به.  وكما كتب توما، توجِد الصداقة المساواة أو تبدعها (19).  علاوة على ذلك، لا تعبّر الأخوّة في تقليدنا الدومينيكانيّ أو نمط الحكم الديمقراطي الذي نحبّذ، فقط عن أسلوبٍ لتنظيم حياتنا واتّخاذ القرارات، بل تترجم كذلك شيئاً من سرّ حياة الله.  فأن يُعرف الإخوة بـ"جمعيّة الإخوة المبشرّين"، يجسّد ما نبشّر به ويجسّد سرّ الحبّ هذا، حبّ المساواة التامّة التي هي الثالوث. 

على ذلك أن يميّز علاقاتنا كافّة لا سيّما وأنّ العائلة الدومينيكانيّة، تعود، في اعترافها المتبادل بكرامة كلّ عضوٍ فيها وبالمساواة بين أبنائها جميعاً، إلى طريقتنا عيش هذا النذر جيّداً.  وعلى العلاقات بين الأخوات والإخوة والرهبان والراهبات والعلمانيّين، هي أيضاً، أن تشكّل"تبشيراً مقدَّساً".  حتّى أنّ بحثنا عن عالم أكثر عدالة حيث تحظى كرامة كلّ إنسانٍ بالاحترام، ليس موجباً أخلاقيّاً بسيطاً، بل إنّه يعبّر عن سرّ الحبّ الذي يؤلّف حياة الثالوث المدعوّون نحن إلى تجسيده.

خاتمة

لمّا كان دومينيك يمرّ عبر القرى حيث عرّض الألبيجيّون حياته للخطر، عهد الغناء بصوت عال ليعلم الجميع بوجوده.  تكمن قيمة النذور في أن تحرّرنا للقيام برسالة جمعيتنا مع بعضاً من شجاعة دومينيك وفرحه، فلا يجب أن تشكّل إذن، عبئاً ثقيلاً يحطّمنا  بل عليها أن تكون لنا أجنحة تطلقنا بخفّة نحو أماكن جديدة  لنقوم بما هو جديد.  أمّا ما كتبت في هذه الرسالة فلا يقدّم سوى تعبيرٍ غير وافٍ عمّا يمكن لهذا أن يكون.  أتمنّى أن نستطيع معاً أن نبني رؤية مشتركة لحياتنا كدومينيكان يهبون حياتهم للرسالة، رؤية بمقدورها أن تقوّينا على الطريق وتحرّرنا فتصدح أصواتنا بالغناء.

أخوكم بالقدّيس دومينيك،

الأخ تيموتي ردكليف، ج. م.

معلّم الجمعيّة

Notes

1. Avila, 22.

2. Par exemple: Somme théologique IIa IIae, q. 184, a.  3.

3.Jourdain de Saxe, Libellus, 64.

4. Voir la Quatrième Prière eucharistique.

5. Somme théologique IIa IIae, q.  186, a.  6, ad 2 um.

6. L.C. O  17, I.

7. Herbert, McCabe, o.p., God Matters, Londres, 1987.

8. “Pursuing Communion in Government:  Role if the Community Chapter”, Dominican Monastic Search, vol. II, Automne-hiver 1992, p. 41.

9. The Life of St Dominic, Londres, 1924, p. 128.

10. Somme théologique Ia IIae, q.  108, a. 4.

11. L.C.O. 1, III

12. Acta canon, 24.

13. Cité par Matie-Humbert Vicaire, o.p., “The Order of St Dominic in 1215”, dans Peter B. Lobo, o.p. (éd), The Genius of St Dominic, p. 75.

14. L. C. o. 31, I.

15.Jourdain de Saxe, Libellus, 107.  Voir L.C. O. 25.

16. Bede Bailey, Aidan Bellenger, Simon Tugwell (éd.), Letters of Bede Jarrett, Downside and Blackfriars (Dominican Sources in English, vol. 5), p.  180.

17. Somme théologique Ia IIae, q.  108, a. 4.

18. Constitutions primitives, Dist. I. c. xiii

19. I Ethicorum, 1.8, s.7.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

.