الشر في المفهوم المسيحي

 

" هل الشرّ هو نتيجة غياب الخير أم أن الخير والشر وُجدَا في وقت واحد؟".

خلافًا للمذهب الثنوي الذي يقول بصراع أزلي بين الخير والشر، تؤكد المسيحية أن لا وجود أصيلاً إلا للخير وأن الشرّ ما هو إلا انحراف عن الخير.

أولاً: نظرية التصارع الأزلي بين الخير والشرّ

1ـ تقديم هذه النظرية:

قوة الشرّ واستفحاله ومقاومته الضارية للخير قد توحى، وقد اوحت فعلاً، بأنه مبدأ أزلي يتصارع مع مبدا أزلي آخر وهو الخير. هذا ما نراه في مذهب الزراداشتية الذي يقول بتصارع بين إله الخير أورموزد وبين إله الشر اهريمان، كما أننا في عدة مذاهب " غنوسية" ( مذاهب المعرفة) ، كالمانوية وسواها.

2ـ نقد هذه النظرية:

I أن هذه النظرية، بافتراضها وجود إلهين، تناقض طبيعة الألوهة وتتنكر لها. فالله، إما أن يكون المطلق وملء الوجود ( وهذا ما يقتضيه، من جهة، تعليل توق الإنسان إلى المطلق، ومن جهة ثانية، طبيعة الكائنات التي تحتاج أن تستمدّ وجودها العرضي من وجود مطلق ، ( وبالتالي أن يكون ذاك الذي لا يحدّه أي وجود آخر، أو أن لا يكون.

II أن هذه النظرية تتجاهل كون الشرّ لا يستمد وجوده إلا من تستره بالخير وتقنعه به. إنه سعى إلى الخير يخطئ المرمى ويضلّ الطريق، فالإنسان، من خلال الشرور التي يرتكبها، يسعى إلى قيم خيّرة بحد ذاتها، كالسعادة والطمأنينة والقوة وتأكيد الذات، أي أنه يسعى إلى تحقيق وجوده على أكمل وجه، ولكنه يضل الطريق إذ يعتقد أن تحقيق وجوده يتم عن طريق التسلط أو الطمع أو الاستغلال أو الاعتداء أو السكر أو الشراهة أو الفسق أو الادمان أو الكسل … فيما أن كل هذه الممارسات تدمرّ بالفعل إنسانيته وتنتقص بالتالي من وجوده. ليس الشرّ إذًا شيئًا قائمًا بذاته، إنما هو تزييف للخير وانحراف في طريق السعي إليه.

III من هنا إن الإنسان، إذا اهتدى إلى الخير بعد انصرافه إلى الشرّ، لا يشعر بأنه تغرب عن ذاته أو عن جزء من كيانه، بل أنه حقق اكتمال كيانه واهتدى إلى ذاته الحقيقة التي كانت محتجبة عنه ردحًا من الزمن، وأنه وجد ضالته التي كان عبثًا ينشدها إذ كان يفتش عنها في غير موضعها، وأنه تحوّل من السراب الخادع إلى الحقيقة التي تروى وحدها عطش كيانه.

ثانيًا: نظرة مسيحية إلى الخير والشر والعلاقة بينهما:

1ـ هناك مبدأ واحد للوجود:

ليس من مبدأين للوجود، إنما هناك مبدأ واحد، وهو الله الذي هو بطبيعته ملء الخير والصلاح. في النظرة الكتابية، ليس الشيطان صنوًا لله، ليس إلهًا بل مخلوقًا.

2ـ الخليقة صالحة في الأساس:

الخليقة، من حيث أنها تستمد وجودها من الله، إنما صالحة في الأساس: [ وَرَأَى اَللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً ] [ تكوين 1: 31 ]. والشيطان نفسه، في النظرة الكتابية، كان في الأساس ملاكصا نورانيًا يُدعى " كوكب الصبح". وقد ورد في سفر الحكمة: [ فَإِنَّك تُحِبّ جَمِيعَ الكَائِنَاتِ، وَلا تَمْقُتْ شَيْئًا مِمَّا صَنَعْتَ، فَإِنَّك لَوْ أَبْغَضْتَ شيْئًا لِمَا كَوَّنْتَه، وَكَيْفَ يَبْقَى شَئ لَمْ تُرِدْه؟ ، أَمْ كَيْفَ يُحْفَظ مَا لَمّ تَدْعُهُ؟ ، إِنَّك تُشْفِق على كُلّ شَئّ ، لأَنَّ كُلّ شَئْ لَكْ، أَيُّهَا السَيَّدِ المُحِبّ لِلْحَيَاةِ ، فَإِنَّ رُوحَكْ غَيْر القَابِلِ لِلْفَسَادِ هُوَ فِي كُلّ شَئّ ] [ سفر الحكمة 11: 23 ـ 26 ، 12: 1 ].

وكتب أحد شارحي الكتاب المعاصرين:

" إن المؤلف ( الكهنوتي لرواية الخخليقة ) يردّد كما تردّد لازمة: وَرَأَى اَللهُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ [ تكوين 1: 10، 13، 21، 18، 25].

ويخلص قائلاً: وَرَأَى اَللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً تكوين 1: 31

ولسوف يجد هذا التفاؤل مقابله عندما سيلاحظ الكاتب نفسه تكاثر الخطايا البشرية : [ وَفَسَدَتِ اَلأَرْضُ أَمَامَ اللهِ وَاِمْتَلأَتِ اَلأَرْضُ ظُلْماً. وَرَأَى اَللهُ اَلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ قَدْ فَسَدَتْ إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى اَلأَرْضِ ] [ تكوين 6: 11، 12 ]. إنما الخليقة، بحد ذاتها، ينبغي أن لا تُصوّر حلبة صراع تتجابه فيها مبادئ متعارضة، صالحة وشريرة. كل أسطورية ثنوية غير واردة، لأن الله لم يعمل إلا ما هو حسن. إن هذه النظرة إلى الأشياء تتعارض مع أسطورة الخلق البابلية وتقف على نقيضها، ويجدر هنا التذكير بأن التاريخ المقدس الكهنوتي كتب أثناء نفى اليهود إلى بابل، كردّ فعل ضد الوثنية المحيطة …".

3ـ الشر ينتج من كون الخليقة متمايزة عن خالقها:

فإن كان الله لا يصدر عنه إلا ما هو حسن …

من أين يأتي الشرّ إذًا؟

الشرّ ناتج من كون الخليقة، وإن كانت تستمد وجودها من الله، متمايزة عن خالقها، ومن كون الخالق يحترم هذا التمايز، هذه الخصوصية التي لولاها لما كانت الخليقة قائمة فعلاً بل تحولت إلى مجرد ظل وامتداد للخالق…

فالله يمدّ الخليقة بالوجود وينسحب منها بآن، كي يتسنى لهذا الوجود أن يقوم بحد ذاته …

ينسحب منها كما ينسحب البحر لتوجد القارات، يقول أحد اللاهوتيين في صورة معبرة: " يحتجب ويتوارى كي تقوم لوجود الكون قائمة. يرتضي بالتالي بان يكون لوجود الخلائق نمطه الخاص المتميز عن نمط وجود الخالق. ومن طبيعة هذا النمط الخاص بالخلائق أن يكون عرضة للاضطراب، وبالتالي للشرّ، لأنه بالضبط متمايز عن كمال الخالق.

هذا علمًا بأننا ندرك بالإيمان أن الله يعمل باستمرار في صميم الخليقة موجهًا إياها نحو أقصى ما يمكن لطبيعتها أن تبلغه من كمال،

 

إنما عمل الله هذا عمل تدريجي وطويل النفس لآنه يراعى طبيعة الكائنات ولا يغتصبها اغتصابًا ويحرص على أن يصنع الكون نفسه بمعنى من المعاني عبر تطوّر ومخاض،

على منوال المربي الحكيم الذي لا بدّ وأن يراعى تدرّج مراحل النموّ لدى الذين يرعاهم.

4ـ نوعا الشرّ: طبيعي وخُلُقيّ ( ناتج عن انحراف الحرية ):

هذا الشرّ الناتج عن تمايز الخليقة، إنما على نوعين، طبيعي وخلقيّ:

أـ الشر الطبيعيّ : كالكوارث الطبيعية والأمراض وقسوة الصراع من أجل البقاء وناموس الموت والفناء. هذه الشرور الطبيعية تسبب آلامًا كثيرة وتسحق العديد من الكائنات.

ولكن لا يصح أن يُقال أنها من الله تأتى، بل الحق" أنه لا يمكنها أن لا تكون، لأن الكون ليس الله"…

لا بل لا يصح أن يُقال، كما نسمع عادة، بأن " الله يسمح بها"، لأن الله، إذا سحق ناموس الكون الأبرياء، لا يتجلى ، كما يوضح الفيلسوف الآرثوذكي الكبير نقولا بردياييف، إذ ذاك في ناموس الكون بل في آلام الأبرياء…

وقد عرفنا، في يسوع المسيح، أن الله يعانى معنا، وأكثر منا بكثير، من كل الشر الذي يفتك بالأرض، [الفيلسوف الكاثوليكي الكبير جاك ماريتان ] ، وبأنه هو " حاضر مصلوبًا على كل شر الكون" حسب تعبير أوليفيه كليمان.

ب ـ الشرّ الخلقيّ: وهو وليد الحرية التي يمنحها الله للكائنات العاقلة على صورة حريته ( من أجل محبته الخاصة لتلك الكائنات التي جعلها على شبهه وأعدها لاتصال شخصي به وإلفة معه )، ولكنها حرية مخلوقة، وبالتالي غير كاملة، ولذا فهي عرضة للجنوح والاضطراب، وبعبارة أخرى فهي عرضة للشر.

 

يقول اللاهوتي الأرثوذكسي كالّيسوس وير:

… حاصل الكلام، لماذا سمح الله للملائكة والإنسان بأن يخطئوا؟ … نجيب: لأنه إله محبة، المحبة تعنى المشاركة.المحبة تعنى أيضًا الحرية. الله، وهو ثالوث محبة، كان يرغب بأن يشرك في حياته أشخاصًا مخلوقين، مصنوعين على صورته، وقادرين أن يجيبوه بحرية عبر علاقة حب. حيثما لا توجد حرية، لا يمكن أن يوجد حب. الإكراه ينفى الحب. وكما كان بول أفدوكيموف يقول: الله يستطيع كل شئ … إلا إرغامنا على محبته. لذا فإن الله، إذ كان راغبًا في مقاسمة حبه، لم يخلق كائنات آلية تطيعه آليًا، بل ملائكة وبشرًا زودّهم بالحرية. ومن جراء ذلك عينه، فقد خاض مجازفة، إذ مع هبة الحرية هذه وردت أيضًا إمكانية الخطيئة، ولكن الذي لا يجازف لا يحب فعلاً …

لولا الحرية، لما كانت خطيئة، ولكن لولا الحرية لما كان الإنسان على صورة الله. لولا الحرية، لما كان الإنسان قادرًا أن يشارك الله في علاقة حب

وقد كتب لاهوتي أرثوذكسي آخر:

كما بيّن دوستويفسكي بشكل رائع في أعماله الروائية، حتى الشرّ الذي نفعله يذيع مجد الله لأنه مؤشر حريتنا التى بتحوّلها المفسد إلى تعسّف، إلى تأكيد متمرد للذات، تقودنا إلى الشرّ. الشر، برأي دوستويفسكي، دليل على أنه يوجد، في كيان الإنسان الشخصيّ، عمق هو عمق الحرية، عمق يذيع، بصفته هذه، مجد الله

5ـ انحراف الحرية إلى الشر يأتي من سعيها إلى خير زائف:

أما انحراف الحرية الإنسانية نحو الشرّ، فإنه يتمّ من خلال سعيها إلى خير زائف لأنه جُعِل فى غير موضعه. ويحصل هذا الانحراف بموجب النمطين التاليين، المتكاملين:

أ ـ التوقف عند الذات الراهنة:

فقد يتوقف المرء عند ذاته الراهنة ويضفى على هذه الذات صفة مطلقة ويعتبرها محورًا للوجود. ولكنه، من جراء هذا الموقف، يسئ إلى ذاته معتقدًا أنه يسعى إلى خيرها، وذلك لكونه، بموقف هذا، يحجّمها، يقزّمها، يحكم عليها بالتقوقع وبالتالي بالاختناق، لأنه يحول دون انفتاحها على الآخرين وعلى الآخر المطلق (أي الله)، ودون اتصالها بهم وانطلاقها من جراء ذلك في رحاب المشاركة التي لا حياة لها حقيقية بدونها، لأن الإنسان، تحديدًا، هو ذاك الذي يشارك ولا يحقق إنسانيته إلا بالمشاركة. فمن تعبّد لذاته المحدودة يحول دون ولادة ذاته الواسعة، الرحبة، الغنية، المنتعشة، التي لا تتحقق ألا بتجاوز الإنسان لنفسه دون انقطاع: [ مَنْ طَلَبَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ أَهْلَكَهَا يُحْيِيهَا ] لوقا 17: 33

ب ـ عزل رغبة من الرغائب وتضخيمها:

هذا التأليه للذات كثيرًا ما يتمّ عن طريق عزل رغبة من الرغائب، وإضفاء صفة الإطلاق عليها على حساب الرغائب الحيوية الأخرى التي يجرى تجاهلها وطمسها، مما يؤدى إلى تعبئة الطاقات كلها لتلبية حاجة جزئية تتضخم بشكل سرطاني فتمتص الحيوية كلها وتحول دون تحقيق متكامل للكيان الإنساني يحفظ توازنه وانسجامه ويأخذ بعين الاعتبار كل أبعاده ومقوماته. هكذا ينقلب الخير المبتور، المحجّم، المنعزل، ذات الأفق الضيق، إلى شرّ.

فالحاجة إلى التملك مشروعة شرط أن تقترن بالسخاء، الذي يلبى حاجة المرء إلى العطاء. والحاجة إلى تأكيد الذات مشروعة شرط أن تقترن بمراعاة ذات الآخر والانفتاح إليها واحترامها ورعايتها، ذلك الآخر الذي احتاج إلى إيلائه أهمية لأني به وحده اغتنى وبدونه أبقى عل هزالتى. والحاجة الجنسية أمر مشروع شرط أن تقترن بحاجتي، كي أبقى إنسانًا، إلى التوصل مع الآخر بتعهده بالحنا وبالاعتراف بفرادته. فالرغائب الإنسانية تسعى بحد ذاتها إلى غايات خيّرة، إنما تنقلب هذه الغايات إلى شرّ إذا تفرّدت إحدى هذه الرغائب واستقلت ، وانعزلت ، واستأثرت بطاقات المرء على حساب رغبته المحورية في تحقيق ذاته على وجه متكامل. هذه الرغائب التي تزيح الرغبة الأساسية لتحتل مكانها هي ما يُسمى بالأهواء.

6ـ عبرة مثل الزوان فى الحقل:

 [ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً زَرَعَ زَرْعاً جَيِّداً فِي حَقْلِهِ. وَفِيمَا النَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُّوُهُ وَزَرَعَ زَوَاناً فِي وَسَطِ الْحِنْطَةِ وَمَضَى. فَلَمَّا طَلَعَ النَّبَاتُ وَصَنَعَ ثَمَراً حِينَئِذٍ ظَهَرَ الزَّوَانُ أَيْضاً. فَجَاءَ عَبِيدُ رَبِّ الْبَيْتِ وَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ أَلَيْسَ زَرْعاً جَيِّداً زَرَعْتَ فِي حَقْلِكَ؟ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ زَوَانٌ؟. فَقَالَ لَهُمْ: إِنْسَانٌ عَدُوٌّ فَعَلَ هَذَا فَقَالَ لَهُ الْعَبِيدُ: أَتُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ وَنَجْمَعَهُ؟ فَقَالَ: لاَ! لِئَلا تَقْلَعُوا الْحِنْطَةَ مَعَ الزَّوَانِ وَأَنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ. دَعُوهُمَا يَنْمِيَانِ كِلاَهُمَا مَعاً إِلَى الْحَصَادِ وَفِي وَقْتِ الْحَصَادِ أَقُولُ لِلْحَصَّادِينَ: اجْمَعُوا أوَّلاً الزَّوَانَ وَاحْزِمُوهُ حُزَماً لِيُحْرَقَ وَأَمَّا الْحِنْطَةَ فَاجْمَعُوهَا إِلَى مَخْزَنِي ]. مت 13: 24 ـ 30

إن هذا المثل يلقى ضوءًا كاشفًا على الموضوع الذي نحن بصدده. ما يستوقفني في هذا المثل أمران:

أ ـ إن الزوّان لا ينبت بشكل مستقل، إنما ينبت على حساب الحنطة، يغتذي مما هو معدّ أصلاً لغذائها. وبعبارة أخرى، إن كيانه طفيلي مستمد من كيان الحنطة ومسلوب منه. هكذا الشرّ لا يقوم إلا على حساب تحويل الطاقات الساعية أصلاً إلى الخير وتحريفها عن مسارها وغايتها.

يقول المطران كاليستوس وير:

خلافًا للثنوية بكل إشكالها، تؤكد المسيحية أنه يوجد " خير أسمى" ، أي الله نفسه. ولكن لا يوجد، ولا يمكن أن يوجد " شرّ اسمي" ، ليس الشر أزليًا مثل الله. في البدء، لم يكن سوى الله، فكل الموجودات إنما هي خليقته، سواء السماء أو الأرض، سواء الكائنات الروحية أو المادية، بحيث أنها كلها، في حقيقتها الجوهرية، حسنة.

ماذا يسعنا إذًا أن نقول عن الشر؟ … إذا كانت كل الأشياء المخلوقة حسنة بحد ذاتها، فالخطيئة أو الشرّ ليس " شيئًا" بحد ذاته، ولا كائنًا، ولا جوهرًا موجودًا … " الخطيئة عدم"، يقول لنا القديس أوغسطينوس:" الشرّ بحصر المعنى، ليس جوهرًا، إنه غياب الخير، كما أن الظلمات هي غياب النور".

ويؤكد القديس غريغويوس النيصصي أنه : لا يوجد شرّ خارج خيار، شر يمكن رؤيته بقوامه الذاتى فى طبيعة البشر.

الشياطين هي أيضًا ليست بطبيعتها شريرة، كتب القديس مكسيموس المعترف، ولكنها صارت هكذا باستعمالها الردئ لملكاتها الطبيعة".

الشر هو دائمًا طفيلي. إنه ينتج عن تشويه شئ حسن فى منطلقه وعن إساءة استعماله. الشر يكمن لا في الشئ نفسه، وإنما في موقفنا حيال هذا الشئ، في إرادتنا.

وقد يُعتقد أن وصف الشرّ على أنه "نقص"، هو قلة تقدير لقوته وديناميته. ولكن ك.س.لويس يلفتنا إلى أن "اللا شئ قوى جدًا". القول بأن الشرّ انحراف للخير وأنه إذًا، في آخر المطاف، وهم ولا حقيقة، ليس إنكارًا لسلطانه القوىّ علينا. ذلك أن ما من قوة في الخليقة أعظم من قوة الخيار الحر الذي يمنحنا وعيًا وقدرة على الفهم الروحي. لذا فإن سوء استعمال هذا الخيار الحرّ يمكن أن تكون له نتائج مرعبة [ كاتب انكليكانىّ 1898 ـ 1963 ].

ب ـ ما يمليه هذا التلازم الوثيق بين الخير والشر:

إن هذا التلازم الوثيق بين الخير والشر في الحياة الإنسانية يدعو إلى كثير من الحكمة والحذر، كما يشير المثل الإنجيلي الذي نحن بصدده، بتحذيره من اقتلاع الزوأن قبل الأوان المناسب لئلا يُقتلع القمح معه  متى 13: 28، 329

والحكمة المطلوبة في هذا المجال ( وهو المشار إليها في التراث بموهبة " تمييز الأرواح" ) لها وجهان متكاملان:

· التنبه إلى الشرّ الذي قد يتستر وراء خير ظاهريّ

فمن جهة ينبغي أن نتنبه إلى أن الشر قد يتستر وراء سلوك خيّر بظاهره. فالتقوى قد تُبطن التكبر والاستعلاء (تلك هي التقوى الفريسية). والإيمان قد يضمر التعصب وما يتضمنه هذا التعصب من خوف وكراهية وإدعاء احواء الله وتملك الحقيقة. والطاعة والتواضع قد يُتخذان ذريعة للجثبن وستارًا للتهرب من المواجهة ومن تحمّل عبء المسؤلية. والعفة قد تخفى خوفًا من الحياة ومحاولة لاستبعاد الآخر والاكتفاء بالذات. وهلم جرا.

· التنبه إلى الطاقات الخيّرة الموظفة في الشر:

بالمقابل، ينبغي أن ندرك ـ كما يدعونا المثل الإنجيلي بشكل مباشر ـ أن السلوك المنحرف نفسه يوظف طاقات إيجابية ينبغي تحريرها من انحرافها وتوجيهها في طريق الخير والبنيان، وأن نظرة سلبية بحتة إلى ذلك السلوك من شانها أن ترسخه في سوئه وأن تعقّم طاقات الخير الكامنة فيه (أي أنها تقتلع القمح مع الزوّان)، بينما النظرة المترفقة دون تساهل، والمتفهمة دون تواطؤ، والعامرة بالرجاء، كنظرة يسوع إلى الخطأة ( راجع مثلاً نظرته إلى زكا العشار لوقا 19: 5 )، من شأنها أن توقظ وتحرر في المرء أصالته السليبة وأن تحوّل فيه مجرى الطاقات المنحرفة وتعيدها إلى جادة الصواب وسبيل الحياة الحقة.

وقد يكون الإنسان الذي اندفع بكليته في سبيل غرض منحرف، وجارف فى سبيله، أقرب إلى الخلاص من " الآدمي" الذي همّم الأول تجنب المشاكل واسترضاء الناس وتحاشى انتقاداتهم والمحافظة على سمعته بينهم:

[ مَاذَا تَظُنُّونَ؟ كَانَ لإِنْسَانٍ ابْنَانِ فَجَاءَ إِلَى الأَوَّلِ وَقَالَ: يَا ابْنِي اذْهَبِ الْيَوْمَ اعْمَلْ فِي كَرْمِي. فَأَجَابَ: مَا أُرِيدُ. وَلَكِنَّهُ نَدِمَ أَخِيراً وَمَضَى. وَجَاءَ إِلَى الثَّانِي وَقَالَ كَذَلِكَ. فَأَجَابَ: هَا أَنَا يَا سَيِّدُ. وَلَمْ يَمْضِ. فَأَيُّ الاِثْنَيْنِ عَمِلَ إِرَادَةَ الأَبِ؟ } قَالُوا لَهُ: { الأَوَّلُ }. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ الْعَشَّارِينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ ] متى 21: 28 ـ 32

[ أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ، أَنَّكَ لَسْتَ بَارِداً وَلاَ حَارّاً. لَيْتَكَ كُنْتَ بَارِداً أَوْ حَارّاً. هَكَذَا لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِداً وَلاَ حَارّاً، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي [ رؤيا 3: 15، 16

قد يكون المسترسل في حب فاسق أقرب إلى الله من ذاك الذي يحتمي ببخل من الحب محافظة على طمأنينته فيحيا في الإكتفائية وجفاف القلب وعقمه. وقد يحوّل الأول، إذا اهتدى، زخم حبه المنحرف إلى توغّل في أعماق المحبة الخالصة وفى دروب القداسة (كما حصل للبارة مريم المصرية).

وقد كتب القديس يوحنا السلّمى بهذا الصدد:

رأيت نفوسًا نجسة هائمة هيامًا شديدًا بعشق الأجسام. ولما أخذت تحفظ التوبة استفادت من تجربة العشق إذ نقلت غرامها على الرب وعلت فوق كل خوف وذاقت حب الله ذوقًا لا يشبع. ولهذا لم يقل ربنا للزانية أنك خشيت كثيرًا بل أحببت كثيرًا. وهكذا تمكنت أن تدفع عشقًا بعشق

من هنا أننا، في التربية، ينبغي أن نواجه خطر الانحرافات، بالتوجه البنّاء لا بالموقف القمعّ. فالميل الجنسي البارز قد يؤول، إذا كُبت بفعل القمع، إلى شحّ في العاطفة وقسوة القلب، أما إذا وُجه بشكل إيجابي بفعل المناخ الذي يوجده المربى بكلامه ومواقفه، فمن شانه أن يتسامى فيغذى طاقة الحب على اختلاف وجوهها. كذلك فالميل العدواني البارز ( لدى ولد مشاكس مثلاً ) قد يؤدى، إذا كُبت بفعل تربية قمعية، إلى نشوء شخصية مراوغة ترضخ للقوة وتستأسد بالمقابل على الضعفاء …

أما إذا وُجّه بالتي هي أحسن، فمن شأنه أن يساعد على تكوين شخصية مستقلة مقدامة لا تخشى النضال في سبيل قناعاتها، والتصدي للظلم بغية تحرير الضعفاء منه، والشهادة لما تراه حقًا وعدلاً.

 

الخلاصة

هكذا نرى أن الشر، على فداحة واقعه المدمرّ، ليس جوهريًا…

إنه نتيجة غياب الخير … كما ورد في نص السؤال الذي انطلقنا منه ..

إنه، في آخر المطاف، مجرد كيان طفيلي يعطّل الخير ويشوهه وينحرف به عن مساره …

ولكنه لا يحيا إلا من زخمه …

هذه الرؤية تتطلب منا يقظة حادة وحذرًا وتمييزًا …

ولكنها تدعونا بآن إلى تغليب الإيجابية والرجاء في موقفنا من أنفسنا ومن الآخرين