عظة البابا في افتتاح الجمعية العامة العادية ليسنودس الأساقفة

الفاتيكان، 2008 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي النص الكامل لعظة الأب الأقدس بندكتس السادس عشر صباح الأحد 5 أكتوبر 2008 لدى ترؤسه القداس إلهي في بازيليك القديس بولس خارج الأسوار في روما بمناسبة افتتاح الجمعية العامة العادية الثانية عشرة لسينودس الأساقفة، الذي يعقد في قاعة السينودس في الفاتيكان حتى 26 أكتوبر الجاري حول موضوع: "كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها" (Verbum Domini in vita et missione Ecclesiae).

* * *

أيها الإخوة الأجلاء في الأسقفية والكهنوت،

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!

عرضت القراءة الأولى من كتاب النبي أشعيا، وصفحة الإنجيل بحسب متى، على جماعتنا الليتورجية صورة مجازية معبرة عن الكتاب المقدس: صورة الكرمة، التي سبق وسمعنا الحديث عنها في الأسابيع السالفة. يشير المقطع الأول من النص الإنجيلي إلى "نشيد الكرمة" الذي نجده في أشعيا. نحن بصدد نشيد يضعنا في بيئة حصاد العنب الخريفية: وهو تحفة فنية صغيرة في الشعر اليهودي، وقد كان على الأرجح مألوفًا لآذان سامعي يسوع، ومن خلال هذا النشيد، وغيره من مراجع الأنبياء (راجع هو 10، 1؛ إر 2، 21؛ حز 17، 3 – 10؛ 19، 10 – 14؛ مز 79، 9 – 17)، كانوا يفهمون أن الكرمة تشير إلى إسرائيل. وقد خص الرب كرمته، أي شعبه المختار، بالعناية نفسها التي يخص بها العريس الأمين عروسه (راجع حز 16، 1 – 14؛ أف 5، 25 – 33).

تصف صورة الكرمة، إلى جانب صورة العرس، مشروع الخلاص الإلهي، وتشكل تشبيهًا مؤثرًا لعهد الله مع شعبه. يعود يسوع في الإنجيل إلى نشيد أشعيا، ولكنه يطبقه على سامعيه وعلى الزمن الجديد من تاريخ الخلاص. فالتركيز ليس على الكرمة بقدر ما هو على الكرامين، الذين يطلب إليهم "خدام" رب الكرم، باسم هذا الرب، ثمن الوكالة. فيضرب الكرامون الخدام ويقتلونهم. كيف يمكن عدم التفكير بتاريخ الشعب المختار وبالمصير الذي كان يصيب الأنبياء المرسلين من قبل الله؟ في النهاية،  يقوم رب الكرم بمحاولة أخيرة، ويرسل ابنه، مقتنعًا بأنهم سيذعنون له على الأقل. ولكن يحدث العكس تمامًا: يقتل الكرامون الابن بالضبط لأنه الابن، أي الوارث، مقتنعين أنهم بهذا الشكل يستطيعون أن يتملكوا الكرمة. نحن بصدد قفزة نوعية نسبةً للتهمة بخرق العدالة الاجتماعية، التي تنبثق من نشيد أشعيا. نرى بوضوح في هذه الحالة كيف أن احتقار أحكام رب الكرم يتحول إلى احتقار له بالذات: ليست المسألة مسألة عصيان وصية إلهية، بل الرفض الحقيقي لله: يظهر هنا سر الصليب.

يستوقف استنكار الصفحة الإنجيلية طريقة تفكيرنا وتصرفنا. لا تتحدث فقط عن "ساعة" المسيح، عن سر الصليب في تلك الآونة، بل عن حضور الصليب في كل الأزمنة. تستجوب بشكل خاص الشعوب التي تلقت التبشير بالإنجيل. إذا ما نظرنا إلى التاريخ، وجدنا أنفسنا مضطرين إلى ملاحظة وتيرة برودة وعصيان المسيحيين غير الصادقين. ونتيجة لذلك، اضطر الله، رغم أنه لم يتراجع أبدًا عن وعده بالخلاص، إلى أن يلجأ إلى العقاب.

من البديهي أن نفكر في هذا الإطار بالتبشير الأول بالإنجيل، الذي منه نشأت جماعات مسيحية زاهرة في البدء، اختفت فيما بعد، ولا نذكرها اليوم إلا في كتب التاريخ. ألا يمكن للأمر نفسه أن يحدث في عصرنا؟ دول كانت غنية في زمن ماضٍ بالإيمان والدعوات تضيع الآن هويتها، تحت ضغط نوع من الثقافة الحديثة المضرة والمدمرة.

فهناك من قرر أن "الله قد مات"، فأعلن نفسه "إلهًا" لذاته، معتبرًا ذاته كالمبتكر الأوحد لمصيره، المالك المطلق للعالم. بتخلصه من الله وبعدم انتظار الخلاص منه، يظن الإنسان أنه يستطيع أن يفعل ما يحلو له وأن يجعل من ذاته المقياس الأوحد لذاته ولتصرفاته. ولكن عندما يلغي الإنسان الله من أفقه، ويعلن موت الله، هل يصبح سعيدًا حقًا؟ هل يضحي حرًا بالفعل؟ عندما يعلن البشر أنهم الأسياد المطلقون لذواتهم وأرباب الخليقة، هل يستطيعون أن يبنوا مجتمعًا تسوده الحرية، والعدالة والسلام؟ أو، على عكس ذلك، تتفشى – كما تُعلِمنا الأخبار اليومية بشكل وافٍ – غوغائية السلطة، والمصالح الأنانية، والظلم، والاستغلال، والعنف بكل أشكاله؟ نقطة الوصول، في نهاية المطاف، هي أن الإنسان يجد نفسه أكثر وحشة، ويجد المجتمع أكثر تشرذمًا وضياعًا.

ولكن هناك وعد في كلمات يسوع: الكرمة لن تُدمّر. فإذ يترك الكرامين القتلة يواجهون مصيرهم، لا يتخلى رب الكرم عن كرمته، بل يوكلها إلى خدام آخرين أمناء. هذا ما يوضح أنه إذا ما تراخى الإيمان في بعض المناطق وانطفأ، ستكون هناك شعوب أخرى مستعدة لقبول الإيمان. لهذا السبب بالذات، بينما يستشهد يسوع بالمزمور 117 (118): "الحجر الذي رفضه البناؤون صار رأس الزاوية" (آية 22)، يؤكد أن موته لن يكون هزيمة لله. فبموته لن يبقى في القبر، بل ما قد يبدو الفشل الكامل، سيشكل بدء نصر نهائي. وسيلي مجدُ القيامة آلامَه وموته على الصليب. ستستمر الكرمة في إنتاج العنب وسيوكلها رب الكرم إلى "كرامين آخرين، يسلمونه الثمر في حينه" (مت 21، 41).

تعود صورة الكرمة، مع أصدائها الخلقية، العقائدية، والروحية، في العشاء الأخير، عندما يقول الرب عند وداعه الرسل: "أنا الكرمة الحق وأبي الكرام. كل غصن فيّ لا يأتي بثمر، يقطعه، وكل غصن يأتي بثمر يشذبه لكي يؤتي بثمر أكثر" (يو 15، 1 – 2). انطلاقًا من حدث الفصح سيعرف تاريخ الخلاص تحولاً جوهريًا، وسيكون رواده "هؤلاء الكرامين" الذين طُعّموا كأغراس مختارة في المسيح، الكرمة الحقة، يحملون ثمارًا جمة للحياة الأبدية (راجع صلاة ما قبل القراءات). نحن أيضًا من بين هؤلاء "الكرامين"، وقد طُعّمنا في المسيح الذي أراد أن يضحي هو بالذات "الكرمة الحق". فلنصل إلى الرب الذي يهبنا دمه، يهبنا ذاته بأسرها في الافخارستيا، أن يساعدنا لكي "نأتي بثمر" للحياة الأبدية وفي زماننا.

إن الرسالة المعزية التي نحصدها من النصوص البيبلية هي الضمانة بأن الكلمة الأخيرة ليست للشر والموت، بل أن المسيح هو الذي سينتصر في نهاية المطاف. والكنيسة لا تتعب من تكرار هذه البشرى السارة دائمًا، كما هو الحال في هذه البازيليك المكرسة لرسول الأمم، الذي كان أول من نشر الإنجيل في مساحات واسعة من آسيا الصغرى وأوروبا. سنجدد هذه البشرى بشكل لافت خلال الجمعية العامة العادية الثانية عشرة لسينودس الأساقفة الذي موضوعه: "كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها".

أود أن أحيي بعاطفة قلبية جميعكم، الآباء السينودسيين الأجلاء، وجميع من يشترك في هذا اللقاء من مختصين، ومراقبين ومرسلين خاصين. يسعدني أيضًا أن أستقبل الإخوة الموفدين من الكنائس الأخرى والجماعات الكنسية. نعبر جميعنا عن عرفاننا للأمين العام لسينودس الأساقفة ولمعاونيه، لأجل العمل الجاد الذي قاموا به في الأشهر الأخيرة، وللأتعاب التي تنتظرهم في الأسابيع المقبلة.

عندما يتكلم الله، يدعو دومًا إلى جواب؛ إن عمله الخلاصي يتطلب التعاون البشري؛ ويتوقع حبُه التجاوب. لا يصيبنّنا أبدًا ما يخبر عنه النص الكتابي بشأن الكرمة: "انتظرت أن تثمر العنب، ولكنها أنبتت الحصرم" (راجع أش 5، 2). وحدها كلمة الله تستطيع أن تحول بعمق قلب الإنسان، ولذا من الضروري أن يلج المؤمنون أفرادًا وجماعات أكثر فأكثر في حميميتها.

ستوجه الجمعية السينودسية انتباهها إلى هذه الحقيقة الأساسية والضرورية لحياة الكنيسة ورسالتها. فالتغذي من كلمة الله هو بالنسبة لها الواجب الأول والأساسي. بالواقع، إذا ما كان إعلان الإنجيل يشكل ركيزة وجود ورسالة الكنيسة، فمن الضروري أن تعرف الكنيسة ما تبشر به وأن تعيشه، لكي يستحق تبشيرها التصديق، بالرغم من ضعف وفقر البشر الذين يؤلفونها. نعرف أيضًا أن مضمون التبشير بـ "الكلمة"، في مدرسة المسيح، هو "ملكوت الله" (راجع مر 1، 14 – 15)، ولكن ملكوت الله هو شخص يسوع بالذات، الذي يقدم، عبر كلماته وأفعاله، الخلاص للبشر في كل حقبة. يلفت الانتباه في هذا الإطار ما يقوله القديس إيرونيموس: "من لا يعرف الأسفار المقدسة، لا يعرف قوة الله. جهل الكتب المقدسة هو جهل المسيح" (مقدمة التعليق على النبي أشعيا: الآباء اللاتين 24، 17).

في هذه السنة البولسية سنسمع صدى هتاف رسول الأمم يتردد بشكل حثيث: "الويل لي إذا لم أبشر بالإنجيل" (1 كور 9، 16)؛ وهو هتاف يضحي لكل مسيحي دعوة ملحة لكي يضع نفسه في خدمة المسيح. يردد المعلم اليوم أيضًا: "الحصاد كثير" (مت 9، 37). فكثيرون لم يلتقوا به بعد وهم بانتظار التبشير الأول بإنجيله؛ وغيرهم، رغم أنهم تلقوا تنشئة مسيحية، فقد فترت عزيمتهم ولا يربطهم بكلمة الله إلا علاقة سطحية؛ غيرهم أيضًا ابتعدوا عن ممارسة الإيمان ويحتاجون إلى تبشير جديد. وهناك أيضًا الأشخاص الذين يتمتعون بحس مستقيم ويطرحون أسئلة جوهرية حول معنى الحياة والموت، أسئلة وحده المسيح يستطيع أن يجيب عليها بشكل كافٍ. ولذا يضحي أمرًا لا غنى عنه أن يكون مسيحيو القارات كلها على استعداد بأن يقدموا جوابًا لكل من يسألهم برهانًا عن الرجاء الكامن فيهم (راجع 1 بط 3، 15)، عبر إعلانهم الفرح لكلمة الله وعيشهم الإنجيل دون مراوغة.

أيها الأخوة الأجلاء، فليساعدنا الرب لكي نستعرض سوية، خلال أسابيع العمل السينودسي المقبلة، كيفية جعل التبشير بالإنجيل أكثر فعالية في زمننا الحالي. جميعنا نشعر بضرورة وضع كلمة الله في محور حياتنا، وقبول المسيح كفادينا الأوحد، وكملكوت الله بالذات، لكي نسمح لنوره أن يشع في كل أبعاد البشرية: من العائلة إلى المدرسة، إلى الثقافة، فالعمل، ووقت الرفاهية، وسائر قطاعات المجتمع وحياتنا.

عبر اشتراكنا في الاحتفال بالافخارستيا نشعر دومًا بالعلاقة الوطيدة القائمة بين إعلان كلمة الله والذبيحة الافخارستية: فهو السر عينه الذي يعرض لتأملنا. ولهذا السبب، كما يوضح المجمع الفاتيكاني الثاني "لطالما كرمت الكنيسة الأسفار المقدسة كما تكرم جسد الرب، وهي لا تتوانى قط عن التغذي من خبز الحياة على مائدة الكلمة وعلى مائدة جسد المسيح، وتضع كليهما بمتناول المؤمنين". ويختم المجمع بالقول: "وكما تنمو حياةُ الكنيسةِ بممارستها سرَّ القربان ممارسةً غير منقطعة، هكذا يجدر بنا أن نرجوَ زخماً جديداً للحياة الروحية ينبعُ من إحترام متزايد لكلمةِ الله "التي تدوم إلى الأبد"" (دستور عقائدي "كلمة الله"، 21 . 26).

فليمنحنا الرب أن نتقرب بإيمان من المائدة المزدوجة، مائدة الكلمة ومائدة جسد ودم المسيح. فلتنل لنا هذه الهبة مريم الكلية القداسة، التي "كانت تحفظ هذه الأمور وتتأملها في قلبها" لو 2، 19). فلتكن مريم معلمتنا في الإصغاء إلى الأسفار المقدسة وفي التأمل بها عبر عملية نضوج داخلية لا تفصل أبدًا العقل عن القلب. فليساعدنا القديسون أيضًا، وبوجه خاص الرسول بولس، الذي خلال هذا العام نكتشف أكثر فأكثر كيف كان شاهدًا لا يصيبه الكلل، ورسولاً يحمل عاليًا كلمة الله. آمين!

* * *

نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.