خطاب البابا في افتتاح السينودس حول الكلمة

الفاتيكان، الثلاثاء 7 أكتوبر 2008 (Zenit.org).

 ننشر في ما يلي الخطاب الذي تلاه قداسة البابا بندكتس السادس عشر في قاعة السينودس في الفاتيكان صباح الاثنين 6 أكتوبر 2008 بمناسبة بدء أعمال الجمعية العامة العادية الثانية عشرة لسينودس الأساقفة.

* * *

أيها الإخوة الأعزاء في الأسقفية،

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

في بدء السينودس، تعرض علينا ليتورجية الساعات مقطعًا من المزمور 118 الكبير حول كلمة الله: إنه مديح لكلمة الله هذه، وتعبير عن فرح إسرائيل لأنه يستطيع أن يعرفها، وأن يعرف من خلالها إرادة الله ووجهه. أود أن أتأمل معكم ببعض الآيات من هذا المقطع من المزمور.

يبدأ بهذا الشكل: "للأبدِ يا رَبُّ كَلِمَتُكَ في السَّماءَ ثابِتَة… قد ثبَّتَّ الأَرضَ فهي قائِمة". يتحدث المزمور عن رسوخ الكلمة. هي راسخة، وهي الركيزة الحقة التي يجب أن يبني عليها حياته. فلنذكر كلمة يسوع التي تتابع كلمة المزمور هذه: "السماء والأرض تزولان، وكلامي لن يزول أبدًا". بالحديث من وجهة نظر بشرية، الكلمة، كلمتنا البشرية، هي تقريبًا لا شيء في الواقع، هي نسمة. ما إن نتلفظ بها حتى تزول. تبدو وكأنها لا شيء. ولكن حتى الكلمة البشرية لها قوة لا تصدق. فالكلمات هي ما يخلق التاريخ، والكلمات هي التي تجسد الأفكار، الأفكار التي منها تصدر الكلمات. الكلمة تشكل التاريخ والواقع.

أكثر من ذلك بكثير، كلمة الله هي ركيزة كل شيء، هي الواقع الحق. ولكي نكون واقعيين، يحب أن نعتمد على هذه الحقيقة. يجب أن نغير فكرتنا بأن المادة، والأمور الصلبة الملموسة، هي أمور أكثر صلابة، ومضمونة أكثر.

في ختام عظة الجبل، يخبرنا الرب عن إمكانيتين لبناء بيت الحياة: على الرمل وعلى الصخر. يشيّد على الرمل من يبني فقط على الأمور المرئية والملموسة، على النجاح، على الوظيفة، على المال. فظاهريًا هذه الأمور هي الواقع الحق. ولكن كل هذه الأمور ستزول يومًا ما. نرى هذا الأمر الآن مع سقوط البنوك الكبرى؛ هذه الأموال تضمحل، فهي هباء. وهكذا الأمر مع كل الأشياء، التي تبدو الواقع الحق الذي يجب الاعتماد عليه، ولكنها بالحقيقة أمور ثانوية. من يبني حياته على هذا الواقع، على المادة والنجاح، وعلى كل ما هو ظاهري، يبني على التراب. وحدها كلمة الله هي ركيزة كل الواقع، وهي ثابتة مثل السماء وأكثر من السماء، هي الواقع.

ولذا يجب أن نحول مفهومنا للواقعية. فالواقعي هو من يقر بأن في كلمة الله، في هذا الواقع الذي يبدو ظاهريًا هشًا جدًا، هناك ركيزة كل شيء. الواقعي هو من يبني حياته على هذه الركيزة التي تبقى دومًا. وبهذا الشكل تدعونا هذه الآيات الأولى من المزمور إلى اكتشاف ماهية الواقع وإلى إيجاد ركيزة حياتنا، واكتشاف كيفية بناء الحياة.

في الآية التالية يقول المزمور: "كُلَّ شَيءً في خدمتكَ". كل الأشياء تصدر عن "الكلمة"، وهي صنع "الكلمة". "في البدء كان الكلمة". في البدء تكلمت السماوات. وهكذا يولد الواقع من "الكلمة"، هو "خليقة الكلمة" (creatura Verbi). كل شيء هو خليقة "الكلمة" وكل شيء مدعو لكي يخدم "الكلمة". وهذا يعني أن الخليقة بأسرها، في نهاية المطاف، هي فسحة لخلق مكان للّقاء بين الله وخليقته، مكان يتجاوب فيه حب الخليقة مع الحب الإلهي، مكان تتبلور فيه قصة الحب بين الله وخليقته.

" كُلَّ شَيءً في خدمتكَ". تاريخ الخلاص ليس حدثًا ضئيلًا، في كوكب فقير في الكون الشاسع. ليس واقعًا تافهًا يجري صدفة في كوكب مجهول. إنه محرك كل شيء، إنه غاية الخلق. لقد خلق كل شيء لكي تحدث هذه القصة، قصة لقاء الله مع خليقته. يسبق تاريخ الخلاص والعهد بهذا المعنى الخلقَ.

في العصر الهيليني، طورت اليهودية فكرة أن وجود التوراة سبق خلق العالم المادي. فهذا العالم المادي خُلق لكي يفسح مجالاً للتوراة، لكلمة الله هذه التي تخلق الجواب وتضحي قصة حب. يظهر هنا بشكل غامض سر المسيح. فهذا ما تصرح به الرسالة إلى أهل أفسس وإلى أهل كولسي: يسوع هو النموذج الأصلي (protòtypos)، بكر الخليقة، الفكرة التي بفضلها ابتُكر العالم. يستوعب المسيح كل شيء. ونحن نلج في حركة الكون عبر اتحادنا بالمسيح. يمكننا أن نقول أنه، بينما الخليقة المادية هي شرط تاريخ الخلاص، فقصة العهد هي السبب الحقيقي للكون. نصل إلى جذور الكيان عبر وصولنا إلى سر المسيح، إلى كلمته الحية التي هي غاية الخليقة بأسرها.

"كُلَّ شَيءً في خدمتكَ". عبر خدمة الرب نحقق غاية الكيان، غاية وجودنا.

فلنقم بقفزة: "اْلتَمَستُ أَوامِرَكَ". نحن نبحث دومًا عن كلمة الله. فهي ليست حاضرة فينا ببساطة. إذا توقفنا على الحرف، فهذا لا يعني بالضرورة أننا فهمنا حقًا كلمة الله. هناك خطر أن نرى فقط الكلمات البشرية ولا نجد في داخلها الفاعل الحقيقي، الروح القدس. لا نجد في الكلمات "الكلمة". يذكّر القديس أغسطينوس في هذا الإطار بالكتبة والفريسيين الذين استشارهم هيرودس عند وصول المجوس. فهيرودس يريد أن يعرف أين كان من المتوقع أن يولد مخلص العالم. وهم يعرفون ذلك، ويقدمون الجواب الصحيح: في بيت لحم. هم مختصون كبار، يعرفون كل شيء. ومع ذلك، لا يرون الحقيقة، لا يتعرفون على المخلص. يقول القديس أغسطينوس: إنهم مؤشر طريق لغيرهم، ولكنهم لا يتحركون شخصيًا.

هذا هو الخطر الكبير في قراءتنا اللكتاب المقدس: نتوقف على الكلمات البشرية، كلمات من الماضي، قصة من الماضي، ولا نكتشف الحاضر في الماضي، الروح القدس الذي يتحدث إلينا اليوم في كلمات الماضي. وبهذا الشكل لا نلج في الحركة الداخلية لـ "الكلمة"، التي تدخر وتكشف الكلمات الإلهية في الكلمات البشرية. لهذا السبب هناك حاجة دائمة إلى "الالتماس". يجب أن نكون دومًا في موقف بحث عن "الكلمة" في الكلمات.

وعليه فالتفسير الكتابي، القراءة الحقة للكتاب المقدس، ليست مجرد ظاهرة أدبية، وليست مجرد قراءة نص ما. إنها حركة وجودي. إنها تحرك صوب كلمة الله في الكلمات البشرية. فقط عبر مطابقتنا لسر الله، للرب الذي هو "الكلمة"، يمكننا أن نلج إلى حميمية "الكلمة"، ويمكننا أن نجد حقًا "كلمة الله" في الكلمات البشرية. فلنصل إلى الرب لكي يساعدنا في البحث، ليس فقط عبر العقل، بل عبر وجودنا بأسره، لكي نجد "الكلمة".

وفي النهاية: "رأَيتُ حَدًّا لِكُلِّ كَمال أَمَّا وَصِيَّتُكَ فما أَرحَبَها". كل الأمور البشرية، كل الأشياء التي نستطيع أن نخترعها، أن نخلقها، هي محدودة. وحتى كل الخبرات الدينية البشرية هي محدودة، فهي تبين بعدًا من الواقع، لأن كياننا محدود، ويفهم فقط بشكل جزئي، ويدرك بعد العناصر: "أَمَّا وَصِيَّتُكَ فما أَرحَبَها". وحده الله لامتناهٍ. ولهذا فكلمته أيضًا هي جامعة ولا تعرف حدًا. بولوجنا في كلمة الله، ندخل حقًا في الكون الإلهي. نخرج من محدودية خبراتنا وندخل في الواقع الذي هو شامل حقًا. عبر دخولنا في شركة مع كلمة الله، ندخل في شركة مع الكنيسة التي تعيش كلمة الله. لا ندخل في تجمع صغير، وفي قوانين جمع صغير، بل نخرج من محدوديتنا. نخرج نحو الفسحة الرحبة، رحابة الحقيقة الفريدة، وكبر حقيقة الله. نلج حقًا في ما هو شامل وجامع. وهكذا نخرج في شركة مع كل الإخوة والأخوات، مع كل البشرية، لأن قلبنا يحمل الشوق إلى كلمة الله التي هي واحدة. لهذا، فالتبشير أيضًا، إعلان الإنجيل، الرسالة، ليست نوعًا من الاستعمار الكنسي نسعى من خلاله إلى إدخال الآخرين في جماعتنا. بل هو خروج من حدود الثقافات المفردة ودخول في الشمولية التي تربط الجميع، وتوحد الجميع، وتجعلنا كلنا إخوة.

فلنصل من جديد لكي يساعدنا الرب على الدخول في "رحابة" كلمته وبهذا الشكل يفتح لنا أفق البشرية الجامع، ذلك الذي يوحدنا بكل الاختلافات.

في الختام، نرجع من جديد إلى الآية السابقة: "أنا لك فخلصني". كلمة الله هي سلم نستطيع الارتقاء بواسطته، ومع المسيح، النزول أيضًا في أعماق حبه. إنها سلم للوصول إلى "الكلمة" في الكلمات. "أنا لك". الكلمة لها وجه،إنها شخص، إنها المسيح. وقبل أن نتمكن من أن نقول "أنا لك"، يكون هو قد قال لنا "أنا لك". تقول الرسالة إلى العبرانين مستشهدة بالمزمور 39: "لقد أعددت لي جسدًا… وعندها قلت: هاءنذا آتٍ". لقد أعد الرب لذاته جسدًا لكي يأتي. عبر التجسد قال: أنا لك. وفي المعمودية قال لي: أنا لك. في الافخارستيا يقول دومًا ومن جديد: أنا لك، وهذا لكي نستطيع أن نقول: يا رب، أنا لك. في مسيرة "الكلمة"، عبر الدخول في سر التجسد، سر كيانه معنا، نريد أن نجعل كيانه خاصتنا، نريد أن نتجرد عن كياننا، وأن نهب ذواتنا لذاك الذي وهب ذاته لنا.

"أنا لك". فلنصل إلى الرب لكي نتمكن أن نتعلم أن نقول هذه الكلمة عبر وجودنا برمته. وبهذا الشكل نصبح في قلب "الكلمة". وعندها ننال الخلاص.

* * *

نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.