مدينة الله والمدينة الأرضية للقديس أوغسطينس

  

حُبان شيّدا مدينتين:

حبُّ الذات حتّى احتقار الله، وهي المدينة الأرضية

وحبُّ الله حتى احتقار الذات، وهي مدينة السماء.

إحداهما تزهو بذاتها

والأُخرى بالربّ.

إحداهما تطلب مجدها من البشر

والأُخرى تجد مجدها الأعظم في الله الشاهد على ضميرها

إحداهما تشمخ برأسها في مجدها

والأُخرى تقول لإلهها :"إنك مجدي ورافعُ رأسي" (مز3/4).

إحداهما تُخضع لنفسها الأمم

فتسود شهوةُ التسلط رؤساءها

وفي الأُخرى يخدم بعضهم بعضاً في المحبة

أما رؤساؤها فبرئاستهم، وأما شعبها فبطاعته.

أسياد إحديهما يحبُّون قوّتهم الشخصية

والأُخرى تقول لإلهها:" أحبُّك، ياربّ، ياقوتي" (مز 18/2)"

 

الغنى

"عليهم أن يجرّبوا بشهوة الأموال أولاً":

 

فالتجربة الشيطانية الأولى تمسّ نزعة الناس إلى الامتلاك، وليس الامتلاك في حدِّ ذاته شراً ، ولكن الشرير يجعلهم يفقدون أنفسهم في ممتلكاتهم، فيطابق تدريجياً كيانُهم ما يمتلكون، فيقعون تحت سلطان ما لديهم. هكذا يستغل الشرير نزعة الخوف الطبيعي من الَعوَز وغريزة الامتلاك، ليجعلهم يمتلكون ويحتفظون ويجمعون، وفي نهاية الأمر يفقدون حريتهم فتستعبدهم ممتلكاتهم. فعوض أن يؤدّوا التسبيح والإكرام والخدمة لله، إنهم يؤدّونها لبَعْل الامتلاك. وعوض أن تساعدهم الممتلكات على إدراك الغاية التي خُلِقوا لأجلها أي الله؟ (رر23)، إنها تتحول من وسيلة إلى غاية، فهم يتناسون تماماً واهب الممتلكات (تث8/11-20) لحساب الممتلكات نفسها. ويتمْ كل هذا المنطق الشيطاني بدون أن يعوا ذلك، بطريقة خبيثة لا يوحيها إليهم إلاّ أبو الكذب. فصدق قول بولس:" أصل كل شر هو المال". (1طيم6/10). ويؤكده ما يلي من تطور في حب المال:

 

من الغنى إلى الفخر الباطل

"…. حتى يبلغ الإنسان بسهولة أعظم إلى الفخر العالمي الباطل":

فبالفعل، يقود الشرير من الامتلاك إلى التباهي بالامتلاك، وإلى حبِّ التظاهر، وإلى المجد الباطل. فالذين يمتلكون يسعون سعياً دؤوباً إلى تقدير الناس لهم وتكريمهم إيّاهم، ويحاولون أن تكون لهم مكانة اجتماعية مرموقة، فيفخرون بما يمتلكون أمام الجميع، متناسين أنّ باطل الأباطيل وكل شيء باطل". هكذا يجعلون أنفسهم محور الأشخاص والأشياء ، محوِّرين تكريم البشر لله إلى تكريم البشر لهم، ويصبحون متمسّكين بشهرتهم وسمعتهم ونجاحهم تمسكاً أقوى من تمسكهم بممتلكاتهم، فيصرون في نهاية الأمر مستعبَدين رغم ظنِّهم بالعكس. فإنهم مستعبَدون للذين يمتدحونهم ويمجدّونهم ويكرّمونهم، فلا يستطيعون أن يعيشوا بدونهم.

 

من الفخر الباطل إلى الكبرياء

"… ومن ثمّ إلى كبرياء لا حدّ له":

إن حالة الاستعباد التي يصلون إليها، يحولّها الشيطان إلى رغبة في استعباد الآخرين وفي إخضاعهم لسلطتهم بل وفي تسلّطهم عليهم، في سبيل زيادة ممتلكاتهم وتنعّمهم بالمجد الباطل، متناسين أن لله وحده سلطاناً على الإنسان. فهم يتصنّعون سلطان الله بطريقة مزّيفة ومناهضة له، متبارين بالله ومستحوذين على الآخرين لإرضاء غريزة التسلّط الكامنة فيهم. هذا هو نهاية المطاف الذي يقودهم إليه الشرير عن طريق المال والفخر الباطل. ويتم ذلك بدون أن يعوا أنه قد خدعهم بالفعل.

 

الفقر

"الفَقر الروحي المطلق، بل الفقر الفعلي أيضاً. إن كانت العِزّة الإلهية تُخدَم به ورضيت أن تختارهم":

إن الفَقر الحقيقي هو استخدام الأشياء التي على وجه الأرض بدون الاستعباد لها، كوسيلة للوصول إلى الهدف وهو الله. فالفقر هو الاعتراف بسيادة الله على الخليقة جمعاء وبأنّ كل شيء هِبة منه. لذلك إن الفقر هو بداية ملكوت الله في الأرض، فيحين أن الغِنى بداية ملك الشيطان. ففي سبيل ذلك إن يسوع قد وُلد وعاش وخدم ومات فقيراً، مُفتتِحاً هكذا الملكوت. وفي سبيل ذلك أيضاً، أُعلِنت بُشرى مجيئه إلى العالم للرعاة الفقراء أولاً، كما أنه استهلّ رسالته مُعلنِاً البشرى للفقراء والأسرى والمرضى (لو4/18-19). ففي الفقر يتأسس الملكوت السماوي في الأرضْ ويؤكِّده مايلي من تطور في حب الفقر:

 

من الفقر إلى قبول الذلِّ والاحتقار

"… الرغبة في أنواع الذلً والاحتقار":

كان يسوع يعلم تماماً أن اختياره الفقرَ سيجلب له احتقار الناس ولاسيّما العظماء والحكام ورجال الدين. فقد احتقروا أهله –"ابن يوسف النجار" "من الناصرة" – واحتقروا تعامله مع الخطأة والبغايا والعشارين. وأمّا هو فقد رفض تكريم الجموع له عندما كانوا يدعونه المسيح أو يريدونه ملكاً عليهم ومعلِّماً صالحاً يرشدهم، وذلك لأن الله وحده جدير بالإكرام. كما أنه تجنّبِ أي نجاح باهر في البرية مع الشيطان وأمام هيرودس وفي أثناء محاكمته وصلبه، نابذاً هكذا أي تواطؤ أو تساهل. وقَبِلَ إهانات الجنود وسخريتهم طيلة محاكمته، هكذا عاش مذلولاً محتقراً، الأمر الذي منحه حرية فائقة تجاه الأشخاص والمواقف والظروف، وديناميّة عظيمة في رسالته ليحرر البشر من كل ما هو مزيّف.

 

من الذلِّ والاحتقار إلى الخدمة المتواضعة

"… من هذين الأمرين ينتج التواضع":

إنّ حرية يسوع هذه جعلته لا يُخضِع الآخرين له، بل يَخضَعُ هو لهم بتواضع كلّي، معتبراً إرادتهم – وإن كانت شريرة- مشيئةَ الآب. فقد محوَرَ حياته كلّها على الله، لا على ذاته أو على الآخرين أو على الأشياء ، وفي ذلك يكمن التواضع الحقيقي والسجود الحقيقي لله. فلم يمتلك ذاته ولم يمتلكه الآخرون، لأنه كان حراً تماماً تجاه نفسه وتجاههم، فقد تملّكه الآبُ فقط. فَسِرُّ تواضعه وليدُ فقره وتحمّله الذلّ والاحتقار. ولقد ترجم هذا التواضع الكياني بخدمته للبشر، فلم يأتِ ليُخدم بل ليَخدِم، وكان في وسط تلاميذه كالخادم، حتى غسل أرجلهم.

عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب