خطاب البابا لدى لقائه بعالم الثقافة في معهد البرنرديين في باريس

باريس، الجمعة 17 أكتوبر 2008 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي الخطاب الذي تلاه قداسة البابا بندكتس السادس عشر في 12 سبتمبر 2008 في معهد البرنرديين في باريس، بمناسبة لقائه بعالم الثقافة أثناء زيارته الرسولية إلى فرنسا ولورد بمناسبة يوبيل 150 سنة على ظهورات سيدة الحبل بلا دنس في لورد.

* * *

السيد الكاردينال،

السيدة وزيرة الثقافة

السيد العمدة

السيد مستشار المعهد،

أيها الأصدقاء الأعزاء،

أشكركم، سيدي الكاردينال، لأجل كلماتكم الودية. نتواجد في هذا المقام التاريخي الذي بناه أبناء القديس برنار دو كليرفو والذي أراده سلفكم الراحل، الكاردينال جان ماري لوستيجي، مركز حوار للحكمة المسيحية مع التيارات الثقافية الفكرية والفنية في مجتمعكم.

أحيي بشكل خاص السيدة وزيرة الثقافة التي تمثل الحكومة، والسادة جسكار دستين وشيراك. أوجه تحياتي أيضًا إلى الوزراء الحاضرين، وإلى ممثلي الأونيسكو، وإلى السيد عمدة باريس وإلى كل السلطات. لا أريد أن أنسى زملائي في معهد فرنسا الذين يعرفون تقديري، وأود أن أشكر أمير بروغلي وكلماته الودية. سنعاود اللقاء صباح الغد. أشكر مندوبي الجماعة المسلمة الفرنسية لأنهم قبلوا المشاركة في هذا اللقاء؛ أوجه إليهم أفضل تحياتي في زمن رمضان. وتتوجه تحياتي بشكل طبيعي إلى جماعة عالم الثقافة المتنوعة التي تمثلونها خير تمثيل، أيها الموعوون الأعزاء.

أود أن أتحدث إليكم هذا المساء عن أصول اللاهوت الغربي وجذور الثقافة الأوروبية. لقد ذكرت في مطلع حديثي أن المكان الذي نتواجد فيه هو مكان نموذجي. فهو يرتبط بالثقافة الرهبانية. لقد عاش رهبان شباب في هذا المكان لكي يتعمقوا بدعوتهم ويعيشوا رسالتهم. هل ما زال هذا المكان يُولِّد فينا شيئًا، أو أضحى مجرد ذكرى لعالم طواه الزمان؟

للإجابة على هذا السؤال، يجب علينا أن نفكر لهنيهة بطبيعة الحياة الرهبانية الغربية. ما هو كنه هذه الحياة؟ إذا ما اعتبرنا الثمار التاريخية للحياة الرهبانية، يمكننا القول أنه خلال الشرخ الثقافي الكبير، الذي أدت إليه هجرة الشعوب ونشأة النظام الدولي الجديد، كانت الأديار فسحات بقيت فيها كنوز الثقافة القديمة على قيد الحياة، وبارتوائها من معين هذه الأديار، ولدت، رويدًا رويدًا ثقافة جديدة. كيف حدث هذا الأمر؟ ما كان الدواعي التي جمعت هؤلاء الأشخاص في هذه الأماكن؟ ما كانت رغبتهم؟ وكيف عاشوا؟

قبل كل شيء، يجب أن نعترف بكثير من الواقعية أنهم لم يريدوا أن يخلقوا ثقافة جديدة أو أن يحافظوا على ثقافة الماضي. كان دافعهم أبسط بكثير. كان هدفهم البحث عن الله (quaerere Deum). في وسط ضياع الأزمنة التي لم يثبت بوجهها شيء، تاق الرهبان إلى الأمر الأهم: الانكباب على إيجاد ما له قيمة حقًا وما يثبت دومًا، أرادوا أن يجدوا "الحياة" بالذات. كانوا يبحثون عن الله.

أرادوا أن ينتقلوا من الأمور الثانوية إلى الحقائق الجوهرية، إلى ما هو مهم وأكيد حقًا. يمكننا أن نقول أنهم كانوا تواقين إلى "الاسكاتولوجيا" [الواقع الأخيري]. ولكن لا يجب فهم هذا الأمر بحسب المفهوم الزمني للكلمة – كما لو أنهم كانوا عائشين وعيونهم ترنوا إلى نهاية العالم أو إلى موتهم – بل بحسب المفهوم الوجودي: كانوا يبحثون، ما وراء العابر، عن النهائي. البحث عن الله (Quaerere Deum): بما أنهم كانوا مسيحيين، لم يكن هذا البحث مغامرة في صحراء لا سبيل فيها، وبحثًا في الظلام الدامس. فلقد وضع الله بالذات معالم هداية، لا بل إنه هيأ السبيل، وكانت مهمتهم إيجاد هذا السبيل واتباعه. والسبيل كان كلمة الله التي قدمها للبشر في أسفار الكتاب المقدس.

لذا، فالبحث عن الله يتطلب في جوهره ثقافة الكلمة، أو، كما يقول دوم جان لوكلرك: لا يمكن فصل الاسكاتولوجيا وقواعد اللغة في الحياة الرهبانية الغربية (cf. L\’Amour des lettres et le désir de Dieu, p.14). التوق إلى الله يتضمن حب الآداب، حب الكلمة، سبرها في كل أبعادها. وبما أن الله يسير نحونا ونحن نسير نحوه في الكلمة الكتابية، فقد ترتب عليهم أن يتعلموا أن يلجوا في أسرار اللغة، وأن يفهموها في بنيتها وفي استعمالها. وبهذا الشكل، بفضل البحث عن الله، تضحي العلوم الدنيوية التي تهدينا إلى السبيل نحو اللغة هامة. من هذا المنطلق، كانت المكتبات تشكل جزءًا أساسيًا من الدير، وكذلك الأمر بالنسبة للمدرسة. فهذان الموضعان كانا يفتحان السبيل عمليًا أمام الكلمة. كان القديس مبارك يسمي الدير "une dominici servitii schola"، مدرسة خدمة الرب. كانت المدرسة والمكتبة تضمنان تنشئة العقل والتوصل إلى الثقافة الشاملة، التي بفضلها يتوصل الإنسان إلى أن يدرك "الكلمة" في وسط الكلمات.

للحصول على نظرة شاملة لثقافة الكلمة المرتبطة بالبحث عن الله، ينبغي علينا أن نقوم بخطوة إضافية. "الكلمة" التي تشرع السبيل للبحث عن الله والتي هي هذا الطريق بالذات هي "كلمة" تُنشئ الجماعة. تلمس هذه الكلمة أعمق أعماق كل شخص بوجه خاص (راجع رؤ 2، 37). يصف القديس غريغوريوس الكبير هذا كألم قوي وغير متوقع يخضّ نفسنا النائمة ويوقظنا لكي نتنبه إلى الله (راجع Leclercq, ibid., p. 35). ولكنها تسلط أيضًا انتباه أحدنا على الآخر. لا تقودنا الكلمة فقط في سبيل التصوف الفردي، بل تدخلنا في جماعة الذين يسيرون في درب الإيمان. لهذا السبب لا يكفي أن نفكر بالكلمة وحسب، بل أن نقرأها بشكل صحيح. كما هو الحال في المدارس الرابينية، كذلك بالنسبة للرهبان: القراءة هي عمل يقوم به الجسد أيضًا. "في أغلب الأحيان، عندما تستعمل تعابير " legere " و " lectio " دون تحديد، فهي تستعمل للإشارة إلى نشاط، مثل الإنشاد والقراءة، يشغل كل الجسد وكل الروح"، بحسب ما يقول الأب لوكلرك (ibid., p. 21).

هناك خطوة أخرى ينبغي القيام بها. تدخلنا كلمة الله في حوار معه. الله الذي يتكلم في الكتاب المقدس يعلنا كيف يمكننا أن نخاطبه. بوجه خاص في كتاب المزامير، يعطينا الكلمات التي نستطيع من خلالها أن نخاطبه. في هذا الحوار، نقدم له حياتنا، بإيجابياتها وسلبياتها، ونحولها إلى حركة باتجاهه. تتضمن المزامير في مواضع مختلفة إرشادات حول كيفية إنشادها ومرافقتها بالآلات الموسيقية. للصلاة انطلاقًا من كلمة الله، لا تكفي التلاوة، فالموسيقى ضرورية. يشتق نشيدان في الليتورجية المسيحية من نصوص بيبلية تضعها على ألسنة الملائكة: "المجد" الذي تنشده الملائكة مرة أولى في ميلاد يسوع، و "القدوس"، الذي، بحسب أشعيا 6، هو هتاف السرافيم المقيمين بحضرة الله. وحتى اليوم، الليتورجية المسيحية هي دعوة إلى الإنشاد مع الملائكة ولمنح الكلمة دورها الأسمى. فلنصغ مرة أخرى في هذا الإطار إلى جان لوكلرك: "كان ينبغي على الرهبان أن يجدوا تعابير تترجم تجاوب الإنسان المفدي مع الأسرار التي يحتفل بها: إن الأعمدة القليلة التي ما زالت محفوظة حتى يومنا في دير ‘كلوني‘ تبين الرموز المسيحانية المتواجدة في مختلف الأنغام المتناسقة" (cf. ibid., p. 229).

بالنسبة للقديس مبارك، إن القاعدة الأساسية للصلاة وأناشيد الرهبان هي كلمة المزمور: " Coram angelis psallam Tibi, Domine " (في حضرة الملائكة أريد أن أنشد لك يا رب (راجع 138، 1).

نجد هنا تعبيرًا عن وعيه بأنه ينشد، في الصلاة الجماعية، في حضرة الأجواق السماوية، وبالتالي فهو يخضع للنظام العلوي: الصلاة والإنشاد للاتحاد بموسيقى الأرواح السامية التي كانت تعتبر مبتكرة تناغم الكون، وموسيقى المجالات السماوية. يترتب على الرهبان، عبر صلواتهم وأناشيدهم، أن يتماثلوا مع عظم "الكلمة" التي أوكلت إليهم، ومع شريعة الجمال الحق.

انطلاقًا من هذه الحاجة الكبرى المتمثلة بالحوار مع الله وبالإنشاد له عبر الكلمات التي أعطاها هو بالذات، ولدت الموسيقى الغربية العظيمة. لم يكن ذلك عملاً "خلاقًا" فرديًا حيث يقوم الفرد بتشييد تمثال يخلد ذكراه الشخصية عبر استعمال أناه الذاتي كمعيار أساسي. بل كان تعرفًا نبيهًا عبر "آذان القلب" على القوانين التي تؤسس تناغم الكون الموسيقي، وأشكال الموسيقى الأساسية التي أطلقها الخالق في العالم وفي الإنسان، وكانت إبتكارًا لموسيقى تليق بالله، وفي الوقت عينه، تليق حقًا بالإنسان وتعلن سمو كرامته.

وأخيرًا، إذا ما أردنا أن نفهم ثقافة الكلمة في العالم الغربي الرهباني، والتي نشأت انطلاقًا من البحث الداخلي عن الله، يجب أن نقوم بإشارة موجزة إلى خصوصية "الكتاب" أو "الكتب" التي بواسطتها وصلت هذه "الكلمة" إلى الرهبان. إذا ما نظرنا إلى الكتاب المقدس من الناحية التاريخية أو الأدبية البحت، رأينا أن الكتاب المقدس ليس مجرد كتاب، بل هو مجموعة نصوص أدبية تمتد صياغتها على مدى أكثر من ألف سنة، وليس من السهل التوصل إلى رؤية مختلف الكتب وكأنها تؤلف مجموعة موحدة. على العكس، هناك توترات ظاهرة في ما بينها. والأمر كذلك في كتاب إسرائيل المقدس، الذي نسميه نحن المسيحيين، العهد القديم. ويزداد الأمر تعقيدًا عندما نربط نحن المسيحيين العهد الجديد وكتاباته بكتاب إسرائيل المقدس ونفسره كمسيرة نحو المسيح.

بحق، لا يسمي العهد الجديد الكتاب المقدس "الكتاب"، بل "الكتب"، والتي سيتم اعتبارها برمتها، منذ ذلك الحين، كلمة الله الوحيدة التي يوجهها الله إلينا. هذا الجمع يشدد بوضوح على أن كلمة الله تأتي إلينا فقط عبر الكلمة البشرية، عبر كلمات البشر، أي أن الله يخاطبنا فقط عبر بشرية البشر، وعبر كلماتهم وتاريخهم. هذا يعني بالتالي أن البعد الإلهي "للكلمة" وللكلمات ليس ملموسًا مباشرةً.

إذا ما أردنا قول الأمر نفسه في اللغة الحديثة نقول: لا يمكن إدراك وحدة الكتب المقدسة وطابع كلماتها الإلهي من منطلق تاريخي بحت. فالعنصر التاريخي يظهر في البعد التعددي والبشري. الأمر الذي يشرح نشأة قول في العصور الوسطى، يبدو محبطًا للوهلة الأولى: Littera gesta docet – quid credas allegoria… (cf. Augustin de Dacie, Rotulus pugillaris, I). الكلمات تعلم الوقائع؛ المجاز يعلم مكنون الإيمان، أي التفسير الكريستولوجي والروحي.

يمكننا أن نعبر عن هذا الأمر بشكل سهل: يحتاج الكتاب المقدس إلى التفسير، وإلى الجماعة الذي نشأ فيها حيث يعاش الكتاب المقدس. في هذه الجماعة فقط نجد وحدة الكتاب المقدس، ويظهر فيها المعنى الذي يوحد الكل. بكلمات أخرى: هناك أبعاد في معنى "الكلمة" والكلمات، نكتشفها فقط عبر الشركة المعاشة في هذه الكلمة التي تخلق التاريخ. عبر الإدراك المتنامي لتعددية هذه المعاني، لا ينتقص معنى الكلمة، بل تظهر على العكس بكل عظمتها وكرامتها. لهذا السبب يستطيع تعليم الكنيسة الكاثوليكية أن يصرح بحق بأن المسيحية ليست بحسب المفهوم التقليدي دين الكتاب (راجع عدد 108).

تجد المسيحية في الكلمات "الكلمة"، اللوغوس بالذات، الذي يكشف عن سره عبر هذه التعددية. إن بنية الكتاب المقدس الخاصة هي تحد متجدد دومًا يواجه كل الأجيال. وطبيعة بنية الكتاب المقدس ترفض كل ما نسميه اليوم "أصولية". فكلمة الله ليست أبدًا حاضرة في حرفية النص وحده. يترتب علينا، للوصول إلى كلمة الله، أن نقوم بتجاوز يدخلنا في عملية فهم تقودها الحركة الداخلية للنص بكليته، وانطلاقًا من هناك، يجب أن تتولد عملية حيوية. فقط انطلاقًا من الوحدة الدينامية لجملة النصوص تستطيع الكتب العديدة أن تشكل "كتابًا" واحدًا. تظهر "كلمة" الله وعمله في العالم عبر الكلمة البشرية والتاريخ البشري.

يتضح البعد المصيري لهذا الموضوع في كتابات القديس بولس. فقد عبّر بشكل جذري عن معنى تجاوز الحرف والوصول إلى الفهم الإجمالي في هذه الجملة: "الحرف يقتل أما الروح فيحي" (2 كور 3، 6). وأيضًا: "حيث يكون الروح… فهناك الحرية" (2 كور 3، 17). ولكن لا يمكننا فهم عظمة وسعة هذا الإدراك للكلمة الكتابية إذا لم نصغ للقديس بولس بالعمق، ونتعلم أن لهذا الروح المحرر اسم، وأن للحرية مقياس داخلي: "الرب هو الروح، وحيث يكون روح الرب، فهناك الحرية" (2 كور 3، 17). لا يقبل الروح المحرر أن يُختزل في فكرة ونظرة المفسر الشخصية. الروح هو المسيح، والمسيح هو الرب الذي يبين السبيل. مع هذه الكلمة حول الروح وحول الحرية، ينفتح أفق واسع، ولكن، في الوقت عينه، نلاقي حدًا واضحًا للاعتباطية وللذاتية، وهو حد يفرض نفسه على الفرد وعلى الجماعة على حد سواء وينشئ رباطًا أسمى من حرفية النص: رباط الفكر والحب.

طبعت هذه العلاقة الحثيثة بين الرباط والحرية، والذي يذهب أبعد من المشكلة الأدبية في تفسير الكتاب المقدس، فكر وأعمال الحياة الرهبانية وشكّل بالعمق الثقافة الغربية. يعرض هذا الرباط على جيلنا كتحدٍ في وجه قطبين هما، من ناحية، الاعتباطية الفردانية، ومن ناحية أخرى، التعصب المتزمت. إذا ما فهمت الثقافة الأوروبية اليوم الحرية كغياب كلي للرباط، فهذا الأمر سيكون خطيرًا للغاية وسيولد التعصب والاعتباطية. غياب الارتباط والاعتباطية ليسا الحرية بل دمارها.

في اعتبارنا لـ "مدرسة خدمة الرب" – كما كان القديس مبارك يسمي الحياة الرهبانية – رأينا حتى الآن بشكل أولي توجه هذه الحياة نحو الكلمة، نحو الـ " ora " (صَلِّ). وبالواقع، انطلاقًا من هناك يمكن وعي كامل الحياة الرهبانية. ولكن تأملنا سيبقى ناقصًا إذا لم نسلط أنظارنا، ولو قليلاً، على العنصر الثاني من الحياة الرهبانية الذي يتألف من كلمة " labora " (إعمل).

في العالم اليوناني، كان العمل الجسدي يعتبر كمهمة العبيد. الحكيم، الإنسان الحر حقًا، كان يكرس نفسه بالكلية لأمور الروح؛ كان يتخلى عن العمل الجسدي، معتبرًا إياه أمرًا أقل كرامة، لأولئك الأشخاص الذين لم يكن متوقعًا أن يصلوا إلى هذا الوجود الأسمى، وجود الروح. كان التقليد اليهودي مختلفًا جدًا: فكل الربابين العظام كانوا يزاولون بشكل موازٍ عملاً يدويًا.

بولس، كرابي، وكمبشر الأمم، كان صانع خيام، وكان يحصل على خبزه بعمل يديه. ولم يكن استثناءً، بل كان يدخل في إطار تقليد الربابين المشترك. لقد تقبلت الحياة الرهبانية المسيحية هذا التقليد: كان العمل اليدوي يشكل جزءًا تأسيسيًا في هذه الحياة. في قانونه، لا يتحدث مبارك بالمعنى الحصري عن المدرسة، حتى ولو أن التعلُّم والتعليم كانا يتمان – كما سبق ورأينا – عبر الوقائع؛ بالمقابل، يتحدث بشكل واضح عن العمل (راجع الفصل 48). وقد فعل أغسطينوس الأمر عينه فكرس لعمل الرهبان كتابًا خاصًا.

إن المسيحيين الذين انخرطوا في إطار التقليد العملي منذ زمن بعيد بفضل اليهودية، كانوا يشعرون بأنهم مدفوعين من قبل كلمة يسوع في إنجيل يوحنا، حيث يدافع يسوع عن عمله خلال السبت: "أبي يعمل، وأنا أعمل أيضًا" (5، 17).

أما العالم الإغريقي-الروماني فلم يكن يعرف أي إله خالق. الإله الأسمى بنظرهم، لم يكن يستطيع أن يلوث يديه عبر خلق المادة. "ترتيب" العالم كان عمل خالق الكون المادي، وهي ألوهة ذات مرتبة ثانوية. بينما إله الكتاب المقدس فهو مختلف جدًا: فهو، الأحد، الإله الحي والحق، هو الخالق أيضًا. الله يعمل، يتابع عمله في تاريخ البشرية ومن خلاله. وفي المسيح، يدخل كشخص في مخاض التاريخ. "أبي يعمل دائمًا وأنا أيضًا أعمل". الله بالذات هو خالق العالم، والخلق عمل لم ينته بعد. الله يعمل! بهذا الشكل كان يجب على العمل البشري أن يظهر كتعبير خاص عن شبهه لله الذي يجعل الإنسان شريكًا في عمل الله الخلاق في العالم. بمعزل عن ثقافة العمل هذه، إلى جانب ثقافة الكلمة، التي أقامتها الحياة الرهبانية، لا يمكننا أن نتخيل نمو أوروبا، وأسلوبها الخلقي، ومفهومها للعالم.

يُفهم إبداع هذه الأخلاقيات أن العمل وتقرير التاريخ من قبل الإنسان هو إسهام مع الخالق، الذي هو مقياس هذه الأمور. وحيثما ينتفي هذا المقياس، وحيث يرفع الإنسان ذاته إلى مستوى الخالق على صورة الله، من السهل أن ينزلق تحويل العالم إلى الدمار.

لقد انطلقنا من الملاحظة التالية: في خضم انهيار النظام القديم واليقين الغابر، كان موقف الرهبان  quaerere Deum – "البحث عن الله". يمكننا أن نقول أن هذا هو الموقف الفلسفي الحق: النظر أبعد من الوقائع ما-قبل-الأخيرة والبحث عن الوقائع الأخيرة الحقة. من كان يترهب، كان يلتزم في مسيرة سامية وطويلة، ومع ذلك كان يعرف وجهته: الكلمة في الكتاب المقدس، والتي من خلالها كان يصغي إلى الله الذي يخاطبه. من هذا المنطلق كان عليه أن يجهد لكي يفهم الله لكيما يستطيع المسير نحوه. وبهذا الشكل، كانت مسيرة الرهبان – رغم استحالة تقييم تقدمها بحد ذاته – تتحقق في قلب "الكلمة" التي يتلقاها الراهب. يتضمن بحث الرهبان بحد ذاته، ومن منظور معين، ما يبحث عنه الرهبان! ولكي يكون هذا البحث ممكنًا، من الضروري أن يكون في أول مقام حركة داخلية لا تولد فقط رغبة البحث، بل تبين أيضًا عن مصداقية السبيل الذي يجده المرء في الكلمة، سبيل حياة يسير عليه الله لكي يلاقي الإنسان فيسمح له أن يأتي بدوره إلى لقيا الله.

بكلمات أخرى، إعلان الكلمة لهو أمر ضروري. فالكلمة تخاطب الإنسان وتولد فيه قناعة بإمكانها أن تضحي حياة. ولكي ينفتح سبيلٌ في صلب الكلمة البيبلية، كونها كلمة الله، لا بد من إعلان هذه الكلمة بالذات بشكل علني.

يُختصر التعبير الكلاسيكي عن الضرورة الكامنة في الإيمان المسيحي بأن يكون قابلاً للنقل وللتشارك في جملة من رسالة بطرس الأولى، والتي كان لاهوتيو العصر الوسيط ينظرون إليها كالركيزة البيبلية لعمل اللاهوتيين: "كونوا على استِعْدادٍ دائمٍ لِتُجيبوا كُلَّ مَن يَسْأَلُكم حُجَّةً (logos) عَنِ الرَّجاءِ الذي فيكم" (3، 15). (لوغوس، حجة عن الرجاء، يجب أن يضحي دفاعًا (apo-logie)، ينبغي على الكلمة أن تضحي ردًا وجوابًا).

بالواقع، لم يكن مسيحيو الكنيسة الأولى يعتبرون تبشيرهم الإرسالي كدعاية ترمي إلى زيادة أهمية مجموعتهم، بل كضرورة كامنة نابعة من طبيعة إيمانهم. الإله الذي كانوا يؤمنون به هو إله الكل، الإله الأحد والحق الذي كشف عن نفسه في تاريخ إسرائيل، وأخيرًا، من خلال ابنه، وأتى بهذا الشكل بجواب يهم كل البشر، وقد كانوا ينتظرونه في أعماق وجودهم. شمولية الله وشمولية العقل المنفتح عليه يشكلان بحد ذاتهما الدافع، وفي الوقت عينه، الواجب وراء إعلان البشارة. فبالنسبة لهما، الإيمان لا يعتمد على العادات الثقافية، التي تختلف مع تنوع الشعوب، بل يكشفان عن إطار الحقيقة التي تهم البشر جميعًا بالشكل عينه.

يظهر التصميم الأساسي للتبشير المسيحي نحو الخارج – أي نحو البشر الذين يبحثون متسائلين – في خطاب بولس في الأريوباج. لا ننسينّ أن الأريوباج، في تلك الحقبة، لم يكن نوعًا من الأكاديميا حيث يجتمع كبار المثقفين للنقاش حول أسمى المواضيع، بل كان المنبر المختص بقضايا الدين والذي كان يحرص على عدم تسلل الأديان الغريبة. وهذه هي بالضبط التهمة التي توجه ضد بولس: "يَبْدو أَنَّه يُبَشِّرُ بِآِلهَةٍ غَريبة" (رسل 17، 18). وعليها يجيب بولس: "وأَنا سائِرٌ أَنظُرُ إِلى أَنصابِكُم وَجَدتُ هَيكَلاً كُتِبَ علَيه: إِلى الإِلهِ المَجْهول. فَما تَعبُدونَه وأَنتُم تَجهَلونَه، فذاكَ ما أَنا أُبَشِّرُكم بِه" (رسل 17 ،23).

لا يبشر بولس بآلهة غير معروفة. بل يبشر بذلك الذي يجهله البشر ومع ذلك يعرفونه: المجهول-المعروف. هو جلّ ما يرومون، وقد عرفوا أنه المجهول والذي لا يستطيع بشر إدراكه. في العمق، يدرك الفكر والمشاعر البشرية بطريقة ما أنه لا بد أن يكون الله موجودًا وأنه أصل كل شيء، وأن أصل كل شيء ليس اللاعقلانية، بل العقل الخالق؛ لا القدر الأعمى، بل الحرية. مع ذلك، رغم أن كل البشر يعرفون ذلك نوعًا ما – كما يشير بولس في الرسالة إلى الرومانيين (1، 21) – تبقى هذه المعرفة غامضة: فإله يفكر به ويركبه الروح البشري وحده ليس الإله الحق. إذا لم يكشف هو عن نفسه، فمهما فعلنا، لن نتمكن من الوصول بالكلية إليه.

جدة البشرى المسيحية هي إمكانية أن نقول الآن إلى كل الشعوب: لقد كشف عن نفسه، هو بالذات! وفي الوقت الحالي، السبيل الذي يقود إليه مفتوح. جدة البشرى المسيحية تقوم على هذا الواقع: أن الله كشف عن نفسه. لم يكشف عن نفسه كواقع مجرد بل كواقع لوغوس – حضور العقل الأبدي في جسدنا. (Verbum caro factum est) "الكلمة صار جسدًا" (يو 1، 14): هو كذلك في الحقيقة والآن، اللوغوس حاضر، هو موجود في وسطنا. هذا أمر عقلاني. مع ذلك، فنحن بحاجة دومًا إلى تواضع العقل لكي نتمكن من قبوله. نحتاج إلى تواضع الإنسان لكي نجيب على تواضع الله.

من مناظير عدة، الوضع الحالي يختلف عن الوضع الذي واجهه بولس في أثينا، ولكن رغم الاختلاف، هناك أيضًا نقاط عديدة شبيهة جدًا. لم تعد مدننا مليئة بصور تمثل الآلهة المختلفة. بالنسبة للكثيرين بات الله يمثل المجهول الأكبر.

رغم كل شيء، كما كانت مسألة الله المجهول تختفي وراء تصاوير الآلهة، كذلك اليوم، غياب الله يحمل معه بطريقة خفية السؤال بشأنه. – البحث عن الله والسماح له أن يجدنا: هذا الأمر ضروري اليوم كما كان في الماضي. إن ثقافة وضعية بحت، تصنّف مسألة الله في إطار الذاتانية غير العلمية، ستكون إغلاقًا للعقل، وتخليًا عن قدراته السامية وبالتالي انهيارًا للحركة الإنسانية، والتي ستكون نتائجها خطيرة لا محالة.

إن ما أسس الثقافة الأوروبية، أي البحث عن الله والجهوزية للإصغاء إليه، يبقى اليوم أيضًا ركيزة كل ثقافة حقة.

شكرًا جزيلاً!

* * *

نقله من  الفرنسية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.