السينودس الفاتيكاني والشهادة المسيحية في عالم اليوم

 

جريدة النهار اللبنانية

 

تشهد روما، عاصمة الكثلكة، هذه الأيام حدثا مجمعيا على درجة عالية من الأهمية من حيث الشكل والمضمون، افتتح إعماله البابا بندكتوس السادس عشر الأحد الماضي في قاعة السينودس في حاضرة الفاتيكان. انه السينودس الثاني في عهد هذا الحبر الذي قارنه لي احد الآباء الكاثوليك بسلفه البابا يوحنا بولس الثاني وقال: "الجموع كانت تأتي لترى البابا يوحنا بولس الثاني، بينما الجموع تأتي اليوم لتسمع البابا بندكتوس السادس عشر". ويشارك في السينودس الذي سوف يدوم ثلاثة أسابيع نحو ثلاث مئة من الآباء والأساقفة واللاهوتيين، المحليين والدوليين، الذين تقاطروا من جميع القارات لينكبوا في البحث والتمحيص حول "كلمة الله في حياة ورسالة الكنيسة".

المشهد يشابه إلى حد كبير مشهد المجمع الفاتيكاني الثاني الذي افتتحه البابا يوحنا الثالث والعشرون سنة 1962 وأكمله بعد وفاته المفاجئة، خلفه البابا بولس السادس هذا الأخير الذي لا تزال صورة المعانقة السلامية بينه وبين هامة ذلك البطريرك القسطنطيني الشهير المستقيمة، بطريرك الروم الأرثوذكس المسكوني اثيناغوراس، طابعة كل المسيحيين، كاثوليكاً كانوا أم أرثوذكسا.

لن ادخل، مقارنة، تفصيلا في المفهوم الأرثوذكسي المحق للعمل المجمعي في تكوين الكنيسة وتظهير كلمتها وفعلها في العالم وهو فعل السيد فيها. المجمع في اللاهوت الكنسي الأرثوذكسي هو من مكونات الكنيسة وفعلها في العالم. انه قائم على مثال ومقياس مجمع أورشليم، أول المجامع، المشار إليه في أعمال الرسل (أعمال 15)، والذي ترأس أعماله القديس يعقوب اخو الرب، أول أسقف على أورشليم وحضره هامتا الرسولين بطرس وبولس وجمع كبير من أبناء الكنيسة الناشئة. والمجامع الكنسية المسكونية السبعة التي أتت بعده كانت على المقياس نفسه، وهي نشأت للدفاع عن الإيمان المستقيم الرأي. في لاهوتنا الكنسي وفهمنا للكنيسة كشركة، ليس المجمع عندنا ديوان شورى أو مجلسا كسائر المجالس الإدارية، التقريرية أو التنظيمية. من حيث الإطار، انه بالطبع مجلس للقاء والتحادث والتخاطب والدراسة والعناية وتقرير الأمور التي تخص المؤمنين والأمور المتعلقة بحياة الكنيسة وشهادتها في العالم. من حيث الجوهر، انه المكان الذي يظلله الروح القدس، بحيث يشهد الإخوة فيه للناصري الناهض من بين الأموات، شهادة ليسوع المسيح الذي هو واحد من الآب. انه المكان الذي فيه تتأكد وتعلن الشركة الكنسية الإيمانية ومكان التواصل من والى، ضمن دائرة مكتملة، مع أبناء الكنيسة الواحدة القائمة على الإيمان الواحد.

"ويل لي إن لم أعلن الإنجيل" قالها البابا بندكتوس السادس عشر في القداس الافتتاحي للسينودس الذي أقيم في بازيليك القديس بولس "خارج الأسوار" في روما، مرددا قول القديس بولس الرسول الشهير ومحددا تاليا سقف وأهمية أعمال السينودس المنعقد. "وحدها كلمة الله بإمكانها أن تغير بالعمق قلب الإنسان، "تابع البابا واعظا الآباء والمشاركين محددا لهم مهمة العمل لان "إعلان الإنجيل يشكل سبب وجود الكنيسة ورسالتها ولا بد للكنيسة أن تعرف وتعيش ما تعلنه لكي يكون لكرازتها صدقية، رغم الضعاف وفقر البشر الذين يكونوها". ولكي لا يفهم الكلام والتشديد على دراسة الكلمة انه نوع من أنواع البروتيستانتية في الكنيسة الكاثوليكية، شدد البابا على أهمية الافخارستيا وقال "إن المسيحي يتغذى من كلمة الله ومن جسد المسيح في آن". وختم عظته مؤكدا "أن الرب سوف يساعدنا لكي نتساءل ونعمل سوية خلال أسابيع العمل السينودسية المقبلة عن كيفية جعل إعلان الإنجيل أكثر فاعلية في عصرنا الحالي".

اللافت في هذا المشهد الفاتيكاني مشاركة ممثلين عن الكنائس الأخرى ومنها البروتستانتية وممثلون عن الديانات الأخرى ومنها للمرة الأولى مثلا ممثلو عن الديانة اليهودية.

إما الحدث المنتظر مسيحيا فسيكون في الثامن عشر من تشرين الأول مشاركة البطريرك المسكوني، بارثولوميوس الأول، بطريرك القسطنطينية الذي سوف يلقي كلمة منتظرة ويكون قبل الذهاب إلى روما قد عقد في اسطنبول/ القسطنطينية من التاسع من تشرين الأول إلى الثاني عشر منه "السيناكس" الأرثوذكسي، أي اللقاء المجمعي لرؤساء الكنائس الأرثوذكسية المحلية المستقلة كافة، والذي من خلاله تحاول الكنيسة الأرثوذكسية أن تضع آلية للتنسيق والمتابعة والعمل المشترك وهذا من الضرورات الماسة من اجل شهادة منسقة في عالم اليوم تحاكي الإنسان المعاصر.

أهمية هذا السينودس انه يشكل في عصر العولمة والإعلام، محاولة منهجية ومدروسة تحاول فيها الكنيسة الكاثوليكية أن تنصب كلمة الله في وسط العالم الحديث وتضعها على مسمع الجميع، ومن خلال دراسات لاهوتية ورعائية، أمام الإنسان المعاصر، أمام إنسان اليوم الحائر على المصير والعيش.

ويبقى لنا نحن (الأرثوذكس) أيضا تحد كبير ورجاء على طهارة عقيدية عندنا وعلى نقاوة وقداسة في العمارة الكنسية واللاهوتية والليتورجية وتقليدنا الكنسي الذي هو على غنى كبير، أن نؤسس لجدلية عصرية ومنهجية تخاطب الإنسان المعاصر تماما كما فعل الآباء من باسيليوس الكبير إلى يوحنا الذهبي الفم وغريغوريوس النيصصي وغيرهم من الآباء والقديسين لكي يكون لنا شهادة حقة وفعالة لكنيسة المسيح، شرقا وغربا، قائمة على تخاطب بين الحداثة والتقليد. وبهذا يكون لنا في الشرق والغرب دور "ريادي" كان دائما لنا وهو الأقرب إلى جوهر إيماننا بقول السيد المسيح عنا اننا كمسيحيين "ملح الأرض ونور العالم".