من يوقف نزيف مسيحيي الشرق؟

الدستور

تختلف التقديرات الخاصة بأعداد المسيحيين في الشرق أو في العالم العربي عموما، وتتراوح الأرقام بشأن تعدادهم ما بين عشرة إلى خمسة عشرة مليون مواطن (باستثناء السودان، حيث معظم المسيحيين ليسوا عربا)، على أن اثنين لا يختلفان على القول بأن أعداد المسيحيين العرب أو في العالم العربي، تتناقص تدريجيا، وأحيانا بشكل متسارع، وأن تعدادهم قد يهبط إلى ستة ملايين مسيحي بحلول العام 2020 وفقا لبعض التقديرات الكنسية المتشائمة، الأمر الذي يتهدد هذه المنطقة بفقدان تنوعها وخسران دورها المتميز الذي لعبه ويلعبه أبناؤها وبناتها من مختلف الطوائف المسيحية، وفي شتى الميادين، وهو الدور الذي من دونه، ما كان لهذه المنطقة أن تكون ما هي عليه.

أهم التجمعات المسيحية في العالم العربي تبدأ من مصر بأقباطها المختلف حول تعدادهم، والمتفق على أنهم أكبر تجمع مسيحي في المنطقة، تليها لبنان الذي كان المسيحيون فيه يشكلون أكثر من نصف سكان عند الاستقلال، لتهبط نسبتهم اليوم إلى ما يزيد قليلا عن ثلث السكان، ثم العراق الذي يواجه مسيحيوه اليوم أبشع عمليات التهجير عن بيوتهم ومدنهم وقراهم تحت بفعل السلوك الأهوج للمليشيات القومية والمذهبية السائبة.

في سوريا كان المسيحيون يشكلون قرابة ثلث السكان في مطلع القرن الماضي، وفي سبيعينات القرن الفائت كانت نسبتهم لا تقل عن 17 بالمائة، لتصل اليوم إلى ما دون التسعة بالمائة منهم، وفي فلسطين مهد المسيح ومسقط رأسه وبشارته وقيامته، بلغ النزيف حدا مؤسفا، إذ لم يعد المسيحيون يشكلون أكثر من 2 بالمائة من السكان، بعد أن خلت عشرات القرى المسيحية الفلسطينية من ساكنيها، وبعد أن فقد العشرات من الكنائس رعاياها، وبعد أن ذهب "الزحف الديمغرافي الإسلامي" بهوية مدن مسيحية تاريخية كالناصرة وبيت لحم على سبيل المثال لا الحصر.

ثمة طوائف مسيحية انقرضت أو هي في طريقها للانقراض من المشرق كالأرمن على سبيل المثال، فكثير من كنائسهم في المنطقة أقفلت لعدم وجود من يرعاها أو من يتبع لها، ولولا بقايا وجود أرمني متماسك في سوريا ولبنان، لكان الأرمن اليوم وكنيستهم الشرقية فصلا من ذاكرة المنطقة.

ما يجري اليوم في الموصل وجوارها جريمة بحق العراق والمسيحيين والشرق بدياناته السماوية المختلفة، وثمة حاجة ماسة لوقف القتل والترويع، ووضع حد للنزف والهجرة.

وفي لبنان يبدو المسيحيون اليوم بأمس الحاجة لخطاب متجانس، يتخطى بهم حالة التخندق والاستقطاب في متاريس الانقسام الإسلامي (السني- الشيعي)، ولا يجعلهم ملحقا هامشيا في الصراع المذهبي الأكبر الممتد من شبه القارة الهندية إلى ضفاف المتوسط وصولا إلى شمال أفريقيا، فلا مصلحة لهم ولا لحلفائهم المتقابلين في الزج بالعنصر المسيحي المتآكل، في أتون صراع أن انفلت من عقاله، سيحرق الأخضر واليابس.

وفي مصر ثمة حاجة لمعالجة جذرية لمشكلة الأقباط، فاستمرار انكار وجود المشكلة لا يعني أنها غير موجودة وغير متفاعلة وغير متفاقمة، ومن الحكمة البحث عن حلول منبثقة من قاعدة المواطنة وشعار "الدين لله والوطن للجميع".

لهجرة المسيحيين من الشرق أسباب عديدة، ليس هنا مجال الخوض فيها، منها التقليدي ذو الدوافع الاقتصادية والاجتماعية، ومنها السياسي الناجم عن حروب المنطقة وصراعاتها وعدم الاستقرار فيها، منها ما هو عائد لصحوة الأصوليات المتشددة، ومنها ما هو ناجم أيضا عن بروز بعض "الأصوليات المسيحية" المتشددة التي تصب الزيت على نار الفتنة القابعة تحت الرماد، ومنها ما هو وليد فشل التنمية البشرية وإخفاق النظام العربي في توفير العيش الكريم لأبنائه، وهنا نتوحد في "الغرم" مسلمين ومسيحيين، وننطق بلسان واحد: كلنا في الهم شرق.