المسيح يحول ماء العهد القديم إلى خمرة العهد الجديد

الفاتيكان، الجمعة 24 أكتوبر 2008 (Zenit.org).

 "الجديد يستتر في القديم، والقديم ينكشف في الجديد"، بهذا الشكل يلخص القديس أغسطينوس تكامل العهد القديم والعهد الجديد، ويضيف في تعليقه على إنجيل القديس يوحنا أن المسيح يحول ماء العهد القديم إلى خمر العهد الجديد. هذا التعليم لم يكن غريبًا عن كتابات العهد الجديد، ويسوع نفسه، يؤنب اليهود الذين رفضوه قائلاً: "تَتصَفَّحونَ الكُتُب تظُنُّونَ أَنَّ لكُم فيها الحَياةَ الأَبديَّة فهِيَ الَّتي تَشهَدُ لي" (يو 5، 39). وفي حديثه إلى تلميذي عماوس، وقد حجبت عينا التلميذين عن معرفته أنّب يسوع التلميذين لأنهما لم يفهما ما كتب عنه في الأسفار المقدسة: "يا قَليلَيِ الفَهمِ وبطيئَيِ القَلْبِ عن الإِيمانِ بِكُلِّ ما تَكَلَّمَ بِه الأَنبِياء. أَما كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه ؟" ثم "بَدأَ مِن مُوسى وجَميعِ الأَنبِياء يُفَسِّرُ لَهما جميعِ الكُتُبِ ما يَختَصُّ بِه" (لو 24).

                                                

يسوع هو اكتمال الكتاب المقدس، فهو أتى لا لينقض الشريعة بل ليكملها (راجع مت 5)، وهذا الأمر فهمه القديس بولس جيدًا، وانطلاقًا من هذا المعيار التفسيري، قام بتطبيق صورة وخصائص الحكمة في العهد القديم على المسيح. وهذا ما قدمه البابا بندكتس السادس عشر في تعليم الأربعاء 22 أكتوبر 2008. فبعد أن توقف الأسبوع الماضي على ما عرف بولس عن يسوع التاريخ، توسع أمس الأربعاء في اعتبار عقيدة بولس الكريستولوجية.

يسوع التاريخ والكلمة الأزلي

وقال الأب الأقدس: "يتأمل الرسول مذهولاً السر الخفي في المصلوب القائم ومن خلال الآلام التي احتملها المسيح في بشريته (البعد الأرضي) يصل إلى الوجود الأبدي الذي من خلاله كان واحدًا مع الآب (البعد ما-قبل-الزمني). يكتب بولس: "عندما حل ملء الزمان، أرسل الله ابنه، مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الشريعة، ليفتدي الذين هم تحت الشريعة، لكي ننال التبني"".

وشرح الأب الأقدس أن الإعلان عن هذين البعدين (الوجود الأزلي في حضن الآب ونزول الرب في التجسد) يتم مسبقًا في العهد القديم  في صورة الحكمة. نجد في كتب العهد القديم الحكمية بعض النصوص التي تتغنى بدور الحكمة الأزلية كانت قبل خلق العالم. بهذا المعنى تُقرأ نصوص مثل هذا المقطع من المزمور 90: "قبل أن وُلدت الجبال وأسست الأرض والمسكونة، من الأزل وإلى الأبد، أنت الله" (آية 2)؛ أو مقاطع مثل ذلك الذي يتحدث عن الحكمة الخالقة: "الرَّبُّ خَلَقَني أُولى طرقِه قَبلَ أَعمالِه مُنذُ البَدْء؛ مِنَ الأَزَلِ أُقمتُ مِنَ الأوَلِ مِن قَبلِ أَن كانَتِ الأَرْض".

انحدار الحكمة

وتابع البابا مشيرًا إلى أن النصوص الحكمية عينها التي تتحدث عن وجود الحكمة الأزلي، تتحدث أيضًا عن نزولها، عن انحناء هذه الحكمة، التي أقامت خيمتها بين البشر. وهكذا نسمع صدى كلمات إنجيل يوحنا الذي يتحدث عن خيمة جسد الرب. لقد قامت بخلق خيمة في العهد القديم: والإشارة هنا إلى الهيكل، إلى العبادة بحسب التوراة؛ ولكن من وجهة نظر العهد الجديد يمكننا أن نفهم أن هذا كان فقط تصويرًا مسبقًا لخيمة تحمل حقيقة ومعنىً أعمق: خيمة جسد المسيح.  ونرى في كتب العهد القديم أن انحناء الحكمة هذا، ونزولها في الجسد يتضمن أيضًا إمكانية رفضها.

الحرية، الرفض والصليب

إن القديس بولس، في توسيعه لتعليمه الكريستولوجي، يعود إلى هذا المنظار الحكمي: يتعرف في يسوع على الحكمة الأزلية القائمة أبدًا، الحكمة التي تنحدر والتي تخلق لذاتها خيمة في ما بيننا؛ وبهذا الشكل يستطيع أن يصف المسيح، كـ "قوة وحكمة الله"، ويستطيع أن يقول أن المسيح قد صار لنا "حكمة من لدن الله، وبرًا، وتقديسًا وفداء" (1 كور 1، 24 . 30).

بالشكل عينه يوضح بولس أن المسيح، مثل الحكمة، يمكن رفضه، خصوصًا من قبل سلاطين هذا العالم (راجع 1 كور 2، 6 – 9)، فتتولد في مشروع الله مفارقة هي الصليب الذي سيضحي سبيل خلاص لكل الجنس البشري.

التمجيد

لكن الكلمة الأخيرة ليست للرفض، إذ نلاقي تطورًا آخرًا في هذه الدورة الحكمية التي ترى انحدار الحكمة لكي يتم تمجيدها في ما بعد بالرغم من الرفض، في النشيد الشهير الموجود في الرسالة إلى أهل فيليبي (راجع 2، 6 – 11). نحن بصدد واحد من أسمى نصوص العهد الجديد. وأوضح الأب الأقدس أن هذا النص الذي يأخذه بولس عن نشيد سابق لكتابة الرسالة هو ذو أهمية كبرى لأنه يعني أن اليهود المتنصرين قبل بولس كانوا يؤمنون بألوهية يسوع.

وبكلمات أخرى، "ألوهية المسيح ليست ابتكارًا هيلينيًا نشأ بعد زمن طويل من حياة يسوع الأرضية، وليس اختراعًا تناسى إنسانيته وأعلنه إلهًا؛ نرى بالواقع أن اليهودية-النصرانية الأولى كانت تؤمن بألوهية يسوع".

يتألف النشيد من 3 مقاطع: الأول يتحدث عن التواضع وإخلاء الذات، والثاني عن موت الصليب، أما الثالث فيعرض جواب الآب على تواضع المسيح: "لهذا رفعه الله ووهبه الاسم الذي هو فوق كل اسم" (آية 9).

ولفت البابا إلى "التباين بين الانحدار الجذري والتمجيد الذي يليه في مجد الله". تصرف المسيح يختلف كليًا عن "طموح آدم الذي أراد من تلقاء ذاته أن يصير الله، وهو مغاير عن تصرف بناة برج بابل الذين أرادوا من تلقاء ذاتهم أن يبنو الجسر إلى السماء فيضحوا آلهة لذواتهم. ولكن مبادرة الكبرياء هذه أدت إلى تدمير الذات".

ثم تابع الأب الأقدس: "ليس هذا السبيل للوصول إلى السماء، إلى السعادة الحقة، إلى الله. طريقة تصرف ابن الله هي العكس تمامًا: لا بالكبرياء بل بالتواضع الذي هو تحقيق للحب، الحب الذي هو إلهي. مبادرة الانحناء، تواضع المسيح الجذري، الذي من خلاله يعاكس الكبرياء البشري، هو حقًا تعبير عن الحب الإلهي؛ يلي هذا التواضع الارتفاع إلى السماوات إلى حيث يجذبنا الله بحبه".