ميراث لوقا-إختراق الحدود: الوطنيّة والثقافيّة والدينيّة

 

 

 

اهتداء بطرس (أع 10/9-16)

 

بينما كان بطرس يصلّي في الظهيرة، وقع في غيبوبة. فرأى السماء مفتوحة، وهو رمز الوحي الإلهيّ، وقطعة قماشٍ معقودة من أطرافها مملوءة بجميع حيوانات الأرض وزحّافاتها وطيورها، بعضها مصنّف على أنّه «طاهر» وبعضها الآخر «نجس».

 

لم يكن ممكناً لمؤمنٍ يهوديّ مثل بطرس أن يأكل طعاماً نجساً. فقد أصبحت شرائع الطعام علامة مهمّة من علامات الهويّة اليهوديّة. وفي إطار مائدة المشاركة المسيحيّة مع الوثنيّين، كانت المحافظة على الطعام الحلال موضوع نزاع. إلاّ أنّ الصوت الإلهيّ أعلن بإلحاح ثلاث مرّات: «ما طهّره الله لا تعتبره أنت نجساً.» فأمر الله طهّر جميع الأطعمة الّتي على القماش.

 

لقد تمّ تحدّي إرث بطرس الثقافيّ والدينيّ بعمق بهذا الاختبار، لكنّ معناه أصبح واضحاً حين وصل الوفد من عند كورنيليُس. وقام بطرس بخطوةٍ خطرة حين دعا هؤلاء الوثنيّين ليأكلوا معه وقبِلَ أن يستضيفه كورنيليُس في بيته (أع/ 17-29).

 

ويروي لوقا القصّة بالتفصيل ليبيّن كيف يدير الله مسار الأحداث لتجعل بطرس يبرّر ضميره في ما يفعله (آية 28) «الله أراني أن لا أحسب أحداً من الناس نجساً أو دنساً».

 

العنصرة الوثنيّة (أع 10/23ب-48)

 

خطاب بطرس هو خلاصة أساسيّة للبشارة مصاغة بتعابير تناسب الوثنيّ المثقّف المطّلع. وتوجّهه هو توجّه كتابيّ عميق ولكن من دون ذكر الشواهد الكتابيّة. وقد لمّح إلى التقليد الشفويّ لبشارة يسوع، وقدّم القيامة على أنّها برهان على أنّ يسوع هو «ربّ الكل».

 

وهناك نواحٍ أخرى من شأنها أن تشدّ الوثنيّين: افتتاحه بمعرفة أنّ الله لا يفضّل أحداً على أحدٍ من شعوب العالم (آية 34-35)، تركيز البشارة على السلام والمصالحة بين الله والإنسانيّة، وبالتالي اليهود والوثنيّين، والمجال المفتوح لينال كلّ مَن يؤمن الغفران.

 

في هذه اللحظة تحرّك الروح ونال هذا الوثنيّ المهتدي هبة العنصرة حتّى قبل المعموديّة. فأدرك بطرس أنّه لا مجال للتساؤل حول قبول غير اليهود في الكنيسة بالمعموديّة وحدها (10/47-48).

 

القداسة الشاملة

 

بالنسبة إلى لوقا، كانت هذه العنصرة الوثنيّة نقطة انعطاف في الاستراتيجيّة الرسوليّة المسيحيّة: ومن الآن، انفتحت كنيسة الله على أيّ إنسان وأينما كان.

 

إنّ رؤية بطرس هي نقطة علام لسعة عالم الفهم الدينيّ. كانت الديانات تضع على الدوام خطّاً فاصلاً بين المكرّس والدنيويّ، المقدّس والماديّ.

 

إنّ هذا التقسيم بين المقدّس والدنيويّ، الطاهر روحيّاً وغير الطاهر، كان واضحاً في هندسة بناء الهيكل اليهوديّ. فكبير الكهنة وحده يستطيع أن يجتاز الحجاب الّذي يحجب قدس الأقداس، مكان إقامة الله، عن عيون البشر. وكان غير اليهود كانوا مُبعَدون خارجاً إلى الباحة الخارجيّة للوثنيّين في الساحة الّتي تحيط بمكان عبادة اليهود.

 

وعندما انشقّ حجاب الهيكل من فوق إلى تحت حين مات يسوع وأعلن قائد المائة الوثنيّ أنّ يسوع هو ابن الله (مر 15/38-39)، كان هذا رمز قويّ إلى أنّ موت يسوع فتح طريقاً مباشراً إلى حضور الله لليهود وللوثنيّين على السواء.

 

مجمع أورشليم

 

بعد وقتٍ قريب، تمّ تحدّي رؤية بطرس حول الكنيسة متعدّدة الثقافات. فمع أنّ زعماء اليهود المتنصّرين في أورشليم صادقوا على فعل بطرس (أع 11/1-18)، لم يأخذوا في عين الاعتبار تطبيقاته.

 

دقّ قبول بولس وبرنابا للوثنيّين في أثناء رسالتهم بآسية الصغرى ناقوس الخطر لدى عددٍ لا بأس به من المؤمنين اليهود في أورشليم الّذين صاغوا هويّة يهوديّة خاصّة بهم.

 

على كلّ حال، كان على الكنيسة أن تحافظ على العلاقة بين المسيحيّين من اليهود والوثنيّين فتمّت الدعوة إلى التحقيق في المسألة بأورشليم برئاسة يعقوب أخا الرب (أع 15/1-6).

 

كان الجدال حامياً وطويلاً (15/7). ويخبرنا لوقا أنّ هذا الاتّفاق تمّ بعونٍ شديدٍ من الروح القدس! وقام بطرس بدوره، وألحّ على أنّ النعمة والروح والإيمان لا الشريعة هي الّتي تنقّي وأنّ الله لا يميّز بين اليهود والوثنيّين (15/ 7-11).

 

وربّما قطع يعقوب النقاش بتفسير رائعٍ للكتب: فقد رأى عهد الله الجديد مع إسرائيل بمعنى خلق جماعةٍ ينجذب إليها الوثنيّون و«ويتّخذ من بين الأمم شعباً لاسمه» (15/14-18)…

 

وفي النهاية، قدّم كلّ من الطرفين تنازلات. كان المسيحيّون الفرّيسيّون يريدون فرض الختان على الوثنيّين والخضوع للتوراة وشرائعها.

 

ووافق حزب بولس على أن يحفظ الوثنيّون المنع الموسويّ للطعام النجس والفساد الجنسيّ.

 

كان القرار عمليّاً. فقد سمح للناس من مختلف الثقافات بأن يعيشوا معاً في الكنيسة. وأصبح بإمكان بولس، الّذي تسلّح بهذه التوصية وتحرّر من عبء الشريعة، أن يحمل البشارة من آسية إلى أوروبا وإلى قلب الإمبراطوريّة.

 

البشارة والثقافة

 

الثقافة واللغة لا ينفصلان. كما أنّ بنية اللغة تستدعي أن يكون لمن يتكلّمها شكل من أشكال التفكير والنظر إلى العالم. ومع أنّ اليونانيّة كانت اللغة الشائعة للإمبراطوريّة، إذا كان على البشارة أن تعبر القارّات، ينبغي عليها أن «تترجم» وأن يتمّ التعبير عنها بتعابير تستطيع الشعوب من مختلف الخلفيّات الثقافيّة أن تفهمها وتلتزم بها.

 

في أعمال الرسل، يعطينا لوقا بعض الأمثلة الرائعة عن كيف كيّف المرسلون المسيحيّون الأوائل بشارتهم وفقاً لمستمعيهم. فالخطابات في أعمال الرسل، كخطاب بطرس في العنصرة وفي قيصريّة، واسطفانُس أمام السنهدريم، أو بولس في أثينا، هي صياغة للوقا ولكنّها ليست من تأليفه. وهي تشبه غالباً خطابات المؤرّخ اليونانيّ ثوسيديُس الملقّب بالحاكم، وهو عسكريّ وسياسيّ. ومع عدم الإقرار بسرد كلمات المتكلّم حرفيّاً، إلاّ أنّهم يحاولون أن ينقلوا جوهر ما يقوله باستعمال ما سمعوه أو ما قاله الآخرون لهم.

 

بولس والفلاسفة (أع 17/16-34)

 

حين وصل بولس إلى أثينا، ذهب ليلقي نظرةً فاحصة فالتقى في السوق بفلاسفة أبيقوريّين ورواقيّين. وبدأ على مثال الفلاسفة الجوّالين بمجادلتهم. فدّعيَ بولس بعد ذلك إلى مجلس الأريوباغُس، الّذي يدير شؤون التربية في المدينة، ليقدّم إعلانه للمسيح.

 

نحن ندين بالفضل إلى لوقا لأنّه سجّل هذا التقديم الرسميّ للبشارة بلغةٍ وتفكيرٍ يناسب الثقافة الهلّينيّة السفسطائيّة لأثينا:

 

تفادى لوقا الاستشهاد المباشر بالكتب المقدّسة وبتاريخ اليهود.

 

لم يذكر يسوع أو الصليب، بل بدأ بالثقافة الّتي حوله.

 

كانت براهين بولس كتابيّة في مفاهيمها، لكنّ هذا اللاهوت الطبيعيّ سيكون له صدىً في الفلاسفة اليونان. وقام بولس في القسم الأوّل من براهينه بالاستشهاد بشاعرين يونانيّين ليبني الجسور بين الإيمان اليهوديّ والفلسفة اليونانيّة.

 

ثمّ أمسك بلبّ الموضوع ودعاهم إلى التوبة وترك ضلال عبادة الأصنام. إلاّ أنّه حين بدأ يتكلّم بتعابير يهوديّة على يوم الدينونة وقيامة الأموات، تبلبل مستمعوه وانتهى خطابه نهايةً سيئة.

 

بولس والفلاّحون المزارعون

 

يبدو أنّ بولس لاقى نجاحاً أكبر حين دعا الفلاّحين الوثنيّون في لسترة إلى ترك أصنامهم الباطلة وعبادة الإله الحي (أع 14/15-18).

 

حين شفى بولس المقعد اعتبرته الجموع هو وبرنابا إلهين نزلا إلى الأرض. وحين لاحظ الرسولان أنّ الناس سيقدّمون الذبائح لهما، استغلاّ الفرصة ليعلنا الإله الواحد الحقيقيّ.

 

وكما هو الحال في أثينا، تكلّم بولس على كشف الله عن ذاته في الطبيعة، ولكن بمعنى الثقة بمعونة الله في الخصب والحصاد. فهذه التعابير تمسّ مستمعيه الفلاّحين أكثر على الرغم من أنّ النتيجة المباشرة لم تكن مرجوّة، فقد ألقي البذار، وحين عاد بولس إلى هذه المنطقة في رحلته الرسوليّة الثانية كان في لسترة كنيسة (أع 16/1-3).

 

لوقا وكنيسة اليوم

 

لا تزال الكنيسة الجامعة في صراع لتحرير البشارة لتُعلَنَ بلغة الاختلاف الثقافيّ الكبير.

 

أسّس بولس أرضيةً مشتركة لتلاقي الأفكار في نقطتين:

 

كلّ إنسان مصنوع على صورة الله.

 

الله يدعمنا ويحفظنا جميعاً.

 

إنّ الهوّة الثقافيّة اليوم تتّخذ أشكالاً أخرى. فكثير منّا فهم الإيمان المسيحيّ وقبِلَه في إطارٍ دينيٍّ اجتماعيّ ثقافيّ لا يشارك به كثير من أبناء مجتمعنا الّذين ينبغي أن نودّ المشاركة معهم.

 

في الماضي، صدّرت كنائس أوروبا وشمال أمريكا مسيحيّة بزيٍّ غربيّ. والآن، علينا أن نصغي إلى الناس الّذين نسعى إلى أن نشاركهم البشارة، وأن نتعلّم شيئاً عن لغتهم وثقافتهم قبل أن نسعى إلى غرس الإنجيل في الثقافات المحليّة.

 

لقد تمّ تخطَي حواجز اللغة والثقافة في العنصرة، وولجت البشارة.

 

إنّ كنيسة اليوم بحاجة إلى:

 

حكمة الروح لتحدّد الممارسات الإيمانيّة الّتي تجمع بين بساطة الخلاص من خلال الإيمان بالمسيح وتفسير المسيحيّة الّذي يستعمل أنماطاً ثقافيّة لا تتوافق مع الإيمان بالإله الثالوثيّ.

 

قوّة الروح الخلاّقة لإعادة تفسير البشارة بحيث تستطيع شعوب جميع الثقافات أن تسمعها وتفهمها (أع 1/5-13).

 

 

عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب