ميراث لوقا – الحب بلا حدود

دراسة الحالة الأولى: السامري الصالح (لو 10/25-37)

 

كان الرومان يسحقون اليهود في زمن يسوع. فأدّى هذا الأمر، مع دعوتهم كشعب الله المختار، إلى أن يشيد كثير من اليهود جداراً اجتماعيّاً وثقافيّاً بينهم وبين الوثنيّين، خصوصاً السامريّين. ونرى اليوم عدوانيّة مشابهة بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين.

 

سافر يسوع إلى أورشليم عبر منطقةٍ محظورة. وكانت رحمته تجاه عدم استقبال السامريّين له مثلاً مدهشاً لتلاميذه على «أحبّوا أعداءكم» (لو 9/ 51-56) ولوقا وحده يذكر هذا.

 

يمثّل السامريّون بالنسبة إلى لوقا كلّ غير اليهود الّذين انفتحوا على رسالة يسوع ولبّوا دعوته.

 

المثل (لو 10/25-37)    خلفيّة القصّة (آيات 25-28)

 

أجاب يسوع، بحسب أسلوبه التعليميّ المعتاد، على سؤال معلّم الشريحة بإعادة طرح السؤال عليه. ثمّ سأل معلّم الشريعة: «مَن هو قريبي؟» وكان يريد تعريفاً أخلاقيّاً وينتظر أن تُحدَّد له الحدود.

 

وبدأ المشهد (آية 30)

 

يمرّ الطريق بين أورشليم وأريحا بوادي قِلت، وهو أخدود عميق متعرّج كان يعجّ بقطّاع الطرق حتّى القرن الماضي. وكما هو الحال دوماً، فإنّ قصص يسوع حقيقيّة ومأخوذة من الحياة الواقعيّة.

 

الاختيار: الشريعة أم المحبّة؟

 

اختار يسوع عمداً شخصيّتين دينيّتين، الكاهن واللاوي، مرّا من هناك. كانت مشكلتهما تكمن في شريعة اللاويّين: إذا مسّ ميتاً يصبحا نجسين، ولا يجوز لهما بعد ذلك أن يقوما بواجباتهما المقدّسة في الهيكل.

 

فتمسّكا بشريعة الطهارة وأسرعا في طريقهما، لكنّهما خالفا وصيّة التوراة في محبّة الآخرين. لقد أعطيت لحفظ الأمور الشرعويّة والدينيّة الأولويّة على القيم الروحيّة والأخلاقيّة. وربّما خافوا أن يكون الجريح جزءاً من فخٍّ نصبه قطّاع الطرق.

 

من ناحيةٍ أخرى، «أشفق» السامريّ، وفعل كما يفعل الله حين يمر، وغامر بحياته ليخلّص الآخر (ربّما كان «الضحيّة» فخّاً).

 

يروي لوقا القصّة بشغف وبتفاصيل دقيقة. فالسامريّ لم يقدّم الإسعافات الأوّليّة وحسب، تضميد الجروح وأخذ الضحيّة إلى فندق، بل اعتنى بأمره طوال الليل ودفع للفندقيّ كي يعتني به. ما الّذي يستطيع الإنسان أن يفعله «لعدوّه؟»

 

دخول السامريّين إلى الملكوت قبل الأبرار

 

سأل يسوع معلّم الشريعة: «أيّ واحدٍ من هؤلاء الثلاثة كان في رأيك قريب الّذي وقع في أيدي اللصوص؟» ولن يجِب معلّم الشريعة. فأيّ إهانةٍ أشدّ من أن نقول لواحدٍ إنّ الله دعا ألدّ أعدائه كي يدخل الملكوت بالتساوي معه؟

 

إنّ هذه القصّة تهاجم كلّ أحكامنا الدينيّة والسياسيّة المسبقة. كانت رسالة يسوع هي مصالحة الشعب الّذي انقسم بفعل إرثه التاريخيّ والثقافيّ والسياسيّ. وقد أخبر يسوع تلاميذه بأنّه عليهم متابعة رسالته وأن ينتقلوا من الأماكن اليهوديّة الاعتياديّة إلى السامرة كمرحلة أولى من أجل نشر الإنجيل «حتّى أقاصي الأرض» (أع 1/8).

 

دراسة الحالة الثانية: امرأة خاطئة تدهن رجلي يسوع (لو 7/36-50)

 

 

خلفيّة القصّة

 

نجد هذه القصّة في الأناجيل الأربعة. في مرقس (14/3) تدهن المرأة رأسه، علامةً على طبيعة يسوع الملكيّة، ويفسّر يسوع عملها على أنّه يخبر عن موته. في رواية لوقا، تدهن رجليه بالطيب والدموع، ويُضاف مثل المدينين ليكون في قلب القصّة، فأصبحت دراسةً للتوبة والمسامحة والنعمة الإلهيّة المقدّمة لكلّ هو مستعدّ لاستقبالها.

 

وبدأ المشهد

 

إذا كانت المرأة «الخاطئة» هي البطل في هذه القصّة، فالخائن هو سمعان الفرّيسيّ، وهو شخصيّة أرثوذكسيّة (ذات إيمانٍ قويم) في ذلك الزمان. لا نعلم لماذا دعا سمعان يسوع إلى الطعام، لكنّه رحّب به ببرود وأهمل غالبيّة أساسيّات عادات الضيافة وواجباتها.

 

المثل (لو 7/36-50)    الضيف غير المدعو

 

يسمّي لوقا المرأة «خاطئة». ويوحي شعرها غير المربوط بأنّها زانية. وأيّاً كان السبب، فإنّها لم تكن مدعوّة.

ويصف لوقا بطريقةٍ تصويريّة كيف أتت من خلف يسوع باكية، فغسلت قدميه بدموعها ومسحتهما بشعرها وسكبت عليهما عطراً ثميناً. وافترض سمعان أنّه من واجب يسوع، وهو معلّم دين مثله، أن ينتبه إلى مَن يمسّه لتفادي النجاسة الطقسيّة، خصوصاً قبل تناول الطعام. وإذ لم يحجم يسوع عن الاتّصال الجسديّ بالخاطئة، ازدراه سمعان: لو كان يسوع نبيّاً لتمكّن تلقائيّاً من معرفة الحياة الشخصيّة لهذه المرأة.

 

فالتقطه يسوع عند هذه النقطة وبدأ يروي له مثل المدينين القصير اللاذع.

 

مثلُ المدينَين

 

كان هناك رجلان، استلف الأوّل من دائنه خمس مئة دينار والآخر خمسين (الدينار هو أجرة عمل يومٍ واحد). وإذ لم يتمكّنا من السداد، عفاهما الدائن الطيّب من دَينهما. حينها، سأل يسوع سمعان: «أيّهما يكون أكثر حبّاً له؟» فأجاب الفرّيسيّ: «أظنّ الّذي أعفاه من الأكثر».

 

فبدأ يسوع بعدها بالمقارنة بينه وبين هذه المرأة. فالتعليم اليهوديّ يسمّي الخطيئة غالباً دين. وفي اللغة الآراميّة، كلمة «أحبّ» تعني أيضاً «شكر». لذلك فإنّ أفعال الضيافة الّتي بدرت منها كانت علامة قويّة على شكرها لغفران خطاياها الكثيرة، واستعادتها احترامها لنفسها، ولبداية حياةٍ جديدة. بينما يشير تفكير سمعان إلى أنّ توبته ومسامحته كانت أضعف. فمحبّتها كانت البرهان (وليس الشرط) على الغفران الّذي أتت لتعبّر عنه. فحيث «لم يرَ سمعان سوى خاطئة، رأى يسوع خاطئة مغفور لها وعائدة إلى الصلاح».

 

كنيسة شاملة

 

لنتخيّل شجاعة هذه المرأة الّتي حضّرت نفسها لتهدم الحرمات الاجتماعيّة والدينيّة لترتمي عند قدمي يسوع! لقد عبر الله بتجسّده حواجز كهذه ليضمّنا بذراعي حبّه. على الكنيسة ألاّ تجعل الناس ينقطعون عن يسوع أو تحبسهم في بيئة طقسيّة محدّدة.

 

إنّ القدّيس أوغسطينُس يثنينا عن وضع خطٍّ بين الّذين في الكنيسة والّذين خارجها، وهو يزيل كلّ الشروط الّتي تحدّد مَن يخلص ومَن لا يخلص. فالله الّذي يعرف قلوبنا يستطيع وحده أن يطلق هذا الحكم. ويقول القدّيس أوغسطينُس إنّ مهمّتنا هي أن نحافظ على شعلة المحبّة والنعمة مشتعلة بتوهّجٍ بأشدّ ما يمكن في مركز الكنيسة بحيث يشعّ نورها وتنتشر حرارتها حتّى الأطراف.

 

إنّ يسوع هو ربّ الكنيسة، وعلى الكنيسة في كلّ جيلٍ أن تفتح قلبها كي تستقبل الّذين في الخارج. على أبواب الكنيسة أن تظلّ على الدوام مفتوحة إلى الخارج.

 

لوقا وكنيسة اليوم

 

يتعرّض بعض المسيحيّين على الدوام إلى خطر أن يتحوّلوا إلى «أهل الكتاب» الّذين يعتبرون الكلمة الأخيرة موجودة في الكتاب المقدّس لا في شخص يسوع، كلمة الله المتجسِّد وسيّد الكتب المقدّسة.

 

وكذلك يتعرّض مسيحيّون آخرون إلى خطر أن يجعلوا الكنيسة، كمؤسّسة لها قوانينها وطقوسها، السلطة النهائيّة لهم بدل المسيح ربّ الكنيسة «وحجر الزاوية … الّذي به يتماسك البناء كلّه» (أف 2/20-21).

 

إنّ مثل السامري الصالح ولقاء يسوع مع المرأة في أثناء تناول الطعام يشيرا إلى خطر خلط الإيمان بالنمطيّة «لتصحيح» المعتقدات والممارسات، وجعل الدين يولّد الشرعويّة. فالمحافظة على القوانين ليس كافياً بالنسبة إلى المسيحيّين، لأنّ الشريعة تسامت بفعل النعمة، والكلمة الأخيرة الآن هي مع يسوع المسيح.

 

عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب