لنتأمل مع بندكتس 1-30 من نوفمبر 2008

الأول من نوفمبر

روما، الجمعة 31 أكتوبر 2008 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي تأمل اليوم من نوفمبر للبابا بندكتس السادس عشر، من كتاب "بندكتس".

القديسون كنجوم في السماء

إن الأعياد الكبرى التي تؤلف سَنَة الإيمان هي أعياد المسيح، وهي بالتالي تتوجه إلى الإله الأوحد الذي كشف عن ذاته لموسى في العليقة المشتعلة واختار إسرائيل كالمعترف بالإيمان بوحدانيته. إضافة إلى الشمس، التي هي صورة المسيح، هناك أيضًا القمر، الذي لا يملك نورًا خاصًا به إلا أنه يشع بالبهاء الذي يأتيه من الشمس. هذا الأمر هو علامة لنا بأن البشر هم دومًا بحاجة إلى نور "صغير"، يساعدنا نوره الخفي على معرفة ومحبة نور الخالق، الإله الثالوث الأحد. لهذا لطالما شكلت أعياد القديسين منذ أقدم العصور جزءًا من السنة المسيحية. لقد سبق والتقينا بمريم، التي يتمازج وجودها عميقًا مع سر المسيح لدرجة أن تطور دورة الميلاد يدخل النغمة المريمية في سنة الكنيسة لا محالة. إن البعد المريمي للأعياد الكريستولوجية لواضح وجلي. إضافة إلى ذلك، يأتي تذكار الرسل والشهداء، وأخيرًا، ذكرى قديسي كل العصور. يمكننا أن نقول أن القديسين هم، إذا جاز التعبير، نجوم في الفلك المسيحي الجديد، يتجلى فيهم غنى صلاح الله. يمكننا نورهم الآتي من الله أن نعرف بشكل أفضل الغنى الداخلي لنور الله العظيم، الذي لا يمكننا إدراكه في توهج مجده.

الثاني من نوفمبر

دور المَطْهَر

بالنظر إلى الارتداد نحو العيش المستقيم، الذي هو ما نرجوه رغم سقطاتنا، يلعب المطهر دورًا هامًا هنا. هناك قلة من الأشخاص ذوي الحياة الطاهرة والمتكاملة في كل أبعادها. وكذلك، نرجو أن يكون هناك فقط قلة من الأشخاص الذين باتت حياتهم غير قابلة للفداء؛ باتت رفضًا كليًا. بالنسبة لمعظم الناس، ما يزال هناك التوق إلى الخير بالرغم من كثرة الفشل، المصيري إلى حد ما.  يستطيع الله أن يأخذ الأجزاء المحطمة وأن يصنع منها شيئًا. على كل حال، نحن نحتاج إلى تنقية نهائية، ولكي نكون أكثر دقة، إلى تطهير في النار، حيث يقوم نظر يسوع، بشكل ما، بتطهيرنا من كل شيء، وفقط تحت هذه النظرة المطهرة، نضحي أهلاً بالله وقادرين بالتالي أن نسكن معه… أعتقد أن هذا الأمر إنساني جدًا. وأتجرأ فأقول أنه لو لم يكن هناك مطهر، لكان يجب أن نخترعه لأنه من يجرؤ أن يقول لنفسه أنه تمكن من الوقوف مباشرة في حضرة الله. ولكننا مع ذلك، لا نريد أن نكون، بحسب الصورة الكتابية، "آنية هوان" تُطرح خارجًا؛ نريد أن ننال إمكانية الإصلاح. المطهر يعني بألاساس أن الله يستطيع أن يعيد تركيب الأجزاء من جديد. أنه يستطيع أن يطهرنا بطريقة نستطيع من خلالها أن نكون معه ونستطيع أن نقف في ملء الحياة. يزيل المطهر ما لا يُحتمل في أحد الأشخاص، ويزيل من آخر عدمَ قدرة الاحتمال، لكي ما يتجلى في الجميع القلب الطاهر، فنتمكن أن نرى أننا ننتمي أحدنا إلى الآخر في سيمفونية وجود ضخمة.

 

الثالث من نوفمبر

معنى السماوات

إذا كانت السماوات تعني الكينونة مع المسيح، فهي تعني أيضًا الكينونة مع كل الذين يشكلون سوية جسد المسيح الواحد. ما من عزلة في السماوات. إنها مجتمع القديسين المنفتح، وبالتالي، فهي اكتمال كل أشكال الاجتماع البشرية، لا كتنافس للوصول إلى التأمل الطوباوي، بل كنتيجة له. يرتكز التكريم المسيحي للقديسين على هذه المعرفة، لا على معرفة خرافية كلية حول القديسين، بل ببساطة، على انفتاح كل عضو من جسد المسيح على الأعضاء الأخرى، والذي يفترض قرب الحب اللامحدود، والذي هو أكيد من إيجاد الله في الجميع، وإيجاد كل الأشخاص في الله. ينتج عن هذا الأمر عنصرًا أنثروبولوجيًا: إندماج الأنا في جسد المسيح، وجهوزيته لخدمة الرب والآخرين، ليس انحلالًا بل تطهيرًا للأنا، الذي يحقق في الوقت عينه أسمى قدراته. لهذا السبب تختلف السماوات من شخص إلى آخر. فكل يرى الله على طريقته؛ وكلٌ يتلقى حب الجسد بأسره في فرادته التي لا تُستبدل.

الرابع من نوفمبر

 معنى المنّ

كان الهدف من المَنّ في الصحراء إظهار أن الإنسان لا يعيش إلا بالاتكال على الله. يجب على الإنسان أن يتعلم العيش مرتكزًا على الله، لأنه بهذا الشكل يعيش حقًا، ويحصل على الحياة الأبدية، لأن الله أبدي. كل من يعيش مع الله ويعتمد عليه، فهو في الحياة الحقة التي تصل أبعد من الموت. العيش بالاتكال على الله يعني ألا يكون المرء ربّ ذاته، وألا يريد أن يكون مدبر الكون؛ يعني أن يودع الإنسان حلم الاستقلالية والسيادة الذاتية، والاعتراف بأننا لا نستطيع أن نقوم بالأمور على هوانا وأن نتعلم أن نتقبل حياتنا يومًا فيومًا من يدي الله، دون قلق، وفي ثقة تامة. هذا هو المعنى الجوهري للمنّ: أنه يجب أن نعيش متكلين على الله، لا على ذواتنا. يمكننا أن نعيش مرتكزين على الله لأن الله بالذات يعيش لأجلنا. يمكننا أن نعيش مرتكزين على الله لأنه هو بالذات أضحى واحدًا منا، ولأنه أضحى خبزنا. يمكننا أن نعيش مرتكزين على الله لأنه يهب ذاته لنا، ليس فقط كـ "كلمة"، بل كجسد يُبذل ويعطى لنا، بشكل متجدد، في السر… العيش بالارتكاز على الله يعني قبل كل شيء الإيمان، يعني التواصل معه، يعني الدخول في التناغم الداخلي معه… الإيمان يعني العيش بالارتكاز على الله، والذي نجد جسده في الكنيسة؛ يعني أن نتغذى من هذا الإله المتجسد الذي يلاقينا في الأسرار والذي صار متجسدًا لدرجة أنه يهب ذاته لنا في الافخارستيا كجسد، لكي نستطيع الولوج في الحياة الأبدية: تمامًا كما يعيش هو لأجلنا، يجب علينا أن نعيش انطلاقًا منه ولأجله.

الخامس من نوفمبر

الخبرة المسيحية

تبدأ الخبرة المسيحية في عالم الخبرة المشتركة اليومية. وقد باتت الفسحة الداخلية التي تُختبر فيها الكنيسة في أيامنا هذه عالمًا غريبًا بالنسبة للكثيرين. مع ذلك، ما يزال هذا العالم يشكل إمكانية، ومن واجب التنشئة الدينية أن تفتح أبواب فسحة الخبرة – الكنيسة – وأن تشجع الناس إلى الاهتمام بهذا النوع من الخبرة. عندما يتقاسم الناس الإيمان عينه، عندما يصلون، ويحتفلون، ويفرحون، ويتألمون، ويعيشون سوية، تضحي الكنيسة جماعة وبالتالي فسحة عيش حقة تسمح للبشرية أن تختبر الإيمان كقوة تحمل الحياة في حياة كل يوم وفي مضايق الوجود. من يؤمن حقًا، وينفتح على مفاعيل الإيمان المنضجة، يضحي نورًا للآخرين؛ يضحي حصنًا يلجأ إليه الآخرون للعون. القديسون -كمثال عيش الإيمان الذي جُرّب فوُجد صلبًا، والتسامي الذي اختُبر وتثبت – هم، بشكل ما، الفسحة الحية التي نستطيع الرجوع إليها، والتي تدّخر فيها خبرة الإيمان، وتتأقلم أنثروبولوجيًا، فتقارب حياتنا. بإمكان الخبرة المسيحية الحصرية، بالمعنى الجوهري للكلمة، أن تنمو على نضوج متدرج وتعمق في خبرات من هذا النوع – هذا هو ما تسميه لغة المزامير والعهد الجديد: "تذوق الهبات السماوية" (مز 34، 9؛ 1 بط 2، 3؛ عب 6، 4). من خلالها يستطيع المرء أن يلمس الواقع عينه ولا يعود مجرد مستهلك ثانوي.

السادس من نوفمبر

الكنيسة السِرّ

إن اعتبار الأسرار كوسائل نعمة أتلقاها كدواء فائق الطبيعة لكي أضمن فقط صحتي الأبدية الخاصة هو أكبر سوء فهم لحقيقة الأسرار. المسيحية هي بطبيعتها الحميمة سر اتحاد. وجوهر الخطيئة الأصلية هو إنشقاق الفردانية، التي لا تعرف إلا ذاتها. وجوهر الفداء هو شفاء صورة الله، واتحاد الجنس البشري عبر ذلك الذي يمثلهم جميعًا والذي فيه الكل واحد، كما يقول القديس بولس (غلا 3، 28): يسوع المسيح… الاتحاد هو فداء لأنه تحقيق لشبهنا بالله، الواحد في ثالوثه. ولكن الاتحاد معه لا ينفصل بالتالي عن اتحادنا بعضنا ببعض وهو نتيجة له… فهم الكنيسة كسرّ هو عكس المفهوم الفرداني للأسرار كقنوات للنعمة؛ فهي تعلمنا أن نفهم الأسرار كاكتمال حياة الكنيسة؛ وعبر ذلك الأمر، تغني التعليم بشأن النعمة: النعمة هي دومًا بدء الاتحاد… فهم الكنيسة كسرّ، يعمّق ويوضح مفهوم الكنيسة ويقدم جوابًا لبحث الإنسان المعاصر عن وحدة الجنس البشري: الكنيسة ليست مجرد جماعة خارجية للمؤمنين؛ بطبيعتها، الكنيسة هي جماعة ليتورجية؛ وتصل إلى تحقيق ذاتها بالشكل الأكمل عندما تحتفل بالافخارستيا وتقدم حضور حب يسوع المسيح الفادي، الذي كحبّ، يحرر البشر من عزلتهم ويقوده أحدهم صوب الآخر عبر هدايتهم إلى الله.

الثامن من نوفمبر

أولية الله الحي في الكنيسة

من الممكن مقارنة معرفة الله بمعرفة شخص متيّم: هي معرفة تهمني بكليتي؛ وتتطلب أيضًا إرادتي؛ ولا تصل إلى شيء ما لم تتوصل إلى هذا الإذعان الذي يعانق كل شيء… الكنيسة ليست موجودة لأجل ذاتها. لا يمكنها أن تكون مثل مؤسسة تجهد، في الأوقات الصعبة، محاولةً أن تبقي رأسها فوق مستوى الماء. يترتب على الكنيسة واجب نحو العالم ونحو البشرية. المبرر الوحيد لوجود الكنيسة يعود إلى أن اضمحلال الكنيسة سيجذب البشرية إلى دوامة كسوف الله، وبالتالي إلى كسوف، لا بل إلى دمار كل ما هو إنساني. نحن لا نحارب من أجل بقائنا على قيد الحياة؛ نحن نعي أننا ائتُمنا على مهمة تجعلنا مسؤولين تجاه الجميع. لهذا السبب يتوجب على الكنيسة أن تقيس ذاتها، وأن تقاس من قبل الآخرين، انطلاقًا من مدى حيوية حضور الله ومعرفته وقبوله فيها. فكنيسة هي مجرد مؤسسة تسعى إلى تحقيق مصالحها ما هي إلا كاريكاتير عن الكنيسة. إذا ما تركزت اهتمامات الكنيسة على ذاتها ونظرت فقط إلى الأهداف الضرورية لبقائها، أضحت الكنيسة أمرًا زائدًا وسارت في سبيل الانحطاط، حتى ولو كانت تتمتع بموارد هامة وبإدارة محترفة. يمكنها أن تعيش وأن تكون مثمرة فقط إذا كانت أولية الله حية في داخلها. الكنيسة موجودة لا لأجل ذاتها، بل لأجل البشرية. الكنيسة موجودة لكي يضحي العالم مكان حضور الله، إطار العهد بين الله والبشر.

التاسع من نوفمبر

الكنيسة كرفيقة حج

جاء الله ليلاقي الإنسان. أظهر له محياه، وفتح قلبه له… ينبغي على الكنيسة أن تجعله معروفًا أكثر؛ يجب أن تحمل البشر إلى المسيح والمسيح إلى البشر، لكي تحمل الله إليهم وتحملهم إلى الله. ليس المسيح مجرد رجل عظيم أو شخص ذي خبرة روحية كبيرة؛ هو الله، الله الذي صار إنسانًا لكي يبني جسرًا بين الإنسان والله، ولكي يضحي الإنسان ذاته حقًا. من يرى المسيح فقط كشخصية دينية عظيمة، لا يراه حقًا. السبيل من المسيح وإلى المسيح يجب أن يصل إلى النقطة التي يبلغها إنجيل مرقس، لدى اعتراف قائد المائة أمام المصلوب: "حقاً هذا الرجل كان ابن الله!" (15، 39). يجب أن يصل إلى النقطة حيث يتوصل إنجيل يوحنا إلى اعتراف توما: "ربي وإلهي!" (20، 28). يجب أن يسير بموازاة القوس الذي يرفعه متى من البشارة، حيث يتم إعلان يسوع كـ "الله معنا" (1، 23)، وصولاً إلى آخر أقوال يسوع في هذا الإنجيل، والذي يلخص رسالته: "هاءنذا معكم طول الأيام حتى انقضاء الدهر" (28، 20). للتعرف على المسيح يجب أن ننضم إلى المسيرة التي يهدينا فيها الإنجيل. دور الكنيسة المحوري والعظيم اليوم هو أن تقدم رفقتها في هذا الحج عبر مسيرتها فيه. نحن نعرف الله، ليس فقط عبر فهمنا، بل أيضًا عبر إرادتنا وفي قلبنا. لذا فإن معرفة الله، ومعرفة المسيح، هي سبيل يتطلب التزام كياننا بأسره.

العاشر من نوفمبر

عقلانية الإيمان والكنيسة

بمعزل عن الله، لا يستطيع العالم أن يكون نيرًا، والكنيسة تخدم العالم انطلاقًا من الله الذي يعيش فيها، ومن شفافيتها تجاهه، وعبر تقديمه للعالم. وبالتالي نصل أخيرًا إلى مسألة عملية جدًا: كيف يحدث هذا الأمر؟ كيف يمكننا أن نتعرف على الله، وكيف يمكننا أن نقدمه إلى الآخرين؟ أعتقد أنه للوصول إلى هذه الغاية، يجب أن تتداخل سبل عدة مختلفة. هناك أولاً الطريقة التي اعتمدها بولس في الأريوباج – الإشارة إلى الأهلية لقبول الله المكنونة في الإنسان، وعبر مناشدة العقل… هذه إحدى مهام الكنيسة اليوم: أن تنعش موضوع عقلانية الإيمان أو عدم الإيمان. الإيمان ليس مناهضًا للعقل، بل هو المحامي عنه وهو مكانته الحقة… الصراع من أجل الحضور المتجدد للعقلانية في الإيمان هو بنظري من أكثر مهام الكنيسة إلحاحًا في عصرنا. لا يجب على الإيمان أن يتقوقع على ذاته، متسترًا وراء قرار لا يقدم عنه أي تبرير؛ لا يجب أن ينكمش إلى مجرد كونه نوع من منظومة رموز، يستطيع الناس أن يشعروا من خلالها أنهم في بيتهم، ولكنها تبقى في نهاية المطاف خيارًا عشوائيًا بين العديد من وجهات النظر حول العيش والعالم. بل يحتاج الإيمان إلى مجال العقل المنفتح الواسع؛ يحتاج إلى اعتراف الإيمان بالله الخالق…  مناشدة العقل هي مهمة عظيمة بالنسبة للكنيسة، خصوصًا اليوم، لأنه حالمًا ينفصل الإيمان والعقل، يصاب كلاهما بالسقم.

الحادي عشر من نوفمبر

معاينة الحَمَل

نتسلق جبل الزمان حاملين معنا  أدوات موتنا. يبدو الهدف بعيدًا أول الأمر. لا نفكر به؛ فالحاضر يكفي… ولكن بقدر ما تطول المسيرة، بقدر ذلك يضحي السؤال ملحًا: إلى أين يؤدي؟ ما معنى كل ذلك؟ ننظر بخوف إلى علامات الموت التي لم نلحظها حتى هذا الحين، ويتصاعد الخوف في داخلنا ونتساءل عما إذا كانت الحياة شكلاً من أشكال الموت؛ وأننا إنما خُدعنا، وأن الحياة بالواقع ليست هبة بل عبئًا. ثم يأتي الجواب الغريب، "الله سيهتم"، والذي يبدو عذرًا أكثر من كونه إيضاحًا. حيثما يسيطر هذا النوع من النظرة، وحيث لا يعاد تصديق كلام "الله"، يضمحل المزاج المرح. في هذه الحالة يفقد الإنسان كل دواعي الفرح؛ فكل ما يبقى هو السخرية القاسية أو الغضب ضد الله وضد العالم الذي نحن معتادون عليه. ولكن من رأى الحمل – المسيح على الصليب – يعرف أن الله قد اهتمّ… فكل ما يمكننا أن نراه – تمامًا كإسحق – هو الحمل، الذي يقول فيه القديس بطرس أنه اختير من قبل إنشاء العالم (1 بط 1، 20). ولكن رؤية الحمل – المسيح المصلوب – هي بالحقيقة ومضة من السماوات التي أعدها لنا الله منذ الأزل. في هذا الحمل نلقي نظرة حقيقية إلى السماوات، إلى طيبة الله، التي ليست لامبالاة ولا ضعفًا بل قوة من نوع أسمى. بهذا الشكل، وبهذا الشكل فقط، نرى أسرار الخليقة ونستمع قليلاً إلى نشيد الملائكة… بما أننا نرى الحمل، يمكننا أن نضحك وأن نحمد؛ ومن خلاله نرى أيضًا كنه العبادة.

الثاني عشر من نوفمبر

الكنيسة والمجتمع

يجب على الكنيسة أن تقبل بالمسؤولية الملقاة على عاتقها تجاه المجتمع بأشكال مختلفة، أقله عبر السعي إلى توضيح هويتها؛ يجب أن تسهم في إيضاح ما يختص بالله وبالإطار الأخلاقي الناتج عن ذلك. يجب أن تكون مقنعة، لأنه فقط عبر الإقناع تستطيع أن تفسح المجال للوصول إلى ما أوكل إليها؛ وهذا السبيل يضحي ممكنًا فقط في درب الحرية، التي تعني سبيل العقل، الإرادة والعاطفة. يجب على الكنيسة أن تكون مستعدة لتتألم. يجب أن تعد الفسحة لما هو إلهي، لا عبر القوة بل عبر الروح، لا من خلال قوة المؤسسة بل من خلال الشهادة، من خلال الحب، والحياة والألم: وبهذا الشكل يجب أن تساعد المجتمع على إيجاد هويته الخلقية. إن التاريخ مطبوع بالصدام بين الحب وعدم القدرة على الحب الذي هو دمار النفس الذي ينتج عندما لا يعود الإنسان يعرف قيمًا أخرى إلا القيم والوقائع الكميّة. تختنق قدرة الحب، أي قدرة الانتظار الصبور لما ليس تحت سيطرة المرء وتقبل هذا الأمر كهبة، بسبب الإنجازات الهمجية التي لا أعتمد فيها على أحد، وحيث لست مرغمًا للخروج من ذاتي لأجد بالتالي السبيل إلى ذاتي. يولّد هذا التدمير لقدرة الحب الضجر القاتل. هذا هو تسميم الإنسان. لو أفسح المجال للإنسان ليقوم بما يريد، لدمّر نفسه والعالم معه. في هذه الدراما، يجب ألا نتردد في مواجهة كلية قدرة الكمّي، وأن نأخذ موقفًا مساندًا للحب. هذا هو الخيار الذي يتطلبه منّا الزمن الحاضر.

الثالث عشر من نوفمبر

الكنيسة حية

الكنيسة حية – وهي حية لأن المسيح حي، لأنه قام حقًا… لا يمكن أن يكون سيان عندنا أن الكثير من الناس تعيش في الصحراء. وهناك أنواع كثيرة من الصحارى. يجب على الكنيسة بأسرها مع كل رعاتها، أسوة بالمسيح، أن تقوم بإخراج الشعب من الصحراء، نحو مرتع الحياة، نحو الصداقة مع ابن الله، نحو الأوحد الذي يهبنا الحياة، والحياة بوفرة… الأمر كذلك حقًا: الغاية من حياتنا هي أن نكشف الله للآخرين. وفقط حيثما يُرى الله، تبدأ الحياة حقًا. فقط عندما نلتقي بالله الحي في المسيح يمكننا أن نعي ماهية الحياة. نحن لسنا ثمرًا عشوائيًا وتافهًا للتطور. كل منا هو ثمرة فكرة من أفكار الله. كل منا شخص مُراد، ومحبوب، وضروري. ما من شيء أجمل من أن يُفاجئ المرء بالإنجيل، باللقاء بالمسيح. ما من شيء أجمل من معرفته ومن الحديث إلى الآخرين عن صداقتنا معه… إذا ما تركنا المسيح يدخل بالكامل في حياتنا، إذا ما انفتحنا بالكلية عليه، ألا نخاف يا ترى أن يأخذ شيئًا ما منا؟ ألا نخاف أن نقدم له أمرًا هامًا، شيئًا فريدًا، شيئًا يجعل الحياة جميلة جدًا؟ ألا نخاطر عندها بأن ينتهي بنا الأمر في الانتقاص وفقدان الحرية؟ كلا! إذا ما أدخلنا المسيح في حياتنا، لا نخسر شيئًا، لا شيء، لا شيء البتة مما يجعل الحياة حرة، جميلة، وعظيمة. كلا!… فقط في هذه الصداقة نكتشف مقدرات الوجود البشري العظمى. فقط في هذه الصداقة نختبر الجمال والتحرر.

الرابع عشر من نوفمبر

الكنيسة هي شعب الله

تعني كلمة "Ekklesia" التجمع، أولئك الذين جُمعوا. تشير الكلمة بمعناها المصطلحي إلى "الجماعة"، وفي المناطق التي كانت تتكلم اليونانية كان الناس يفكرون بالمجموعات الديمقراطية القائمة في ذلك الزمان. ولكن في الاستعمال المسيحي، كانت الكلمة تشير إلى جماعة سيناء، جماعة شعب إسرائيل. بهذا الشكل تشير إلى "الذين دعوا سوية من قبل الله"، أولئك الذين اجتمعوا سوية معه، والذين هم خاصة الله ويعرفون أنه في وسطهم. الفكرة الضمنية هي أن الله اختار الكنيسة ليجعل منها ملكه الخاص في العالم، واقعًا هو خاصته بشكل مميز، الهيكل الحي. أخذ المسيحيون على محمل الجد فكرة أن الله لا يعيش في هياكل من حجر، بل أنه إله حي. فالأشخاص الأحياء حقًا والذين ينتمون له يشكلون هيكله الحق. إن تعبير شعب الله يعني أيضًا الانتماء إلى الله بشكل مميز – والعيش على أساس الإنتماء له.

الخامس عشر من نوفمبر

الله يأتي إلى البشر عبر البشر

جزء من جوهر المسيحية – وهو جزء أيضًا من مفهوم الكنيسة – هو أن علاقتنا بالله ليست مجرد علاقة داخلية، تتألف من أناي ومن أناه، بل هي أيضًا مسألة حوار، وهداية. اللقاء هو جزء من كل مسيرة إلى التوبة. والكنيسة موجودة لكي يستطيع الناس الذين بحثوا عن الباب ووجدوه أن يكونوا فيها. بين كل الأطباع المختلفة، سيكون هناك دومًا أحد ما يستطيع أن يقول لي الكلمة التي تناسبني والتي توافق حالتي. كأشخاص بشريين، نحن موجودون لكي ما يستطيع الله أن يأتي إلى البشر عبر بشر آخرين. فهو يأتي دومًا إلى الأشخاص عبر أشخاص آخرين. ونحن أيضًا يجب أن نأتي إليه عبر الآخرين الذين يقودهم، والذين يلتقي بنا من خلالهم ويفتح لنا ذاته. إذا كان بإمكاننا أن نرفع أنفسنا إلى تلك الدرجة السامية فقط عبر قراءة الكتاب المقدس، فلن تكون المسيحية إلا حركة فلسفة أخرى، دون عنصر الجماعة الذي هو عنصر حيوي جدًا في الإيمان.

 

السادس عشر من نوفمبر

الألفة الإفخارستية

ليست الألفة الافخارستية في الكنيسة تجمعًا تنشأ فيه الرفقة عبر تخفيض العنصر الجامع المشترك، بل تتولد الألفة إذا ما كان كلٌ منا ذاته. لا تقوم على قمع الذات، على الجماعية، بل تنشأ من خلال التزامنا بكل كياننا للدخول في رفقة جديدة مع الرب. هذا هو السبيل الوحيد لكيما ينشأ شيء أكبر من التجمع؛ السبيل الوحيد للوصول إلى موقف صحيح من التفات أحدنا إلى الآخر، وصولاً إلى الجذور وإلى القلب، وإلى أعلى مستوى في الشخص البشري… ما نتقبله هو شخص. ولكن هذا الشخص هو الرب، يسوع المسيح، الإله والإنسان معًا… نحن معرضون لخطر أن نرى الإنسان يسوع فقط، وأن ننسى أننا عندما نتلقاه جسديًا، نكون في الوقت عينه على اتصال بالله الحي. ولكن، بما أن الأمر كذلك، فالمناولة هي دومًا وفي الوقت عينه سجود.

السابع عشر من نوفمبر

المناولة والسجود

في كل حب بشري أصيل عناك عنصر الانحناء أمام الكرامة التي يسبغها الله على الآخر، الذي هو صورة الله. حتى الحب البشري الأصيل لا يمكن أن يعني أن الآخر هو بكليته لنا وأننا نملكه؛ بل هو يتضمن تقديرنا واعترافنا بأن هناك شيء سامٍ وفريد في هذا الآخر، ولا يمكننا أبدًا أن نملكه بالكلية، ويتضمن انحناءنا واتحادنا به. في تناولنا المسيح نصل إلى بعد جديد، لأن علاقتنا به تذهب لا محالة أبعد من العلاقات البشرية. تشرح كلمة الله، التي هي بمثابة "نديم" لنا، الكثير عن الله، ولكنها مع ذلك تبقي الكثير من الأشياء غير المكشوفة. فنحن على أرضية مختلفة. المسيح هو الآخر بالكلية؛ مع المسيح، تأتي جلالة الله الحي إلينا. واتحادنا به يعني إخضاع نفوسنا وانفتاحنا على عظمته… يقول أغسطينوس في عظة إلى من يتقرب من المناولة المقدسة: ما من أحد يستطيع أن ينال المناولة دون أن يقوم بالسجود أولاً… يثير الدهشة ما يُخبَر عن رهبان دير كلوني نحو العام 1000 للمسيح. فكل مرة كانوا يذهبون إلى المناولة، كانوا يخلعون نعالهم من رجليهم. كانوا يعرفون أن العليقة المتقدة هي هناك، السر الذي ارتمى أمامه موسى راكعًا في الصحراء، هو حاضر هنا. قد تتغيّر الهيكلية، ولكن ما يبقى هو روح العبادة، الذي يعني فعلاً أصيلاً من الخروج من الذات، التناول، وتحرير ذواتنا من ذواتنا، وبالتالي اكتشاف الألفة البشرية.

 

الثامن عشر من نوفمبر

شلل الخطيئة

الرجل المخلع هو صورة عن كل إنسان تمنعه الخطيئة من التحرك بحرية، ومن المسير في سبيل الخير، ومن تقدمة أفضل ما في ذاته. بالواقع، عبر تجذره في النفس، يقوم الشر برَبْط الإنسان برُبُط الكذب، والغضب، والحسد، وغير ذلك من الخطايا التي تشلّ الإنسان تدريجيًا. ولذا قال يسوع أولاً، مشككًا الكتبة الحاضرين: "… مغفورة خطاياك". ثم بعد ذلك، لكي يبين سلطان غفران الخطايا الذي أعطاه إياه الآب قال: "قم! احمل سريرك واذهب إلى بيتك" (مر 2، 11)، شافيًا الرجل بالكامل. الرسالة واضحة: يحتاج البشر الذين شلّتهم الخطيئة إلى رحمة الله التي أتى المسيح لكي يهبها لهم، حتى يشفي قلوبهم، فتتمكن حياتهم بأسرها أن تزهر من جديد. اليوم أيضًا، تعاني البشرية من آثار الخطيئة التي تمنعها من السير قدمًا نحر قيم الأخوّة، والعدالة والسلام والتي التزمت بممارستها عبر تصريحات رسمية. لماذا؟ ما الذي يمنعها من تحقيق مأربها؟ ما الذي يعيق هذا النمو المتكامل؟ نحن نعرف أن هناك أسباب تاريخية كثيرة لهذا الأمر وهذه مسألة معقدة. ولكن كلمة الله تدعونا لكي ننظر نظرة إيمان وأن نثق، مثل الأشخاص الذين كانوا يحملون المخلع، بأن يسوع وحده هو قادر على الشفاء الحق… وحده حب الله يستطيع أن يجدد القلب البشري، وفقط إذا ما قام بشفاء قلب البشرية المخلعة تستطيع هذه الأخيرة أن تقوم وتمشي. إن حب الله هو القوة الحقيقية التي تجدد العالم.

التاسع عشر من نوفمبر

شركة الكنيسة

الكنيسة، كجماعة قائمة حول ابن الله الذي أتى بالجسد، ستبقى على مدى الأجيال، تبني وتغذي الشركة في المسيح وبالروح القدس التي دعينا جميعًا إليها والتي نستطيع من خلالها أن نختبر الخلاص الذي يهبه الآب. هذه الحياة في ألفة مع الله ومع الآخرين هي الهدف من التبشير بالإنجيل، الهدف من الارتداد إلى المسيحية. فحيث يتم تدمير الشركة مع الله، التي هي شركة مع الآب والابن والروح القدس، تتحطم ركيزة الشركة بين بعضنا البعض كبشر. وحيث لا نعيش الشركة سوية، لا تكون الشركة مع الإله الثالوث حيةً أو حقيقية. الشركة هي هبة ذات نتائج ملموسة جدًأ. فهي ترفعنا من العزلة، ومن الانغلاق على ذواتنا، وتجعلنا شركاء في الحب الذي يوحد الله بنا وأحدنا بالآخر. من السهل أن نفهم عظمة هذه الهبة إذا ما فكرنا بالتفكك والتوتر الذي يصيب العلاقات بين الأفراد والجماعات والشعوب كلها. "الشركة" هي بحق البشرى السارة، العلاج الذي يهبنا اللهُ لكي نحارب الوحشة التي تهدد كل إنسان اليوم، الهبة الثمينة التي تجعلنا نشعر بأن الله يحبنا ويرغب أن نكون في وحدة شعبه المجتمع باسم الثالوث الأقدس. وبالتالي، فإن الكنيسة، بالرغم من كل الضعف البشري الذي يطبع وجهها التاريخي، تظهر كخليقة الحب الرائعة، والتي خُلقت لكي تحمل المسيح إلى كل رجل وامرأة يتمنى حقًا أن يلتقي به… حتى انقضاء الدهر.

العشرون من نوفمبر

المعنى العميق للكهنوت

الإيمان بيسوع، ابن الله الحي، هو السبيل الذي من خلاله نستطيع مرارًا وتكرارًا أن نمسك يد يسوع ويأخذنا هو بيدنا ويقودنا. الرب يجعل منا نحن الكهنة أصدقاءه؛ يوكل إلينا كل شيء؛ يوكل إلينا ذاته، لكي نستطيع أن نتصرف وكأننا شخصه – in persona Christi capitis. يا لها من ثقة! لقد أسلم ذاته حقًا في أيدينا. لا أدعوكم عبيدًا بل أصدقاء. هذا هو المعنى العميق للكهنوت: أن نضحي أصدقاء يسوع المسيح. ولأجل هذه الصداقة يجب علينا أن نكرس ذواتنا من جديد كل يوم. هذا يعني أنه يجب علينا أن أن نتعرف على يسوع بشكل شخصي أكثر فأكثر، عبر الإصغاء إليه، والعيش معه والإقامة معه. نواة الكهنوت هي أن نكون أصدقاء يسوع المسيح. بهذا الشكل فقط يمكننا أن نتكلم بشخص المسيح حقًا (in persona Christi)، حتى ولو أن بعدنا الداخلي عن يسوع المسيح لا يستطيع أن يبطل فعالية السر. أن نكون أصدقاء المسيح، أن نكون كهنة، يعني أن نكون رجال صلاة. بهذا الشكل يمكننا أن نتعرف عليه وأن نتخلص من جهل الخدام البسطاء. وهكذا نتعلم أن نعيش، أن نتألم وأن نتصرف معه ولأجله. أن نكون كهنة يعني أن نضحي أصدقاء يسوع المقربين بكل كياننا. العالم يحتاج إلى الله – إلى إله يسوع المسيح، الإله الذي صار لحمًا ودمًا، والذي أحبنا حتى بذل ذاته لأجلنا، وقام وأقام في ذاته مكانًا لكل إنسان. يجب أن يعيش هذا الإله فينا ونحن فيه. هذه هي دعوتنا الكهنوتية: بهذا الشكل فقط يمكن لأفعالنا ككهنة أن تأتي بثمر. لقد أخذ يسوع جسدًا؛ فلنهب له أجسادنا. بهذا الشكل يمكنه أن يأتي إلى العالم وأن يحوله.

الحادي والعشرون من نوفمبر

إمكانية الحب

 يظهر يسوع أن حب القريب الذي يتحدث عنه الكتاب المقدس هو ممكن. وهو يتكون من أنني، في الله ومعه، أستطيع أن أحب من لا يروقني، وحتى من لا أعرف.  وهذا الأمر ممكن فقط على أساس لقاء حميمي مع الله، لقاء يضحي شركة إرادتين، وله تأثيره على عواطفي. ثم أتعلم أن أنظر إلى الآخر ليس فقط بواسطة عيناي ومشاعري، بل من وجهة نظر يسوع المسيح. صديقه هو صديقي. عبر ذهابي أبعد من المظاهر الخارجية، أكتشف في الآخرين توقًا باطنيًا إلى بادرة حب واهتمام. وهذا ما أستطيع أن أقدم لهم ليس فقط عبر منظمات تعنى بهذه الغايات، متقبلاً الأمر كضرورة سياسية. عبر تطلعي من خلال عيني يسوع، أستطيع أن أقدم للآخرين أكثر بكثير مما يحتاجونه خارجيًا؛ يمكنني أن أقدم لهم نظرة الحب التي يتعطشون إليها… إذا لم يكن لدي تواصل من أي نوع مع الله في حياتي، لا يمكنني أن أرى في الآخر غير هذا الآخر، ولن أستطيع أن أرى فيه صورة الله. ولكن إذا فشلت أن أعير الآخرين اهتمامًا في حياتي، وذلك فقط رغبة في أن أكون "تقيًا" وأن أقوم بـ "واجباتي الدينية"، فستصاب علاقتي بالله بالجفاف. ستضحي علاقة "دقيقة" ولكن خالية من الحب. فقط عبر جهوزيتي للقاء قريبي وللتعبير عن الحب له أستطيع أن أحافظ على إحساسي نحو الله. فقط إذا ما خدمت قريبي ستنفتح عيناي على ما يفعله الله لأجلي وعلى مقدار حبه لي.

الثاني والعشرون من نوفمبر

التسبيح والموسيقى

يقول القديس توما الأكويني أنه عبر تسبيح الله يرتقي الإنسان نحو الله. التسبيح هو الحركة والسبيل؛ هو أكثر من الفهم، ومن المعرفة ومن الفعل – إنه "ارتقاء"، طريقة للوصول إلى ذلك الذي يقيم في قلب تسابيح الملائكة. ويشير توما إلى عامل آخر: يجذب هذا الارتقاء الإنسان بعيدًا عما يناقض الله. كل من اختبر ولو لمرة القوة المحولة التي تتحلى بها الليتورجية العظيمة، والفن العظيم، والموسيقى العظيمة يعي هذا الواقع. ويضيف توما أن نغم التسبيح الموسيقي يقودنا والآخرين إلى حس الرهبة. يوقظ فينا الإنسان الداخلي، تمامًا كما خبر أغسطينوس ذلك في ميلانو. بالنسبة لأغسطينوس الأكاديمي، الذي بدأ بتقدير المسيحية كفلسفة ولكنه كان يجد صعوبة في قبول الكنيسة لأنها كانت تبدو له مليئة بالسوقية، كان الاتصال مع الكنيسة المرنمة الخبرة الصاعقة، التي تغلغلت في كامل شخصه، وقادته قدمًا في السبيل نحو الكنيسة. من وجهة النظر هذه، يحوز البعد الآخر – أي تحريض الآخرين على تسبيح الله – معناه وعقلانيته، وخصوصًا عندما نتذكر ما معنى "التربية" بالنسبة للأقدمين، أي هداية المرء إلى طبيعته الحقيقية، كعملية فداء وتحرير.

الثالث والعشرون من نوفمبر

الدينونة والرجاء

خلافًا لتوقعاتنا، ليس الله، اللامتناهي، المجهول والأزلي الذي يديننا ببساطة. بل على العكس، لقد أوكل الحكم إلى ذلك الذي هو أخينا كإنسان. لا يديننا شخص غريب، بل ذاك الذي عرفناه بالإيمان. لن يتقدم القاضي ليلاقينا كغريب، بل كواحد منا، كمن يعرف وجودنا البشري ومن الداخل وعانى آلامه. وبالتالي يشرق على الدينونة فجر الرجاء؛ فهو ليس فقط يوم الغضب بل أيضًا مجيء الرب الثاني. نذكر هنا الرؤية العظيمة للمسيح التي تفتتح كتاب سفر الرؤيا (1، 9 – 19): ينهار الرائي أرضًا وكأنه ميت في حضرة ذلك الكائن الجبار. ولكن الرب يلمسه بيده ويقول له كما خاطبه عندما كانوا يجتازون بحيرة جناشر في الريح والعاصفة: "لا تخف، أنا هو" (1، 17). رب القوات هو يسوع والرائي كان يومًا صديقه في الإيمان. إن فقرة قانون الإيمان المتعلقة بالدينونة تنقل إلينا هذه الفكرة بالضبط في لقائنا بقاضي الكون. في يوم الخوف ذلك، سيستطيع المسيحي أن يرى بعجب مغبوط ذلك الذي "أعطي كل سلطان في الأرض والسماء" (متى 28، 18) كان رفيق درب الإيمان في أيامه على الأرض، كما ولو أن يسوع، عبر كلمات قانون الإيمان، يضع يديه على المسيحي ويقول: لا تخف، هذا أنا. لربما الطريقة الأجمل للإجابة على معضلة الترابط بين العدل والرحمة هي الفكرة القائمة في بند إيماننا.

الرابع والعشرون من نوفمبر

نظرة المسيح إلى العالم

حَتَّى الآن، مازالت "نظرة" يسوعَ الشفوقةِ تتجِهُ إلى الناسِ والشعوب. هو يُراقبُهم، مدركاً بأنّ "خطةَ" الله لهم تَتضمّنُ الدعوة للخلاص. يَعْرفُ يسوعُ الأخطارَ التي تهدِّدُ هذه الخطةِ، وهو يمتلأُ بالشفقةِ على الجموع. يُقرِّرُ الدِفَاع عنهم ضدّ الذئابِ حتى ببذلِ حياتِه. بهذهِ النظرةُ يعانقُ يسوعُ الأفرادَ والجماعات، ويستودعُهم بين يدي الآب جاعلاً من نفسِهِ ذبيحةَ تكفيرٍ. بينما تستنيرُ الكنيسةُ بهذه الحقيقةِ الفصحيّة، تُدركُ بأنّه إذا ما أردنا أن نعمل لأجلِ التطويرِ بملئهِ، يجب على "نظرتنا" الخاصة للبشريةِ أَنْ تُقاسَ بحسب نظرةِ المسيحِ لها. في الحقيقة، يَستحيلُ الفَصْلُ بينَ الإستجابةِ لحاجاتِ الناسِ الماديةِ والإجتماعيةِ وتحقيقِ رغباتِ قلوبهم العميقةِ.  يَجِبُ علينا تأكيدُ هذا بدرجةٍ أكبر في عالمِ اليومِ المتسمِ بالتغييرِ السريعِ، الذي فيه نحسُّ بشكلٍ طارئ وحيوي بمسؤوليتنا نحو فقراءِ هذا العالم. "نظرةُ" المسيحِ للجموعِ تَدْفعُنا لتَأكيدِ المحتوى الحقيقيِ لـ "مذهب الإنسانيّة الكامل" الكامن في تطوير كامل الإنسان وكُلّ البشر. لهذا السبب، لا تكمُنُ المساهمةُ الأساسيةُ التي تعرضها الكنيسةُ لتطويرِ البشريةِ والناسِ في مجرّدِ الوسائلِ الماديةِ أَو الحلولِ التقنيةِ. بل بالأحرى، في إعلانَ حقيقةِ المسيح، الذي يُربي الضمائرَ ويُعلّمُ الكرامةَ الأصيلةَ للشخصِ وللعملِ؛ وذلك بالترويج لثقافةٍ تجيبُ على كُلّ أسئلة الإنسان.

الخامس والعشرون من نوفمبر

المسيح الملك

ما يلفت الانتباه هو أن الله انصاع لرغبة إسرائيل بأن يكون له ملكًا، لا بل قدم لهذه الملوكية إمكانية أن تتجدد وأن تتحقق. كان يسوع ابن داود الملك. لقد دخل الله الجنس البشري بواسطته واعتنق قضية الجنس البشري فيه. إذا ما نظرنا إلى المسألة عن كثب، يمكننا أن نرى أنها الطريقة الأساسية لعمل الله مع البشرية. فهو لا يملك مشروعًا قاسيًا ينبغي أن يحققه بأي ثمن. على العكس، يملك سبلاً عديدة للبحث عن الإنسان ولإيجاده. وهو يستطيع أن يحول سبل الإنسان المعوجة إلى سبل تقود إليه. وهذا الأمر واضح، على سبيل المثال، في خبرة آدم، الذي جعلت خطيئته خطيئة سعيدة في آدم الثاني، المسيح، وهو أمر يتكرر ويتحقق في كل طرق التاريخ البشري المعوجة. هذه هي ملوكية الله – ملكوت حب يسعى طالبًا الإنسان ويجده بأشكال متجددة دومًا. بالنسبة لنا، هذا الأمر يعني ثقة لا تتزعزع. الله يسود علينا كملك، بل أكثر من ذلك هو يسود على كل منا بمفرده. لا يجب على أحد أن يرهب أو أن يخاف. من الممكن دومًا أن نجد الله. ويجب على أسلوب حياتنا أن يكون كذلك – يجب أن نكون دومًا على استعداد، وألا نبقي أحدًا خارجًا، وأن نحاول مرارًا وتكرارًا أن نلاقي الآخرين بقلب منفتح. ليست مهمتنا الأهم أن نحقق ذواتنا، بل أن نكون دومًا مستعدين للانطلاق نحو الله ونحو الآخرين. عيد المسيح الملك بالتالي ليس عيد الخنوعين، بل هو عيد أولئك الذين يعون بأنهم في أيدي ذلك الذي يكتب مستقيمًا على خطوط معوجة.

السادس والعشرون من نوفمبر

أتباع الملك

يسوع الناصري، ابن النجار المصلوب، هو جوهريًا الملك لدرجة أن لقب "ملك" صار اسمه الشخصي. عبر تسمية ذواتنا "مسيحيين"، نحن نعرف عن أنفسنا كأتباع الملك، كشعب يعترف به كملكه. ولكننا نستطيع أن نفهم معنى ملوكية يسوع المسيح فقط إذا ما تتبعنا أصولها في العهد القديم، حيث نكتشف أمرًا مفاجئًا. من الواضح أن الله لم يرد أن يكون لإسرائيل مملكة. فالمملكة كانت ثمرة تمرد إسرائيل على الله وعلى أنبيائه، وكارتداد عن إرادة الله الأولية. كان يحب على الشريعة أن تكون ملك إسرائيل، ومن خلال الشريعة أن يكون الله بالذات الملك… ولكن إسرائيل حسد الشعوب المجاورة وملوكها الأقوياء… وللمفاجئة، خضع الله لإصرار إسرائيل وأقام نوعًا جديدًا من الملوكية له. ابن داود، الملك، هو يسوع؛ وفيه دخل الله البشرية وتزوجها… لا يملك الله مشروعًا ثابتًا يتوجب عليه تحقيقه، بل على العكس، لديه سبل عديدة ومختلفة لإيجاد الإنسان وحتى لتحويل سبله السيئة إلى سبل جيدة. يمكننا أن نعاين هذا الأمر، على سبيل المثال، في حالة آدم، الذي أضحت سقطته سقطة سعيدة، ونرى الأمر عينه في كل سبل التاريخ المعوجة. هذه هي إذًا ملوكية الله – حب منيع وقدرة خلاقة تجد الإنسان في أشكال متجددة دومًا… ملوكية الله تعني أنه يجب علينا أن نثق به ثقة وطيدة… ما من داعٍ للخوف أو للاضطراب. يمكننا دومًا أن نجد الله.

السابع والعشرون من نوفمبر

الخلاص ووحدة الخير

السماء تبدأ على الأرض. الخلاص في العالم الآتي يتطلب حياة بارة في هذا العالم. ولذا لا يستطيع المرء أن يتساءل عمن سيذهب إلى السماء كما لو أن هذا الأمر سيجيب عن مسألة السماء. يجب أن نتساءل عن ماهية السماء وعن كيفية مجيئها إلى الأرض. يجب على الخلاص المستقبلي أن يترك علامته في طريقة العيش التي تجعل الإنسان "إنسانيًا" هنا وبالتالي قادرًا على التواصل مع الله… يبدأ الخلاص عندما يضحي الإنسان بارًا في هذا العالم – الأمر الذي يتضمن دومًا قطبي الفرد والمجتمع. هناك أنواع من التصرفات التي لا تستطيع أن تفيد أبدًا في نمو الإنسان في البرارة وأمور أخرى هي دومًا جزء من برارة الإنسان. هذا يعني أن الخلاص لا يقوم في الأديان بحد ذاتها، بل هو مرتبط بها، بقدر ما تقود هذه الاديان الإنسان نحو الخير، نحو البحث عن الله، نحو الحق ونحو الحب. وبالتالي فإن مسألة الخلاص تحمل دائمًا في طياتها عناصر من نقد الدين، أو بالمقابل، يمكنها أن تبني علاقة إيجابية مع الأديان. على كل حال، هي ترتبط بوحدة الخير، بوحدة ما هو حق، باتحاد الله والإنسان.

الثامن والعشرون من نوفمبر

الحياة الأبدية

ليست الحياة الأبدية فقط ما يأتي لاحقًا، أمرًا لا يمكننا أن نحيطه بأي مفهوم. الحياة الأبدية هي نوعية وجود جديدة، ويمكنها أن تكون حاضرة في وسط الحياة الأرضية وفي وقتيتها الجارية كأمر متجدد ومختلف وأعظم، ولو كان بشكل ناقص ومشرذم. ولكن الخط الفاصل بين الحياة الأبدية والوقتية ليس أبدًا ذا طبيعة زمنية وحسب: كما ولو أن السنوات قبل الموت هي ذات طابع مؤقت؛ والزمن الذي لا ينتهي بعد ذلك هو الأبدية – كما نعتقد عادة. بما أن الأبدية ليست مجرد زمن لا متناهي بل هي بعد وجودي جديد، وبالتالي فإن التمييز الزمني لا يمكن أن يكون صحيحًا. الحياة الأبدية إذًا هي في وسط الزمان في كل مرة نلتقي بالله وجهًا لوجه؛ عبر تأمل الله الحي، يمكنها أن تضحي مثل ركيزة النفس المتينة. أسوة بحب كبير، لا يمكن لأحد أن ينتزعها منا مهما تغيرت الأحوال وتبدلت؛ لا بل هي قلب لا يفسد ومنه تنبع شجاعة وفرح الاستمرارية، حتى عندما تكون الأحوال الخارجية مؤلمة وصعبة… عندما يلمس الله نفس الإنسان يتعلم الإنسان أن يرى… يقول الرب في إنجيل يوحنا: "هذه هي الحياة الأبدية، أن يعرفوك، أنت الإله الحق، ويعرفوا يسوع المسيح الذي أرسلته" (يو 17، 3)… حيثما يتم هذا اللقاء، فهناك الحياة الأبدية. الخط الفاصل بين الحياة الزمنية والحياة الأبدية يمر في وسط الحياة الزمنية.

التاسع والعشرون من نوفمبر

كيفية إدراك معنى الأبدية

الحياة الأبدية هي أسلوب عيش في وسط حياتنا الأرضية لا يمسها الموت لأنها تصل أبعد من الموت. الحياة الأبدية هي في وسط زمننا. إذا ما عشنا بهذا الشكل، فرجاء الألفة الأبدية مع الله سيضحي انتظارًا يميز وجودنا، لأن جزءًا من واقعه ينمي فينا، ويحولنا جماله من الداخل. وعليه، يضحي واضحًا أن ما من أثر للأنانية في هذا اللقاء وجهًا لوجه بالله، بل هناك خبرة التحرر من الذات، وهذا هو معنى الأبدية. إن تسلسلاً لا متناه من اللحظات لهو أمر لا يحتمل؛ عندما يتركز وجودنا في نظرة حب واحدة، يتحول اللامتناهي إلى الأبدية، إلى يوم الله؛ وفي الوقت عينه، هي تعني رفقة جميع من تقبلهم ذلك الحب. في ملكوت ابن حبه – كما قال يوحنا فم الذهب يومًا – لا توجد "كلمات باردة مثل ‘خاصتي‘ أو ‘خاصتك‘" لأننا نشترك جميعنا في حب الله، وننتمي أحدنا للآخرين. عندما يكون الله كلاً في الكل، فنحن جميعنا في كل واحد منا وكلنا في ذواتنا، ونشكل جسدًا واحدًا، جسد المسيح، الذي فيه يكون فرح كل عضو فرح جميع الأعضاء، تمامًا كما أن ألم كل عضو هو ألم الجميع… الحياة الأبدية، التي تبدأ في الشركة مع الله هنا والآن، تأخذ هذا الـ "هنا والآن" وترفعه إلى محيط الواقع الحق، الذي لم يعد جزءًا متقطعًا من نبع الحياة.

 الثلاثون من نوفمبر

الله يعانقنا من العلاء

شركة الحياة مع الله، الحياة الأبدية في صلب الحياة الزمنية، هي ممكنة لأن الله يعيش معنا: المسيح هو الله الكائن هنا معنا. في المسيح يكرس لنا الله وقتًا؛ المسيح هو وقت الله المكرس لنا وبالتالي في الوقت عينه، هو انفتاح الزمن على الأبدية. لم يعد الله الإله البعيد والمجهول الذي لا يمكن الوصول إليه؛ لقد بات الله في متناولنا: جسد ابنه هو الجسر لنفوسنا؟ من خلاله، تمتزج علاقة كل إنسان بالله بعلاقة المسيح بالآب، بحيث لا تصبح التفاتتنا إلى الله مسألة إشاحة طرفنا عن الآخرين وعن العالم، بل عبارة عن اتحاد نظرتنا وكياننا بنظرة الابن الفريدة وبكيانه الواحد. بما أنه انحدر إلى أعماق الأرض (أف 4، 9)، لم يعد الله الإله المتسامي بعيدًا في العلاء، بل أضحى الإله الذي يعانقنا من العلاء، من أسفل، ومن الداخل: هو كل في الكل، وبالتالي كل الكل هو خاصتنا: "كل ما هو لي هو لكم". بدأ كيان الله "كلاً في الكل" مع تخلي المسيح في الصليب عن كل ما هو خاصته. وسيصل هذا الأمر إلى التمام عندما سيسلم الابن الملكوت أخيرًا إلى الآب، أي البشرية التي جمعها في ذاته والخليقة بأسرها (1 كور 15، 28). لهذا السبب، فإن البعد الفرداني المحض في النفس المفردة لا يعود موجودًا، لأن "كل ما هو لي هو لكم".