"ما من تعارض بين فهم الإيمان للخلق ودليل العلوم التجريبية"
حاضرة الفاتيكان، 9 نوفمبر 2008 (Zenit.org).
ننشر في ما يلي النص الكامل للكلمة التي ألقاها بندكتس السادس عشر بتاريخ 31 أكتوبر أمام المشاركين في الجمعية العامة للأكاديمية الحبرية للعلوم.
***
سيداتي وسادتي الأجلاء،
يسعدني أن أحييكم، أنتم أعضاء الأكاديمية الحبرية للعلوم، بمناسبة عقد جمعيتكم العامة، وأشكر الأستاذ نيكولا كابيبو على الكلمات اللطيفة التي وجهها إلي بالنيابة عنكم.
إنكم باختياركم لموضوع "المقاربة العلمية حول تطور الكون والحياة"، تسعون إلى التركيز على مجال بحث يثير اهتماماً كبيراً. وفي الواقع، يتمنى العديد من معاصرينا اليوم التفكير حول مصدر الكائنات الأساسي، وعلة وجودها وموتها، ومعنى التاريخ البشري والكون.
في هذا السياق، تبرز بالطبع أسئلة حول العلاقة بين قراءة العلم للعالم، والقراءة التي يقدمها الوحي المسيحي. لقد أشار سلفاي البابا بيوس الثاني عشر والبابا يوحنا بولس الثاني أنه ما من تعارض بين فهم الإيمان للخلق ودليل العلوم التجريبية. والفلسفة في مراحلها الأولى اقترحت صوراً لتفسير مصدر الكون على أساس عنصر واحد أو أكثر من العالم المادي. هذا التكوين لم يُعتبر كخلق، بل كتحول أو تغير، كما استلزم نوعاً من التفسير الأفقي لأصل العالم. أما التقدم الحاسم في فهم مصدر الكون فكان التفكير بعلم الكينونة واهتمام الماورائيات بالسؤال الأساسي عن المصدر الأول أو المبهم للوجود. وبغية التقدم والتطور، يجب أن يكون العالم أولاً، ومن ثم أن يكون قد نشأ من العدم. بمعنى آخر، يجب أن يكون قد خلقه الكائن الأول في الجوهر.
والقول بأن أساس الكون وتطوراته هو حكمة الخالق المدبرة لا يعني بأن الخلق متعلق فقط ببداية تاريخ العالم والحياة. إنه يتضمن بالأحرى أن يؤسس الخالق هذه التطورات، ويدعمها، ويقويها على الدوام. وقد علم توما الأكويني أن فكرة الخلق يجب أن تسمو فوق المصدر الأفقي لتجلي الأحداث التي تشكل التاريخ، وبالتالي فوق جميع الطرق الطبيعية المجردة لتفكيرنا وحديثنا حول تطور العالم. ورأى توما أن الخلق ليس حركةً ولا تغيراً، بل هو العلاقة الأساسية والمستمرة التي تربط الخليقة بالخالق، لأنه سبب كل وجود وكل مصير ( الخلاص اللاهوتية – cfr. Summa theologiae, I, q. 45, a.3).
إن "التطور" يعني قراءة كتاب. وإن صورة الطبيعة ككتاب لها جذورها في المسيحية، وهي عزيزة عند العديد من العلماء. فقد رأى غاليله في الطبيعة كتاباً خطه الله بالطريقة عينها التي يعتبر بها الله كاتب الكتاب المقدس. إنها كتاب نقرأ تاريخه، وتطوره، و"كتابته"، ومعناه، وفقاً لمختلف مقاربات العلوم، فيما نفترض دوماً الحضور الأساسي للكاتب الذي تمنى أن يُظهر نفسه فيه. كما تساعدنا هذه الصورة على الفهم بأن العالم، الذي لم ينشأ عن فوضى، شبيهٌ بكتاب منظم، وهو كون. وعلى الرغم من ظهور عناصر غير منطقية، فوضوية، ومدمرة، خلال عملية التغيير في الكون، إلا أن المادة بذاتها "سهلة القراءة"، إذ أنها عبارة عن رسم حسابي داخلي. لذلك، فإن العقل البشري يمكنه الالتزام ليس فقط في "علم مظهر الكون" بدراسة المظاهر القابلة للقياس، لا بل أيضاً في "علم الكونيات" بتمييز المنطق المرئي الداخلي للكون. وربما لا نقدر أولاً على إدراك تناغم المجموعة الكاملة ، وتناغم العلاقات بين الأجزاء المستقلة، أو علاقتها بالمجموعة الكاملة. مع ذلك، توجد دوماً سلسلة واسعة من الأحداث الجلية التي تظهر بأن العملية عقلانية من خلال كشفها عن نظام من التشابهات الجلية والحقائق التي لا يمكن إنكارها: في العالم غير العضوي بين البنية المجهرية والبنية بالعين المجردة؛ في العالم العضوي وعالم الحيوانات بين البنية والوظيفة؛ وفي العالم الروحي بين معرفة الحقيقة والتوق إلى الحرية. إن البحث التجريبي والفلسفي يكتشف تدريجياً هذه الأنظمة، ويدركها تعمل على الحفاظ على وجودها، وتدافع عن نفسها ضد فقدان التوازن، وتتخطى العوائق. وبفضل العلوم الطبيعية، ازداد فهمنا للطابع الفريد للمكانة التي تحتلها البشرية في الكون.
إن التمييز بين مجرد كائن حي وكائن روحي قادر على قبول الله (capax Dei)، يشير إلى وجود النفس العقلانية وكائن حر متسامي. ولطالما أكد تعليم الكنيسة على أن "كل نفس روحية يخلقها الله فوراً – ولا ينتجها الأهل – وهي خالدة" (راجع "تعليم الكنيسة الكاثوليكية، 366). وهذا الأمر يشير إلى ميزة علم الإنسان، ويدعو إلى اكتشافه بفكر حديث.
أيها الأكاديميون الموقرون، أود أن أختم بالتذكير بالكلمات التي وجهها إليكم سلفي البابا يوحنا بولس الثاني في نوفمبر 2003: "إن الحقيقة العلمية التي تشكل بذاتها مشاركة في الحقيقة الإلهية، يمكنها مساعدة الفلسفة واللاهوت على الفهم الكامل للإنسان، ووحي الله عن الإنسان، الوحي الذي يكتمل ويتم بيسوع المسيح. كما أشعر بالامتنان العميق مع الكنيسة جمعاء لهذا الإغناء المشترك والمهم في البحث عن الحقيقة ومساعدة البشر".
أتضرع من كل قلبي إلى الله من أجل أن يمنح بركات الحكمة والسلام، لكم ولعائلاتكم، ولجميع الملتزمين بالعمل مع الأكاديمية الحبرية للعلوم.
نقلته من الإنكليزية إلى العربية غرة معيط – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.