الوالي الروماني أمام المسيح الملك

       ليست مملكتي من هذا العالم
المظاهر خادعة في هذه المرة أيضاً! يبدو للعيان أن ناصرياً مسكيناً كادحاً رث الثياب ضعيف البنية متّهم  بأخطر تهمة وهي "اهانة الجلالة" القيصرية الامبراطورية أي طيباريوس سيّد "الدنيا (وهي روما الوثنية) والمعمور" يقف ذليلاً مكبّلاً –هكذا يبدو- أمام أو "بين يدي" الوالي الروماني الشامخ وهو "المندوب السامي" لقيصر أي الحاكم بيلاطوس. وفي الواقع يتألق سموّ الناصريّ ويأفل نجم الروماني منذ أول اللقاء. ويدوّن التاريخ غلبة الضعيف وانتصار الفقير ونهاية روما الوثنية الى غير رجعة واعتناق أهل الامبراطورية للمسيح الملك المتوّج بالشوك والمعتلي الصليب عرشاً.

 بونطيوس بيلاطوس في الانجيل الطاهر والتاريخ

هذه المرّة أيضاً، تأتي الوثائق التاريخية لتثبت صحّة الكتاب المقدّس وملاءمته للمعطيات الكونية من تاريخية وجغرافية وطوبوغرافية وثقافية وروحانية. الشخصية التي نحن في صددها هي الوالي الروماني بونطيوس بيلاطوس (ومن الاخطاء الشائعة تسميته "بيلاطس البنطي" كأنه من اقليم بونطوس، بما أن بونطيوس اسمه الشخصي). أمّا لقب "بيلاطوس" فمن لفظة "بيلوم" اي "الرمح" أو "حامل الرمح"، وهو لقب شرف أنعمت به الامبراطورية على بونطيوس أو على أحد آبائه أو أجداده، كما يكتب ارنست رينان، في مؤلّفه "أصول المسيحية"، "حياة يسوع"، مستشهداً بابلوطرخس حياة رومولوس، 29، وبالشاعر فرجيايوس في "الانياذة" 21، 121. ويذكر بيلاطوس كل من فيلون الفيلسوف اليهودي الاسكندري والمؤرخ اليهودي الروماني فلافيوس يوسيفوس (في "العاديات") والروماني الوثني المؤرخ "تاشيتوس" أو "تاقيثوس" في كتاب "الحوليات" (15، 44). وهذا ما يكتبه بالحرف الواحد: "المسيحيون: يأتيهم هذا الاسم من كريستوس (اي السميح) الذي أسلمه الوالي بونطيوس بيلاطوس للعذاب (أي الصلب) في عهد (الامبراطور) طيباريوس. تم قمع تلك البدعة البغيضة الى حين، ولكنها عادت الى الانتشار ليس فقط في يهوذا حيث نشأ هذا الوباء بل أيضا في روما– الى حيث تتوافد الموبقات المخزيات، وحيث وجدت (تلك البدعة) أتباعاً".

ويؤكّد علم الاثار ما ورد في العهد الجديد. فقد كشفت الحفريات سنة 1961 لفوج من العلماء الايطاليين وعلى رأسهم الدكتور "فروفا" قطعة صخرية منقوشاً عليها: "طيباري… بونطيوس بيلاطوس والي اليهودية"، وذلك في المسرح الروماني في قيصرية البحر.

 "والفضل ما شهدت به الاعداء!"

لا يوافق أحد مع "تاقيثوس" في أن المسيحية "بدعة بغيضة"، وان كانت هنالك –حتى في ايامنا– حالات من سوء الفهم للمسيحية، يزيلها الحوار البنّاء واللقاء الاخوي والبحث الموضوعي. ولكن ضغينة المؤرخ الروماني تحوي اعترافاً فريداً مفاده ان رجُلاً متهماً بأشنع الجرائم، أعزل، محكوم عليه بالاعدام ذاع صيته وملك القلوب والعقول بتواضعه ولطفه وتعاطف البشرية معه، ليس فقط في بلاد كنعان المحتلة بل في قلب العاصمة روما!

 بونطيوس بيلاطوس: حكم الامبراطور والتاريخ: عاقبة الظلم والقساوة والجبن والانتهازية!

عُزل بيلاطوس نهائياً سنة 36 للحساب الميلادي بعد أن عاث في البشرية فساداً مدة عشر سنين، وقد يكون فعل أيضاً شيئاً من الخير أو أحسن الادارة أحياناً. وقبل أن يحكم عليه منبر التاريخ، وهو الوالي الذي "جلس" على "البيما" أي المنبر، أصدر المسيح الملك دينونة عليه مقسطة أي عادلة: "ان الذي أسلمني اليك (أي يهوذا الاسخريوطي ورؤساء الكهنة العبرانيين والكتبة) يقترف خطيئة أكبر من خطيئتك!"

خطيئتك يا بيلاطوس الجبن والانتهازية والرضوخ للابتزاز العبري الملخّص بالعبارة المستفزة: "ان أنت أطلقت هذا (أي يسوع)، فأنت عدو لقيصر". خطيئتك الحكم بالاعدام على بريء خوفاً على كرسيك، وأنك من أنصار "ديمومة الكراسي" على حساب حياة البشر وحقوق الشعوب! خطيئتك انك جبان! خطيئتك انك مستهتر بالمرأة ولاسيّما زوجتك (وأحسب اسمها "كلاوديا") مع انها نبّهتك وحذّرتك: "أيّاك وهذا الصدّيق" أي يسوع! من يسمع لامرأة عندما لا يحتاج اليها؟ وكانت زوجتك قد أضافت: "انني تألمت كثيراً في الحلم من أجله!"- ومن يشعر مع المرأة عندما تتوجّع؟ ومن يصدّقها عندما تتأوه؟ جريمتك، يا "حامل الرمح" القساوة والظلم، حتى الاعدام. رفعت الرمح مختالاً، وجلدتني وحمّلتني الصليب!

 حكم التاريخ يؤيّد الدينونة التي لفظها السيد المسيح

وكان بونطيوس بيلاطوس قد خلط دماء جليليين بدماء ذبائحهم، وقد أخذ من مال الهيكل السليماني الهيرودسي ليبني قناة مياه! ومرة أخرى، عاقب بشراسة سامريين توجهوا الى جبل جرزيم بحثاً عن أواني مقدسة. وبعد عزله (سنة 36م) أنهى حياته من غير مجد، امّا منتحراً أو  محكوماً عليه بالاعدام في زمن نيرون. وتذهب بعض المصادر المنحولة الى انه اعتنق المسيح وتاب عن فعلته.

 بونطيوس بيلاطوس: ملك السخرية وسيّد المستهترين المقهقيهن!

لن تتردد ايها الوالي في أن تستهزيء بالعبرانيين المستكبرين اذ وصفت الناصري المصلوب بأنه "ملك اليهود"، رغم أنوفهم، وأمرت بتعليق ذلك ال "تيتلوس" اي العنوان على رقعة كبيرة مكتوبة بالحبر الاحمر (وهو اللون الذي تعشقه) في لغات أي السنة الدولة وهي اللاتينية والثقافة أي اليونانية ولسان الشعب المقهور اي الارامية! ونتصوّرك تتقهقه ملء شدقيك على غضبهم وقهرهم. ولا ننسى ما تفضّل به جنودك من ألوان السخرية والاستهزاء عندما ألبسوا مسيحنا الملك ثوباً ارجوانياً ووضعوا على رأسه اكليلاً من شوك وجعلوه يمسك بقصبة بدل الصولجان. ويقول بعض علماء الكتاب المقدس ما يلي في تفسيرهم أو نقلهم للنص اليوناني الاصلي لهذه الاية في يوحنا 19 : 13 : "أخرج بيثلاطوس يسوع ثم جلس (في اليونانية "اكاثيسن") على كرسي القضاء"، ان الفعل اليوناني "اكاثيسن" يعني "جلس" ويعني "أجلس" أي أن بيلاطوس، من باب السخرية، أجلس يسوع على كرسي القضاء لكي يتندر عليه ويستهزيء منه! وما كان يدري ان الناصري المتهم هو الذي "سيأتي بمجد عظيم ليدين الاحياء والاموات، الذي لا فناء لملكه"!.

 "ليست مملكتي من هذا العالم!"

صحيح ان هذه الكلمات السيدية قيلت لبيلاطوس ولكنها موجّهة الى كل منا، بداية بالشعب العبري الذي تصور "ميلخ هاماشياح" أي "المسيح الملك" امبرطوراً دنيوياً عنصرياً سياسياً اقتصادياً عسكرياً مخدوماً مرفهاً متمتعاً، يخضع تحت قدميه وتحت قدمي العبرانيين معشر الشعوب الوثنية –التي تكتب فيها بعض المصادر انها وُجدت عبيداً واماءً للشعب العبري المتفوّق.

يملك السيد المسيح بالمحبة وباللطف وبالروحانيات وكلها تثمر السلام، انه "رئيس السلام" المشير الفريد، الذي به نؤمن، بتولاً ابناً للبتول، فقيراً في الجسد غنياً في الروح، ضعيفاً في وهنه البشري قوياً في المقدرة التي اتته المعجزات وأيدته بالروح!

لتجتمعن حول السيد المسيح وحول والدته الطهور المصطفاة على نساء العالمين أفئدتنا، وهي ترفع لواء الحب لا الحرب والتواضع لا الكبرياء والصدق لا الرياء والوئام لا الخصام!
 
mardiros@bezeqint.net 
 عن موقع ابونا الأردني