لنتأمل مع بندكتس : تأمل كل يوم – ديسمبر

 

الأول من ديسمبر

روما، الاثنين 1 ديسمبر 2008 (zenit.org).

ننشر في ما يلي تأمل اليوم من شهر ديسمبر للبابا بندكتس السادس عشر، من كتاب "بندكتس".

حضور المجيء

"Adventus" لا يعني "التوقع" كما يظن البعض. فالكلمة ترجمة لكلمة "parousia" اليونانية والتي تعني "الحضور"، أو، بالتحديد، "المجيء"، أي بدء الحضور. في القديم كانت الكلمة تعبيرًا تقنيًا عن حضور الملك أو الحاكم وأيضًا عن حضور الآلهة التي تتم عبادتها، والتي تفيض حضورها على المتعبدين لفترة من الزمن. "المجيء" إذًا، يعني الحضور الذي بدأ، حضور الله. وعليه يذكرنا المجيء بأمرين: أولاً، أن حضور الله في العالم قد بدأ، وأنه حاضر ولو بشكل خفي؛ ثانيًا، أن حضوره قد بدأ وحسب، وأنه ليس كاملاً، بل هو في حالة نمو، في حالة صيرورة وتطور نحو شكله المتكامل. لقد بدأ حضوره، وهو يود أن يكون حاضرًا في العالم من خلالنا نحن جماعة المؤمنين. عبر الإيمان والرجاء والمحبة يريد أن يشع نوره باستمرار في ليل هذا العالم… هذا الليل هو "اليوم" في كل مرة تضحي فيها "الكلمة" "بشرًا" من جديد أي واقعًا بشريًا أصيلاً. "المسيح الطفل يأتي" بشكل حقيقي في كل مرة يتصرف فيها البشر مدفوعين من حب أصيل نحو الرب.

الثاني من ديسمبر

المجيء يعني الحضور

"Adventus" هي كلمة لاتينية يمكن ترجمتها كـ "حضور" أو "مجيء". في العالم القديم، كانت عبارة تقنية تعني وصول شخص ذي مقام عالٍ كملك أو كأمبراطور. يمكن للكلمة أن تعني أيضًا مجيء الألوهة، وفي هذا الحال مجيء الإله يعني خروج الإله من الخفاء والكشف عن قوته أو الاحتفال بجبروته عبر طقس عبادة رسمي. لقد تبنى المسيحيون هذه الكلمة ليعبروا عن علاقتهم المميزة بيسوع المسيح. بالنسبة لهم، يسوع هو الملك الذي دخل إلى مقاطعة حقيرة، الأرض، وسمح لها أن تحتفل بزيارته. ما يقصده المسيحيون هنا هو أن يسوع لم يتخل عن العالم. لم يتركنا لوحدنا. حتى ولو لم يكن باستطاعتنا أن نراه أو أن نلمسه كما نفعل مع الأشياء التي تحيط بنا، إلا أنه حاضر حقًا، وأكثر من ذلك، هو يأتي إلينا بأشكال مختلفة جدًا. لقد أشرنا إلى كلمة "زيارة" في هذا الإطار. يمكن استعمال هذه الكلمة بمعناها الفرح، الأصيل، وحتى الحرفي بمعنى "الذهاب إلى رؤية" شخص، أو أشخاص أو أماكن. إلا أن هذه الكلمة تستعمل أيضًا بمعنى أقل إيجابية ويقصد بها إزعاج أو معاقبة، عندما يتم ربطها بمفاهيم مثل مصاعب، مجاعة، وباء، أو أمراض. لذا يجب على هذه الكلمة أن تسمح لنا بأن نرى كيف أن شيئًا من جمال المجيء هو ممكن حتى في الصعوبات. المرض والألم يستطيعان أن يكونا، تمامًا كما الفرح العظيم، مجيئًا شخصيًا – زيارة الله الذي يريد أن يدخل في حياتي وأن يلتفت إلي.

الثالث من ديسمبر

العيش كما لو أن الله موجود

في كتابته عندما كان في السجن، لفت بونهوفر مرة إلى أن على المسيحي أن يعيش اليوم كما لو أن الله غير موجود (etsi Deus non daretur). يجب ألا يُدخل الإنسان الله في تعقيدات الحياة اليومية، بل يجب أن يحمل مسؤوليته الذاتية في إطار حياته. شخصيًا، أفضل أن أطرح تفكيره بالشكل المعاكس بالضبط: عمليًا، يجب على من يختبر أن وجود الله، وعالم الإيمان، بات باهتًا لديه، أن يعيش كما لو أن الله موجود حقًا (etsi Deus esset). يجب أن يعيش خاضعًا لواقع الحقيقة التي ليست خليقتنا، بل سيدتنا. يجب أن يعيش بحسب مقياس العدل الذي ليس مجرد ثمرة لعقولنا، بل أيضًا المقياس الذي يجب أن نستعمله عندما نقيس ذواتنا. يجب أن يعيش طيعًا للحب الذي ينتظرنا والذي يحبنا نحن بالذات. يجب أن يعيش مواجهًا تحدي الأبدية. بالواقع، من يسمح بإرادته لهذا المفهوم أن يشكل حياته، سيرى أنها السبيل الوحيد لخلاص الجنس البشري. الله، والله وحده، هو خلاصنا. هذه الحقيقة التي لا سابق لها، والتي لطالما اعتبرناها نظرية لا يمكن اعتناقها، باتت أكبر صيغة عملية لتاريخنا الحاضر. ومن يسلم ذاته بثقة – حتى ولو كان مترددًا في بادئ الأمر – لهذه الـ "كما لو" الصعبة والضرورية في آن، من يعيش كما لو أن الله موجود، سيعي أكثر أن هذه الـ "كما لو" هي الحقيقة الوحيدة. سيكتشف السبل إلى برهانها وإلى قوتها الداخلية. وسيعرف بالعمق وبلا شك كيف أن المسيحية ما زالت ضرورية اليوم كالبشرى السارة الأصيلة التي ننال بها الخلاص.

الرابع من ديسمبر

الحميمية مع الله

يفهم البعض الله على طريقة أريوس الذي فكر بأن الله لا يستطيع أن يدخل في علاقة خارج ذاته لأنه هو وحده متكامل بذاته. لهذا يريد البشر أن يكونوا هذا الإله، إلهًا تجري نحوه كل الأشياء وهو لا يهب شيئًا. لهذا السبب فالإله الحق هو العدو الحقيقي، مناهض أولئك الذين يضحون عميانًا داخليًا بهذا الشكل. هذا هو لب مرضهم، لأنهم يعيشون كذبة ويشيحون بوجههم عن الحب الذي هو، في الثالوث الأقدس أيضًا، هبة ذات لا مشروطة ولا محدودة…  في أيامنا هذه نحن عادة لا نستطيع أن نرى مسألة الله كأكثر المسائل حقيقة، لا بل كمفتاح أعمق حاجاتنا البشرية… بالواقع، لن نجد أي دواء ما لم نعترف بأن الله هو القلب البنيوي لوجودنا بأسره. فقط عبر الحميمية مع الله، عبر الكينونة معه، يمكن للحياة البشرية أن تضحي حياة حقة. من دون الله، تبقى الحياة تحت مستواها الذاتي وتدمر ذاتها. مع ذلك، فإن الحميمية الخلاصية أو الاتحاد بالله ممكن فقط في ذلك الذي أرسله الآب والذي صار من خلاله "عمانوئيل" (الله معنا). لا يمكننا أن "نبني" الحميمية، فالمسيح هو الحياة لأنه هو الذي يقودنا نحو هذا الاتحاد بالله.

الخامس من ديسمبر

انتظار المجيء

يشكل الانتظار المليء بالرجاء بعدًا من أبعاد المجيء. وفي هذا الصدد يساعدنا المجيء على فهم مكنون ومعنى الزمن المسيحي … الإنسان في انتظار دائم في حياته… لم يبرح الجنس البشري يرجو أزمنة أفضل. لطالما ترجى المسيحيون أن يكون الرب حاضرًا دومًا في التاريخ وأنه سيمسح دموعنا وكل مشاكلنا فيتم تفسير كل شيء وتحقيقه في ملكوته. ويضحي الأمر واضحًا بشكل خاص عندما نكون مرضى، ففي ذلك الوقت نكون بانتظار دائم. كل يوم ننتظر علامة تحسن وفي الختام نتوقع الشفاء الكامل. في الوقت عينه، نكتشف أشكالاً عديدة من الانتظار. عندما يفتقر الزمان لحضور ذي معنى يملأه، يضحي الانتظار أمرًا لا يحتمل. إذا ما كنا نتوقع أمرًا ليس حاضرًا الآن – بكلمات أخرى، إذا ما كنا ننتظر وليس لدينا الآن شيء بل نحن فارغون بالكلية، ففي كل ثانية تبدو حياتنا طويلة بشكل لا يحتمل. الانتظار بحد ذاته هو عبء يصعب حمله عندما لا نكون أكيدين بأن لدينا حقًا ما ننتظره. ولكن، من ناحية أخرى، فالزمن بحد ذاته هو ذو معنى وكل لحظة تزخر بأمر ثمين وفريد، واستباقنا الفرِح للخبرة الكبرى الآتية يجعل ما نملك الآن أثمن ويحملنا بواسطة قوة خفية أبعد من اللحظة الحاضرة. يساعدنا المجيء على الانتظار بهذا النوع من الانتظار بالذات. وهذا هو بجوهره الانتظار والرجاء المسيحي.

السادس من ديسمبر

وصمة الخطيئة الأصلية

الكائن البشري لا يثق بالله. عندما تجربه الأفعى، يبدأ بالشك بأن الله، في آخر المطاف، إنما يأخذ شيئًا من حياته، وبأنه العدو الذي يحد حريتنا، وبأننا سنضحي بشرًا بالكلية فقط إذا ما ألقيناه جانبًا… يعيش البشر في الشك بأن حب الله يولّد اتكالية يجب أن يعتق الإنسان ذاته منها إذا ما أراد أن يكون ذاته بالكلية. لا يريد الإنسان أن يتلقى وجوده وملء حياته من الله. بل يريد أن ينال من تلقاء نفسه، من شجرة المعرفة، قوة تشكيل عالمه، وجعل نفسه إلهًا، رافعًا نفسه إلى مستوى الله، ومتغلبًا على الموت والظلمة بقوته الذاتية. لا يريد أن يعتمد على الحب لأن هذا الأخير يبدو له غير أهل بالثقة؛ يعتمد فقط على معرفته لأنها تضفي عليه القوة. وعوض الاتكال على الحب، يسلط نظره على القوة، لأنه يريد أن يمسك شخصيًا بزمام حياته. وعبر قيامه بهذا الأمر، يثق بالخداع بدل الحقيقة، ويُغرق حياته في الفراغ، في الموت. الحب ليس اتكالية بل هبة تجعلنا أحياء… نعيش بالشكل الصحيح إذا ما عشنا بحسب حقيقة كياننا، أي بحسب إرادة الله. لأن إرادة الله ليست قانونًا يُفرض على البشر من الخارج ويرغمهم، بل هي المقياس الداخلي للطبيعة البشرية، مقياسًا مطبوعًا في الإنسان يجعل منه صورة الله، وبالتالي، خليقة حرة.

 

السابع من ديسمبر

 

الاستعداد لعيد الحبل بلا دنس

إذا ما ألقينا نظرة سريعة على العالم المحيط بنا، رأينا أن الشر هو مسمّم دائمًا، وأنه لا يرفع البشر بل يحطهم ويحقرهم. لا يجعلهم أعظم أو أطهر أو أغنى، بل يؤذيهم ويصغّرهم. وهذا أمر يجب أن نتعلمه في عيد الحبل بلا دنس: الإنسان الذي يسلم نفسه بالكلية إلى الله، لا يضحي ألعوبة الله، وإنسان "النعم الممل"؛ لا يفقد حريته. وحده الإنسان الذي يوكل نفسه بالكلية إلى الله يجد الحرية الحقة، يجد عظم حرية الخير وروحها الخلاق. الإنسان الذي يلتفت إلى الله لا يضحي أصغر بل أعظم، لأنه من خلال الله ومعه يضحي عظيمًا، يتأله، يضحي ذاته حقًا. من يضع نفسه في يدي الله لا يبعد ذاته عن الآخرين، منكفئًا إلى خلاص فرداني؛ بل على العكس، فقط عندها يستيقظ قلبه حقًا ويضحي حساساً، وبالتالي شخصًا محبًا ومنفتحًا. بقدر ما يتقرب الإنسان من الله، بقدر ذلك يتقرب من البشر. نرى هذا الأمر في مريم. بما أنها كانت خاصة الله بالكلية، فهي قريبة جدًا من البشر. لهذا السبب يمكنها أن تكون أم كل تعزية وكل معونة، أمًا يتجرأ كل إنسان أن يتوجه إليها في كل عوز وخطيئة، لأنها تتفهم كل شيء وهي لكل إنسان منهل الخير الخلاق. في مريم، طبع الله صورته الشخصية.

الثامن من ديسمبر

عقيدة "البريئة من الدنس"

التناقض القائم بين الله "الذي هو" والإنسان "الذي ليس هو"، لا يوجد في مريم، وبالتالي فقرار الله بشأنها هو "نعم" صافٍ، تمامًا كما تقوم هي بحضرته كـ "نعم" صافٍ. هذا الانسجام بين "نعم" الله وكينونة مريم كـ "نعم" هو الحرية من الخطيئة الأصلية. الحفظ من الخطيئة الأصلية لا يعني إذاً نوعًا ما من البراعة، أو شكلاً من أشكال الإبداع؛ بل على العكس، يعني أن مريم لا تحتفظ بأي جزء من كيانها، أو من حياتها، أو من إرادتها كملك خاص بها: بل تفرغ ذاتها بالكلية، وتهب ذاته لله، فتتوصل بهذا الشكل إلى ملك ذاتها بالكلية. النعمة كإخلاء ذات تضحي جوابًا من خلال التوصل إلى الذات بشكل مختلف. وبالتالي، من وجهة نظر أخرى، سر العاقر الخصيب، ومفارقة الأم العاقر، سر البتولية، يضحي مفهومًا مرة أخرى: إخلاء الذات كانتماء، كأرضية الحياة الجديدة. وبالتالي فإن عقيدة الحبل بلا دنس تعكس في آخر المطاف يقين الإيمان بأن هناك حقًا كنيسة مقدسة – كشخص وفي شخص. بهذا المعنى، تعبر عن يقين الكنيسة بالخلاص. كما وتتضمن معرفة أن عهد الله مع إسرائيل لم يفشل، بل أن فرعًا خرج من الجذع، وهذا الفرع هو المخلص. تشهد عقيدة الحبل بلا دنس بأن نعمة الله كانت قوية كفاية لتيقظ جوابًا، وبأن النعمة والحرية، النعمة والكيان، التجرد والتحقيق لا يتناقضان إلا ظاهريًا؛ بالواقع، أحدهما يؤثر على الآخر ويهب للآخر وجوده عينه.

التاسع من ديسمبر

يوحنا المعمدان في زمن المجيء

لننظر إلى يوحنا المعمدان. فهو يقف أمامنا متحديًا وفاعلاً، كمثال للدعوة الرجولية. في الأيام الصعبة يطلب التوبة (metanoia)، التحول الجذري في المواقف. من أراد أن يكون مسيحيًا يجب أن "يتحول" من جديد. فميلنا الطبيعي هو الاستعدادية لتحقيق ذاتنا، ولمكافئة المثل بالمثل، وتسليط الانتباه على ذواتنا. من أراد أن يجد الله، عليه دومًا وتكرارًا أن يقوم بالتحول الداخلي، أن يأخذ وجهة جديدة. وهذا الأمر ينطبق على آفاق وجودنا جميعها. يومًا فيومًا نلمس عالم المرئيات الذي ينقض علينا عبر اللوحات الإعلانية، ووسائل الإعلام، وزحمة السير، ومختلف النشاطات اليومية، لدرجة أننا نعتقد بأن ما من شيء موجود سوى هذا العالم. لكن الحقيقة هي أن غير المرئي هو أعظم وأثمن من كل ما هو في هذا العالم المرئي. فبحسب كلمات باسكال الجميلة، نفْسٌ واحدة هي أثمن من كل الكون المرئي. ولكن للتوصل إلى هذا الوعي الحي، يجب أن نتوب ونتحول، يجب أن نغير وجهة سيرنا الداخلية وأن نتغلب على وهم المرئي، وأن ننمي فينا الحس، والعيون والآذان لإدراك اللامرئي. يجب على هذا الأخير أن يكون بالنسبة لنا أهم من كل ما يضع أمامنا بلجاجة يوميًا عالمنا المرئي وكأننا أمام حاجة طارئة لا يمكن تأجيلها.Metanoeite  : غيَِّر موقفك، لكي يتمكن الله أن يعيش فيك، ومن خلالك في عالمك. يوحنا بالذات لم يُعف من هذا العمل الشاق ومن تغيير وجهة السير.

العاشر من ديسمبر

شهادة يوحنا المعمدان

يظهر يوحنا في القفر كرجل مكرس لله. يعظ أولاً بالتوبة والتطهير ويجمع البشر محضرًا إياهم لمجيء الله. بهذا المعنى، يلخص تبشيره كل النبوءة وصولاً إلى تلك اللحظة حيث يصل التاريخ إلى هدفه. رسالته هي أن يفتح الباب لله، لكي يكون إسرائيل مستعدًا ليستقبله ويعد لساعته في التاريخ. الأمور المهمة هي أولاً دعوته إلى التوبة، التي تتابع كل ما قاله الأنبياء، وثانيًا شهادته للمسيح، التي تحقق النبوءات في صورة الحمل، الذي هو حمل الله. لنذكر قصص إبراهيم، قصص إسحق، ذبائح الحملان، وخصوصًا ذبيحة الفصح التي يذبح فيها الحمل الفصحي. تتوصل هذه البدائل إلى تحقيقها الآن. مبدئيًا ينوب الحمل الفصحي عنا نحن البشر. والآن، يرسل الله المسيح ليضحي الحمل الفصحي، ويتقاسم مصيرنا ويحوله بالتالي… يقول يوحنا أن المسيح ليس مجرد شخصية تاريخية، بل هو الذي يسير أمامنا جميعًا، والذي يأتي من أبدية الله وهو شريك حميمية تلك الأبدية.

الحادي عشر من ديسمبر

نسب يسوع

يبدأ العهد الجديد مع الإنسان، تمامًا كما بدأ العهد القديم بالحوار الذاتي السري الذي يقوم به الخالق: "لنخلق الإنسان على صورتنا فمثالنا". يقف رجل في مطلع العهد الجديد ويذكرنا برؤية دانيال الليلية حيث يرى أربعة وحوش آتية من البحر: رمز لقوى وجبروت هذا العالم، والممالك التي تتقاسم السيطرة على هذا العالم وعلى مجرى التاريخ. ومقابل ظهور الوحوش البحرية، يرى إنسانًا نازلاً من السماوات: رمز لشعب الله المقدس، للقوة المقدسة التي يتمتع بها الإنسان في وسط القوى غير البشرية التي تأتي من الأعماق. يقف الرجل يسوع في مطلع العهد الجديد، ولكن كشخص يبزغ من تاريخ البشرية. في نسبه، يرسم متى بحرص خط الانتقال من تاريخ العهد القديم الطويل والمذهل إلى الواقع الجديد الذي بدأ مع يسوع المسيح. وكأنه يلخص كامل هذا التاريخ في ثلاثة أقسام يتألف كل منها من 14 جيلاً ليوصلها إلى ذلك الذي وجدت لأجله فقط في آخر المطاف. يُظهر كيف أن هذا التاريخ، رغم كل تعرجاته وتحولاته، كان يسير بشكل خفي إلى المسيح ولكي يظهر المسيح؛ وأنه، خلال العصور، ولدى كل منعطف، كان الإله الأحد يزور شعبه، وها هو يصبح الآن، في يسوع المسيح، أخًا للجنس البشري. يُظهر الغائية الكامنة في التاريخ، والتي هدفها الأسمى هو أن تأتي بالرجل يسوع.

الثاني عشر من ديسمبر

سيدة غوادالوبي

لقد أسست المسيحية استمرارية تجاه أماكن العبادة، وبالوقت عينه جددت العبادات الأخرى عبر إسهامها الخاص. المثال الأنجع لهذه الاستمرارية في التحول هي صورة سيدة غوادالوبي. تكريم الذخيرة بدأ مستبدلاً ما كان يمثل سابقًا صورة "أمنا الجليلة، السيدة الأفعى"، وهي إلهة محلية هامة. الأمر اللافت هو أنها لا ترتدي قناعًا، بل تظهر مكشوفة الوجه… في الصور والرموز التي تظهر فيها، يتم اعتناق كل غنى الأديان السابقة وتوحيده حول محور جديد، ينزل من أعالٍ جديدة. تقف فوق الأديان، إذا جاز التعبير، ولكنها لا تسحقها. وبالتالي فإن سيدة غوادالوبي هي بأشكال مختلفة صورة للعلاقة بين المسيحية وأديان العالم: كل تلك الجداول تنساب إليها سوية، فتتنقى وتتجدد، ولكنها لا تتدمر. إنها صورة لعلاقة حقيقة يسوع المسيح مع حقائق تلك الأديان: الحقيقة التي لا تُدمِّر؛ بل تُطهّر وتُوحّد.

الثالث عشر من ديسمبر

التاريخ الذي صار يسوع جزءًا منه

التاريخ الذي صار يسوع جزءًا منه هو تاريخ عادي جدًا، تطبعه كل الشكوك والمشاكل التي نجدها بين البشر، كل التطورات والبدايات الجديدة، ولكن أيضًا كل الخطايا والخساسة – تاريخ بشري محض! والنساء الأربع التي يأتي على ذكرهن في نسب يسوع هن شاهدات عن الخطيئة البشرية: من بينهن راحاب الزانية التي أسلمت أريحا إلى أيدي الإسرائيليين المهاجرين. ومن بينهن أيضًا امرأة أوريا، المرأة التي نالها داود عبر الزنى والقتل. والرجال في هذا النسب لا يختلفون عن النساء. فلا إبراهيم ولا إسحق ولا يعقوب هم بشر كاملون؛ وبكل تأكيد داود ليس كاملاً، ولا حتى سليمان؛ ونلتقي أخيرًا بملوك بغيضين، مثل آحاز ومنسى، ضرجوا عروشهم بدماء الضحايا البريئة. التاريخ الذي يقود إلى يسوع هو تاريخ داكن، ورغم أنه لا يخلو من لحظات النور، والرجاء والتقدم، إلا أنه بمعظمه تاريخ متهرئ ومليء بالخطيئة والفشل… وكل هذا علامة لنا. يعلمنا أن تجسد الله ليس نتيجة ارتقاء من قبل الجنس البشري ولكنه نتيجة نزول الله. ارتقاء الإنسان، السعي للوصول إلى الله بقواه الذاتية والتوصل ليكون إنسانًا خارقًا، هو محاولة فشلت فشلاً ذريعًا في الفردوس. من يحاول أن يصير إلهًا بقواه الذاتية، ومن يرفع يديه بكبرياء ليصل إلى النجوم، ينتهي به الأمر دائمًا في تدمير الذات. وبالتالي فإن مسيرة إسرائيل الفاشلة في التاريخ هي علامة بأن الإنسان لا يصل إلى الخلاص عبر الكبرياء وتعظيم الذات، بل عبر التواضع، والاستسلام والخدمة.

الرابع عشر من ديسمبر

أمانة الله في التاريخ

الأمر المهم في المسيحية هو الطاعة، والتواضع في حضرة كلمة الله… لا يأتي الخلاص من عظمة الإنسان بل من رحمة الله المجانية. يجب أن تطبع علامة تنازل الله هذه – علامة الخلاص التي هي إخلاء ذات – فهم هذا المقطع من الإنجيل في قلوبنا مرة أخرى. يجب أن تجعلنا نتوب من جديد فنضحي أشخاصًا لا يتجنبون تنازلاً مماثلاً؛ أشخاصًا يعرفون أنهم عبر تواضعهم بالذات، وعبر الخدمات الصغيرة التي تطلبها الحياة منهم يسيرون في طريق يسوع المسيح. نسب يسوع بحسب متى يبدأ مع إبراهيم. ويشهد لأمانة الله الذي حقق وعده الذي قطعه مع إبراهيم… يمثل النسب بأسره، مع كل فوضويته، وكل لحظاته الإيجابية والسلبية، شهادة نيرة لأمانة الله لكلمته بالرغم من كل الفشل وعدم الاستحقاق البشري. أما لوقا الإنجيلي… فيرسم نسب الرب ليس فقط من إبراهيم بل من آدم، ومن يدي الله الذي صنع الإنسان. ويوضح بهذا الشكل بأن الجماعة التي أقامها يسوع ليست إسرائيلاً جديدًا، الشعب الذي يختاره الله ويجمعه في العالم، بل أن رسالة يسوع تشمل كل الجنس البشري. لا ترمي رسالته إلى خلاص مجموعة معينة، بل إلى الجنس البشري بأسره، العالم بأسره. تجد الخليقة في يسوع المسيح هدفها الحق؛ في المسيح يتحقق بالكامل مقصد الله بشأن الإنسان؛ في المسيح يُهزم لأول مرة الوحش الكامن في كل منا، ويصل البشري بملئه إلى ساحة التاريخ.

 

الخامس عشر من ديسمبر

الله ينتظرنا

لقد صار الله إنسانًا. صار طفلاً. وحقق بالتالي وعده بأن يكون العمانوئيل (الله معنا). لم يعد بعيدًا عن متناول أحد. الله هو عمانوئيل. بصيرورته طفلاً يقدم الله لنا إمكانية الدخول في حميمية معه. أذكر هنا قصة رابينية يذكرها إيلي فيزل. يخبر عن جيهيل، وهو طفل، يصل راكضًا إلى غرفة جده، الرابي المشهور باروك، وعيناه مغرورقان بالدموع، ويقول باكيًا: "لقد تخلى عني صديقي. إنه غير عادل وشرير معي". فيسأله المعلم: "أيمكنك أن تشرح لي أكثر؟"، "أجل. كنا نلعب الغميضة، فاختبأت بطريقة حرصت فيها ألا يجدني. ولكنه تخلى ببساطة عن اللعبة وذهب إلى بيته. أليس هذا تصرفًا شريرًا؟". لقد فقد أفضل مكان للاختباء قيمته عندما توقف الآخر عن اللعب. وعندها داعب المعلم وجه الطفل وقد اغرورقت عيناه بالدموع أيضًا وقال: "نعم، هذا أمر سيء. ولكن انتبه، فالأمر نفسه يحدث مع الله. فهو يختبئ، ونحن لا نبحث عنه. تصور! الله يختبئ، ونحن البشر لا نبحث عنه". في هذه القصة، يستطيع المسيحي أن يجد مفتاح سر الميلاد القديم. الله يتخفى، وينتظر أن تقوم خليقته بالبحث عنه، وينتظر نَعَمًا جديدًا وجهوزية جديدة، لكي يعتلن الحب كواقع جديد في خليقته. ينتظر اللهُ الإنسان.

 

السادس عشر من ديسمبر

 الفرح والتناغم

تمتد جذور فرح الإنسان في التناغم الذي يتمتع به مع ذاته. يعيش الإنسان في هذا الإنجاز، وفقط من يستطيع قبول نفسه يستطيع أن يقبل الأنت، يستطيع أن يقبل العالم. والسبب الذي لأجله لا يقبل الإنسان الأنت، وأن يدخل في علاقة معه، هو أنه لا يحب في المقام الأول أناه، ولهذا السبب لا يستطيع أن يقبل الأنت. يحدث أمر غريب هنا. لقد رأينا أن عدم إمكانية قبول المرء لذاته تقود إلى عدم إمكانية قبول الآخر. ولكن كيف يتوصل المرء إلى إحقاق وقبول أناه؟ لربما يكون الجواب غير متوقع: لا يمكننا أن نقوم بهذا الشيء بقوانا الذاتية وحدها. لا يمكننا أن نتصالح مع ذاتنا من تلقاء ذاتنا. يضحي أنانا مقبولاً بالنسبة لنا فقط إذا ما أضحى مقبولاً لدى أنا آخر. يمكننا أن نحب ذواتنا فقط إذا ما أحبنا آخر أولاً. الحياة التي تهبها الأم لابنها ليست الحياة الجسدية وحسب؛ فهي تهب له حياةً متكاملة عندما تكفكف دموع الطفل وتحولها إلى بسمات. نقبل الحياة فقط عندما يتم قبولنا من الآخرين ونشعر بهذا القبول. الإنسان هو تلك الخليقة الغريبة التي لا تحتاج فقط إلى الولادة الجسدية بل أيضًا إلى التقدير إذا ما أراد البقاء على قيد الحياة… إذا أراد شخص ما أن يقبل ذاته، يجب أن يكون هناك آخر يقول له: "إن وجودك أمر جيد" – ويجب أن يقول هذا لا بالكلمات، بل عبر فعل يصدر عن الوجود بأسره، وهو ما يعرف بالحب. فأن نريد وجود الآخر هو شكل من أشكال الحب، وفي الوقت عينه، عبر هذا الحب، نولد هذا الآخر للوجود مرة آخرى. مفتاح الأنا يكمن في الأنت؛ والطريق إلى الأنت يمر في الأنا.

 

السابع عشر من ديسمبر

كتاب ميلاد يسوع المسيح

يقدم كتاب الميلاد بحسب متى يسوعَ كابن إبراهيم، ولكن ما يبينه بشكل خاص هو أن يسوع هو داود الحق، الذي يحقق علامة الرجاء التي مثلها داود بالنسبة لشعبه. أما لوقا فيذهب أبعد من ذلك؛ يعود بأصل يسوع إلى آدم، "الذي أتى من الله" (3، 38). آدم هو ببساطة "الإنسان"، الكائن البشري. والنسب العائد إلى آدم يجيب على سؤال الطبيعة البشرية، الباحثة عن ذاتها في تطوافها وتلمُّس طريقها في الظلام. يسوع هو الإنسان لأجل كل إنسان، الإنسان الذي فيه يجد مصير البشرية الإلهي هدفه وأصله. في يسوع تتوحد طبيعة الإنسان المشرذمة وتحافظ على وحدتها مع الله الذي تأتي منه، والذي تطلبه في بؤسها. تهتم صيغتي النسب بإطار يسوع التاريخي والبشري… فأصل يسوع هو من الأسفل، ولكن في الوقت عينه من العلاء – وهذه هي مفارقة المسيح. فهو إنسان بالكلية بالضبط لأن أصله ليس من الأرض فقط. يشير متى إلى هذا عبر دينامية النسب التي تربط الأشخاص أحدهم بالآخر عبر عبارة "وَلَدَ"، والتي تنكسر في العبارة الأخيرة: يسوع، زوج مريم، التي منها وُلِدَ يسوع، الذي يسمى المسيح (1، 16). ويصل لوقا إلى النتيجة عينها عندما لا يظهر يسوع كابن يوسف، بل يتم منحه مكانته الشرعية في تسلسل النسب كالذي "يحسب ابن يوسف" (3، 23).

الثامن عشر من ديسمبر

النسب والمسيح الملك

يظهر لنا وجه يسوع المسيح ماهية الله، كما ويكشف ماهية الإنسان. الله الأمين والرحيم الذي يبحث عن الإنسان حتى في وسط بحثه المضطرب، ويطلبه برحمة لا متناهية، ويأخذ الطبيعة البشرية، كالخروف الضال، على كتفيه ليحمله إلى منهله. من ناحية أخرى، الإنسان هو ذلك الذي لا يستطيع – في نهاية المطاف – رغم حنكته وعظمته، أن يجد مكانًا لله سوى اسطبل وأن يقدم له سوى تاريخ حافل بالحثالة واللاإنسانيةفي نهاية المطاف، النسب بحسب متى هو أيضًا البشرى السارة بشأن المسيح الملك. ويتألف النسب من سلسلة من 14 اسمًا. وإذا ما كتبنا العدد 14 بالأحرف العبرية لحصلنا على الأحرف الثلاثة التي تشكل اسم داود في تلك اللغة. وبالتالي، فإن العدد 14 الذي يطغى في النسب، هو علامة الملوكية. ويحوّل النسب إلى نسب ملوكي لا يتحقق فيه الوعد لابراهيم وحسب بل أيضًا الوعد الذي يرافق اسم داود. ومعنى ذلك أن الآتي هو ملك العالم الحق. بالفعل هو الإله الرحيم، ولكنه يبقى، في رحمته، الرب الإله، الملك الذي نخضع لشرائعه، الملك الذي يدعونا إلى خدمته وينتظر طاعتنا. وبالتالي فالنسب في مطلع الإنجيل هو في الوقت عينه بمثابة هتاف أبواق للملك. يدعونا إلى حضرة يسوع المسيح. يدعونا إلى طاعة مقدسة لكلمة الله، ولخدمة الرب يسوع. أن نخدم المسيح يعني أن نملك

التاسع عشر من ديسمبر

الفرح الأصيل

أليس صحيحًا أن كل الفرح الذي يصدر بمعزل عن المسيح أو بدون إرادته سرعان ما يبرهن عن أنه غير كافٍ، ولا ينفك ينحط بالإنسان إلى عمق من الضياع لا يجد فيه في نهاية المطاف أي أثر من الفرح الذي يدوم؟ فقط مع المسيح ظهر الفرح الحقيقي وبات الأمر الأهم في حياتنا أن نتعلم أن نرى ونعرف المسيح، إله النعمة والنور ورجاء العالم. سيكون فرحنا أصيلاً فقط عندما لا يعود يرتكز على الأمور التي يمكن أن تنزع منا وأن تُدمّر؛ عندما يمد هذا الفرح جذوره في أعماق وجودنا فلا تستطيع أية قوة أرضية أن تنتزعه منا. يجب على كل خسارة خارجية أن ترجعنا إلى هذه الأعماق الداخلية وتهيئنا بشكل أفضل لحياتنا الحقة… الاحتفال بالمجيء يعني أن نحيي فينا حضور الله الخفي. تمر هذه المسيرة في  سفرنا على درب الارتداد وتغيير توجه فكرنا عبر تحويل طرفنا من المرئيات إلى اللامرئيات. وإذ نعبر في هذا السبيل، نتعلم أن نرى أعجوبة النعمة؛ نتعلم أن ما من منهل نور أكثر إشعاعًا لنا نحن البشر وللعالم بأسره من النعمة التي ظهرت في المسيح. ليس العالم كدٌ وألم فوضوي، فكل البؤس الموجود في العالم تحمله أيدي الحب الرحيم؛ يتم شفاؤه عبر الغفران ونعمة الله الخلاصية.

 

العشرون من ديسمبر

ضعف الطفل يسوع

في قلب السر هناك المفارقة التالية: الإله المجيد أراد أن يكشف ذاته في ضعف الطفل الذي يتجاهله مجتمع البالغين والذي يأتي إلى العالم في اسطبل. صار ضعف الطفل التعبير المناسب لقوة الله الضابط الكل، لأن القوة الوحيدة التي يستعملها الله هي قوة الحق والحب الصامتة. ولذا فقد أراد الله في ضعف طفل أن يقدم لنا اللقاء الأول مع الرحمة الخلاصية. وبالواقع، ما أوفر التعزية التي تجتاحنا لدى رؤية سلام وهدوء الله في وسط جموح العالم إلى إحقاق الذات، حيث نختبر الأمان المنبثق  من قوة ستكون في نهاية المطاف أقوى من كل سلطان وستسمو على ضجيج صرخات زهو العالم… مرة أخرى، هذا الأمر صحيح لدرجة أن الدين صار بالنسبة لكثير من الناس شعورًا لا يدعمه أي واقع حقيقي… ولكن يوجد هناك موقف هو أخطر بكثير: موقف أولئك الذين يعتبرون أنفسهم متدينين، ولكنهم يحدّون الدين في إطار المشاعر ولا يَدَعون هذا الدين يلامس إطار عقلانية الحياة اليومية التي لا يبحثون فيها إلا عن المنفعة الفردية… يجب أن تتحدانا، سنة بعد سنة، واقعية الحب الإلهي التي لا تضاهى والتي يتحدث عنها الميلاد، وعمل الله الذي لا يكتفي بالكلمات بل يحمل في كيانه ثقل بؤس الحياة البشرية، وأن تحضنا على اعتبار واقعية إيماننا فنجهد من أجل واقع أسمى وأكبر من عاطفية الإحساس الصرف.

 

الحادي والعشرون من ديسمبر

معنى الميلاد الحق

لماذا نحتفل بالميلاد بالرغم من كل البؤس، والجهد، والعزلة التي ما زالت حصة الإنسان، والتي، بدل أن تنقص إنما تتزايد؟ ما هو معنى الميلاد الحق؟… ألا يعزينا أنه، رغم كل سوء الفهم، ما زال هناك من يسمع رسالة يسوع الناصري؟ لم تولد رسالة يسوع النزاع فقط، بل ولدت أيضًا أعجوبة الفهم، بشكل توصل البشر إلى لقاء أحدهم الآخر باسمه ما وراء حدود الأجيال والثقافات، لا بل حتى ما وراء حدود الأديان. عندما يتم التلفظ بهذا الاسم، تضمحل المسافات ويتقارب البشر… فالميلاد يقول لنا، في وسط شكوكنا وارتباكنا، أن الله موجود. لا كقوة لا متناهية ونائية لا تقوم إلا بتخويفنا؛ ولا ككائن لا يعي ذاته في حميميته. الله موجود كذلك الذي يهتم بنا؛ هو موجود بشكل ينظر كل ما نحن عليه وكل ما نفعله. ولكن نظرته هي نظرة الحب. كل من يقبل هذا الأمر بالإيمان ويعرفه بالإيمان، لا يعود يختبر العزلة التامة. هو حاضر ههنا! والإنسان الذي صار نورًا في التاريخ لم يكن صدفة أو حدثًا ضعيفًا، بل كان النور من نور. ولذا يلبس الرجاء والشجاعة المشعان من هذا النور عمقًا جديدًا بالتمام. وبما أننا بصدد الرجاء الإلهي، نستطيع، بل يجب علينا، أن نقبله كرجاء بشري بالكلية، وأن ننقله للآخرين.

 الثاني والعشرون من ديسمبر

أسلوب التجسد

تجسد الكلمة يعني أن الله لا يريد أن يأتي فقط إلى روح الإنسان، عبر الروح، بل أنه يطلب الإنسان في العالم المادي ومن خلاله، وأنه يريد أن يلتقي به ككائن اجتماعي وتاريخي. يريد الله أن يأتي إلى البشر عبر البشر. لقد تقرب الله من البشر بطريقة يستطيعون فيها، من خلاله، وباسمه، أن يجدوا سبيلهم للقاء بعضهم البعض. وبالتالي فإن التجسد يتضمن أبعاد شركة الإيمان وتاريخه. اعتناق سبيل الجسد يعني أن الزمان، كواقع، وطبيعة الإنسان الاجتماعية صارت عنصرًا في علاقة الإنسان بالله، بعدًا يرتكز بدوره على علاقة الله بالإنسان. يولد عمل الله "شعب الله"، ويضحي "شعب الله"، انطلاقًا من المسيح، "جسد المسيح"… الهدف الأخير الذي نتوق إليه هو الفرح. ولكن الفرح ممكن فقط في رفقة الآخرين، ويمكننا أن نكون في رفقة الآخرين فقط في الحب اللامتناهي. الفرح ممكن فقط عبر إزالة حواجز الأنا في المسيرة نحو الإله ونحو التأله.

 

الثالث والعشرون من ديسمبر

ستهيئ الطريق

حاول القديس أغسطينوس أن يوضح لذاته وللمؤمنين طبيعة الخدمة الكهنوتية. توصل إلى هذه الفكرة عبر التأمل بشخصية يوحنا المعمدان، الذي يجد فيه تصويرًا مسبقًا لدور الكاهن. يرى أن يوحنا المعمدان يُصوَّر في العهد الجديد في مقولة مستعارة من أشعيا كـ "الصوت"، بينما يظهر المسيح في إنجيل يوحنا كـ "الكلمة". تساعد العلاقة بين "الصوت" و "الكلمة" في إيضاح العلاقة بين المسيح والكاهن. الكلمة موجودة في قلب الإنسان قبل أن تصبح مسموعة عبر حاسة السمع. عبر وساطة الصوت، تدخل في حواس الشخص الآخر وتضحي حاضرة في قلبه، دون أن يخسر المتكلم كلمته بأي شكل من الأشكال. وبالتالي، فالصوت الذي يحمل الكلمة من شخص إلى شخص آخر (أو إلى أشخاص آخرين) يضمحل في النهاية. أما الكلمة فتبقى. في نهاية المطاف، دور الكاهن هو أن يكون ببساطة صوت الكلمة: "لا بد له من أن يكبر. ولا بد لي من أن أصغر" – ما من غاية أخرى للصوت إلا أن ينقل الكلمة؛ وبعد ذلك يمحي ذاته مرة أخرى. على هذا الأساس، يتضح قوام وتواضع الخدمة الكهنوتية: الكاهن هو مثل يوحنا المعمدان، سابق وخادم للكلمة. ليس هو ما يهمّ، بل الآخر. وهو، بوجوده برمته، صوت؛ هذه هي رسالته: أن يكون صوت الكلمة، وبالتالي أن يكون جذريًا منتميًا ومعتمدًا على آخر، أن يشترك في قوام رسالة المعمدان، وفي رسالة اللوغوس بالذات.

الخامس والعشرون من ديسمبر

البداية الجديدة، الخلق الجديد

أن يضحي المرء مسيحيًا يعني أن يتوصل إلى المشاركة في بداية جديدة. أن يضحي المرء مسيحيًا يعني أكثر من اعتناق أفكار جديدة، وأخلاقيات جديدة، وجماعة جديدة. التحول الذي يحدث هنا يتمتع بكل خصائص ولادة حقيقية، وخلق جديد. بهذا المعنى، تقوم العذراء الأم مرة أخرى في محور حدث الفداء. تشكل مريم بكيانها بأسره ضمانةً للجدة التي أتى بها الله. فقط إذا ما كانت قصة مريم صحيحة، يمكن أن يكون صحيحًا ما يقوله بولس: "إذا كان أحد في المسيح، فهو خلق جديد" (2 كور 5، 17). الله ليس مرتبطًا بالحجارة، ولكنه يرتبط بشعب حي. يفتح نَعَم مريم لله مجالاً يستطيع فيه أن يقيم خيمته. تصبح مريم خيمة له، وبالتالي فهي بدء الكنيسة المقدسة، التي تشير بدورها إلى أورشليم الجديدة، والتي لا يوجد فيها هيكل من بعد، لأن الله يقيم في وسطها. الإيمان بالمسيح الذي نعترف به في قانون إيمان الشعب المعمد، يضحي روحنةّ وتطهيرًا لكل ما في العالم. ولكن في الوقت عينه، الإيمان هو تجسيد لكيان الله مع البشر، يجعل حضور الله عمليًا وخاصًا، يذهب أبعد مما يمكن أن نرجوه. "الله صار جسدًا" – ارتباط الله غير المنفصم بالخليقة هو ما يشكل قلب الإيمان المسيحي.

السادس والعشرون من ديسمبر

الحب المتجسد

يتخذ هذا العمل الإلهي شكلاً دراماتيكيًا في يسوع المسيح، فهو الله نفسه الذي يبحث عن "الخِروف الضائع"، أي الإنسانية المتألمة والتائهة. يتكلم يسوع في أمثاله عن الراعي الذي يبحث عن الخروفِ الضائع، عن المرأةِ التي تبحث عن الدرهم المفقود، عن الأبِ الذي يذهب للقاء ومعانقةِ إبنه الضال، هذه ليست مجرد كلماتٍ: بل تشكل تفسيراً لكيانِ المسيحِ ولعمله. في موته على الصليبِ تتحقق ذروةُ ذلك المُنعطف الذي به يذهب الله ضد نفسهِ، وبه يُعطي نفسَه لكي يرفع الإنسان ويخلصه ـ إنه الحب في شكلِه الأكثر جذريّة. إن من يتأمَّلُ جنب المسيح المطعون، الذي يتحدَّث عنهُ يوحنا (راجع يو 19، 37)، يدرِك النقطةَ التي بدأنا منها هذه الرسالة: "الله محبّة" (1 يو 4، 8). هنا يمكننا أن نتأمَّلَ هذه الحقيقة. ومِن هنا يمكننا تعريف ماهيّة الحب. إنطلاقاً من هذا التأملِ، يَكتشف المسيحي طريق حياته وحبه. لقد جعل يسوع فعل تقدمته هذا حاضراً بشكل دائم بتأسيسهِ الإفخارستيا خلال العشاء الأخير. فقد استبق موتَه وقيامته بإعطاء ذاته لتلاميذه، في الخبز والخمر، مانحًا جسده ودمّه كالمن الجديد (يو 6، 31 – 33). إذا كان العالم القديم قد أدرك أن الغذاء الحقيقي للإنسان  – أي ما يعطي الإنسان الحياة – هو اللوغوس الحكمة الأبديّة؛ الآن قد أصبحت هذه الكلمة نفسها، بواسطة الحبّ غذاءً حقيقياً لنا. إن الإفخارستيا تجذبنا إلى فعلِ تقدمة يسوع لذاته. نحن بها لا نقتبل الكلمة المتجسد بشكل جامِد، بل نتحدُ بقوّة تقدمته لذاته.

السابع والعشرون من ديسمبر

الاتحاد بالمسيح

الإتحاد مع المسيح هو أيضاً إتحادٌ بكل أولئك الذين يمنح المسيحُ نفسه لهم. أنا لا أَستطيع امتلاك المسيح لنفسي فقط؛ يمكنني أن أنتمي له فقط بالإتحاد بكل من أصبح، أَو سيُصبح، ملكه. فتناول القربان المقدس يأخذني خارج نفسي نحوه، وهكذا أيضاً نحو الوحدة مع كل المسيحيين. كلنا نُصبحُ "جسداً واحداً"، مجتمعين بالكامل في وجود وحيد. إن محبّة الله ومحبّة القريب هما الآن أمران متّحدان حقاً: الله المتجسّد يجذبنا جميعاً لشخصه. هكذا يمكننا أن نفهم كيف أنَّ الـ  agape أصبحَت تُعبِّر أيضاً عن الإفخارستيا: بواسطتها تأتي إلينا  agape (محبة) الله بشكلٍ جسدي، كي يواصل عملَه فينا ومن خلالنا… إن الانتقال من الشريعة والأنبياء إلى الوصية المزدوجة أي محبّة الله والقريب، وتأسيس كل حياة الإيمانِ على هذه الوصية المركزية، لَيست ببساطة مسألة مبادئ أخلاقية، يمكن أن تتواجد بِجانب الإيمانِ بالمسيح والاحتفال به بالأسرار. إن الإيمان والعبادة والأخلاقيات هي أمور مرتبطة ببعضها وهي تشكل حقيقةً واحدة تَتضح في لقائَنا مع agape الله. هنا يسقط أي تضاد بين العبادةِ والأخلاقِ. في "العبادة" نفسها، في تناول القربان المقدس، توجد حقيقة أننا محبوبين وحقيقة مَحَبَّة الآخرين. أيُّ احتفالٍ بالإفخارستيا لا يُترجَم إلى ممارسةٍ عمليةٍ للحبِّ، هو احتفال متُمزّقُ جوهرياً. بالمقابل… تصبحُ "وصية" الحبِّ ممكنةً فقط لأنها ليست مجرَّد أمرٍ مطلوب. الحبّ يمكن أن يكون "وصية" لأنه كان أولاً عطية.

الثامن والعشرون من ديسمبر

الحب الناضج

 

خاصية الحب البالغِ أن يتضمن كل قوى الإنسانِ الكامنة؛ فيشغل الإنسان بكامله. إن لقاءنا بمظاهر حب الله المرئية يُمكن أن توقظ فينا شعور الفرحِ المتولد من خبرة أن نكون محبوبين. لكن هذا اللقاءِ يدعو إرادتنا وفكرنا أيضاً للمشاركة. إن الإعتراف بالله الحي هو طريق نحو الحبِّ، والـ "نعم" الصادر عن إرادتنا والخاضع لإرادته، يُوحّد العقل، الإرادة والمشاعر في فعلِ حبِّ واحدٍ وشامل. لكن هذه العمليةِ هي عبارة عن مسيرة دائمة؛ فالحبّ لا "ينتهي" أبداً ولا يكتمل؛ بل يتغير وينضج في مسيرة الحياة بأكملها، وهكذا يَبْقى أميناً لنفسه… تكمن قصة الحب بين الله والإنسان في أن الشركة في الإرادة تنمو لتصبح شركة في الفكر والشعور، وهكذا تتطابق إرادتنا مع إرادة الله على نحو متزايد: إرادة الله لم تعد بالنسبة لي أمرًا غريبًا يُفرض عليّ من خلال الوصايا، لَكنها غدت إرادتي أنا، المؤسسة على اختباري كيف أن الله في الحقيقة هو أقرب لي منّي لنفسي. عندها ينمو تسليم النفسِ لله ويصبح الله فرحنا (راجع مز 73 [72] ، 23 ـ 28).

التاسع والعشرون من ديسمبر

المجد والعدالة

كان هذا الفرح الذي اكتشفه المسيحيون: أنه الآن، انطلاقًا من المسيح، فهموا كيف يجب تمجيد الله، وكيف يمكن من خلال هذا التمجيد أن يضحي العالم عادلاً. وقد أعلن الملائكة أن على هذين الأمرين – أي تمجيد الله ومجيء العدل – أن يتماشيا سوية، إذ قالوا: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح للبشر" (لو 2، 14). مجد الله والسلام على الأرض هما أمران لا ينفصلان. عندما يتم عزل الله، ينهار السلام في العالم؛ من دون الله، ما من تصرف سديد يستطيع أن ينقذنا. بالواقع، ما من تصرف سديد يستطيع أن يكون عادلاً ببساطة، بمعزل عن معرفة ما هو صالح. الإرادة دون معرفة هي عمياء، وبالتالي فالعمل، التصرف السديد، دون معرفة هو أعمى ويقود إلى الهاوية. ولكن إذا كنا نجهل الوجهة التي يجب أن نسير فيها لنغير العالم، إذا كنا لا نفهم معنى الكون وهدفه الداخلي، عندها يصبح التغيير تدميرًا – كما رأينا وكما نرى الآن. ولكن العكس صحيح أيضًا: العقيدة وحدها، التي لا تصبح حياةً وعملاً، تضحي ثرثرة باطلة وفارغة أيضًا. الحقيقة عملية. المعرفة والعمل مرتبطان حميميًا، تمامًا كالإيمان والحياة.

الثلاثون من ديسمبر

الفصح والعائلة

على مدار سنة، يعيش الشعب دومًا خطر أن يَنْحَلّ، ليس فقط بسبب العوامل الخارجية، بل أيضًا في داخله، وأن يفلت من يده الزخم الداخلي الذي يسنده. يحتاج الشعب للرجوع إلى أصله الأولي… نختبر القوى الأصلية والمخربة التي تنبثق في وسط مجتمع يتقدم – ويبدو أنه يعرف كل شيء ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا البتة – وتقوم هذه القوى بتدمير التقدم عينه الذي تفخر به. نرى كيف أنه في خضم البحبوحة، والإنجازات التكنولوجية، وسيطرة العلم على العالم، يمكن لأمة أن تتدمر من الداخل؛ نرى كيف أن الخليقة يمكن أن تكون مهددة من قبل القوى المخربة التي تدور في أعماق القلب البشري. نلاحظ أن لا المال ولا التكنولوجيا، ولا قدرة التنظيم منفردة تستطيع أن تزيل الخراب. وحده سور الحماية الحق الذي يمنحه الرب، العائلة الجديدة التي خلقها لنا، تستطيع أن تقوم بهذا الأمر… الفصح [العبور] هو تنبيه موجه إلينا يذكرنا بأن العائلة هي البيت الحي الذي تُحتَضَن فيه البشرية، وحيث يتم وقف الخراب والعبث، وأنه يجب حماية هذه العائلة… لا يمكن للعائلة المفردة أن تبقى على قيد الحياة، بل إنها تزول حتمًا إذا لم تتم حمايتها في إطار العائلة الكبرى التي تضمن لها وتهبها الأمان. لذا يحب على هذه الليلة أن تكون ليلة نقرر فيها من جديد أن نسير على هذا الدرب المزدوج: نسير على درب المدينة الجديدة، العائلة الجديدة، الكنيسة، ونكرس أنفسنا لها دون رجوع، لِبَيْتِ قلبنا الحق؛ ومن ثم، على أساس عائلة يسوع المسيح هذه، يمكننا أن نتقدم في إدراك معنى العائلة البشرية ومعنى البشرية التي تسندنا وتحمينا.

الحادي والثلاثون من ديسمبر

في البدء كان الكلمة

"في البدء كان الكلمة" – هذه العبارة الجليلة والقديمة، والتي سمعناها مرات كثيرة، لم تعد لتعني الكثير بالنسبة لنا. لقد وضع غوتيه على لسان فاوست هذه الكلمات: "لا يمكنني أن أقدر الكلمة بهذا الشكل"، ولذا يترجم الجملة بهذا الشكل: "في البدء كان الفعل". ويقول لنا الفيزيائيون: "في البدء كان ‘الانفجار العظيم‘". ولكن عندما نفكر بهذا الأمر، نرى أن هذه البدائل لا تكفينا… ولذا نعود من جديد إلى "الكلمة" البيبلي. لا بد أن نقرأ كل الجملة لكي نفهم المقصود: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، والكلمة كان الله". هذا يعني أن الله موجود منذ البدء، أن الله هو البدء، هو الأصل. كل شيء يأتي من الروح الخالق، من الله الخالق. وإذا كان يدعى "الكلمة"، فهذا يعني أن في الأصل هناك إله هو فكر. في البدء هناك فكر خلاق دعا العالم إلى الوجود؛ وهذا الفكر هو، إذا جاز التعبير، الركيزة الثابتة التي يقوم عليها الكون، المنهل الذي نصدر عنه، والذي نوجد فيه، والذي نثق به. ولكن عندما يقول الكتاب المقدس: "في البدء كان الكلمة"، يقول أكثر مما سبق وقلنا. فالله ليس فكرًا وحسب، كما ولو أنه يسوس العالم كفكرة حسابية، بينما يبقى في ذاته غير ملموس وغير متوفر؛ هذا الإله، الذي هو الحقيقة، الروح، الفكر، هو أيضًا الكلمة، أي هو أيضًا الهبة. إنه بالنسبة لنا البدء الجديد الأبدي، وبالتالي، هو الرجاء الجديد، والدرب الجديد.