عظة البطريرك صفير 14/12/2008

البطريرك الماروني يطالب بإعادة النظر بالاحكام الصادرة في عهد الاحتلال

بكركي، الأحد 14 ديسمبر 2008 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها  البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير خلال قداس الاحد في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي بعنوان  "اعطنا خبزنا كفاف يومنا ، واغفر لنا ذنوبنا كما نحن نفغر لمن خطئ الينا" والتي تابع فيها تعليمه عن كتاب يسوع الناصري للبابا بندكتس السادس عشر.

 

"نتابع الحديث عن كتاب قداسة البابا بندكتس السادس عشر المعروف باسم " يسوع الناصرة"، وقد تطرّق فيه الى الحديث عن الصلاة الربية وشرحها. ونواصل شرح المقطع الذي يتحدُث عن الخبز اليومي الذي نطلبه من الله، وعن طلب المغفرة المشروط نيلها بمغفرة الأساءة التي وجهّها الينا القريب.
ان الطلب المتعلّق بالخبز، الخبز اليومي فقط، يوقظ أيضا ذكرى الأربعين سنة لسير اسرائيل في الصحراء، التي عاش خلالها الشعب من الخبز الذي أعطاه اياه الرب من السماء. وكان لكلٍّ الحق في أن يجمع فقط ما هو ضروري ليومه. وفي اليوم السادس فقط كان يحق لهم أن يجمعوا الوجبة الضرورية ليومين، لكي يحترموا وصية السبت ( راجع خروج 16: 16-22). وكانت جماعة التلاميذ، التي تعيش كل يوم مجدّدا من جودة الله، تجدّد خبرة شعب الله في سيره، والتي غذأها الله حتى في الصحراء.

وهكذا ان طلب الخبز فقط لهذا اليوم يفتح آفاقا تتجاوز أفق الغذاء اليومي الذي لا بدّ منه. وهو يفترض اتباع جماعة التلاميذ الضيّقة اتباعا صارما، التلاميذ الذين يرفضون امتلاك هذا العالم ليسلكوا طريق الذين يعتبرون "عارالمسيح غنى أعظم من كنوز مصر" . ويظهر ألأفق الأخروي: ان الوقائع المستقبلية هي أهمّ وأكثر واقعية من الوقائع الحاضرة.
وهكذا نصل الآن الى كلمة من هذا الطلب الذي، يبدو أنه لا طائل تحته، في ترجماتنا المعتادة: "أعطنا اليوم خبزنا في هذا اليوم". ان هذا اليوم يترجم اللفظة اليونانية ابيوسيوس التي قال عنها اللاهوتي أوريجانوس ( توفّي نحو 254)، وهو من أكبر معلّمي اللغة اليونانية، ان هذه اللفظة لا وجود لها في غير أمكنة، وأن الانجيليين أوجدوها. وقد وجدوا، في ذلك الوقت، في هذه الحالة، مرادفا لهذه الكلمة في رقّ بردي من القرن الخامس بعد المسيح. ولكن هذه المصادفة المنفردة لا يمكنها أن تعلمنا بطريقة ثابتة عن معنى هذه الكلمة الغير المألوفة ، والنادرة. ويجب الاعتماد على أصل الكلمة وعلى دراسة النصّ.
عندنا اليوم خاصة شرحان. أحدهما يقول ان الكلمة تعني " الخبز الذي لا بدّ منه للوجود". ومعنى الطلب يكون اذن: اعطنا اليوم الخبز الذي نحن في حاجة اليه لنتمكّن من أن نعيش. الشرح الثاني يقول ان الترجمة الصحيحة هي التالية:" الخبز المستقبلي"، أي خبز الغد. لكن طلب قبول اليوم خبز الغد لا يبدو أن له أساسا على ضؤ طريقة حياة الرسل. والإشارة الى المستقبل تستنير أكثر بقليل اذا صلّينا من أجل خبز المستقبل الحق: من أجل مّن الله الحقيقي. اذذاك يكون الطلب أخرويا، طلب استباق العالم الآتي، أي أن يعطينا الرب منذ " اليوم" خبز المستقبل، خبز العالم الجديد، أي هو عينه. حينئذ يتخّذ الطلب معنى أخرويا. وهناك بعض ترجمات قديمة تذهب في هذا الاتجاه، وهكذا ان توراة القديس ايرونيموس التي تترجم كلمة الفوق الجوهرية السرية، يترجمها بمعنى "الجوهر" الجديد، الجوهر الأسمى الذي يعطيناه الرب في سر القربان بوصفه خبز حياتنا الحقيقي.

وفي الواقع، ان آباء الكنيسة فهموا كلهم تقريبا الطلب الرابع من الأبانا كطلب افخاريستي. وبهذا المعنى ان صلاة الرب حاضرة في طقس القداس بوصفها صلاة افخارستية. وهذا لا يعني مطلقا أن المعنى الأرضي البسيط، الذي استخرجناه الساعة على انه معنى النص الفوري، قد حُذف من طلب التلاميذ. ان الآباء يفكرون بمختلف أبعاد كلمة تبدأ بطلب الفقراء الخبز لهذا اليوم، ولكن من أجل هذا، وفيما نتجه ببصرنا الى آبينا السماوي الذي يغذّينا، هذه الكلمة توحي أيضا شعب الله السائر الذي غذّاه الله عينه. وبالنسبة الى المسيحيين، ان أعجوبة المنّ، على ضؤ خطاب يسوع الكبيرعن خبز الحياة، تحيل احالة شبه تلقائة تتعدّاها، الى عالم جديد حيث كلمة الله الأزلي يكون خبزنا ،وطعام وليمة العرس الأبدية.

هل لنا الحق بأن نفكّر في هذه الأبعاد، ام ان في الأمر " تفكيرا لاهوتيا" يخرج عن كلمة معناها بكل بساطة أرضي ؟ هناك اليوم خوف من هذا التفكير اللاهوتي الذي ليس عاريا من كل أساس، ولكن يجب ألاّ نبالغ في هذا الأمر. واني أفكّر بانه يجب، لدى شرح طلب الخبز، أن نبقي في الذهن كلمات يسوع وأعماله في اطارها الأرحب، حيث عناصر الحياة البشرية الجوهرية تقوم بدور كبير: الماء، والخبز، والكرمة، والخمر، بما أنها علامات تدلّ على طابع العالم المبهج وجماله. ويتخذ موضوع الخبز مكانا مهمّا في رسالة يسوع، وفي تجربة الصحراء حتى العشاء السرّي، مرورا بتكثير الخبز .

ان الخطاب الكبير عن خبز الحياة في الفصل السادس من انجيل القديس يوحنا يفتح حل معنى هذا الموضوع. بداءة بدء، نحن مع جوع الرجال الذين سمعوا يسوع، والذي لم يدعهم يذهبون دون أن يشبعهم، أي دون "الخبز الذي لا بدّ منه "، الذي نحن في حاجة اليه للحياة. ولكن يسوع لا يقبل بأن نبقى هنا، وأن يحصر حاجات الناس الى الخبز، أي الحاجات الحيوية، المادية. " ليس بالخبز وحده يحيا الانسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله" . ان الخبز الذي تكاثر بأعجوبة يذكّر أولا باعجوبة المنّ في الصحراء، ولكنه يحيل في الوقت عينه الى ما هو أبعد منه. وهو يقول لنا ان غذاء الانسان الحقيقي هو الكلمة الأزلي المعنى الحقيقي الذي أتينا منه، والذي بانتظاره نحيا. اذا كان هذا التجاوز الأول لهذا الاطار الطبيعي لا يقول اولا الاّ ما كانت قد وجدته الفلسفة الكبيرة، وبامكانها أن تجده، فقد تبعه حالا تجاوز آخر. ان الكلمة الأزلي يصبح عمليا الخبز للانسان فقط لأنه "أخذ جسدا" وهو يخاطبنا بعبارات بشرية.

ويتبع التخطّّي الثالث الجوهري الذي، دونما ريبة، يتسبّب بشكّ لأناس كفرناحوم: ان من صار انسانا أعطانا ذاته في سرّ القربان، وهكذا فقط أصبح الكلمة الأزلي مَنّاَِ كاملا، عطية الخبز المستقبلي منذ اليوم. ومنذ ذلك الحين جمع الرب الجميع مرّة ثانية، واتخاذ هذا الجسم الأخير هو حقا هذا التروحن الحقيقي:" الروح هو الذي يحيي، الجسد لا يفيد شيئا" . هل لنا أن نفترض أن يسوع ، لدى طلب الخبز، وضع بين معقوفين، كل ما يطلب منا عن الخبز، وما يريد أن يعطيه كخبز؟ اذا أخذنا رسالة يسوع في مجملها، لا يمكننا اذذاك محو البعد الأفخارستي من الطلب الرابع من الأبانا. ان طلب خبز هذا اليوم للجميع هو جوهري حقا في بعده الحسّي والأرضي. ولكنه بالطريقة عينها، يساعدنا على تخطّي الوجهة المادية المحض، وعلى طلب واقع : الغد" منذ الآن، أي الخبز الجديد. وفيما نصلّي اليوم من أجل واقع " الغد" نُحضّ على أن نحيا منذ الآن من " الغد"، من محبة الله الذي يدعونا جميعا الى المسؤولية المتبادلة.

وهنا اريد أن أعطي الكلام مجدّدا لقبريانوس الذي يشدّد على هذا المعنى المزدوج… فهو يعود بكلمة "نحن" التي تكلّمنا عنها سابقا، الى الأفخارستيا الذي هو، بمعنى خاص جدّا، " خبزنا" خبز تلامذة يسوع المسيح. فهو يقول: نحن الذين بمقدورنا أن نقبل الأفخارستيا كخبزنا، علينا دائما أن نصلّي مجدّدا لكيلا يُقطع أحدٌ، ويفصل عن جسد المسيح. " وهكذا نطلب" خبزنا" اليومي، أي المسيح لكي نبقى، نحن الذين حياتنا في المسيح، دائما متحدّين بنعمته وجسده المقدس.
اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا كما نحن نغفر لمن خطئ الينا.

ان الطلب الخامس من الأبانا يفترض عالما فيه اهانات- اهانات اناس بالنسبة الى سواهم.، وبالنسبة الى الله. كل خطأ بين الناس يتضمّن بطريقة أو بأخرى تأويلا تعسّفيا للحقيقة والمحبة، ويقاوم هكذا الله الذي هو الحقيقة والمحبة. وتخطّي الذنب هو قضية مركزية لكل حياة انسان. ويحوم تاريخ الأديان حول هذه المسألة. والخطأ يستدعي الانتقام. ويتولّد هكذا تصاعد الديون حيث لا يفتأ شرّ الخطأ يتعاظم، ويصبح من الصعب الخروج منه. بهذا الطلب، يقول لنا الرب: لا يمكن تجاوز الخطيئة الاّ بالغفران، وليس بالانتقام. الله هو اله غفور لأنه يحب خلائقه. ولكن الغفران لا يمكنه أن يدخل ويفعل الا في الذي هو عينه يغفر.
ان موضوع الغفران يجتاز كل الانجيل. ونجده في مستهل الخطبة على الجبل، وفي شرح الوصية الخامسة الجديد حيث يقول لنا الرب: "عندما تذهب لتقدمة قربانك الى المذبح، وتذكّرت هناك أن لأخيك شيئا عليك، فدع قربانك هناك أمام المذبح، واذهب أولا وصالح أخاك، وحينئذ عد وقدّم قربانك" . من لم يكن متصالحا مع أخيه، لا يمكنه أن يتقدّم أمام الله. ان شرط تقدمة عبادة صادقة لله يقوم على استباق هذا الأخ في منحه الغفران، والذهاب اليه. وفي هذا الصدد، نفكّر عفوا بان الله عينه ، بما أنه يعرف أننا نحن معشر البشركنا عصاة عليه ، قد خرج من ألوهته لملاقاتنا ومصالحتنا.

ونذكر أن يسوع، قبل أن يهبنا الأفخارستيا، ركع أمام تلامذته وغسل لهم أرجلهم الوسخة، ونقّاهم بمحبته الوضيعة. في وسط انجيل القديس متى ( راجع 18: 23-35) نجد مثل الخادم العديم الشفقة. وقد حظي هذا الموظّف الملوكي، العالي القدر، باطفاء دينه البالغ عشرة آلاف وزنة ( أي ستين مليون قطعة فضة) ، فيما انه هو ليس على استعداد لأن يترك مائة قطعة ذهبية، وهو مبلغ تافه اذا قورن بذاك. وأيا يكن ما علينا أن نسامح به نفوسنا، فهو نزر يسير بالمقارنة مع جودة الله الذي يغفر لنا. وفي نهاية المطاف، نستمع الى صلاة يسوع الآتية من الصليب: " اغفر لهم يا أبتاه، انهم لا يدرون ما يفعلون:" .
اذا أردنا أن نفهم تمام الفهم هذا الطلب ونجعله طلبنا، علينا أن نخطو خطوة اضافية ونتساءل: ما هو الغفران؟ ماذا يحدث في الغفران؟ الخطأ هو واقع، وواقع موضوعي. فقد أحدث دمارا يجب التغلّب عليه .لذلك يجب أن يكون الغفران أكثر من ارادة التجاهل أو النسيان. يجب تحمّل مسؤولية الخطأ، والتعويض عنه، والتغلّب عليه. والغفران له ثمن، أولا لمن يغفر. والشر الذي نزل به، عليه أن يتعالى عليه باطنيا، ويحرقه في داخله، ويتجدّد هكذا بحيث انه يُدخل الآخر، المسيء، في عملية التحوّل والتنقية الباطنيتين، ويتجدّد الاثنان بتحملهما الضرر الى النهاية والتغلّب عليه. وهنا نصطدم بسرّ صليب المسيح. ولكنننا أولا نتعثّثر عند حدود قوانا لنشفى ونتغلّب على الشرّ. ونتعثّر أمام تفوّق الشرّ الذي لا يمكننا أن نتغلّب عليه بقوانا وحدها. ان راينهولد شنايدر يقول بهذا الصدد: ان الشرّ يعيش تحت آلاف الأشكال، ويحتلّ قمة السلطة… ويخرج من الأعماق. غير أن المحبة ليس لها سوى شكل واحد: شكل ابنك" .

أيها الأخوة والأبناء الأعزاء،
ان الطلبتين الرابعة والخامسة من الأبانا لهما معنى كبير. الأولى نطلب فيها الى الله أن يعطينا خبزنا اليومي، وليس تكديس الثروات الكبيرة. والثانية نطلب فيها من الله أن يغفر لنا ذنوبنا، على أن نفغر نحن لمن خطىء وأساء الينا.

وما دام الأمر يتعلّق بالمغفرة والصفح عن الأساءة، هناك أصوات ترتفع في لبنان باعادة النظر في الأحكام التي صدرت بحق مواطنين في عهد الاحتلال، وهي أحكام مشكوك في صحتها، وتجب اعادة النظر فيها ليطمئن أصحابها وذووهم، ويستأنفوا حياتهم في مأمن من كل اجحاف. وهذا ما عمد اليه كثير من الدول في مثل هذه الحالة، وبخاصة فرنسا، عندما تحرّرت من الاحتلال النازي. فعسى أن يلقى هذا المطلب آذانا مصغية".