رسالة المطران سليم الصائغ بمناسبة الميلاد

الأردن، الأربعاء 24 ديسمبر 2008 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي رسالة المطران سليم الصائغ، مطران اللاتين في الأردن بمناسبة عيد الميلاد المجيد، بعنوان "دعوات الميلاد"

 

الميلاد دعوة الى الايمان بكلمة الله المتجسد. الكلمة صار بشرا وحل فينا. جاء يتضامن مع الانسان الذي بخطيئته وابتعاده عن الله اصبح ابنا للهلاك الابدي. فلا شيء في حياة الانسان أهم من الخلاص من هذه الورطة. جاء المسيح يخلصنا منها مرتديا عواطف الحنان والرافة والتواضع والوداعة. منه ورثنا البر بدلا من الخطيئة، والحياة بدلا من الموت.

 الميلاد دعوة الى الفقراء بالروح. وُلد المسيح كما يولد أفقر الفقراء. اهتمت به أمه وحدها وليس من يساعدها. ووضعته في مذود الحيوانات لئلا تدوسه البهائم. وظهر ملاك الرب للرعاة، وجعل لهم من فقر المسيح علامة ودليلا، لكي يتحققوا من واقع ولادته إذ قال لهم: "تجدون طفلا مقمطا مضجعا في مذود". فذهبوا الى بيت لحم وتعرفوا على العلامة والدليل، ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعا في المذود. فقر المذود ثبّت الرعاة في ايمانهم. فالسيد المسيح، بفقره علمنا العطاء والسخاء وعلمنا أن نطلب رحمته برحمة الاخرين وإن كانوا من الاعداء والمبغضين. فاقتدت به النفوس التقية، في كل عصر، ونذرت له الفقر وعاشته فضيلة على مثاله، ونعمت بمجد الرب  بعيدا جدا عن المطامع البشرية. الميلاد درس في القناعة والزهد والتجرد وروح الفقر، لكي نرى وجه المسيح في وجه كل بائس، في العريان والمريض، في السجين والغريب. وأما الهدايا والالعاب التي نوزعها على الصغار فإنها تملأ القلوب بهجة وارتياحا، وتذكرنا بالبراءة… التي فقدناها.

 الميلاد دعوة الى الفرح السماوي الذي لا يُقاس بمقياس البشر. فالسماء بشرت الارض بالفرح العظيم: "ولد لكم اليوم مخلص"، فأصبح الخلاص الذي تحدثت عنه أقدم النبؤات المسيحانية حقيقة راهنة. فالمسيح المولود هو ينبوع الخلاص وصانع الخلاص للجنس البشري برمته. كل انسان، معني شخصيا بالخلاص الذي جاء به السيد المسيح، لان من حق كل انسان ان يكون سعيدا. ليس عالم اليوم في وضع يجعل الانسان سعيدا  او يجعله ينجو من الشر في مختلف أشكاله وأنواعه. لا شك في أن الالم يشكل للانسان امتحانا قاسيا جسديا وروحيا. وهذه الحقيقة هي من صميم الانجيل. إلا أن الدعوة الى الفرح السماوي، بالرغم من الألم الذي يتقبله الانسان في سبيل لله، هي حقيقة أساسية في بشارة الانجيل.

 الميلاد دعوة الى الاسرة المسيحية. وهو عيد الام والأب والابناء. فما اطيب ان تكون الاسرة متحدة على الخير والمحبة المتبادلة، في السراء والضراء، في الصحة والمرض. يسوع وُلد في أسرة، فقدس الامومة، وقدس الاسرة، وقدس بشريتنا. عالم اليوم، كثيرا ما يحيد بالاسرة عن هويتها الانسانية ورسالتها التربوية، ويعتبر المرأة متاعا للرجل، ويجعل من الحرية إباحية، ومن العنف والسيطرة والمال غاية وسبيلا، ويحلل قتل الاطفال الابرياء بالاجهاض. وكثيرا ما تتلاعب بالاسرة حضارة الاستهلاك، ووسائل الاعلام التي تطيح بقيمها الانسانية. فالاسرة اليوم هي بحاجة الى دعوة الميلاد أكثر من أي وقت مضى.

 الميلاد دعوة الى السلام الذي تجود به السماء على ذوي الارادة الصالحة. الناس في بيت لحم لم يفتحوا له أبوابهم، فلجأت امه الى مغارة حيث ولدته ولفته بالقمط واضجعته في مذود للحيوانات. فأنشدت له الملائكة في السماء: المجد لله في العلى، وعلى الارض السلام. المجد لله خالقنا وفادينا محبنا وراحمنا. وعلى الارض سلام السماء الذي يضمن للانسان سعادته واتزانه وكرامته وحريته. سلام السماء يحل في الضمير الذي يطلب البر ويحفظ الوصايا ويلتزم بحب الله والقريب. فلا مكان له في القلوب المستسلمة للجشع والانانية، للكراهية والظلم، للعنف والاستبداد.

 الميلاد دعوة الى الرحمة الالهية، لأن ميلاد السيد المسيح كشف للبشر ان الله أب وأم معا، فيه تتعانق الأبوة والأمومة. فهو محب للجميع يشرق شمسه على الابرار والاشرار، وهو أرحم الراحمين، يفيض رحمة وحنانا على كل انسان مهما كان عرقه ولونه وثقافته ودينيه. بميلاد المسيح تدخل الله  في تاريخ البشر تدخلا حاسما، وأكد للانسان أنه موضوع حبه ورافته ورحمته.

 الميلاد دعوة الى الابداع الذي يرسم لنا العيد بأبهى مظاهره الانسانية والدينية جيلا بعد جيل، وتمثله المغارة والشجرة والانوار البهية التي اعتدنا ان نجعلها في بيوتنا وكنائسنا. كم من لوحات فنية للميلاد، تعبر أجمل تعبير عما يخالج النفس من حب وإيمان، من انسانية وطفولة بريئة تحسدنا عليها الملائكة. كم من مقطوعة موسيقية ترفع النفس الى الله وتهذبها وتغذيها. يكفي ان تحضر أمسية ميلادية، لترتفع بك الالحان السماوية والاصوات الملائكية، الى الغيوم التي وقفت عليها ملائكة الميلاد حين انشدت المجد لله في العلى وعلى الارض السلام.

دعوات الميلاد كثيرة تتجاوز حدود المكان والزمان، تحملها أشرعة الايمان والحب والسلام والفن والادب، تنشرها عبر الزمن، وتصدح بها في كل فضاء. ونحن اليوم نحمل بعضا منها في قلوبنا وننثرها على بلادنا الأبية، ملكا وحكومة وشعبا، حبا وفرحا وسلاما.

+ المطران سليم الصائغ