عظة البابا خلال تلاوة تسبيحة الشكر لله

روما، الخميس 8 يناير 2009 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر خلال أولى صلوات الغروب ضمن تكريم أم الله الكلية القداسة الذي تم الاحتفال به في بازيليك القديس بطرس بتاريخ 31 ديسمبر 2008.

* * *

إخوتي وأخواتي الأعزاء!

إن السنة التي تنقضي والأخرى التي تلوح عند الأفق موضوعتان معاً أمام النظرات المباركة لأم الله الكلية القداسة. والتمثال الخشبي المزخرف القائم هنا، قرب المذبح، والذي يظهرها على العرش مع الطفل المبارك، يذكرنا بحضورها الأمومي. من خلال احتفالنا بصلوات الغروب الأولى ضمن هذا التكريم المريمي، نجد العديد من المراجع الليتورجية التي تشير إلى سر أمومة العذراء الإلهية.

"يا لها من مبادلة رائعة" هكذا تبدأ لازمة المزمور الأول وتتابع لاحقاً: "أخذ الخالق روحاً وجسداً، وولد من العذراء". أما لازمة المزمور الثاني التي تعلن أنه "عند ولادتك من العذراء بطريقة فريدة، أتممت ما كتب"، فإنها تردد كلمات اللازمة الثالثة التي عرفتنا إلى المزمور المأخوذ عن رسالة بولس إلى أهل أفسس: "أيتها العذراء الطاهرة، أم الله: إننا نسبحك وأنت تصلي من أجلنا". إن أمومة مريم الإلهية مشار إليها أيضاً في القراءة الموجزة التي تم إعلانها والتي تقدم مجدداً الآيات الشهيرة في الرسالة إلى غلاطية: "ولكن لما جاء تمام الزمان، أرسل الله ابنه، وقد ولد من امرأة […] فننال جميعاً مقام أبناء الله" (غل 4: 4، 5). وفي تسبيحة الشكر التقليدية التي نرفعها في ختام احتفالنا أمام القربان المقدس المعروض للعبادة، سوف نرنم أيضاً: "أنت، أيها المسيح، ولدت من الأم العذراء من أجل خلاص البشر".

إن كل شيء يدعونا هذا المساء للنظر إلى المرأة "التي قبلت مشيئة الله في قلبها وجسدها، ووهبت الحياة للعالم"، والتي بسبب ذلك تحديداً "تُعرف وتُكرم كأم الله الفعلية" بحسب ما يذكرنا المجمع الفاتيكاني الثاني (نور الأمم رقم 53). إن ميلاد المسيح الذي نحتفل به خلال هذه الأيام ينطوي بشكل كامل على نور مريم، فإننا عندما نتوقف في المغارة للتأمل في الطفل، لا نستطيع سوى النظر بامتنان إلى الأم التي جعلت هبة الفداء ممكنة بقولها "النعَم". لذا يحمل زمن الميلاد في طياته تضميناً مريمياً؛ إذ أن ميلاد يسوع، الإله والإنسان، وأمومة مريم الإلهية يشكلان معاً حقيقتين غير قابلتين للانفصال، كما أن سر مريم وسر ابن الله الأوحد الذي تأنس يشكلان سراً فريداً، إذ يساعد أحدهما على فهم الآخر.

مريم هي أم الله. لقد جرى تكريم العذراء منذ القدم من أجل هذه الصفة، بيد أننا لم نجد في الغرب خلال عدة قرون عيداً مخصصاً لأمومة مريم الإلهية. والبابا بيوس الحادي عشر هو من أدخله إلى الكنيسة اللاتينية سنة 1931، بمناسبة اليوبيل الخامس عشر لمجمع أفسس، محتفلاً به في الحادي عشر من شهر أكتوبر. ومنذ ذلك التاريخ، بدأ المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني سنة 1962. ولاحقاً قام خادم الله بولس السادس سنة 1969 باستعادة تقليد قديم وتعيين هذا العيد في الأول من يناير. وفي الإرشاد الرسولي "عقيدة مريم" الذي صدر في الثاني من فبراير سنة 1974، أوضح سبب هذا الاختيار وعلاقته بيوم السلام العالمي، كاتباً: "في التنظيم المعدل في زمن الميلاد، يظهر لنا بأننا جميعاً مدعوون إلى الاهتمام بإعادة تكريم القديسة مريم، أم الله: […] إذ أنه يرمي إلى الاحتفال بدور مريم في سر الخلاص وتعظيم الوقار الفريد الذي ينشأ عنه لصالح الأم الكلية القداسة  […] ويشكل إضافةً إلى ذلك مناسبة ممتازة من أجل تجديد عبادتنا للمولود الجديد، أمير السلام، من أجل الإصغاء مجدداً إلى رسالة الفرح التي أنشدها الملائكة (لو 2، 14)، وابتهال نعمة السلام السامية من الله، بشفاعة ملكة السلام" (رقم 5 في تعليم بولس السادس، الثاني عشر 1974، ص. 105-106).

نود هذا المساء أن نضع بين يدي أم الله السماوية نشيدنا لنشكر الرب على النعم التي أغدقها علينا خلال الأشهر الاثني عشر المنصرمة. فالشعور الأول الذي يتولد هذا المساء تلقائياً في قلوبنا هو شعور التسبيح والشكر لمن منحنا هبة الوقت التي تعد فرصة ثمينة من أجل أن نقوم بأعمال الخير؛ نضم إلى ذلك التماس المغفرة لأننا لربما لم نستخدمه بشكل مفيد دائماً. يسعدني أن أشارك معكم في تسبيحة الشكر هذه، إخوتي وأخواتي الأعزاء يا من تمثلون جماعتنا الأبرشية التي أوجه تحياتي القلبية إليها وإلى جميع سكان روما. وأخص بالتحية الكاردينال النائب ورئيس البلدية اللذين استهلا هذه السنة القيام بمختلف مهامهما – الروحية والدينية من جهة، والمدنية والإدارية من جهة أخرى – في خدمة مدينتنا. كما أشمل بتحياتي الأساقفة المعاونين والكهنة والمكرسين والمؤمنين العلمانيين المجتمعين هنا، والسلطات الحاضرة. من خلال مجيئه إلى العالم، أظهر لنا كلمة الله الأبدي قُرب الله منا والحقيقة السامية حول الإنسان ومصيره الأبدي؛ جاء ليمكث معنا ويكون لنا سنداً لا بديل عنه، بخاصة في المصاعب المحتومة في حياتنا اليومية. بدورها تذكرنا العذراء هذا المساء بالهبة الكبيرة التي منحنا إياها يسوع بميلاده، و"بالكنز" الثمين الذي يقدمه لنا تجسده. في ميلاده، يأتي يسوع مقرباً كلماته كنور يرشد خطواتنا؛ ومقرباً ذاته لنا، لذا لا بد لنا من معرفة كيفية تعليله، هو رجاؤنا الأكيد، في وجودنا اليومي، مدركين بأن "سر الإنسان لا يتضح فعلاً إلا في سر الكلمة المتجسدة" (فرح ورجاء رقم 22).

إن حضور المسيح هو هبة تجدر بنا مشاركتها مع الجميع. هذا ما يطمح إليه الجهد الذي تبذله الجماعة الأبرشية من أجل إعداد أشخاص رعويين فاعلين وقادرين على مواجهة التحديات التي تفرضها الثقافة المعاصرة على الإيمان المسيحي. هذا وأن وجود المؤسسات الجامعية المتعددة والمؤهلة في روما، والمبادرات المتعددة المعززة من قبل الرعايا يسمح لنا بالنظر بثقة إلى مستقبل المسيحية في هذه المدينة. أنتم تعلمون جيداً بأن اللقاء مع المسيح يجدد الوجود الفردي ويساعدنا على المساهمة في بناء مجتمع متميز بالعدل والتآخي. وبالتالي فإننا قادرون كمؤمنين على المساهمة أيضاً بشكل كبير في تخطي الإلحاحية الحالية في موضوع التربية. لذا من المفيد أكثر من أي وقت مضى أن ينمو التناغم بين العائلات والمدارس والرعايا في سبيل تبشير عميق بالإنجيل، وتعزيز بشري شجاع قادرَين على نقل الثروة المنبثقة من اللقاء بالمسيح إلى أكبر عدد ممكن من الأشخاص. لذا فإنني أشجع جميع المسؤولين في أبرشيتنا على متابعة الدرب التي بوشر العمل فيها، وإنجاز برنامج السنة الرعوية الجارية الذي يهدف تحديداً إلى "التربية على الرجاء في الصلاة والعمل والمعاناة".

في عصرنا هذا الموسوم بالشك والانشغال بالمستقبل، لا بد لنا من الشعور بوجود المسيح الحي الذي يرشدنا إلى مريم، نجمة الرجاء. هي القادرة بفضل محبتها الأمومية على الإرشاد إلى يسوع، بخاصة على إرشاد الشباب الذين يحملون سؤالاً مطبوعاً في قلوبهم حول معنى الوجود البشري. إنني أعلم بأن مجموعات كثيرة من الأهالي تبحث عن سبل جديدة لمساعدة أطفالها على الإجابة عن تساؤلات الوجود، وذلك من خلال اللقاء في سبيل تعميق دعوتها. لذا أوجه لها وجميع الطوائف المسيحية دعوة قلبية إلى إظهار الفرح إلى الأجيال الجديدة، هذا الفرح المنبثق من اللقاء مع يسوع الذي جاء من خلال ميلاده في بيت لحم لا لأخذ أي شيء منا بل لمنحنا كل شيء.

خلال ليلة الميلاد، فكرت بخاصة بالأطفال، ولكنني أود هذا المساء أن أهتم بخاصة بالشباب. أيها الشباب الأعزاء، المسؤولون عن مستقبل مدينتنا، لا تخافوا من الواجب الرسولي الذي يوكله إليكم الرب، ولا تترددوا في اختيار نمط عيش يخالف العقلية المتعية المعاصرة. الروح القدس يمنحكم القوة اللازمة من أجل إظهار فرح الإيمان، وجمال أن تكونوا مسيحيين. كما أن المقتضيات المتزايدة للتبشير بالإنجيل تفرض وجود العديد من العمال في كرمة الرب: لا تترددوا في الاستجابة له فوراً إن ناداكم. إن المجتمع بحاجة إلى مواطنين لا يهتمون فقط بمصالحهم الخاصة لأنه وكما ذكرت في يوم الميلاد: "إن فكر كل فرد فقط بمصالحه الخاصة، لأصبح العالم دماراً".

إخوتي وأخواتي الأعزاء، تختتم هذه السنة بأزمة اجتماعية واقتصادية تطال العالم أجمع مستقبلاً؛ أزمة تتطلب من الجميع رزانة وتضامناً أكبر من أجل تقديم المساعدة بشكل خاص إلى الأفراد والعائلات الأكثر معاناةً. لقد التزمت الجماعة المسيحية بهذا الأمر وأعرف أن كاريتاس الأبرشية والمنظمات الخيرية الأخرى تبذل قصارى جهدها إلا أن تعاون الجميع ضروري لأنه لا يمكن لأحد التفكير ببناء سعادته وحده. وحتى ولو لاحت في الأفق العديد من الظلال حول مستقبلنا، يجب ألا نجزع أبداً. فرجاؤنا الكبير كمؤمنين هو الحياة الأبدية بالاتحاد مع المسيح وعائلة الله جمعاء. هذا الرجاء الكبير يعطينا القوة على مواجهة مصاعب الحياة في هذا العالم وتخطيها. ويؤكد لنا هذا المساء حضور مريم الأمومي بأن الله لا يتخلى عنا أبداً إن سلمناه أنفسنا واتبعنا تعاليمه. لذا بمحبة وثقة بنويتين، نقدم إلى مريم آمالنا ورجاءنا، والمخاوف والمصاعب التي تخيم على قلوبنا، في الوقت الذي نختتم سنة 2008 ونستعد لاستقبال سنة 2009. فلتقدم لنا العذراء مريم الطفل النائم في المغارة رجاءً أكيداً لنا. وبالتالي نرنم بإيمان في ختام تسبيحة الشكر: "أنت الرب رجائي، لن يخيب ظني أبداً!". أجل أيها الرب، إننا نضع فيك رجاءنا اليوم وإلى الأبد. أنت رجاؤنا. آمين!

نقلته من الفرنسية إلى العربية غرة معيط (ZENIT.org)

حقوق الطبع محفوظة لدار النشر الفاتيكانية – 2009