حضارة المحبة للبطريرك الأنبا أسطفانوس الثاني غطاس

 

إن عالمنا اليوم و نحن على عتبة القرن الجديد ، يزدحم بالعلوم و بسيادة العقل ، و قد تهز التجارب العلمية المندفعة و المتدفقة ، قيم الحياة الروحية و تمس صميم و معنى الوجود الإنساني ، و بخاصة تلك التى تخوض ميدان الهندسة الوراثية ، و محاولات الإستنساخ.

إن المسيحية لم تكن ابداً ، عائقاً امام تقدم العلوم أو رفاهية البشر ، بل العكس فقد جاء المسيح حباً في الإنسان و تقديساً لمعنى الحياة "هكذا أحب الله العالم حتى بذل كلمته الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به" (يو 3 : 16).

بل إن المسيحية أمدت الحضارة بأسمى عناصر تقدمها و رقيها ، فقد دعا الإنجيل إلى احترام كل إنسان ، و إلى حرية العقل و الضمير ، و إلى أخوة البشر جميعاً و المساواة بينهم في الكرامة ، و أعطى الإنجيل المعنى الأصيل للحياة كدعوة إلهية و كرسالة مقدسة لكل إنسان ، كما أزاح ظلام الموت بقيامة المسيح.ا

انطلقت هذه القيم الروحية لتقيم إنسانية جديدة بكرها المسيح الكلمة الإلهي ، ومصيرها القيامة للإتحاد بالله.

لذلك ستظل المسيحية حصناً للقيم الروحية و الأخلاقية ، ترفض الدعوة إلى انفلات هذه القيم ، و تدافع عن كيان الإنسان ، المخلوق على صورة الله و مثاله ، و على المعنى الروحي للوجود ، و تعلن دوماً أن العلم مصدره الله ، كما أن الإيمان مصدره الله ، و لذلك ينبغي أن تحاط كل التجارب العلمية بسياج الأخلاق و المبادئ الثابتة ، فللجسد البشري كرامته و حرمته و لا ينظر إليه كحقل مادي للتجارب ، و للحياة معناها الإلهي و ليست رحلة زمنية عابرة ، بل هي نقطة انطلاق لحياة أبدية في شركة القديسين و الصالحين.

عاش المسيح ثلاثة و ثلاثين عاماً في زمن سيطرة الإمبراطورية الرومانية على بلاد الشرق الأوسط ، وُلِد في بيت لحم ، و نشأ فى الناصرة ، و بَشَّر في فلسطين ، و شهدت مدينة أورشليم – القدس – أعظم الأحداث في حياة المسيح ، شهدت آلامه ، و صلبه و موته و قيامته ، فأى مدينة أعظم من القدس في نفوس المسيحيين ، وأي تراث أغلى من تراث المدينة المقدسة ، التي تدافع عنها الكنيسة متحدة مع إخوتنا الفلسطينيين و مع كل الدعاة إلى الحق و العدل. إن للمدينة المقدسة وضعاً خاصاً في التاريخ ، و ينبغي أن يكون لها وضع خاص في جميع العصور ، إنها مدينة المؤمنين جميعاً ، ينبغي أن تظل مدينة الحب لا الكراهية ، مدينة السلام لا الحرب ، مدينة الشعوب كلها و ليست أسيرةً لأحد.

مات المسيح في أيام الفصح و هي أكثر الأعياد ازدحاماً بالبشر ، كان حدثاً ظاهراً معلناً ، شهد له المؤرخون ، و وثائق العصر الروماني ، و تاريخ الشعب اليهودي ، و كان لابد لرسل المسيح من المرور بالتجربة القاسية لكي ينتصر فيهم واقع القيامة على واقع موته ، لو لم تكن قيامة المسيح لما كانت المسيحية ، و لولا قيامة المسيح لما صنعت المسيحية حضارة المحبة ، و لما زرعت حياة الرهبنة و التكريس من أجل الحياة الأبدية ، و لولا قيامة المسيح لظلت حضارة الرومان في قسوتها و تعصبها و احتقارها للشعوب ، و لظلت آلهة الوثنية منتصبة في كل مكان ، و لكن قيامة المسيح علمت البشرية معنى التجسد حباً فى الإنسان ، و معنى الفداء رجاء لحياة أسمى ، و معنى المحبة الإلهية لكل انسان ، و معنى الكفاح من أجل العدل و الحرية.

و في تاريخ الشعوب نتعلم أن لا تقدم إلا بالعطاء و لا تنهض الأمم إلا بدماء شهدائنا ، و الذين يضحون بحياتهم ، و يعيشون شموعاً متوهجة بالمحبة و الخير و الذين يقدمون أجسادهم محرقة للقيم الروحية السامية هم الذين يدفعون التاريخ إلى الأمام و هم الذين يحركون الحضارة في طريق النور.

—–

Comment di Riham Hakim:

كانت هذه هي كلمات أبانا البطريرك الراحل إسطفانوس الثاني غطاس في قداس عيد القيامة السبت 3 مايو 1997.

أحببت حماسه في إبراز فضل المسيحية على الإنسانية، و فخره كمسيحي بحضارة من نوع خاص .. حضارة لا تفتخر بالقوة العسكرية، و لا بالقدرة الإقتصادية، و لا بالتفوق العلمي .. بل تفتخر بإضفاء صفة السمو و الرُقيّ و قيم العطاء حتى الموت على كل مُقدّرات الحياة… حضارة سلاحها هو سيف الروح ، و غناها في سخاء العطاء ، وعلمها في إختراع الخير .. تلك هي القيم التي خلقت قلباً و وهبت روحاً للمدنية و التطور الزمني …

كان العنوان الذي إختاره لمقاله "حضارة المحبة" يمر بخاطري بين الحين والآخر على أنه إحتياج العالم الحقيقي في كل عصر .. العالم لا يحتاج لشئ إلا لحضارة المحبة.

و ما زلت أحتفظ بقصاصة الجريدة التي نشرت هذا المقال لأعيد قراءتها فلا أنسى دوري في الحياة.ا

رحِم الله أبينا الغالي و أعطاه الجزاء الصالح و التعويض و تعزية القلب عن كل ما أعطاه في دنياه. لنصلي معه و ليصلي معنا بصحبة الكنيسة المنتصرة في الأبدية. آمين.

المصدر

الفيس بوك Note di Riham Hakim