عظة البطريرك صفير 25/1/09

بكركي، الأحد 25 يناير 2009 (zenit.org)

ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير قداس في قداس الأحد في الصرح البطريركي في بكركي، بعنوان "فكلمهم بالامثال عن امور كثيرة".

 "تشكل الأمثال، دونما شك، قلب تبشير يسوع. وهي، فوق التغييرات التي حدثت في الحضارات، لا تفتأ تؤثر فينا بما فيها من طراوة وانسانية. ان يواكيم جيريمياالذي نحن مدينون له بكتاب أساسي في هذا الموضوع، قد شدد بحق على أن " ما لأمثال يسوع من صيغة شخصية، وما لها من وضوح، وبساطة فريدة، ومتانة بناء لا تضاهى"، يظهر في وضح النهار، عندما نقارنها بلغة بولس الرسول المصورة حيث يبدو النص الأرامي، أو بالأمثال الربينية. ان خصائص اللغة، حيث يظهر النص الأرامي، تشعرنا، هي أيضا، بصورة مباشرة، بقرب يسوع ، وبطريقة عيشه وتعليمه. غير أنه في الوقت عينه، انا في وضع يشابه وضع معاصري يسوع وتلاميذه، وانا مجبرون دائما على أن نسأله عما يريد أن يقول لنا في كل من هذه الأمثلة.ان المجهود المبذول للوصول الى تفهم هذه الأمثلة حق التفهم، يجتاز كل تاريخ الكنيسة. ان الشرح التاريخي – النقدي كان عليه أن يصلح ذاته عدة مرات، والتعليمات التي أعطانا اياها لا يمكن أن تكون نهائية.

ان أدولف جوليتشر، أحد كبار شراح الكتاب المقدس، دشن مرحلة جديدة في مؤلفه في جزئين عن أمثال يسوع، وهو يحمل على التفكير بأننا نملك، نوعا ما، المفتاح النهائي لفك معنى هذه الأمثلة. ان جوليشر يظهر أولا الفرق الأساسي بين الرمز والمثل. في الثقافة اليونانية، تطور الرمز بوصفه صيغة ترجمة النصوص الدينية القديمة التي تفرض ذاتها، ولكنها لم تكن قابلة للهضم بصيغتها. وكانت تشرح بالبحث، وراء معنى الكلمات الحرفي، عن المضمون العجيب المحجوب بالصيغة. وكان بالأمكان فهم لغة النصوص كخطاب مجازي قابل للشرح لاحقا، خطوة خطوة، ونقطة نقطة، بتقديم النظرة الفلسفية المفترض وجودها تحت الصور، كأنه محتواه الواقعي. في عهد يسوع، كان المجاز صيغة التعبير المصور العادية. وكان من الطبيعي ان تترجم الأمثلة المبنية على هذه الطريقة كرموز. وفي الأناجيل ذاتها، نجد غير مرة، شروحا للأمثلة مجازية، جاءت على لسان يسوع عينه، مثلا مثل الزارع، والزرع الذي سقط على جانب الطريق، والأرض الحجرة، وبين الشوك، أو في الأرض الجيدة. ان جوليشر يميز تمييزا واضحا بين الرمز والأمثلة، مظهرا أن الأمر لا يتعلّق بالرموز، بل بمقتطفات من الحياة الحقيقية التي يتشابك فيها كل شيء، حول فكرة واحدة، يجب أن يعبر عنها بطريقة عامة، وحول "نقطة بارزة" وحيدة. وهو يعتبر الشروح من النوع الرمزي، التي فاه بها يسوع، اضافات لاحقة ناتجة عن سؤ فهم صريح".

هذا التمييز بين الرمز والمثل الذي يشكل فكرة جوليشر الأساسية ، هو صحيح بحد ذاته، وقد تبناه لاحقا مجمل الشراح. غير أنه بمر الزمن، ظهر شيئا فشيئا بوضوح، أن هذه الرؤية للأمور لها حدودها. اذا كان من الحق أن نميز بين الرمز والمثل، فان فصلهما فصلا أساسيا لا يمكن تبريره لا تاريخيا، ولا موضوعيا. واليهودية أيضا، خاصة في الأدب الرؤيوي، تلجأ الى الخطاب الرمزي، ويمكن دمج المثال والرمز تماما. وأظهر يواكيم جراميا أن كلمة مثل بالعبرية أي ( مثل، لغز) تعني مختلف الأنواع:" المثل، والتشبيه، والاستعارة، والحكاية، واللغز، والاستعارة، والرؤيوي والرمز، والتشخيص، والمثل، والموضوع، والتدليل، والعذر، والاعتراض، والنكتة. قديما، ان مدرسة تاريخ الصيغ، كانت حاولت التقدم بتنظيم الأمثلة وفقا للأصناف ." وكان هناك تمييز بين الاستعارة ، والتشبيه، والمثل، والمشابهة، والرمز" .

وبتجميد المثل في نسبته الى نوع وحيد من الفن الأدبي ،كان يرتكب اذذاك خطأ. وبحجة أولى، يجب اعتبارالنقطة البارزة ملغاة، وهي التي ظن جوليشر انه باستطاعته اقامتها كمركز وحيد ومثلان يكفيان. ان مثل الغني الأحمق، بحسبه، يعني أن "الانسان، حتى الأغنى ، هو في كل لحظة متعلق بكليته بالنعمة وبالقدرة الألهية". والنقطة البارزة في مثل الوكيل الخائن هي أنه "اراد أن يستفيد بتصميم من الحاضر، كمقدمة لمستقبل مريح". واليكم الشرح الذي أعطاه بحق جرميا: " الأمثلة، كما نرى، تبشر بمجيء انسانية متدينة حقا، غير أنه لا يبقى شيء من محتواها الأخروي". ودون أن نشعر نجعل من يسوع " رسول تقدم"، ومعلم حكمة، يلقّن سامعيه أقوالا أدبية مأثورة، ولاهوتا مبسطا، باستعماله قصصا واستعارات سهلة الحفظ. ولكن ما من شيء يشابه يسوع أقل من هذا. وشارل سميث يذهب الى أبعد من هذا فيقول:" ما كانوا قد صلبوا أحد الناس أذا كان يروي قصصا جذابة يعطي فيها أمثولة في الحذر".

واذا كنت أتوسع بطريقة مفصلة، لأن ذلك يفسح لنا أن نكتشف حدود الشرح الحر،المعتبر في زمنه كالحد الذي يمنع تخطيه ، وهو خط الصرامة العلمية والصدقية التاريخية التي كان حتى الشراح الكاثوليك يلقون عليها نظرات حسد واعجاب. لقد سبق لنا أن رأينا في معرض الكلام عن الخطبة على الجبل أن من يصنع من يسوع معلم أخلاق، أي احد الناس الذي يعلم قاعدة أخلاق مستنيرة وفردية، ان هذا النوع من الشرح ، على الرغم من مكتسباته التاريخية، غير كاف من الوجهة اللآهوتية، ولا يمكنه أن يأخذ القياس الصحيح لشخص يسوع الحقيقي.

وفيما كان جوليشر يصوغ "نقطته البارزة" بعبارات انسانية تقريبا، بروح زمنه، خلطوا لاحقا بينه وبين أتباع النهاية الأخروية بقولهم في النهاية ان جميع الأمثال تتبارى للأعلان عن مجيء ملكوت الله الوشيك .غير ان هذا الشرح متعسف بالنسبة الى مختلف النصوص. وفي غالب الأحيان، ان الصاق نظرة أخروية مداهمة انما هو ببساطة كلية ضرب من التعسف. وعلى العكس من ذلك، ان جيريميا شدد بحق على ان كل مثل له اطاره الخاص، وله أيضا رسالته المميزة. وأخرج في كتابه عن الأمثال تسعة مواضيع كبرى، فيما هو يبحث عن الخيط الذي يربطها، أي مركز رسالة يسوع. ان جرمياس ، فيما كان يصنع هذا، كان يعرف ما هو مدين به للشارح الانكليزي شارل دود ، غير أنه ابتعد عنه في نقطة جوهرية.
ان دود جعل من توجيه الأمثال الى موضوع ملكوت الله، وربوبية الله، النقطة المركزية لشرحه، لكنه يرفض النهاية الأخروية المداهمة، كما عبر عنها الشراح الألمان. وهو يربط نهاية الدنيا بدراسة شخص المسيح : ان ملكوت الله يأتي في شخص المسيح. وبالعودة الى ملكوت الله، ان الأمثال تعيد الى المسيح الذي هو وجه الملكوت الحقيقي. ان جيريمياس اعتبر أنه لا يستطيع القبول بوجهة النظر هذه عن " الأخروية المحققة" بحسب تعبير دود. فهو "يتكلم عن آخرة هي قيد التحقيق"، وهو بفعله هذا، يحتفظ على الرغم من كل شيء، ولو كان ذلك في صيغة مخففة، بفكرة الشرح الألمانية الأساسية التي تقول بأن يسوع يعلن عن مجيء ملكوت الله الفوري الزمني ، ويقدمها بأشكال مختلفة الى سامعيه، في الأمثال . والرباط بين النظرية المسيحية والنظرية الأخروية تصبح أكثر دقة. يبقى أن نعرف ما يمكن السامع أن يفكر به عن كل هذا بعد مرور الفي سنة. وفي كل حال، أنه لمجبر على اعتبار الأفق الأخروي المداهم كضال، على ما هو موجود في ذاك الزمن، لأن ملكوت الله بمعنى أن الله يغير العالم تغييرا جذريا، لم يحصل ، ويستحيل عليه كذلك أن يتبنى هذه الفكرة في العصر الحاضر. ان جميع الخواطر التي أعربنا عنها حتى الآن، قادتنا الى أن نعرف انتظار نهاية الزمن المداهمة انما هو مظهر حالي في قبول رسالة المسيح بواسطة المسيحية الأولى. ولكنها أظهرت أيضا انه لا يستطاع تطبيق رؤية الأشياء هذه على كل كلام يسوع ، ولا يمكن، في أية حال من الأحوال، رفعها الى مستوى موضوع جوهري من رسالته. وفي ما خص هذه النقطة، كان دود اقرب ما يكون من منهج النصوص الحقيقي.

وفي حالة خطبة الجبل الخاصة، وأيضا لدى شرحنا للأبانا، رأينا أن الموضوع الأعمق لوعظ يسوع ، كان سره الخاص، سر الابن، الذي فيه الآب حاضن بيننا، وحيث يتم كلمته. ورأينا أن يسوع يعلن ملكوت الله في شخصه بوصف أنه معا آت وحاضر. وبهذا المعنى، يجب أعطاء دود الحق في الواقع : أجل ،اذا أردنا، ان تكون خطبة الجبل هي خطبة تبشر" بالآخرة"، بمعنى ان ملكوت الله "يتحقق" في مجيء يسوع. ويمكننا أن نتكلم عن "نهاية" تتحقق، لأن يسوع الذي أتى، هو على مد التاريخ ألذي يأتي ،هو يحدثنا، في آخر المطاف، عن هذا "المجيء". ويمكننا أن نكون على وفاق مع آخر عبارات كتاب جيراميا عندما يقول:" ان سنة النعمة التي وعد بها الله قد بدأت. لأنه قد ظهر من يتألق مجده الخفي وراء كل كلمة وكل مثل:انه المخلص".

ان أمثال السيد المسيح من شأنها أن تساعدنا على التعمق في حقيقته، وحقيقة تعليمه، وحقيقة ملكوته الذي، وان كنا نحن فيه في هذا العالم، لكننا ذاهبون حتما اليه لنكون مع المسيح، مدى الأبدية.
غير أن من أراد أن يطمع بدخول ملكوته في الآخرة، عليه أن يبدأ في دخوله منذ هذه الدنيا بالمحافظة على وصاياه، وهذا ما يجب على كل منا أن يفحص ضميره ليعرف على أي مسافة هو من هذه الحقيقة".