عظة البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير 1/2/09

بكركي، الأحد 1 فبراير 2009  (Zenit.org).

ننشر في ما يلي العظة التي تلاها البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير أثناء القداس الاحتفالي الذي ترأسه في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي.

* * *

"الزرع هو كلمة الله"

لم يكن يكلّم الناس بغير أمثال وفيها عبر كثيرة لمن يعرف أن يقرأها على ضؤ الحقائق الانجيلية، ولكن في الوقت الذي نفكّر فيه بأن مجمل الأمثال هي كدعوات خفيّة ومعقّدة للايمان بيسوع وبواقع هو أنه " ملكوت الله" في شخصه"، فاذا بنا نصطدم بحاجز مزعج وهو: كلمة المسيح. ان الأناجيل الثلاثة الازائية تقول لنا ان التلاميذ، بعد أن سألوا أي معنى يجب أن يعطى مثل الزارع، ابتدأ يسوع باعطاء جواب عام عن معنى التبشير بالأمثال. ونجد في قلب هذا الجواب كلمة لكتاب اشعيا ( 6, 9) أعادتها الأناجيل الأربعة المتوافقة في نصوص مختلفة. واليكم ما يقول نصّ مرقس في ترجمة جرميا المدقق فيها بعناية :" اليكم ( اعني الى حلقة التلاميذ)، أعطى الله سرّ ملكوت الله؛ ولكن بالنسبة الى من هو خارجا، كل شيء هو لغز. لكي ( كما هو مكتوب) يروا ولا يروا ، ويسمعوا ولا يفهموا، لئلا يرتدّوا ويغفر الله لهم" . ما معنى هذا ؟ هل تكون أمثال الرب وسيلة تجعل رسالته مستحيلة الوصول اليها لكي تُحفظ لحلقة ضيّقة من المختارين يشرحها لهم هو عينه ؟ هل الأمثلة هي هنا لكي تفتح لنا أم لتغلق ؟ هلا اختار الله أن يكون له نخبة، وليس الجمهور، أي كلّنا ؟

لكي نفهم عبارة الرب هذه العجيبة، يجب أن نتخذ كنقطة انطلاق استشهاده بأشعيا، ونقرأه انطلاقا من طريقه، التي يعرف هو مخرجها. ويسوع، بكلامه هكذا، ينضم الى نسل الأنبياء، ومصيره هو مصير نبيّ. ان كلمة آشعيا، اذا أُخذت بكاملها، هي أقسى، وأكثر اثارة للخوف، من المقطع الذي استشهد به يسوع. لقد جاء في سفر آشعيا:" غلّظ قلب هذا الشعب، وثقّل اذنيه، وأغمض عينيه، لئلاّ يبصر بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويفهم بقلبه، ويرجع فيُشفى" . لقد سقط النبي. ورسالته تخالف مخالفة صريحة الرأي السائد، وعادات الحياة الراسخة. وان اخفاقه وحده يسمح بأن تكون كلمته فاعلة. واخفاق النبي هذا هو أمر مظلم يسود كل تاريخ اسرائيل، وهو، نوعا ما، يتجدّد باستمرار في تاريخ البشرية. ويتجدّد أولا في ما كان ليسوع المسيح من مصير، وهو انتهى على الصليب. ولكن خصبه الكبير ينبع من الصليب.

ونرى، بطريقة غير منتظرة، انه يظهرهنا مجدّدا الرباط بمثل الزارع الذي هو الاطار الذي وَضعت فيه الأناجيل الازائية كلمة يسوع. انه لمدعاة عجب ان نرى الأهمية الي تتخذها صورة الزرع في مجمل رسالة يسوع. ان زمن يسوع، وزمن التلاميذ، هو زمن الزرع والبذار. وان" ملكوت الله" هو حاضر كزرع. ان الزرع، اذا ما شوهد من الخارج، هو شيء لا قيمة له، ويمكن تجاهله. ان حبة الخردل، التي هي صورة ملكوت الله، هي أصغر الحبوب، ومع ذلك فهي تحمل في ذاتها شجرة كاملة. وفي الزرع، ان ما سيأتي هو حاضر بطريقة مخفية. انه حاضر الوعد. في أحد الشعانين، اختصر الرب أمثلة الزرع العديدة بكشفه عن معانيها:" الحق الحق أقول لكم، ان حبة الحنطة، ان لم تقع في الأرض وتمت، تبقى واحدة، وان ماتت أتت بثمر كثير" . يسوع هو البذار. وان " اخفاقه" على الصليب هو الطريق الذي يقود من الحلقة الصغيرة الى العدد الأكبر، الى الجميع: "وانا اذا رُفعت عن الأرض، جذبت اليّ الجميع" .

ان فشل الأنبياء، وفشله، يَظهر الآن تحت نور آخر. انهما الطريق التي تؤدّي الى "ارتداد الناس ومغفرة الله لهم". وهذا الفشل هو الذي سيفتّح عيون الجميع وآذانهم. والصليب هو المفتاح الذي يمكّن من تفهّم الأمثال. ان الرب، في خطاب وداع تلاميذه، قال في هذا الصدد:" كلّمتكم بالأمثال،( وهي خطاب مغلّف) لأحدثّكم عن كل هذا. وتأتي ساعة لا أكلّمكم فيها بأمثال، بل أخبركم عن الآب علانية" . وهكذا تتحدّث الأمثال بطريقة خفيّة،عن سرّ الصليب؛ وأحسن من ذلك، انها جزء منه لا يتجزّأ. ذلك أنها تنتهي بتضاد لأنها تجعلنا نستشفّ سرّ يسوع الألهي. وهنا تصل الى أعلى درجة من الوضوح، كما في مثل الكرّامين القتلة ،وتضع مراحل على الطريق التي تقود الى الصليب. ان يسوع، في الأمثلة، ليس هو فقط الزارع الذي يزرع زرع كلمة الله ، فهو الزرع الذي يقع في الأرض ليموت، وهذا ما بامكانه أن يعطي هكذا ثمرا كثيرا.

في هذه الحالة، ان التطبيق المقلق الذي يعطيه يسوع عن معنى هذه الأمثال يقودنا الى فهم معناها العميق لدى أقلّ قراءة للتوراة، وخاصة الأناجيل كوحدة ومجموعة- على ما هو مطلوب بطبيعة كلمة الله المكتوبة – التي هي في جميع طبقاتها التاريخية تعبير عن رسالة متماسكة كل التماسك. ولكنه قد يكون من المفيد، بعد هذا الشرح اللاهوتي المأخوذ من قلب التوراة، ان نعتبر وجه الأمثال البشري الخالص. ما هو المثل في الحقيقة ؟ وماذا يبغي من يقوله ؟

ان كل معلّم، وكل مربًَّ يريد أن ينقل الى سامعيه معلومات جديدة، يلجأ دائما الى مثل. فهو مثلا يضع على مستوى الذين يتوجّه اليهم واقعا كان حتى الآن مغيّبا عنهم وخارج أفقهم. وهو يظهر لهم هكذا كيف، في واقع خاص بحقل اختبارهم، يريهم شيئا ما كان لهم أن يروه حتى الآن. وبالمثل يقرّب من أفهامهم واقعا بعيدا عن تفكيرهم بحيث انه يصبح الجسر الذي يتيح لهم أن يدركوا هذه الحقيقة التي كانت مجهولة بالنسبة اليهم. نحن هنا أمام حركة مزدوجة. فمن جهة، ان المثل يضع في متناول من يستمع ويشارك في التفكير واقعا بعيدا عنهم، ومن جهة ثانية، ان المستمع عينه قد تحرّك. ان ما في المثل من قوّة داخلية، وان الواقع الذي يدفع الصورة المختارة التي تتجاوز ذاتها، تدعوه الى ترك نفسه لهذه القوّة، و لتخطّي افقه الخاص، وان يتعلّم أن يعرف ويفهم ما كان حتى اليوم بالنسبة اليه مجهولا. ولكن هذا لا يعني ان المثل يستدعي مساهمة حيّة من الذي يفهم، لأنه لا يكفي أن يوضع واقع في متناوله، بل عليه هو أن يهضم حركة المثل ويرافقه. وعند هذه النقطة، نواجه أيضا المشكلة الملازمة لكل مثل. قد نكون غير قادرين على اكتشاف ما في المثل من قوّة، وان ننساق اليها. وخاصة،اذا كان الأمر يتعلّق بأمثال تخصّ وجودنا وتؤثّر فيه، قد ننفر من قبول ما يتطلّبه من حركة.

وهذا ما يعيدنا الى كلام الرب عندما يتكلّم عندما نرى ولا نرى، ونسمع ولا نفهم. ان ارادة يسوع لا تقوم على أن ينقل الينا معارف مجرّدة، أيا تكن، لا تمتّ الى أعماقنا بصلة. فهو عليه أولا أن يقودنا الى سرّ الله، الى النور الذي لا تحتمله عيوننا، والذي نهرب منه لهذا السبب. ولكي يسمح لنا أن نقترب منه، فهو يظهر لنا شفافية النور الإلهي في أشياء هذا العالم وفي الوقائع التي يتألّف منها يومنا. وعبر وقائع كل يوم، فهو يريد أن يُظهر لنا عمق كل الأشياء الصحيح، وبالتالي الاتجاه الصحيح الذي يجب علينا أن نتخذه، كل يوم، لنسلك الطريق السليم. وهو يظهر لنا أن الله، ليس الها مجرّدا، بل الله الفاعل الذي يدخل في حياتنا، والذي يرغب في أن يأخذنا بيدنا. وهوينقل الينا معرفة متطلّبة، لا تقتصر على معرفة جديدة، وليس هذا هو الهدف الجوهري، ولكنها معرفة تغيّر حياتنا. انها معرفة نعطاها هدية وهي تقول لنا:" ان الله هو في الطريق اليك" ولكنها أيضا معرفة تقتضي مطلبا: ليكن لك ايمان، وليقدك هذا الأيمان. وامكانية الرفض هي الواقع الأعلى، لأن المثل لا يحمل الوضوح الذي نحن في حاجة اليه.

هناك آلاف الأحتجاجات المعقولة ممكنة، ليس فقط في أجيال يسوع ، بل أيضا عبر جميع الأجيال، واليوم ربما أكثر من أي وقت مضى. لأننا اخترعنا لأنفسنا مفهوما عن الواقع ينفي انه بامكان الواقع أن يدع الله يظهر. وليس ما يُعتبر واقعا الا ما أمكن التأكّد منه في المختبر. والحال انه لا يمكننا أن نجرّب الله. وهو عاب على جيل الصحراء هذا: "عند الخصومة امتحنني في البرّية آباؤكم واختبروني وعاينوا أعمالي" . انه من المستحيل أن نرى الله يظهر، وهذا ما يقوله لنا مفهوم الواقع الحديث. وبحجّة أولى، يستحيل قبول ما يطلبه منّا: أن نؤمن بأنه الله، وأن نعيش بحسب هذا الايمان، يبدو كأنه انه مطلب مغالى فيه. وفي هذه الحالة، تقود الأمثال في الواقع الى الاّ نرى وألاّ نفهم، والى "تحجير قلوبنا".

فالأمثال هي اذن، في آخر المطاف، التعبير عن ان الله، في هذا العالم، هو مختفٍ، وان معرفة الله تتطلّب من الانسان التزاما كاملا. وهذه معرفة هي واحد مع الحياة، معرفة لا يمكن أن تتمّ دون "ارتداد". لأن ما يميّز المحور، في هذا العالم المطبوع بالخطيئة، وقوّة جاذبية حياتنا، انما هو الخضوع "ل-لأنا" ول- "هو". يجب كسر هذا الرباط لنفسح في المجال لمحبة جديدة ترفعنا الى أفق تنظّمه قوانين الجاذبية، حيث يمكننا أن نحيا حياة جديدة. وبهذا المعنى، ان معرفة الله مستحيلة دون هبة محبته التي بواسطتها يصبح اذذاك مرئيا. ولكن هذه الهبة، يجب أن نقبلها. وبهذا المعنى، تكشف الأمثال جوهر رسالة يسوع، وبهذا المعنى، ان سرّ الصليب مكتوب في طبيعة الأمثال العميقة.

أيها الأخوة والأبناء الأعزّّاء،

ان الأمثال التي أعطاناها يسوع المسيح هي تعاليم مغلّفة، اذا جاز التعبير، عن ملكوت الله. وقد تكلّم بالأمثال ليحفز القرّاء والسامعين على التفكير في ما يقول لهم، ويشحذوا فكرتهم لاكتناه أقواله.

وان ما نشهده ونراه في هذه الأيام لا يدعو الى الطمأنينة، ونرى أن الكثيرين يتراشقون بالتهم ولو غير صحيحة، ليخلقوا جوّا من الحذر يجب أن نكون أبعد ما نكون عنه.ولعلّ تحديد موعد الانتخابات هو ما بدأ يثير حمية بعض المحازبين. ونصيحتنا أن يختار كل من المواطنين من يراه الأكفأ والأجدر للنيابة دون أن يتأثّر بترغيب أو تهويل. هذا ونسأل الله أن يلهمنا ما فيه خلاصنا في الدارين.