المزمور الثالث عشر: صلاة الثقة والاتكال

أولاً: تقديم المزمور:

هذا المزمور هو مزمور توسّل، ينشده المرّنم ليشكو أمره إلى الرب، بينما يتطلّع إليه بثقة ويعد بتقدّم ذبائح شكر. يتألّم المرّنم من أعداء لا يذكرهم بالاسم، كما لا يذكر أسباب ألمه، لكن ما يزيده تألّماً هو أن موته سيسعد مضطهديه ويجعلهم يثقون بأن الحقّ معهم، بينما يتزعزع إيمان المضطهدون، وباسمهم يتساءل المرّنم كإنسان ضعيف: أيهجر الله الضعفاء ويكون مع الأقوياء؟.

         يتساءل المرّنم  أربع مرات إلى متّى يا رب؟ وهذا يعني أنه يعانى من محنة طويلة جعلت صبره يكاد ينفذ من طول الانتظار. وهو يعاتب الرب كيف ينساه (مزمور 9: 13)، ويُخفي وجهه عنه (مزمور 51: 11)، ويتظاهر وكأنه لا يراه؟. ولكنه في الوقت نفسه يعلم أن الله ليس بعيداً، بل هو الإله القريب من أحبّائه، لذلك يخاطبه بتوسل وإلحاح أنظر إليّ، أعطني جواباً عن سؤالي، أنر عينيّ، أعطني الحياة (أيوب 17: 5- 7) جسدياً وروحيّاً، فلا أبقى في ظلمة الموت، ولا أنام نومة لا أستيقظ منها (مزمور 75: 6؛ 89: 5؛ إرميا 5: 39؛ أيوب 14: 12). ومتى كتبت المزامير التي تتحدث عن محنة يجتازها المرّنم، فهنا تُطرح نظريتان:

·   الأولى: تعتبر أن المزمور كُتب بعد عبور المحنة ونجاة المرّنم  من الضيق. فهل يعني هذا أنه لم يصلِّي خلال المحنة؟ كلا، فكل شيء يبيّن لنا أنه الصلاة قيلت في وقت الضيق. قد يُقبل أنها لم تُكتب في الوقت ذاته، ولكن الأكيد أنها قيلت وردّدها المرّنم  خلال المحنة وأعلنها ساعة النجاة مرفقًا إياها بنشيد شكر.

·            الثانية: تعتبر أن المرّنم  يذهب إلى الهيكل للصلاة أثناء محنته ويقف أمام الكاهن، فيعده خادم الرب بالنجاة ويملأ قلبه بالثقة في الرب ووعوده التي لا تخلف أبداً. ويصير هذا في نظر المرّنم  كلام الله نفسه، يستشفّ  فيه باكورة الخلاص التامّ، حتى قبل أن يتم خلاصه، فيطلق نشيدًا يمتدح فيه ربّه راجياً خلاصه.

يبدو الأمر من خلال تحليل نص المزمور أن داود الذي واجه تجارب لا تنتهي خلال حياته، قد كتب هذا المزمور وغيره من مزامير التوسل، بمثابة تضرع يسكبه أمام الله حتى يعينه ضد أعدائه. لكن برغم أهمية أزمته مع شاول يرى بعض الدارسين أن هذا المزمور لم يُكتب أثناء متاعب داود معه، لأن هذه المتاعب كانت قبل سقوطه في خطيئته الشنعاء مع بتشابع. لذا يميل  رأي أغلبهم أنه وضعه أثناء تمرد أبيشالوم، عندما فر هارباً من وجه ابنه، ذلك أن سحابة الحزن الخارجي، حسب رأيهم، لم تكن إلا رمزاً باهتًا لما قد ثقل على نفسه داخليًا بالخطية، الأمر الذي كان أكثر سوادًا من ظلمة الليل.

يُعبّر هذا المزمور الصغير عن آلام داود الشخصية، سجلها كصرخة قوية وصريحة انطلقت من أعماق نفسه المتألمة وكأنه من خلالها يرتمي في أحضان مخلصه الذي يخرج به من المرارة إلى حياة الفرح. وقد جاء هذا المزمور صلاة تضم كل عناصر المرثاة: شكوى، توسل، ثقة، شكر؛ وهي تناسب كل إنسان يعاني من متاعب داخلية أو خارجية، وإذ يتوسل يزداد ثقة وإيمانًا، وإذ يؤمن يزداد فرحاً في الرب، وإذ يفرح ينطلق لسانه بتسابيح الحمد.

ثانياً: نص المزمور وتقسيمه:

مكوّن من ست آيات وينقسم المزمور إلى ثلاثة أقسام متساوية، القسم الأول من  آياته الستة صلاة  ثقة والثاني شكوى وتوسل والثالث رجاء. يقول وليم بلامر: "يأتي تسلسل هذا المزمور طبيعياً وبطريقة رائعة، ففي الآيتين الأوليين يصرخ داود: "إلى متى؟" مرددًا إياها أربع مرات؛ وفي الآية الثالثة  يصرخ طالباً العون. وفي الآية الرابعة يستخدم أسلوب التوسل والمحاججة الذي غالبأ ما يستخدمه مع الله.ثم يختم ناطقاً بالحمد". وينقسم إلى:

القسم الأول:  صلاة ثقة حارّة على أبواب الموت:

1 – لكبير المغنين. مزمور لداود

2- إلى متى يا رب تنساني وتحجب وجهك عني؟.

القسم الثاني: يشكو النبي إلى الله أمره ويسأله: إلى متى يا رب؟ ( 3- 4):

3- إلى متى أحمل الغصة في نفسي، والحسرة في قلبي نهاراً وليلاً؟ وحتى متى ينتصر عدوي عليّ؟

4 – أنظر إليّ وأعنّي أيها الرب إلهي ! أنر عينيّ لئلا أنام نومة الموت.

القسم الثالث: توسّل وصلاة: أنر عينيّ، أحفظ حياتي توكّلت على رحمتك (5-6):

5 – ويقول عدوي إني قد "تغلّبت عليه"، ويبتهج خصومي بأني زللت.

6- وأنا على رحمتك توكلت، وقلبي يبتهج بخلاصك. للرب أرفع نشيدي لأنه أحسن إلىّ.

ثالثاً: تفسير المزمور:

القسم الأول:  صلاة ثقة حارّة على أبواب الموت

(1-2):

2- إلى متى يا رب تنساني وتحجب وجهك عني؟.

          يشعر النبي بالوحدة والضيق لاحتجاب وجه الرب عنه، وكما نعلم، فوجه الله يعني حضوره، وحضوره في حياة النبي داود يعني الكثير، فكل مرة حضر كان النصر والغلبة لداود على أعدائه، حيث خلصه الرب من جميع مضايقه، وكل مرة حجب الله وجهه عنه كان ذلك نذير حلول البلايا ومعاناة الآلام .

         تُعتبر صرخة المرّنم  "إلى متى يا رب" سؤال استعطافي أكثر منه استفهامياً. وهو نقطة التقاء بين شعورين متضاربين في الظاهر: شعور بالضيق الشديد الذي يحسّه المرّنم من جهة ما يعانيه من مضايق وصعوبات، وشعور آخر بثقة عجيبة تلج أعماق قلبه.

         وفي الحقيقة أنه من الخير أن يُحسّ المرء بنسيان الله بهذه القوة التي يختبرها داود في كيانه، فالعديد من الذين هم موضوع هذا التخلّي يجهلونه ولا يهتّمون بالتحسّر عليه. إنما كان هذا الشعور عند داود، وليد علاقة قوية بالرب، مصحوبة بإحساس  بالذنب لما ارتكبت يداه من آثام، مما نجم عنه هجر الرب إياه وتركه فريسة في يد أعداءه وهم كثيرون. لكن لم يغب عن قلبه الذكي أن يدرك، أن هجر الله ونسيانه ليسا دائمين ، إنما هما تخلٍّ بسيط وهجر مؤقت لا يلبث الرب بعده أن يعود فيصفح ويرأف ويتحن. وقد يسأل البعض كيف لاحظ النبي أن الله قد نسيه؟ نجيب: لأنه قد تذوق نعيم  الأوقات التي فيها ذكره الله وكان معه، كما أنه يعرف كل المعرفة ما الفارق بين  أن يكون حاضراً في "ذاكرة"  الله وواقف أمام عينيه أو أن يكون  منسياً لدى الله .

         لذلك نلاحظ أن النبيّ الملك لم يكتف بالتعرف على هذا الإحساس الباطني، بل نراه قد حسب طوله وعدد أيامه وساعاته. فكلمة "إلى متى" تدلّ على نفس تشعر بطول محنتها فيُنتزع ذلك منها البكاء والتنهّد؛ كما تشير إلى شخص لا يهتمّ بأمور الأرض والغنى والمجد، بقدر ما يبتغي رضي الله وصداقته.

         وهنا تحضرني قصة الناسك الذي كان كثيراً ما يغلبه الشعور بتخلى الله عنه وقت التجارب، وكان شديد التألم والشكوى لهذا السبب، فأراه الله طريق حياته مذ بدأ مسيرته معه، فلاحظ أن خطوات الرب ترافق خطاه أينما ذهب، لكنه صرخ حين رأى آثار قدمين فقط ظاناً أنها تمثلان آثار خطاه، وبذا تأكد ان الله قد تخلى عنه وهجره في أوقات المحن، كما يظن، وهنا صرخ لماذا هجرتني؟ فما كان من الرب سوى أن أجابه: يا بنى انظر جيداً إنها آثار قدمي، لأ ني في أوقات شدّتك كنت أحملك على منكبي…

        عندما يكرر داود أربع مرات في "إلى متى؟"، فهو إنما يعّبر عن إحباطه وفزعه، وكأنه يعلن أنه أينما ذهب: شرقًا أو غربًا أو شمالاً أو جنوبًا لا يجد راحة، لأن الله قد حجب وجهه عنه.

         ويرى بعض المفسرين أن التكرار لأربع مرات ربما يُظهر أن صراخ المرتل هنا لا باسمه الشخصي وإنما باسم الشعب كله الذي سقط في الأسر أربع مرات: البابلي، والفارسي (المدياني)، والإغريقي، والروماني. وهكذا يُحسب هذا المزمور مرثاة جماعية ونبّوة تاريخية.

         ليس كل تكرار في الصلاة مرفوض، إنما يُرفض التكرار الباطل. لم يجد داود راحة لنفسه في كل الأرض، بسبب خطيته التي تجعل الله يحجب وجهه عنه، فليس ما يفرح القلب وينير البصيرة الداخلية مثل حضرة الله الواهبة النعم، بكونه هو حياة النفس ونورها. وليس من ظلمة أكثر رعبًا من تلك التي تنبع عن الشعور بأن الله يحجب وجهه عن الانسان. لقد بلغت آلام أيوب ذروتها حين قال: "من يعطيني أن أجده… هأنذا أذهب شرقًا فليس هو هناك، وغربًا فلا أشعر به، شمالاً حيث عمله فلا أنظره، يتعطََّفُ الجنوبَ فلا أراه" (أيوب 23: 3، 8-9) وصرخ داود في المزمور العاشر يارب لماذا تقف بعيدا لماذا تحتجب في زمن الضيق.

«  "إلى متى تميل بوجهك عني"؟

لجأ الملك النبيّ إلى لغة الاستعارة ليدلّ على عمل الله، على غضبه وانتقامه، فهذا الميل يعبر عن النسيان في أعلى درجاته، وهذا التخلّي من قبل الله الذي يجعله يحول وجهه بعيداً، هو في الوقت نفسه، برهان على عنايته واهتمامه، لأن عيناه ترعيانا طوال اليوم ولكنه يشيح بوجهه كي لا يرانا نتعثر في الخطيئة ونلوث أنفسنا التي خلقها طاهرة نقية. وهو يفعل هذا ليجتذبنا إليه اجتذاباً أقوى، فنقوم بسرعة ونسعى نحوه طالبين عونه. لقد ثبت بالفعل أن الله يميل بوجهه عنّا حين تكون أعمالنا معارضة لوصاياه فقد قال بواسطة نبيّه إشعياء: "حين تبسطون أيديكم إليّ، أحجب عينيّ عنكم، لأن أيديكم مملوءة من الدماء" (أشعياء 1: 15). إن ألم المرنّم هذه المرة لعميق بسبب طول مدّة نسيان الله له؛ فقد انتظر دون تأفّف، ورفع الصلاة تلو الصلاة، حتى أحسّ أنه وصل إلى حافة القبر، يكاد ينام نومة الموت.

لهذا انطلقت من أحشاءه صرخة كيانية، ليست صرخة يأس، بل صرخة إنسان ينتظر الخلاص من الرب، وكله ثقة بأنه صار قريباً، لأنه مؤمن بأن الله يهتمّ بحياة محبيه فلا يدع أحدًا يهدّدها." أعطيك سلطان ان تلمس جسده لكن إلى روحه لا تقترب" هكذا سمح الله للشيطان أن يجرب أيوب، كما يعرف المرّنم  أن مجد الله هو الإنسان الحي كقول القديس أمبروزيوس، فأية فائدة تعود على الرب  من موت الإنسان الذي لا يقدر أن يسبّحه في الجحيم؟ بل إن موته خسارة لله، وموضوع شماتة للأعداء. وفي هذا يقول  القديس أغسطينوس "إذ كان الله لا ينسى، لذلك فهو لا يحجب وجهه، إنما يتحدث الكتاب المقدس بلغتنا البشرية، فيقول إن الله يحجب وجهه بعيدًا عنا، وذلك حينما لا يُعلن معرفته للنفس التي لم تتطهر عيني فكرها بما فيه من كفاية".

القسم الثاني: يشكو  النبي إلى الله أمره ويسأله: إلى متى يا رب؟ ( 3- 4):

3- إلى متى أحمل الغصة في نفسي، والحسرة في قلبي نهاراً وليلاً؟ وحتى متى ينتصر عدوي عليّ؟:

«           إلى متى أحمل الغصة:

التعريف النفسي للغصة هي حالة تشبه التقلص اللاإرادي في منطقة الحنجرة والبلعوم والحلق نتيجة انفعال زائد وإحساس بالحزن يصعب التحكم فيه. والنبي يشعر بهذا الإحساس المهين الذي كثيراً ما يسيطر على الطفل أثناء البكاء، حال شعوره بالحزن والإحباط لعدم تلبية والديه نداءه أو الاستجابة لصراخه. هكذا يحمل داود هذا الشعور ويسير به ويحباه طوال فترة احتجاب وجه الله عنه .

«           والحسرة في قلبي نهاراً وليلاً :

لأن الذي يحُرم من النور يرتطم بجميع الحواجز، كذا الذي ينساه الله؛ فهو دوماً فريسة الهمّ والقلق والعذاب، وقدأصبحت الحالة مزمنة ولم تعد شعوراً طارئاً ينتاب الشخص للحظة ثم يعبر، لكنه الآن يعيش مرحلة طويلة من اليأس والإحباط تسيطر على وجدانه أغلب الوقت، لدرجة زرعت الحسرة في قلبه، فلم يعد يعرف الفرح ليلاً أو نهاراً.

«         وحتى متى ينتصر عدوي علىّ :

سبب هذه الحسرة والألم والغضب هو غياب الله عن حياة المرنم واحتجابه في زمن الضيق مما أعطى للعدو فرصة الظهور والتغلب والسيطرة والظلم والبغي …

4– أنظر إليّ وأعنّي أيها الرب إلهي ! أنر عينيّ لئلا أنام نومة الموت.

شعر داود النبي باحتياجه إلى الله الذي حجب وجهه عنه بسبب خطيته أن يعود فيرد وجهه البهي نحوه، وينير إنسانه الداخلي بنوره الإلهي، حتى لا يستمر في خطاياه، فلا ينام مع الذين ماتوا في خطاياهم. صرخة المرتل "إلى متى" ليست صادرة عن يأس إنما عن نفس متألمة تعرف كيف تحول الشكوى إلى صلاة، لتنطلق بإيمان إلى الله تطلب منه الاستنارة ببهاء وجهه. إنها بدالة الحب تطلب إليه قائلة: "أنظر… أستجب… أنر". فهو وحده القادر أن يدخل إلى أعماقنا، ويتطلع إلى سرائرنا، يستجيب إلى تنهدات قلبنا الخفية، وينير طبيعتنا التي صارت ظلمة. وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير لكي نقترب من النور الحقيقي، أعني المسيح، نسبحه في المزامير، قائلين: "أنر عينَّي لئلا أنام نوم الموت". فإنه موت حقيقي هو موت النفس لا الجسد حين نسقط عن استقامة التعاليم الصادقة ونختار الباطل عوض الحق. لذلك يلزم أن تكون أحقاؤنا ممنطقة وسرجنا موقدة كما قيل لنا هنا.   بهذه الاستنارة لا يبقى للظلام موضعًا في النفس ولا في الجسد أو في الفكر أو القلب إلخ… بل يكون كل ما في داخلنا وخارجنا مستنيرًا بالرب.

«  أنظر

    يكفي أن يدير الله رأسه ويشرق بوجه حتى تسكن المخاوف ويهدأ روع المرنم والمصلي فإنه يعرف كيف ينظر الله بعينه الرحميتين إلى أحباءه؟ وكيف تتحول هذه النظرة ذاتها إلى مصدر هلاك وفناء وهزيمة وانسحاق لأعدائه الظالمين.

«           أعنّي:

 نظرة الله معونة، لمسته رحمة، اقترابه بركة وخير، كلمته حياة، لفتة وجهه نور يشرق في الظلمة…وحين يطلب النبي معونته يكتفي من الله بلفته أو نظره يستطيع من خلاللها وفي نورها ان يتحرك في أمان وثقة، يشعر بأنه مسنود بقوة علوية لا تشبهها قوة وبهذه المشاعر يتقدم بلا خوف للأمام فيهزم جميع أعداءه

«  أيها الرب إلهي :

يوجه إلى الرب إلهه النداء الملح طالباً العطف والتحنن طالباً مجرد تظره ؟!!وإلى من يستطيع رجل محاط بالعداء مثله ان يتوجه؟، ليس له من ملجأ او معين سوى الرب إلهه.

«  أنر عيني لئلا أنام نوم الموت :

العين أو البصيرة هي وسيلة التمييز والتقوم، بدونها يتخبط الإنسان في ظلام دائم يذكرنا بظلمة الموت الرهيبة… ولكي تقدر العينان على القيام بعملهما على خير وجه، فإنهما تحتجان ليس فقط إلى النور بل إلى نور الرب، الذي يقول عنه داود في موضع آخر "بنورك يا رب نعاين النور"… كثيراً ما يكون النور رديئاً فلا نبصر، أو غير كاف فنتخبط، أو زائد عن الحد فننبهر ونتعثر، وفي كل الحالات لا نبصر جيداً ولا نمييز تمييزاً صحيحاً؛ وبالتالي تكون تصرفاتنا خاطئة وأحكامنا غير صالحة، لذلك يطلب المرنم من الرب نوراً خاصاً به يهتدي في طريقه الشائك المظلم، وحيث نور الرب، هناك سلام وفرح وحياة. فليس غريباً إذن أن يقدم يسوع نفسه قائلاً" انا نور العالم من يتبعني لا يمشي في الظلام". وهذا هو النور الذي يطلبه داود، نور لا يستطيع العالم ان يدركه نور لا يستطيع غير الله ان يهبه.

«  لئلا أنام نوم الموت :

أما غياب نور الرب فيعني تخبطاً وظلاماً بل ليلاً طويلاً لا صباح بعده لذا يخشى المرنم هذه الظلمة ويطلب نوراً ليوقظه فيحيا ويسبح لا ظلاماً يلفه كما يلف الأموات ويبقيهم في ظلمة الموت إلى الأبد .

القسم الثالث: توسّل وصلاة: أنر عينيّ، أحفظ حياتي توكّلت على رحمتك (5-6):

5 – ويقول عدوي إني قد "تغلّبت عليه"، ويبتهج خصومي بأني زللت.

«  ويقول عدوي إني قد "تغلّبت عليه"

كثيراً ما يلجأ المرنم إلى هذه الحجة ليقنع الله بالتدخل في الأمر، وكأن القضية ليست قضيته الشخصية وإنما المشكلة مشكلة عامة، تشمل أبناء الله جميعاً بل تمس ذات الله نفسها، فإذا أنهزم أتباعه، معنى ذلك انتصار الشر على الخير، وأن الله لم يقدر على فعل شيء.

«  ويبتهج خصومي بأني زللت.

محاججة يستخدمها المرنم ويرددها كثيراً لاستعطاف الله واستعجال تدخله الذي سوف يحرم العدو من الشماتة والبهجة فماذا يبهج الخصم ويجعله يزداد استبداداً وطلباً لدم الأبرياء، سوى أن الله نفسه قد تركهم فريسة في أيديهم، فريسة للضياع والتخبط في ظل غياب الله عنهم.

6- وأنا على رحمتك توكلت، وقلبي يبتهج بخلاصك. للرب أرفع نشيدي لأنه أحسن إلىّ:

«  وأنا على رحمتك توكلت :

أية أعمال صالحة تحملها كسند لصلواتك أيها النبي؟ ليتنازل الله ويعود فينظر إليك ويستجيب طلبك وينير عينيّ عقلك؟ ما هي مستنداتك؟ قد يتحدّث الآخرون عن "بواعث"وفضائل شخصية، أما النبي ففي الرب وضع رجاءه، "لقد رجوت رحمتك" فكيف أهزم وينتصر العدو على؟ وأنا على رحمتك قد توكلت ؛ استحالة، فإنك وعدت أنك لا تخذل المتكلون عليك أبداً.

وفي هذا يقول يوحنا فم الذهب أنظروا إلى تواضع هذا الملك ا وسموّ عواطفه؛ كان باستطاعته أن يشير إلى عدد من أعماله الصالحة لينال انعامات الله استجابة صلاته. ولكنه لم يذكرها بل سكت عن فضائله، واكتفى بأن يذكر الله ولم يؤسّس نجاح صلواته إلاّ على لطف الله ورحمته.

«         وقلبي يبتهج بخلاصك :

وإذ كان واثقًا كل الثقة بأن رجاءه لا يخيب، زاد: "سيمتلئ قلبي فرحًا بما تمنحني من خلاص". وحيث تسمح لي خبرتي الطويلة معك عبر مسيرة الحياة بهذه الثقة والإيمان بأنك لا تخذل ملتمسيك ولا تتخلى عمن يتكلون عليك ولاتهمل ملتمسيك؛ فأني أفرح من الآن ويبتهج قلبي بخلاصك الذي أعددته لي حتى وإن كنت لا أبصره بعد .

«         للرب أرفع نشيدي لأنه أحسن إلىّ :

      من الصعب أن ندلل على سبب هذا التحول المفاجئ: هل تعافى المرتل بسرعة؟ من المحتمل أن المزمور قد نُظم عبر ليالٍ طويلة من الأرق والذكريات القاسية المُرّة، والصلوات اليائسة، كل هذا تطور تدريجيًا لينشئ سلامًا. حتى عند الموت يتحول غضب الإنسان أو كآبته إلى سلام داخلي وحب راسخ". هكذا تسمح له هذه الثقة بالرب سيده ومتكلة أن يثق في رحمته، ويبتهج قلبه بخلاصه بل ويبدأ في عزف نشيد التهليل والتمجيد حتى قبل ان يتحقق الخلاص المرجو فعلياً.

رابعاً: تطبيق المزمور:

أولاً: كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور؟

 نستطيع القول أن المزمور ينطبق على حياة الرب يسوع فان ما نطق به داود يحمل نبوة عن السيد المسيح الذي يصرخ نائباً عن البشرية وقد حمل ثقل خطاياها، فيقول للآب: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" ليتنا نتمثَّل به في اتضاعه وصراخه بإيمان سائلاً الآب أن يوجه وجهه نحونا.

   إلى متى تنساني: لعل الرب قد صلاها على الصليب لا يأسا أو حزنا أو شكا بل ألماً. لعله تلا المزمور وقت النزاع في بستان الزيتون، يوم تحالفت قوى الشر والظلام لتطفئ نوره القدوس، ولعل هذا الجملة خير مرادف لما نطقت به شفتاه على الصليب إذ يناجى  أباه: " إيلي إيلي لماذا شبقتني أي إلهي،إلهي لما تركتنى". 

   حتى متى أحمل الغصة: لعل الرب يسوع حين شاهد نجاح العدو في القبض عليه وسمع الحكم بالصلب وعانى السخرية و الهزأ، شعر بتلك  الغصة  في نفسه وتساءل إلى متى يارب تتركهم.

   انظر إلى واعني: طبعا كانت صلاة يسوع وحياته كلها تحت نظر الله وكان تعليمه ومعجزاته وأقواله وأفعاله من عند أبيه وتحت نظره  وهو إذا يطلب من الله نظرة يطلب عونه وهو البريء ليستطيع تحمل آلام الصلب.

       كذلك كانت نظرات يسوع تعنى  الكثير لأحبائه فهي محبة ورحمة وخلاص كما:

o      نظر إلى زكا : اليوم تم الخلاص لهذا البيت

o      نظر إلى الزانية : أما أدانك احد؟ ولا إنا أدينك، اذهبي ولا تعودي تخطئين.

o      نظر إلي الشاب الغنى: إن أردت إن تكون كاملا فاذهب وبع كل مالك وتعال اتبعني

o       نظر إلي إيمان أصدقاء المخلع: فشفاه  وقال قم واحمل سريرك مغفورة لك خطاياك

o      نظر إلى بطرس: أنت سمعان بن يونا، أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. كما نظر إليه حين أنكره فخرج خارجا وبكى بكاء مراً.   

   أيها الرب الهي: هكذا يتوجه الرب يسوع إلى الرب إلهه، إلي أبيه السماوي في صلاة كثيراً ما كانت تدوم الليل كله، وفى حديثه  "أبى وأبيكم والهي وإلهكم" " كل ما لي هو لله وهو اله وحدة وهو الله اله إلههم الذي أسمة عظيم وليس لغيرة الخلاص ، وتوجه يسوع الكلمة الإلهية المتجسد إلي ألآب لا يعنى أن ليس والآب واحد، فيسوع الإنسان ويسوع الإله الذي صار جسدا هو جوهر الله.

       أنر عيني لئلا: صلاة الرب في ساعة الظلمة وحتى عندما نام نوم الموت ظل واثقا انه سيعاين النور ويحيا الفرح والنصر والسلام ،

   يقول عدوى قد تغلبت علية: هكذا ظن الأشرار حين صلبوه إنهم قهروه وأزالوا اسمة من الأرض ومحوا كل ذكر له  لكن ظنونهم وأمالهم تبددت بالقيامة، فعلى عكس ما كانوا يتوقعون تغلب المسيح عليهم ويقول اغسطينوس " لو عرف صالبوة إنهم يقدمونه إلى النصر لما صلبوه " تماما حين ظنوا إنهم قضوا علية ، وفى اللحظة التي تخلصوا منه فيها وسارعوا بمواراة جثمانه في التراب، عادوا إلى منازلهم وقد استراحوا من هذا البار الذي كان مجرد وجودة إزعاج وتهديد .

       على رحمتك توكلت: طبعا لم يهزم المسيح البار وقام منتصرا كالجبار لأنه توكل على الرب فنجاه وقد نجاة لا فقط بنزوله من الصليب فما أسهل على من نادى الموتى من القبور أن ينتزع من يديه ورجليه ثلاث مسامير وينزل، لكنه توكل على الله وسلمه ذاته إلى النهاية وفى يديه استودع روحه فهزم العدو وأبطل جميع مؤامراته، وتحقق له النصر بالقيامة من بين الأموات باكورة للراقدين

   للرب ارفع نشيدي لأنة أحسن إلّي: هكذا رنم الرب نشيد النصر في فجر القيامة حيث أقامه الرب ناقضا أوجاع الموت رافعا رايات النصر منشدا تهليل الملائكة قد أحسن كل عمل فأحسن الله إليه وأعطاه اسما فوق كل إسم. وأقامه رباً وسيداً ومسيحاً    له تسجد كل ركبة فى السماء وما على الارض وما تحت الارض وباسمة تنشد كل الامم والشعوب وترنم نشيد المجد والكرامة.

o     كيف نعيش هذا المزمور ‏في حياتنا كمسيحيين:

يشعر الإنسان أحيانًا في لحظات فتور روحي كأن الله قد تركه أو حجب وجهه عنه، وكأن الخطية قد سيطرت عليه لا تطلب إلا موته الأبدي… عندئذ لا يجد له ملجأ إلا الله مخلصه، فيصرخ إليه لكي يُشرق عليه ببهاء نور وجهه. وفي وقت المرارة يشعر الإنسان كأن الله قد تركه زمناً طويلاً، لكن إذ يعود فيلتقي به من جديد يدرك معنى القول الإلهي: "لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك" (إشعياء 54: 7).

   إلى متى:  يصرخ المؤمن صرخة ثقة تنبع من الضيق الحاضر، فيقول للرب ماذا يجب أن يعمل لئلا يشمت العدّو بمن أعلن نفسه تابعاً لله؟ يقول العدو: الله لا يسمع، وإن سمع فلا يقدر. ويقول المؤمن: هذا مستحيل الله موجود يسمع وعيناه ترقبان. فيصرخ طالباً النجدة، عندئذ ينقلب الضيق في قلبه إلى راحة، والقلق إلى يقين، والشكّ إلى ثقة كاملة برحمة الله، والحزن إلى ابتهاج وكأن لسان حاله يقول: توكّلت على رحمتك، وابتهج بخلاصك.

o   إلى متى يا ربّ تنتظر لتُظهر رحمتك؟: أحياناً تطرح الكنيسة نفس السؤال، إلى متى أيّها السيّد، لا تدن سكّان الأرض (رؤيا 6: 10)، نحن أيضا أبناء الكنيسة كثيرا ما نتساءل: هل نسينا الله ولم يعد يذكرنا؟ هل صرف وجه عنا والى متى ؟

o      نحن أيضا أبناء الكنيسة كثيرا ما نعيش الغصة : نشعر بالاضطهاد بالمهانة والخوف

o    نحن أيضا أبناء الكنيسة كثيرا ما تجيش قلوبنا بالغضب: كيف ينتصر الشر على الخير ؟ كيف نهزم أمام عدو شرير يسيطر على أقدار الأبرياء؟   كيف يُسحق المساكين ؟  كيف يحجب الله وجهه أمام ظلم الأبرياء؟ أمام تنهد المظلومين؟  أمام صرخات الجوع من فم الأطفال الأبرياء؟

o   نحن أيضا أبناء الكنيسة كثيرا ما نعيش حالة من التحسر: على أحوالنا: أحوال بلداننا، أحوال رعايانا، أحوال كنائسنا أحوال العالم، أحوال البشرية المعذبة…

   أنظر وأعن: صلاة الكنيسة ايها الرب اله القوات انظر وتطلع من السماء و تعهد كرمك الذى غرسته يمينك أصلحها وثبنها فلتكن رحمتك وأمانتك عزا لشعبك فالكنيسة والمؤمن المسيحي يريان أن نظرة الله كافة للخلاص  ويعرفان انه حين ينظر يبصر ويدرك أن هناك ظلما سرعان ما يقوم ويخلص ويعين أحباءه.

   أنر عيني: يطلب المسيحي والكنيسة من الله نور العينين،" كلمتك مصباح لخطاي ونور لسبلي" ليستطيع أن يهتدي إلى الطريق المستقيم ويتخلص من الفخاخ المنصوبة للقضاء علية والله هو نور وكلمته هي الهدى.

   تغلبت علية: كلا الكنيسة واثقة مهما لاقت من اضطهاد والمسيحي واثق مهما قابل من صعوبات ان العدو لن يغلبه ولن ينتصر عليه " ثقوا اننى قد غلبت العالم " ونحن واثقون إن يعظم انتصارنا بالذي أحبنا.

   توكلت على رحمتك، يبتهج قلبي بخلاصك: هكذا أثبتت الأيام وأكد التاريخ أن الذين يتكلون علية لا ينهزمون ولا ينهون الى العاوية  بل إلى الفرح والخلاص.

   للرب ارفع نشيدي: هذا هو نشيد الكنيسة الذي ترفعه إلى الرب سبع مرات كل يوم فى كل مكان وزمان وبكل اللغات وبجمع الأجناس .

خامساً: خاتمة المزمور:

هكذا قدم داود النبي صلاة قصيرة قوية نابعة عن إحتياجه. إنه إنما يطلب من الله أن يشرق عليه بنوره. وقد نصحنا آباء الكنيسة أن نردد صلوات قصيرة على الدوام، توجه كالسهم ضد الشيطان.هذا العدو الذي يخشى المرتل أن يقوى عليه ويعيَّره هو إبليس أو الخطية. يخشى المرتل سخرية أعدائه، الذين يتهللون إذا ما تزعزع  ويُسر جدًا بهذا النجاح وإن كان مؤقتًا!.

ما أعجب الله الذي كثيرًا ما يسمح لشعبه أن يسقط  إلى حين تحت عنف أو استبداد أزواج أو سادة أو قادة؛ لكن كان لابد لدانيال وزملائه الأتقياء أن يعيشوا تحت سطوة حكام مستبدين، فهذه هي المدرسة التي يتتلمذ فيها القديسون لمنفعتهم ونوال المجد، فإن الصعاب غير المحتملة تقود إلى البركة والنصر.

لقد حوّلت ثقة داود وإيمانه بالله حزنه إلى تسبيحة فرحة، وآلامه إلى خلاص، بدأ المزمور بالتنهد وختمه بالتسبيح، كالعروس تقول "لأن الشتاء قد مضى، والمطر مرّ وزال؛ الزهور ظهرت في الأرض؛ بلغ أوان القضب، وصوت اليمامة سُمع في أرضنا" (نشيد 2: 11-12). وكما يقول إبن سيراخ: "انظروا يا بني البشر واعلموا أنه ما من أحد توكل على الرب وخزى" (2: 11).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صلاة

الجميع زاغو فاهدنى

يارب تطلع من السماء ، انظر وتعهد كرمك

اراك تستجيب الصلاة فتتطلع من علو مجدك

فماذا ترى يا سيدى ، زاغت قلوب الجميع وفسدت نفوسهم

أرى اطفالا يعانون الموت جوعاً

أرى صبياناً يساقون للعمل بلا رحمة

أرى شبابا يعانون البطالة والإدمان

 أرى فساد أرى ظلما أرى اغتصاباً

أرى عراة بلا مأوى أو غطاء ولاكساء

بينما قد أفضت على العالم بسخاء

         ولكن الأغنياء سلبوا قوت الضعفاء (الفقراء)

   ماذا يفعل لكرمى وانا لم افعلة

منحتكم الجنة فحاولتم اغتصابها

اعيطتكم العهد فخنمتوه والنقاء فلوثتموه….

اعطيتكم الخبز والماء والنور والسماء

فأنتجتم الجوع والدمع والظلمة والشقاء

اعيطتكم اعيطتكم المرأة معيناً فاهنتموها

اعيطتكم الوالدين فعصيتموهما ولم تكرموهما

 اعطيتكم الاخ فقتلموة ،الزوج رفيقاً فخنتموه

         الاصدقاء فاهملتوهم الاقارب فنازعتهوهم

أعيطتكم كرمى فقلتم ابنى…

فماذا يفعل بكرمي وانا لم افعله؟  اليس من عاقل بمجد الله؟

يا رب

حوّل مرارة نفوسنا إلى صلاة!

احملنا وسط وادي الدموع وانظر إلى أعماقنا واستجب لتنهدات قلوبنا المشتاقة التواقة.

أنر علينا بنورك وجهك فلا يكون للظلمة موضع فينا أنر أعماق بصيرتنا فنراك ونحبك ونتحد بك

قدنا في مدرسة الألم لكي نستعذب شركة صلبك وننعم بقوة قيامتك فتبتهج قلوبنا بخلاصك،

وتنفتح أفوهنا بتسبيحك

فلا نعود نشكوالتفاتك عنا

بل ننعم باشراق وجهك علينا…

 

آمـــــين

 

الفهرس