المزمور الرابع عشر: عالم فاسد

همسات الروح

تأمل في سفر المزامير

بقلم الأب/ بولس جرس

 

أولاً: تقديم المزمور:

مزمور توسّل يشكو فيه المرنّم من الضيق الذي يتعرّض له، ربما مرثاة شخصية لداود عند ثورة أبشالوم ضده، أو كمرثاة جماعية عندما تعرض الشعب للضيق في بابل، إبّان فترة السبي. وقد تأثَّر المزمور بأسلوب معلمي الحكمة، وهو يتبنى في نشيده أسلوب الأنبياء الذين يؤكودن على حقيقة جوهرية وهي متانة عهد الله مع شعبه مهما تعرّض لكوارث ونكبات، فإنه حتماً سيعود يفتقدهم ويخلّصهم.من اللافت للنظر التطابق الكامل لهذا المزمور مع المزمور الثالث والخمسين، ولكن هناك فارق، فبينما يتكرر استخدام اسم "يهوه"  أربع مرات في هذا المزمور لم يذكر في المزمور الآخر سوى مرة واحدة، وأُحل محله اسم "إلوهيم".

يتصور المرنّم العالم وقد انقسم إلى فريقين من الناس: جماعة الجهلاءوهم الأغلبية الساحقة [1-3]، وجماعة الأبرار أو شعب الله المتألم وهم البقية الباقية.

يشكو المرنّم من اضطهاد الأشرار للأبرار، بينما يرقب الله ذلك من السماء صامتاً، لكنه يُعبّر عن رجاء عظيم أنه سيأتي من هيكله ليعاقب الأشرار ويثبّت المؤمنين  ويركز المزمور  بشدّة على قدرة إله إسرائيل "يهوه" على عقاب الكافرين "الجهّال"  وخلاص البائسين، لذلك  يُعتبر المزمور تنبيه ثلاثي الأبعاد فهو:

1.  يحذّر البقية الباقية من شعب الله من السقوط في ظلمة اليأس.

2.  يهدّد الشعوب الوثنيّة من البغي لا سيما على البريء والمسكين لأن الله سعود ليفتقد شعبه ويرد سبيه.

3.  ينبّه بني شعبه المستهترين المتحالفين مع المستعمر.

مع انقسام مملكة داود، وتراخي أركانها، واختلاط شعب الله بمن حوله من شعوب وحضارات وديانات، عاش الكثير من بني إسرائيل عيشة وثنية كالبشريّة في عهد نوح (تكوين 6: 3). حقاً لم ينكروا وجود الله، ولكنهم رفضوا عهده وتخلّوا عن وصاياه، وقالوا: "لا يأتي الربّ بخير ولا بشرّ" (صفنيا 1: 12). حتى لنستطيع القول، أنهم تعاملوا مع الله وكأنه غير موجود، أو كأنه كائن ضعيف، فاستندوا إلى آلهة أخرى ومارسوا عبادتها وطقوسها النجسة.

وقد نبههم الأنبياء إلى خطورة هذا الخلط بين القداسة والنجاسة فلم يرتدعوا، وحاولوا ايقاظهم من غفلتهم فلم يفيقوا، واستمروا يصرخون فيهم أنه ليس من شركة بين إيمان اليهود وإيمان الوثنيين، بين أبناء شعب الله، وابناء بابل، فحاربهم هؤلاء وقتلوهم.

 بل تمادوا في غيّهم فأهملوا الشريعة وداسوا الناموس وسحقوا الفقير، "أكلوا لحم إخوتهم وبني شعبهم، وسلخوا جلودهم عنهم، وهشّموا عظامهم كما في القدر وكاللحم في وسط المقلى" (ميخا 3: 3). لذلك أدانهم الله وعاقبهم، فأسلمهم إلى أيدي أعداء لا يرحمون، ليسقطوا في فخ نصبوه ويشربوا كأساً جرّعوه.

سلّط عليهم "مملكة بابل" أمّة غريبة عاتية قاسية باغية، سخّرها كالعصا في يده تعاقب الظالمين الضالين الفاسدين من بني شعبه. والبابليّون هم أهل المملكة البابلية التي نشأت على أرض ما بين النهرين، العراق حالياً، وكانت مملكة قوية، امتدت حدودها لتشمل بلاداً كثيرة حولها، وقد أعطاهم الله هذه القوة ليستخدمهم في تأديب الأمم والشعوب، لاسيما شعبه.

ففي الوقت الذي تخلى فيه الله عن شعبه الذي خان عهده ورذل شريعته، وأهمل عبادته وتطاول على اسمه القدوس فأنكر وجوده نفسه؛ عضد ملك البابليين وسمح لجيوشه بالدخول إلى مدن إسرائيل وتحطيم قصور الحكام الفاسدين والاستيلاء على أموالهم، التي سبق أن سلبوها من البؤساء والمساكين، فكما كانوا يفعلون مع إخوتهم البائسين فيسوقون أولادهم عبيداً ويستاقون نسائهم أسرى شهواتهم المنحرفة، هكذا سمح الرب لرجال بابل بسبي نساء شعب إسرائيل وسوق من بقي حياًّ من رجال إسرائيل وشبّانها سيراً على الأقدام إلى بابل وأعناقهم مربوطة في الأغلال، واستمروا هناك في تعذيبهم وإذلالهم، حتى صرخوا إلى الرب إلههم، فوعدهم الله بالخلاص، إن هم تابوا ورجعوا عن شرورهم.

ثانياً: نص المزمور وتقسيمه:

ينقسم هذا المزمور إلى قسمين تتبعهما خاتمة وهو مكوّن من سبع آيات، أربع من آياته السبعة تخص الأشرار، وثلاثة تتحدث عن مصيرهم. ويختمه بآية تُعبّر عن ثقة بالله ورجاء وانتظار لخلاصه في النقاط التالية:

القسم الأول: فساد البشرية: الجميع زاغوا وفسدوا ( 1- 4):

1 – قال الجاهل في قلبه "لا إله!"، فسدوا ورجسوا بأعمالهم، وما من أحد يعمل الخير.

2- الرب من السماء يشرف على البشر. ليرى هل من عاقل يطلب الله.

3 – ضلّوا كلهم وفسدوا جميعاً،      وما من أحد يعمل الخير، كلا ولا واحد.

4 – ألا يفهم يفعلون الإثم ويأكلون شعبي كما يأكل الخبز وبالرب لا يعترفون.

القسم الثاني: إيمان وثقة بالله العادل الذي سيعاقب الأشرار ( 5- 6):

5 – إن الرعب يستولي عليهم.لأن الله مع جيل الصديّقين؟

6- يستخفون بهموم المساكين، لكن الرب يحميهم.

القسم الثالث: خاتمة تعبر عن رجاء وإيمان ( 7):

7– ليت من صهيون خلاص إسرائيل.حين يرد الرب شعبه من السبي. يبتهج يعقوب ويفرح إسرائيل.

ثالثاً: تفسير المزمور:

القسم الأول: فساد البشر: "الجميع زاغوا وفسدوا" ( 1- 4):

1 – قال الجاهل في قلبه "لا إله!" فسدوا ورجسوا بأعمالهم، وما من أحد يعمل الخير.

v قال الجاهل في قلبه "لا إله":

لا سلطان لله على الأرض، هكذا ظنّ البابليّون بعد أن اقتحموا أورشليم، مدينة العلى، وصعدوا إلى جبل صهيون مقر إقامته، ودكوا جدران هيكل سليمان محل سكناه، أنهم هزموا الرب بل وتخلصوا من وجوده، فتساءلوا بكبرياء وجهل، عندما اقتحموا الهيكل ولم يجدوا تمثالاً ولا أصنام آلهة، أين هو إله إسرائيل؟ لقد دخلنا مقره فلم نجده، وأزلنا الهيكل نفسه فلم يعد هناك من شيء يدلّ على حضوره!. فكان جواب العبرانيين: ما أنتم أيها البابليون سوى مخلوقات جاهلة ضالة، وسيكون عقاب الله، الإله الحي، على جميع ما تقترفون من ذنوب قاسيًا. فإن ظللتم مصرّين وتماديتم في بغيكم على شعبي المسكين  وبقيتم متعلّقين بالسحر والعرافة، ولم تلجئوا إلى إله إسرائيل فتعترفون أمامه بذنوبكم؛ فسينظر الربّ من السماء ويتطلع، كما نظر قديمًا إلى الذين كانوا يبنون برج بابل (تكوين 11)، وكما فعل مع شعب سادوم وعامورة (تكوين ؟؟)، عاقبهم عندما لم يجد بينهم  فهيمًا واحدًا يعمل إرادة الله. هذا المزمور مرثاة قوية عن فساد البشر يهوداً كانوا ام  أمماً جميعهم  يقولون "لا إله" مما يشير  ليس إلى إلحاد عقيدي فقط،  وإنما إلى إلحاد عملي وحياتي، فاقتراف الخطية بتصميم وإصرار هو إلحاد عملي وجهالة من خلالها:

أولاً:     حتى لو لم يستطع الأشرار إقناع أنفسهم بعدم وجود إله، إلا أنهم يتصرفون كما لو كان الله غير موجود؛ ، ومن خلال هذا الوهم يفرحون؛ إنهم ملحدون بالرغبة!.

 ثانياً:  بهذا الوهم يتجاهلون الله في سلوكهم، فيعيشون كأنه غير موجود، ولا يضعونه قط في مشروعاتهم مع أنه ليست غباوة أعظم من نسيان الله في الحياة اليومية.

ثالثــــاً:  كذلك يتجاهل الأشرار طبيعتهم الفاسدة ويتلذذون بفسادها.

رابعاً:  إنهم متكبرون لا يطلبون العون الإلهي، اظلمت قلوبهم، وانحرفت ضمائرهم، وتغرَّبت أذهانهم عن الحياة مع الله فأنكروا عنايته بهم وقيادته لهم، واتكلوا على قوتهم وسلطانهم بل وعنادهم حتى الموت.

خامساً: من خلال كبريائهم وطغيانهم، يسيء الأشرار إلى الله في أشخاص أولاده، يأكلونهم بشراهة كما يأكلون الخبز، ويستهينون بمشورة المساكين.

v   قـــال:

قال فعل ماض، يعني حدوث فعل في الزمان، وهو يختص بعمل لا يستطيع كائن آخر غير الإنسان أن يقوم به فهو وحده الكائن الناطق القادر على الكلام والقول، خلق له الله اللسان وأعطاه العقل ليفكر ويمجد ويسبح بلسانه، لكن اللسان تحول إلى أداة بشعة للسب والشتم والقذف وشهادة الزور، بل تجاوز الأمر ذلك إلى التجديف على الله ذاته وإنكار وجوده (يعقوب: 3)

v   الجاهل:

المرنّم يضعنا اليوم أمام أشد النماذج سفاهة وتعدياً، "الجاهل"!!! ركز المزمور على وصف الإنسان الجاهل (في العبرانية نابل) ؛ وقد ظهر "الجاهل" في سفر المزامير خمس مرات ، مرة هنا ومرة في المزمور 53 حيث يقول "لا إله". ومرة في (مزمور 39: 8)وهو يُهين البارَّ ويُعيّره. أما في مزمور 74 فقد تكرر مرتين (18، 22) وهو يهين اسم الله. وقد استُخدم المزمور كلمة "نابال"  بمعنى "جاهل" والكلمة العبرية مشتقة من فعل "بهت" أو "جف" كأوراق الخريف الساقطة؛ وقد ارتبطت في بادئ الأمر بالسلوك الأخلاقي المنبوذ ثم استخدمت  للتعبير عن تدنيس المُقدَّسات وكذلك عن الانحطاط الخلقي وانعدام القيم عند الإنسان الجاهل.

يقدم لنا  الكتاب المقدس صورة صادقة عن جهل "نابال"  زوج أبيجايل الذي أهان داود وكاد بجهله وغلاظة قلبه وتعديه أن يبيد نسله وذريته (1 صموئيل 25). بعد ذلك تطور مفهوم "نابال"  فصار تعبيرا عن العمل الأحمق الذي يمس الجماعة بضرر شديد، ثم صار استخدام الفعل  مقترنًا بالفساد الجنسي (تكوين 34: 7؛ تثنية 22: 21؛ قضاة 19: 23، 1 صموئيل 13: 11). واخيراً استخدمت كلمة "نابال" للتعبير عما يشكل تهديداً يهدد استقرار الجماعة كما في (أمثال 30: 21-23). أما بالنسبة للأنبياء فكانت تشير إلى خيانة الأمة كلها للعهد مع الله وخيانتهم لبعضهم البعض (إشعياء 9: 15-17؛ أرمياء 17: 11، نحميا 3: 6) نستطيع من  خلال تاريخ إسرائيل الطويل، أن نخلص إلى تاكيد بارتباط الجهل (نابال) بانحلال الأسرة والمجتمع والعهود. وإذ كان للجهل أثره الوخيم في بادئ الأمر على الأسرة فقد انتقل الأثر إلى المجتمع الديني الأكثر نقاوة.

وأخيراً الجاهل في الكتاب المقدس والكتب الحِكميّة هو عكس الحكيم، فبقدر ما كان الحكيم ممدوحاً من الرب حيث يعرف الله ويسبحه ويطلب مشورته ويقبل إرادته في حياته ولا ينطق فمه بالفساد وكلمة الشر لا تخرج من فمه. كما بلغ حب الحكمة ومدحها حداً اقترب من ربط اسمها باسم الله نفسه، فاقترنت بأفلاكه المُسبّحة له في كل حين والناطقة بمجده. بينما صورة الجاهل عكس ذلك تماماً، فهو مَن يجهل الشريعة، ويتلذذ بالخطيئة كما يتلذذ الخنزير بالحمأة.

 وقد امتد هذا المفهوم ليشمل حميع الشعوب الوثنية " الأمم" التي لا تعرف الله.  وأغرب ما في الجاهل هو جهله بجهله، أي بأنه جاهل… فلا بأس بجاهل يعرف قدر نفسه ولا يتجاسر على الخوض في أمورلا يدرك أبعادها؛ فمَن مِن البشر مهما بلغت حكمته يستطيع ان يُلم بكل المعارف..! ليس هذا الجهل هو ما يتحدث عنه كاتب المزمور، بل يقصد من يعيش في ظلمة الجهل والضلال ، بينما يعتبر نفسه عالماً، ويتحدث في أمور لا يدركها ولا يستطيع عقله غير المستنير بنور الحكمة الإلهية أن يستوعبها. ويتمادى في جهله  بالسخرية من حكمة الحكماء ويضطهدهم.

v   في قلبه:

القلب أو الإنسان الداخلي هو الذي يكشف عما إذا كان المرء جاهلاً أم حكيمًا، قديسًا أم شريرًا؛ فقلب الإنسان، في الكتاب المقدس، هو مركز كل الصلاح أو الشرور، فيه يُقيم ملكوت الله أو يملك إبليس.

v   لا إلـه:

 نطقت الخليقة الجاهلة، وبدلاً من أن تُسبح خالقها، الذي ميّزها بالنطق دون الكائنات، راحت تقول ليس هناك إله، ما هذا التطاول؟… لم يعد تطاول الجاهل قاصراً على التفاخر بالشر والتعدي على الشريعة واختراق القانون والناموس ولا اكتفى بارتكاب الشرور وعمل المعاصي وفعل القبيح وافساد  الأرض وسحق المسكين والبائس والفقير بل تعدى ذلك كله إلى إنكار وجود الله نفسه . فهل ينفي وجود الشمس إنكار أعمى؟.

v   فسدوا :

الخير والصلاح هما سمة كل ما صنع الله من خلائق، فقد خلق كل شيء "حسناً". لكن الإنسان كخليقة فسد فأفسد نفسه والعالم وأخضعه لسلطان الشر باتباعه أفكاره وشهوات قلبه الشريرة وبأعماله التي تُفسد الطبيعة المباركة فدخل الفساد والموت إلى العالم وسيطر على جميع الخلائق بسبب خطيئته. كذا يشير النبي إلى دخول البابليين الهيكل المقدس وما واقترفوا من فظائع في حق الله  وشعبه ففسدوا بما لقد يتجاوزوا حدود كل خيال.

v   رجسوا بأعمالهم :

 الرجس عند اليهود هو غير الطاهر وحسب ما نفهم من سفر اللاويين وغيره أن عبادة الأصنام والسحر ولمس الميت ولمس الأبرص أو الدم أو أكل ما ذُبح للأوثان وحتى الدخول إلى بيوت الوثنين أو السلام عليهم ينجس الإنسان الطاهر ويعتبر رجساً عند اليهود. فهذه الأعمال جميعاً تجعل اليهودي دنساً عليه أن يتطهر قبل الصلاة أو الدخول إلى الهيكل. والبابليون ليسوا فقط الأعداء، بل إن ديانتهم المملوءة بالأساطير وأعمال السحر تعتبر نجسة عند بني إسرائيل، فهم لا يعبدون الآلهة المتعدّدة فقط، بل يعيشون الباطل. ولقد تطاولوا على الله منذ القديم، منذ حاولوا أن يبنوا ذاك البرج المرتفع ليصلوا به إلى السماء (تكوين 11: 1). فأضاعوا وقتهم بل حياتهم في كبرياء لا فائدة منها.

v   ما من أحد يعمل الخير :

 تذكرنا هذه الآية بقصة الطوفان حين تطلع الله من السماء فلم يجد من يصنع الخير ورأى أن جميع الناس زاغوا وفسدوا "فندم الله لأنه خلق الإنسان" ( تكوين 8 )، ومع أن الله قد قطع مع نوح عهداً بألا يهلك الأرض ثانية، إلا أنه لا يمكن أن يظل صامتاً أمام فساد طغاة إسرائيل الذين يمتهنون اسمه القدوس ويسحقون شعبه المسكين ويمضغونه بأسنانهم كالخبز. لذلك دفعهم بغضب وأسلمهم بنفسه ليد عدو  لا يرحم وسلط عليهم أمة غريبة.

2 – الرب من السماء يشرف على البشر. ليرى هل من عاقل يطلب الله.

هكذا الرب الإله " يهوه"، الساكن  في السماء دليل على مكانته العالية التي لا يقترب منها أحد. فهو وإن إتخد من أورشليم عاصمة ومن الهيكل مقراً  فالسموات تظل عرشه والأرض بمن فيها  موطيء قدميه.ومقره في السماء وليس على الأرض كما يظن الجهلاء المجدفين ومن يتبعهم.

v   يشرف :

"يهوه" كلي القدرة وحاضر في كل مكان ويعرف الناس وما في قلوبهم من خفايا. والإشراف سمة الأشراف، فالمشّرف هو المراقب المسئول عن النظام وتطبيق القانون، والرب من علو سماواته  ينظر إلى الأرض أسفله، ويراقب أعمال بني البشر.

v   ليرى هل من عاقل يطلب الله :

كلمة "فاهم" هنا في النص جاءت في مواضع أخرى في الكتاب المقدس بكونها: "حكيمًا، متعقلاً، خبيرًا، ماهرًا" (دانيال 1: 4؛ 12: 10؛ عاموس 5: 13؛ إرميا 1: 9؛) وأيضًا لتعني: "يعلم، يسلك بحكمة" (2 كورنثوس 30: 22؛ 1 صموئيل 18: 14-15). كما جاءت في صيغ أخرى للكلمة لتعني: "يعتبر، ينتعش، يتثقف، ينال نجاحًا صالحًا، يتصرف بفطنة" (أيوب 34: 27؛ إرميا 10: 21؛ 20: 11؛ 23: 5؛ نحميا 9: 20؛ أمثال 21: 11؛  إشعياء 52: 13). فالأشرار بذواتهم لا يتحلّون بالحكمة أو الفطنة أو الخبرة أو المهارة، لا يسلكون بتعقل ولا يقدّمون تعليماً صادقًا، ولا يتعلمون تعليماً صحيحاً، وهم ليسوا ناجحين في حياتهم وإن إزدهروا لفترة محدودة. لكنهم لا يتمتعون بعنصر واحد من الحكمة في كل سلوكياتهم، من جهة الالتزام والإخلاص.

تتكرر المأساة فالله الذي خلق البشر ليمجدونه ويعبدونه وسلّطهم على الكون، لم ير منهم سوى الكثير من الفساد والكفر والجحود، والقليل النادر من الحكمة والتعقل ومخافته والسير في طرقه وحفظ شريعته.لكن الله لا يتسرع في الدينونة والعقاب قبل أن يتحقق، هكذا فعل قبل الطوفان وحين وجد الشخص العاقل الذي يفعل الخير،أنقذه ونجاه دون الآخرين، وجعل منه خميرة جديدة لشعب جديد، وهكذا فعل حين أهلك سادوم وعامورة، فبعد طول مساومة من إبراهيم صديقه وخليله، الذي نجح في خفض عدد الأبرار- العاقلين- الحكماء- من مائة فرد ليعفو عن المدينتن، إلى عشرة فلم يجد، فأنقذ لوطاً وأسرته. بل لقد أشرك الله البشر الأبرار ( إبراهيم) والملائكة في حصر العدد، ولمّا ثبت حصرياً عدم وجود العدد الكافي، أنقذ البار لوطاً وحده وأحرق المدينتتين بالنار والكبريت.(راجع تكوين 19).

3 – ضلّوا كلهم وفسدوا جميعاً،      وما من أحد يعمل الخير، كلا ولا واحد.

v   ضلّوا كلهم وفسدوا:

مترادفان يوضــحان حجم الكارثة فالجميع ( يهوداً وأمماً) ضلوا وتاهوا عن الطريق المرسوم اليهود أولا باهمالهم ربهم ومخلصهم، إذ نسوا الشريعة وأهملوا الناموس وتركوا الرب وتبعوا آلهة أخرى وساروا في طريق الضلال والظلم والفساد. والوثنيون ببوحشيتهم زتعديهم؛ فسدوا جميعاً وأفسدوا الطبيعة الحسنة التي خلقهم الله عليها.

فساد جامع: تقييم الله للجنس البشري أنه ليس أحد بارًا، ليس من يطلب الله. وقد إقتبس القديس بولس هذا النص في (رومية 3: 10-12). "ليس بار ولا واحد، ليس من يفهم، ليس من يطلب الله، الجميع زاغوا وفسدوا معاً، ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد"، ليُثبت أن اليهود والأمم على حد سواء، جميعهم تحت الخطية. ليس الوثنيون فقط هم الخطأة بل كل البشرية. العالم كله مذنب أمام الله؛ وهذا يقودنا إلى فهم فساد الطبيعة البشرية بصورة عامة.

طبيعتنا البشرية  في كلّيتها – التي مركزها القلب-  تحتاج إلى تجديد. وكما نظر الله بغضب إلى بابل وسادوم وعمورة، ها هو ينظر من سمائه بعطف إلى صهيون، ليرسل إليها من يخلّصها فيعيش شعبها  وهو ينعم بالبهجة والفرح. لأنه لن يرضى على الدوام عمن يسومون شعبه العذاب والضيق، سوف يأتي عليهم القصاص لأنهم استهانوا بشعب الله ورفضوا أن يصدّقوا أن من هاجم هذا الشعب هاجم الله، وأن الربّ ساكن وسط أحبّائه الذين فيه وحده يجدون الملجأ والملاذ.

v   ما من أحد يعمل الخير ولا واحد:

 كلمة "يطلب أو يفتش" جاءت بمعنى يستفهم (تث 13: 11)، أو يبحث (إر 29: 13)، أو يعتني (أي 3: 4) أو يهتم (تث 11: 12؛ 142: 4). فالأشرار لا يهتمون بالله ولا يلتفتون نحوه ولا يبحثون عنه ولا يطلبونه. وقد جاء الفعل المقابل لها "يجد" فالحكمة الحقيقية تقوم على طلب الله والعثور عليه. ، لكن الكل قد تدنس وإرتدفيما يشبه اتفاق فيما بينهم، زاغوا وفسدوا…

يتعجب المرنّم اليوم من وضع البشر جميعاً يهوداً ووثنين. يا للهول، الجميع بدون استثناء يصنعون الشر في عيني الله. اليهود جهلة كالوثنيّين، وهم جميعَاً خاضعون لسلطان الخطيئة. فالحدّ الفاصل بين الجاهل والحكيم، بين الوثنيّ واليهودي ، يكمن في العمل بموجب الشريعة. لذا فاليهودي يمكنه أن يكون كالوثني إذا أهمل الشريعة، والوثني يمكنه أن يكون يهودياً، إن عرف الله ومجَّده وشكره كإله (رومية 1: 21).

مثلُ هذا الوثني له شريعة مكتوبة في قلبه يعمل بها فيشهد له ضميره (رومية 2: 14- 15). أما اليهود فيقول عنهم: "بسببكم يُجدَّف على اسم الله بين الأمم". بل يؤكد الكتاب أنه سنكون هناك رحمة لمن لا يعرف "أما العبد الذي يعلم مشورة سيده ويفعل عكسها فإنه يضرب كثيراً" (لوقا).

v   كلا ولا واحد :

لم يبق هناك أحد يصنع الخير، فلا استثناء من الخطيئة، التي بعدسقطة آدم سادت على البشر، ولم يعد هناك مجال للخلاص منها، وعجزت الشريعة والناموس عن ردع الناس عنها فأصبح الجميع لها عبيداً وسارت البشرية عن الرب بعيداً.

4 – ألا يفهم الذين يفعلون الإثم ويأكلون شعبي كما يؤكل الخبز وبالرب لا يعترفون:

سؤال استفهامي يوضح حيرة المرنم أمام جهل هؤلاء الأشرار وتبجحهم على الرب وعلى الصديقين. وعدم الفهم ليس قصور في الخليقة، ولكنه نوع من الغباء الناجم عن كبرياء البشر الذين يظنون أنفسهم مساوين لخالقهم بل وينكرون حتى وجوده، وإنكارهم هذا يجعل المرنّم يتساءل  عن مدى قدرتهم الفعلية على الفهم وكأنهم بإنكارهم لوجود الله يتنكرون لنعمة العقل التي حباهم بها الله ليعقلوا ويفهموا، فراحوا يفعلون الإثم ويرتكبون الخطايا ويتعدّون على حقوق الآخرين…  

v   يأكلون شعبي كما يأكل الخبز :

 الطعام هو عملية بناء للجسم ويستخدم أيضاً في توطيد العلاقات الاجتماعية وتعميق أواصر المحبة بين البشر، لكن أن يتحول طعام البعض إلى نهش في لحوم إخوتهم، فهذا يردنا إلى زمن سحيق زمن "أكلة لحوم البشر" وكأن الشرير قد تحول إلى حيوان مفترس… يتغذى على لحم إخوته البشر كما يتغذي البشر الأسوياء على الخبز، وهو سيد المائدة الشرقية ورمز الطعام الجيد والسليم …

لا يقف الشرير عند حدود الجهل بالحكمة، وإنكار وجود الله في حياته وعدم البحث عنه وطلب معونته ومشورته، ولا يتوقف عند فساد أعماله؛ إنما يحمل شراً وكرهاً غريبين تجاه أخيه البار والمسكين، فيصير فمه أداة تعذيب، مملوء سماً وخداعاً، يحوّله إلى مقبرة لقتل الأبرياء وفيها يدفنهم، مع حب شديد لسفك الدماء وبغض وكراهية. وعداوة الجاهل ضد مؤمني الله موجهة إلى الله نفسه، لهذا تُعتبر إلحاداً عملياً. إنهم بإغاظة الصديقين وتعذيبهم وقتلهم دون سبب سوى أنهم رجال الله. "الذين يأكلون شعبي كالخبز…

v   وبالرب لا يعترفون:

 يزيد الأشرار على شرورهم النجسة، أنهم ينكرون وجود الله، إذ يقولون لا إله، كما في بداية المزمور، وبذلك يتعدون حدود الفساد الأخلاقي على الأرض، إلى إنكار وجود الله في السماء …

القسم الثاني: إيمان وثقة بالله العادل الذي    سيعاقب الأشرار ( 5- 6):

5 – إن الرعب يستولي عليهم.لأن الله مع جيل الصديّقين؟

بينما تطرأ كل علامات الاستفهام هذه في نفس المرنّم، وهو يراقب الجميع  ويعرف مصيرهم، فإنه يؤمن تماماً أن الرب لن يصمت إلى الأبد أمام هذا التعدي والفساد. من هذه البديهية الإيمانية ينطق المرنّم: سوف يقوم الرب ويتحرك لحماية الأبرار فهو يحبهم ويرعاهم من جيل إلى جيل ولا يتركهم أبداً فريسة للأشرار ليقصوا عليهم. حتماً سيتدخل حينئذ سوف يستولي عليهم الهول ويرتعبون.

6- يستخفون بهموم المساكين، لكن الرب يحميهم.

الطغيان والبغي العسكري شيء وارد،  فالميل إلى السيطرة والاستيلاء غريزة في البشر، ومنذ القدم جار القوي على الضعيف، وغزت جيوش الأقوياء مدن وقرى الضعفاء فاستولت عليها واستعبدت سكانها؛  أما الاستخفاف والاستهانة بما يعيش المساكين من ظلم واستعباد، وما يعانونه من هموم ، فهذا في حد ذاته قمة البربرية، ولن يقبل الرب هذاعلى الإطلاق، بل سيقوم وينتقم للمساكين، فهو الذي أعلن نفسه منذ القدم حامياً للضعفاء، أباً للأيتام، قاضياً وزوجاً للأرامل .

القسم الثالث: خاتمة تعبر عن رجاء وإيمان:

7- ليت من صهيون خلاص إسرائيل.حين يرد الرب شعبه من السبي. يبتهج يعقوب ويفرح إسرائيل:

وهكذا عاش شعب الله ، شعب داود العظيم وسليمان الحكيم، شعب الأبطال الذين ألقى الرب يوم كان مهعم رعبهم على كل الشعوب، ويوم فارقهم أذلهم العدو واستعبدهم، ونطالع هذه النصوص في سفر دانيال لنرى كيف عاشوا في بابل … لكنهم كعادتهم من يوم كانوا في البرية، وقرصتهم الجيات صرخوا إلى الرب فصنع لهم موسى حية من نحاس كل من ينظر غليها ينحو( عدد) لذا صرخ الشعب من بابل كما صرخوا من ارض مصر عاش الشعب الأسير  في بابل نفسها على رجاء العودة يوماً إلى أورشليم وإعادة بناء الهيكل ليعود الله يسكن وسط شعبه وحينئذ لن يقوى عليهم احد من جديد وسيكون عقاب كل معتد على شعب الله شديداً بما فيهم البابليين الذين لم يدركوا إن الله يستخدمهم لعقاب شعبه فبغوا بدورهم وقالوا ليس إله في السماء يرى ويجازي. وسخّروا من شعب الله المسببيّ، وهم أيضًا.

رجاء وأمنية مسيانية، حيث يرجو المرنم من وسط ظروف الهزيمة السياسية والعسكرية وبين أطلال الخراب والدمار والسبي … أن يخرج المدبر من صهيون فيعيد بناءها ويرد أبناءها المسببين.

v   فيكون الفرح في يعقوب والابتهاج في إسرائيل :

 في هذا الزمان سيرد الرب الملك لصهيون، وسيكون ذلك مصدر فرح وتعزية وسلام، لكل أبناء يعقوب وأسباطه ألاثني عشر، التي أدى انفصالها ومخالفتها لشرائع الرب ووصاياه، إلى خراب الهيكل، ودمار أورشليم، وسبي شعب الله إلى أرض غريبة، وطغيان العدو على بني الله.

رابعاً: تطبيق المزمور:

o     كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور؟

 نستطيع القول أن المزمور ينطبق على حياة الرب يسوع فالمسيح قابل في حياته على الأرض:

       قال الجاهل فى قلبه: قابل الرب يسوع خلال حياتة على الارض العديد من هؤلاء الجاهلين الذين يظنون ان لا الله وان السلطان بايدهم وحدهم وكان ردة على بيلاطس :ليس لك من سلطان على ما لم تعطه من السماء"شديد الوقع على نفس هذا الطاغية الروماني، علمنا ان الله هو السلطان وملك السماء والارض "احمدك ياالهى رب السماوات والارض"وانه آب لنا وينجينا ويرعانا وان كل ما غير ذلك أصنام باطلة.

       الرب من السماء يشرف: لم يكتف الرب بالإشراف والتدخل عن بعد، بل لقد نزل الرب بنفسه من سماء سماءة لخلاص شعبه وسمع صراخهم ونظر مذلتهم ورق لبؤسهم أمام مسخريهم من الجهلاء  فجاء وحل بيننا وصار إنسانا ليخلص البشر أجمعين فحل على الارض وصار الله معنا "عماتوئيل". 

       من السماء الرب يشرف: اشرق فى حياتنا وتاريخنا مجدا واكراماً، شرف أبناءه البشر بتجسده فى" صورة انسان فصار الكلمة بشرا وحل بيننا "وشابهنا فى كل شئ ما كلا الخطيئة وحدها" عزي اسرائيل وبارك الباحثين عن الحق والنور ودعاهم اليه، وبشر الجالسين فى الظلمة وقادهم لطريق الحق، ودعى الجميع الى العرس ودعى جميع المتعبين وثقيل الاحمال ليريحهم:

§       هدى الذين تاهوا بعيدا

§       بحث عن الذين ضلوا طويلا

§       شفى الذين اسقمتهم الخطيئة

§       حرر الذين استعبدهم الشهوة

§       أنار الذين اتعسهم الظلام.

       هل من عاقل: كان شاغل يسوع هو ان يخاطب قلب وعقل الانسان لذلك وجه بشارته الى التوبه، التى تعنى تغير الحياة وتغيير قلب الانسان.

       الجميع ضلوا: زاغو وضلو وفسدوا وطال فسادهم الله نفسة، ولكن الله لم يتوان عن الخلاص وفي هذا يقول اغسطينوس "لو ان الخلاص سيتم لنفس واحدة فقط لتجسد المسيح وصلب ومات لاجها" ما اثمن الانسان فى عين الله وما اهونه فى نظر نفسة وما أبأسه فى نظرة الجهال لاسيما المتكبرين الاشرار. وعلّمنا أن الآب يطلب أبناءة جميعاً ويحبهم ويبحث عنهم ويفرح بعودة الخروف الضال .

       ما من احد يعمل الخير: هو الذى جال يصنع خيرا ليعلن للرب شعبا مبررأ، ثم ارسل تلاميذ ليعلموا ويعملوا الشئ نفسه" اشفوا المرضى، طهرواالبرص، اقيموا الموتي مجانا اخذتم مجانا اعطوا".

       ليت من صهيون خلاص اسرائيل: فى شخص الرب يسوع تحققت هذا النبؤة بالكامل وهذا الفرع الذى خرج من جزع يسى فاضاء المسكونة ، بل ان الرب يسوع نفسة استخدم هذا الاية ذاتها فى حديثة مع السامرية (يوحنا:4) فقال ان الخلاص من صهيون او من اليهود.الساكن فى جبل صهيون ابن داود…

       حين يرد الرب شعبه يبتهج يعقوب يفرح اسرائيل: كان ميلاد الرب يسوع وحياته وخلاصه ردا للبشريه المقهورة تحت حكم ابليس الى حضن الاب من جديد، هذا هو سبب ابتهاج يعقوب أبو الاسباط، ابو الشعب ، أبو الأمة. وهو سبب الابتهاج ايضا لكل فرد من افراد الأمة فقد خلص المسيح المتجسد كلها البشرية بصلبه فعادت ابناء لله ، لقد نزل الى الجحيم وسبى سبيا واعطى الناس عطايا. هكذا بشرت الملائكة يوم الميلاد: ها انا ابشركم بفرح عظيم يكون لكل الشغب : ولد لكم اليوم مخلص فى بيت داود فى مغارة بيت لحم.

o     كيف نعيش هذا المزمور ‏في حياتنا كمسيحيين:

لا خلاف على أن هذا المزمور هو أيضا تجسيد لما يمكن أن يحياه المسيحي الحقيقي:

         عندما ننشد هذا المزمور نتذكّر ما قاله يسوع عن العالم، ونعرف أن روح العالم فينا وبيننا، كما كان في شعب الله، وأن الشر لا يوجد فقط في أعداء شعب الله، بل هو داخل شعب الله وداخل قلوبنا. أما قال يسوع إنه من الداخل، من قلوب البشر تخرج الأفكار الشريرة: الفسق والسرقة والقتل… (مر 7: 21).

     قال البابليّون يهوه الرب غير موجود: وجدوا برهانًا على كلامهم حين اقتادوا بني إسرائيل للمنفى ولم يدافع عنهم أحد. ثم إنهم حين دخلوا هيكل أورشليم ليسلبوه لم يجدوا إلاّ الفراغ. أين إله شعب إسرائيل، والبابليّون لم يروا شيئًا في الهيكل؟ أما يكون الإسرائيليّ مُلحدًا وناكرًا لوجود الله؟ هنا يردّ المرنّم على هؤلاء الجهّال، ويبيّن لهم أن عباداتهم تقودهم إلى الاستغناء عن الآلهة التي يعتبرون أنهم يتعبّدون لها. هم يريدون أن يضعوا أيديهم على الإله ويستخدمونه، بل أن يُحلّوا محلّه شيئًا آخر.

     ما من بار ولا واحد: استعمل القديس بولس كلمات هذا المزمور في  رسالة رومية (3: 10-12): "فقد ورد في الكتاب: ما من بار ولا واحد، وما من أحد يدرك، ما من أحد يبتغي وجه الله. ضلّوا جميعًا ففسدوا معاً. ما من أحد يعمل الصلاح، لا أحد".

الخطيئة شملت جميع البشر فأخطئوا كلهم:  ويورد القديس بولس هذا المزمور في خاتمة برهان يبيّن أن لهذا جعل الوثنيين واليهود معًا، مستعينًا بهذا المزمور الذي يشجب الإنسان المُشرك الذي يستخدم الله ولا يخدمه، الذي يسعى لأن يخلّص نفسه بنفسه ولا يطلب الله.هذا ما يلوم به بولس اليهود. فقد صاروا ملحدين مع الشريعة واعتبروا أنهم بسبب أخلاقهم ودينهم، لم يعودوا يحتاجون إلى الله. هم لا يبحثون عن شيء، هم لا ينتظرون شيئًا. وهكذا لم يعد من محلّ في قلوبهم لله ولنعمته. لقد صارت الشريعة كالممارسة السحريّة. فَبِها يحسب اليهوديّ أن كل شيء بأمره، وأنه يستطيع أن يحصل على ما يريد.

– الفسادُ شملَ البشريّة كلها: هذا ما يقوله القديس بولس ليصل بنا إلى القول إن الخلاص شمل أيضًا البشريّة كلها. أما خطيئة الإنسان فهي أن لا يقبل بوضعه ويقول: لا أعرف الله ولن أعرفه وحدي. خطأه الكبير يقوم بأن يعلن أن الخليقة هي الخالق.

       حين يردّ الربّ شعبه من السبي: نحن هنا أمام تعارض بين المنفيّين والوثنيّين، بين الشعب المختار والشعب الذي يستعبده. هذه هي ردّة الفعل عند المؤمن أمام هؤلاء البابليّين الذين لا يدعُون اسم الرب، ويستغلّون شعب الله كما استغله المصرّيون في الماضي. أما المرنّم فيردّ على هذا القول، ليجنّب أبناء شعبه قولاً يعتبر البابليّين هم أيضًا أبناء ديانة من الديانات: فلا مشاركة ولا توافق بين المؤمن والوثنيّ، ولا تعاهد ممكنًا بين شعب الله وهذا الشعب الغريب. فالبابليّون.

       فليتهلل يعقوب ويفرح إسرائيل: التحرر من السبي معناه التحرر من أي شر وبيل، وأية ضيقة عظيمة. لقد كنا في سبي إبليس حتى جاء الابن فحررنا بصليبه، مانحًا إيانا بهجة وخلاصًا! اعتاد اليهود أن يشيروا إلى هذه الآية الأخيرة كنبوة عن زمن المسيا كفادٍ لهم، وقد تحقق هذا الخلاص خلال الكنيسة، صهيون الجديدة، وتغيرت الصورة بالكامل من الضعف إلى صيحات الفرخ، كإعلان عن النصرة على العدو. أما اليهود ففي تمسكهم بالحرف القاتل لا يزالوا يطلبون خلاصًا ماديًا ومملكة زمنية بفكر صهيوني بعيد عن الفكر الكتابي الحق.

خامساً: خاتمة المزمور:

لقد أخطأ آدم وحواء وتحملا مسئولية خطأهما الشخصي، لكنهما فقدا صلاح الطبيعة فورثنا عنهما فسادها، وصارت الحاجة إلى مخلص قادر أن يعيد خلق طبيعتنا ويجددها. وفي هذا القديس يقول أثناسيوس الرسولي: "خلق الله الإنسان، وأراد أن يبقى في عدم فساد، ولكن البشر باحتقارهم ورفضهم التأمل في الله، ابتكروا ودبروا الشر لأنفسهم… فنالوا حكم الموت الذي أُنذروا به، ومن ذلك الحين لم يستمروا كما خُلقوا، بل فسدوا حسب تدابيرهم.وإذ رأى "الكلمة" أن فساد البشر لا يمكن إبطاله بأية وسيلة سوى الموت كشرط ضروري… فلهذه الغاية أخذ لنفسه جسدًا قابلاً للموت، لكن باتحاد هذا الجسد بالكلمة الذي هو فوق الكل، يكون جديرًا بأن يموت بالنيابة عن الكل؛ ولأن الكلمة أتى وسكن فيه، يبقى في غير فساد، وبذلك ينزع الفساد من الكل بنعمة القيامة…كان ضروريًا ألا يتجسد أحد آخر سوى الله الكلمة نفسه، "لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل، وبه الكل، وهو آت بابناء كثيرين إلى المجد أن يجعل رئيس خلاصهم كاملاً بالآلام" (عبرانين 2: 10)".

كيف يمكن أن يكون حكيمًا من لا يتطلع إلى صانعه؟. القديس أمبروسيوس الأشرار لا يفهمون ولا يطلبون الله. لو كانت عقولهم غير مظلمة لعاينوا جمال الإلهيات وأحبوها. وإذا ما أحب البشر الإلهيات فإنهم يعرفون شيئًا بل والكثير عن جملها، فإننا لا نقدر أن نعاين الجمال ما لم نحبه، ولا يمكننا أن نعطي إهتمامًا حيويًا ومبهجًا لأمر ما ما لم يكن لدينا الاستعداد أن نحتضن هذا الأمر. والكنيسة والمسيحي يعيشان في عالم متناقض مليء بالصراع الذي لا يخسمه  سوى التلعلق بالرب يسوع وغاه مصلوباً للنجاة من عالم الظلمة والموت.

 صلاة

اهدنى يا رب فالجميع زاغوا

يارب تطلع من السماء ، انظر وتعهد كرمك،، استجيب صلاتي  وتتطلع من علو مجدك فماذا ترى يا سيدى ؟

أرى فساداً أرى ظلماً أرى اغتصاباً: أرى اطفالا يعانون الموت جوعا، أرى صبياناً يساقون للعمل بلا رحمة، أرى شبابا يعانون، أرى اناساً مشردون بلا مأوى، بلا، طعام ولا غطاء أو كساء، سلب الأغنياء قوت الضعفاء.

زاغت القلوب وفسدت، ماذا يُفعل لكرمى وانا لم افعل

أعطيتكم الخبز والماء، النور والسماء، فأنتجتم شقاء ودموع وظلماً وعناء، أعيطتكم الجنة فحاولتم اغتصابها، الوالدين فما أكرمتموهما، الاخ فقتلوة. اعيطتكم المرأة معيناً فاستعبدتموها، الزوج فخدعتموه، الاصدقاء فاهملتوهم، الابناء قلتوهم. اعيطتكم العهد فخنتموه الكرم فخربتموه، القطيع فبددتوه والابن قتلتم إياه على الصليب! أما من عاقل بمجد الله؟

أيها الحكمة الحقيقية اسكن في أعماقي نازعاً روح الجهالة عني،

يا من افتقر ليغنيني، هب لي أن أفهم فأبحث عنك فأقبلك  وبنعمتك أغتني ، رب اهدنى.آمــين