عظة البطريرك صفير 8 فبراير 2009

"الهمنا الله أن نقطع المسافة التي تفصلنا عن الانتخابات بطريقة سليمة حضارية"

بكركي، الأحد 8 فبراير 2009  (Zenit.org).

ننشر في ما يلي العظة التي تلاها البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير أثناء القداس الاحتفالي الذي ترأسه في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي.

"أن تحب قريبك كنفسك"

"أن نشرح، ولو عددا مهما نسبيا من الأمثال، يتعدّى اطار هذا الكتاب. ولذلك انا نقتصر على ثلاث روايات كبيرة في شكل أمثال، مقتطفة من انجيل القديس لوقا. ولا بدّ من أن يؤثّر ما فيها من جمال وعمق تأثيرا عفويا حتى في غير المؤمنين: وهي حكاية السامري الصالح، ومثل الابن الشاطر ومثل لعازار والفقير.
مثل السامري الصالح ( لو 10: 25-37)

ان مثل السامري الصالح يعالج المسألة الأساسية المطروحة على الانسان. ان كاتبا، أي معلّم شرح الكتاب، يسأل الرب قائلا: "يا معلّم، ماذا عليّ أن أفعل لأرث الحياة الأبدية ؟ ويضيف لوقا ان معلّم الشريعة طرح هذا السؤال ليجرّب المعلّم. وهو، بوصفه كاتبا، يعرف الجواب الذي أعطته التوراة، لكنه كان يريد أن يعرف ما كان على هذا النبي أن يجيب، وهو الذي ما كان قد درسها البتة. فحوّله الرب ببساطة، على التوراة، لأنه يعرفها، بحيث انه جعله يعطي الجواب بنفسه. ومعلّم الشريعة أعطى الجواب بطريقة لبقة، واستشهد معا بتثنية الاشتراع، وسفرالأحبار وجوابه : " أن تحب الرب ألهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوّتك"، و" أن تحب قريبك كنفسك" . ان يسوع، في ما يخصّ هذا السؤال، لا يعلّم الا ما تعلّمه التوراة، وهاتان الوصّيتان جمعتا معنى ذلك كله. لكن الكاتب الذي كان يعرف حق المعرفة الجواب على سؤاله، اراد أن يبرّر نفسه . ذلك انه اذا كان لا مجال للجدل في قول الكتا ب، غير أن طريقة تطبيقه تطبيقا عمليا في الحياة يثير أسئلة كانت موضوع جدل في المدارس ( وأيضا في الحياة). وكان يجب أن نفهم أن "القريب" هو أعضاء الشعب الواحد. والشعب يؤلّف جماعة متضامنة كل منها مسؤول عن الجميع، والعكس صحيح. وكانت الجماعة تساند كلا من أعضائها، وكان على كل أن يعتبر الآخر" كنفسه"، وكجزء من هذه المجموعة التي تنشأ عنها الفسحة التي يعيش فيها. ولكن الغرباء، والناس الذين كانوا من شعب آخر، أفليسوا هم "القريب" ؟ . هذا التفكير كان غريبا عن الكتاب الذي، لدى تذكّره أن اسرائيل عاش هو أيضا غريبا في مصر، كان يدعو أيضا الى المحبة تجاه الغرباء. ولكن ما بقي موضوع جدل، هو معرفة اين تحدّد الحدود الداخلية ؟ والقاعدة العامة، هي أن الغريب وحده كان يُعتبر "المقيم" على أرض اسرائيل ويقاسم الشعب المختار حياته، وكان جزءا من الجماعة المتضامنة، وكان باستطاعته أن يُعتبر " قريبا". وكانت هناك أيضا بعض قيود أخرى مألوفة تطال مفهوم " القريب". وكان هناك أيضا حكم حاخامي يعلّم أنه ليس من الزام لاعتبار أحد الهراطقة، والوشاة، والمارقين، قريبا . وكان من المسلّم به أيضا ان مفهوم القريب لا ينطبق على السامريين، الذين كانوا سابقا، منذ بعض الوقت، بين السنة السادسة والتاسعة، ابّان أعياد الفصح اليهودية، قد دنسّوا هيكل أورشليم برميهم فيه عظاما بشرية.

ردّا على هذا السؤال العملي عينه، أورد يسوع مثل الرجل الذي وقع، على طريق أورشليم في اريحا، على لصوص سلبوه وتركوه بين حيّ وميت: وهذه قصّة واقعية، لأن مثل هذه الهجمات كانت تقع عادة على تلك الطريق. ووصل في ذلك الوقت كاهن ولاوي، أي رجلان ضليعان من الشريعة، واخصائيان في قضايا الخلاص، ومتفرّغان لخدمته، وقطعا الطريق. ولم يكن مؤكّدا أن الرجلين كانا بلا قلب، غير أنهما ربما كانا خائفين، ويحاولان الوصول الى المدينة باقصى سرعة ممكنة. ولعلّهما كانا دون خبرة، ويجهلان ما كان عليهما أن يفعلا ليساعدا، ولا سيّما ،في كل حال، لم يبق شيء هام ، على ما يبدو،بامكانهما أن يفعلاه. ووصل اذذاك سامريّ، أي رجل ليس من جماعة اسرائيل المتضامنة، وما من شيء يلزمه أن يرى في الرجل المعتدى عليه، قريبا له.

يجب أن نذكّر هنا ان الانجيلي، قبل بضعة سطورسابقة، كان قد أخبر أن يسوع الذي كان في طريقه الى أورشليم، قد أرسل أمامه رسلا وصلوا الى مدينة السامريين، وأرادوا أن يبحثوا له عن مكان يأوي اليه. " ولكنهم رفضوا استقباله، لأنه كان ذاهبا الى أورشليم" .اذذاك انبرى ابنا الرعد – يعقوب ويوحنا – وقالا ليسوع بغضب: "يا رب، أتريد أن نأمر النار بأن تنزل من السماء الان وتفنيهم" ؟ فوبخّهما يسوع ، ووجدا في القرية مكانا يأوون اليه.

واذذاك دخل سامري على المشهد. ماذا عساه أن يفعل؟ فهو لم يسأل الى أين، بالنسبة اليه، يمتدّ واجب التضامن، ولا أية استحقاقات تضمن له الحياة الأبدية. ان الأمور جرت على غير هذا النمط: فقد تمزّق قلبه. والانجيل استعمل اللفظة العبرية التي تعني أصلا ثدي الأم ، والعناية الوالدية. والسامري، عندما رأى الرجل في هذه الحالة، تأثّر شديد التأثّر، في أعماق نفسه، وشعر بالشفقة ، على ما نقول اليوم، وهذا ما يضعف قوّة النص الأصلي . وبفضل شعاع الرأفة الذي مسّ قلبه، أصبح هو الآن قريب الأخر، دون أن يطرح على نفسه أي سؤال، ولا يعبأ بأي خطر. وهذا يتضّمن نقل السؤال الى مكان آخر: لم تعد المسألة من هو الآخر، أو من ليس بقريبي، فالمسألة تتعلّق بي. عليّ أن أكون قريب الآخرين، واذذاك، يكون الآخر بالنسبة اليّ " كنفسي".

ولو كان السؤال: هل السامري هو أيضا قريبي؟ لكان الجواب، في الوضع المعروف، "لا" دونما ابهام. لكن يسوع قلب الوضع. السامري، الغريب، جعل ذاته قريبا لي، وأظهر لي أنه من واجبي أن أعرف من نفسي، من الداخل، أن أكون قريبا من جميع الناس، وأن الجواب هو فيّ . عليّ أن أصبح رجلا محبا، رجلا يتأثّر قلبه بشقاء الآخر. اذذاك أجد قريبي، او بالأحرى، انه يكون قد وجدني.

ان هلموت كوهن، لدى شرحه هذا المثل، يتجاوز، ولا شك، معنى النص الحرفي ، لكنه يشدّد بحق على الطابع الأصلي المنطوق به عندما يكتب: في الحقل السياسي، المحبة- الصداقة تقوم على مساواة الأفرقاء. ان مثل السامري الرمزي، خلافا لذلك، يشدّد كل التشديد على عدم المساواة: السامري، الغريب عن الشعب، يجد نفسه أمام رجل مجهول، وذاك الذي يجود بالمساعدة يجد نفسه أمام الضحية دونما دفاع ضدّ هجوم قطاع الطرق. وأن ما يريد أن يفهمنا اياه هذا المثل، هو أن الوليمة تشق لها طريقا وسط جميع الأنظمة السياسية التي يسود فيها مبدأ أعطي لتعطي ، فيصير تجاوزها ليأخذ طابعا فائق الطبيعة. ان المثل، في مبدئه، يضع نفسه طبعا فوق الأنظمة السياسية ، ولكن هناك أكثر من ذلك، فهو يعني انعكاسها: الأولون يصيرون آخرين . والودعاء يرثون الأرض" . هناك أمر واضح: ان شمولية تظهر، قائمة على واقع، وهو أني من الداخل أكون أخا لجميع الذين أصادفهم ، والذين هم في حاجة الى مساعدتي.

هذا المثل هو ذو واقعية ظاهرة. اذا نقلناه الى سلّم الجماعة الدولية، نرى أننا معنيّون بشعوب أفريقيا الذين يجرّدون ويُنهبون. ونرى أيضا كم هم " قريبنا": ان طريقة حياتنا، وتاريخنا،اللذين نحن أيضا معنيّون بهما، ساهما ويساهمان في نهبهم. وقد جرحنا خاصة ، بذلك، نفسهم. وبدل ان نهبهم الله، الله الذي، هو قريب منّا بالمسيح يسوع، وبدل أن نقبل كل ما هو ثمين في تقاليدهم وكبير، ونكمّله، حملنا اليهم صلافة عالم لا اله له، حيث الشيء الوحيد الذي له أهمية، انما هو السلطة والربح. ودمّرنا سلّم القيم الأدبية بحيث ان الفساد وارادة السلطة التي لا تحجم عن أي شيء، تنتهيان بفرض ذاتهما فرضا واضحا. و ليست أفريقيا حالة منفردة.

لا شكّ، في أن الواجب يقضي بأن نعطي مساعدة مادية، ونعيد النظر في طريقة حياتنا . ولكننا نعطي دائما القليل القليل، اذا كنا لا نعطي الاّ أشياء مادية. وحولنا، ألا نرى أناسا نُهبوا وسُلبوا ؟ وضحايا المخدّرات، والاتّجار بالكائنات البشرية، والسياحة الجنسية، هؤلاء الناس المحطّمون داخليا، الذين، وسط الغنى المادي، هم في فراغ تام . كل هذا يهمّنا ويدعونا الى ان نتبنّى نظر القريب وقلبه وأن تكون لنا الجرأة أيضا لكي نحب القريب. لأنه، كما قيل، قد يكون سلك الكاهن واللاوي طريقهما بدافع من خوف أكثر منه بدافع من لامبالاة. علينا أن نتعلّم مجدّدا ، من الداخل، ان نجازف بطيبة خاطر. ولايمكننا أن نعمل ذلك، الاّ اذا أصبحنا باطنيا " صالحين" ، واذا جعلنا أنفسنا من الداخل " قريب" الآخرين ، واذا كنا نبحث اذذاك عن طريقة نعرف معها أية طريقة للخدمة هي مطلوبة منّا، وحولنا، وفي حلقة حياتنا الواسعة، وباية طريقة يمكننا فرديا أن نخدم، وهي بذلك مطلوبة منا.

أيها الأخوة والأبناء الأعزّاء،
في الأنجيل أمثال عديدة. ومثل السامري هو من الأمثال التي تعلّمنا كيف يجب أن نتصرّف بالرحمة والأحسان تجاه كل من الناس، حتى تجاه الأعداء. ولكننا قد بعدنا عن تعاليم الانجيل، فتجاهلناها وأصبحنا نعلّم ما نهى عنه من كراهية وحقد وبغضاء. وهذا كله يورث ما يورث من جفاء وتباعد ونفور. فيما يقول الآنجيل : " أحبوا بعضكم بعضا كما أنا أحببتكم"( يو 13 : 34). ومعلوم أن محبته كلفته الصلب والآلم والموت على الصليب. نسأل الله أن يلهمنا أن نقطع المسافة التي تفصلنا عن الانتخابات بطريقة، سليمة حضارية".