عظة رئيس أساقفة حلب بمناسبة عيد القديس مارون 8/2/09

حلب، سوريا، ، الأحد 8 فبراير 2009 (Zenit.org).

 ننشر في ما يلي كلمة المطران يوسف أبي عاد، رئيس اساقفة حلب للموارنة، بمناسبة القداس الاحتفالي أمام ضريح القديس مارون في براد.

إخوتي أصحاب السيادة الأجلاّء،

أيّها الآباء والرهبان والراهبات الأفاضل،

ويا أيّها الإخوة والأبناء الأعزّاء.

"نفسي الآن مضطربة، فماذا أقول؟ يا أبتِ نجّني من هذه الساعة، ولكن من أجل هذا بلغتُ إلى هذه الساعة" (يوحنّا 12/27).

هذه العبارات التي قالها يسوع في العشاء السرّيّ، ويذكّرنا بها إنجيل اليوم، إنّما تُظهر لنا وجهين أساسيّين عن سرّ المسيح الإله – الإنسان.

هو عارف أنّه آتٍ لكي يُضحّي بنَفْسه من أجل العالَم بأسره، ولكي يأخذ على عاتقه خطيئة البَشَريَّة ومشقّاتها.

هو الفادي الذي قدّم ذاته ذبيحةً مَرْضيَّةً للآب وكفّارةً عن شقاء الناس أجمعين، لكي يُرجع إليهم العلاقة البنويَّة مع الله الأب، وعلاقة الأخوّة الصادقة بعضهم مع بعض…

عانى وتألّم حتّى الدم. وتضرَّع أن ينجو من هذه الساعة، فتُبعَد عنه هذه الكأس وكلُّ ما سُكب فيها من قساوة، وضيق، ووجع، وموت محتَّم. إنّما العجب في هذا كلّه أنّه سيكون، بعد أن صلّى، في سكينة وسلام، لوجوده في حضرة الآب السماويّ، وتقبّله رضاه وبركته ومحبّته الأبويَّة!

على هذا المنوال سار مارون ورفاقه النسّاك والمتوحّدون. فبعد أن سمعوا نداء الله للمحبّة الشاملة، اختاروا سبيل العبادة والسجود، مُتخلّين عمّا يُسمّى بمباهج الحياة، وواضعين كِيانهم الشخصيّ بين يديه تعالى: يتذوّقون بقربه طعم الحياة الروحيَّة، وحلاوةً قُدسيَّة، يتذوّقها، بنوع خاصّ، كلّ مَن يقترب منهم، ويطال مذاقُها الأبعدين أيضاً، فيتقوَّوا في مِحَنِهم، ويتعالَوا عن وَهَنِهم، ويسعدون بمحبّة هم محبوبون بها ومُحبّون فيها أيضاً.. وما همّهم إن كان دربُهم درب الصليب، ما داموا في قلب الله، متّحدين بذبيحة المسيح، التي تحمل في صميمها أفراح القيامة وانتصاراتها!

أيّها الإخوة الأحبّاء،

جئنـا اليوم وقلوبنا طافحة بالعزاء،

جئنـا نعيّد أوّل مرّة في تاريخ أبرشيَّة حلب والطائفة المارونيَّة عيد مار مارون إلى جوار ضريحه المبـارَك.

وأودّ أن أقول لكم ولأهالي براد والمنطقة، الذين لا ينفكّون يلاقوننا بكلّ ترحاب، إنّنا لم نأتِ لكي نستأثر بهذه الربوع الغالية، بل أتينا إلى هذا المكان المقدَّس لكي نستنشق ما في أجوائه من قداسة.. من حبّ لله عزّ وجلّ، ومن حبّ للإنسان… ونتنسّم رائحة السيّد المسيح الطيّبة كما تنسّمها مارون، ونغرف منه النقاء والصفاء، هذا الصفاء الروحيّ الذي، متى دخل أعماق النَفْس، شدّها إلى عيش البرارة، وقادها إلى المصالحة مع الذات أوّلاً، ثمّ وضع فيها التوق إلى عيش المصالحة مع الآخَرين، جاعلاً من صاحبها شخصاً ساعياً إلى السلام.

وإنّنا فيما نتأمّل هذه الحقائق الروحيَّة، تذهب أفكارنا إلى إخوة لنا في فلسطين الجريحة، ولا سيّما بعد هذه الفاجعة التي ألمّت بغزّة والقطاع. وما زاد ألمنا ألماً أنّها ابتدأت مباشرةً بعد أعياد مجيدة عشناها بالفرح والمشاركة متوخّين أن تشرق علينا وعلى إخواننا شمس السلام.

وبعد أربعة أيّام من بدء هذه الكارثة الأليمة اجتمعنا وأساقفة حلب مع حشد من المؤمنين مرّتين، أولاهما في رحاب كاتدرائيّتنا المارونيَّة، كي نُحْيي بالصلاة يوم السلام العالَميّ في الأوّل من كانون الثاني المنصرم، وشاركَنا فيها سماحة مفتي الجمهوريَّة. فكان دعاء. وكان رجاء. وكان التزام. إلاّ أنّ المأساة طالت أيّامها وطغت فظاعاتها العدوانيَّة على الآلاف من القتلى والجرحى والمنكوبين والمحزونين، ما أدمى قلوبنا وأرجعنا بالذاكرة إلى الفواجع التي مُنيت بها فلسطين الحبيبة منذ أكثر من ستّين عاماً، لا بل منذ أكثر من مائة عام.

صلاتنا اليوم، في هذا المقام المقدَّس، أن يمنّ الله بنُوره على العقول والضمائر لكي تعمل لإحقاق الحقّ، ورفع الظلم، وإنصاف شعبنا المعذَّب. ولسان حالنا يردّد، لنا ولهم، كلام المزمور: "هؤلاء بالخيل والعجلات، أمّا نحن فباسم الربّ إلهنا ندعو" (مزمور 20/8).

أيّها الأبناء الأحبّاء،

نجتمع هنا اليوم، في هذا المكـان المؤقّت، الذي وُجـد بإرادة من سيادة الرئيس الدكتور بشّار الأسد، وقد أحبّ أن نعيّد عيد مار مارون، والاحتفالات التي تليه، قرب ضريحه المبارَك، على نحو يقينا من تقلّبات الطقس، ويؤمّن أجواء التقوى والخشوع.

وقد وَعَدَنا سيادته بأرض لكنيسة دائمة تؤلّف، مع توابعها، واحةً روحيَّةً، يلجأ إليها كلّ طالبٍٍ للاختلاء والعبادة والتشفّع. وكان ذلك على إثر زيارة دولة الرئيس العماد ميشال عون، الذي أتانا حاجّاً إلى هذا المكان، حاملاً معه، بطريقة رمزيَّة ،غصن زيتون، يبشّر، كما ردَّد مراراً، بتنقية الوجدان، والسعي نحو المزيد من الترابط والألفة والمودّة بين البلدين الشقيقين العزيزين: سورية ولبنان. ومن ثمّ بين بلدان الشرق كلّه. هذا الشرق الذي كفاه ما عانى من اضطرابات وخصومات وجروحات في النفوس والأجساد.

فكم نحن مدينون لسيـادة الرئيس بشّـار ولبادرتـه الكريمة. ولا يسعنـا إلاّ أن نُعْلي ذِكره في هذا الاحتفـال الروحيّ طالبين له، أيضاً وأيضـاً، النعمة تلو النعمة، لكي يبقى نبراسـاً لهذا الوطـن العزيز، شامخـاً رأسـه في المحافل الدوليَّة، حازماً حكيماً، رافعـاً راية العزّة والكِبَر حيثما حلّ.

ونودّ أن نوجّه تحيَّة شُكر إلى كلّ مَن تعب في إنجاز ما قد تمّ إلى الآن. ومنهم مَن أراد أن يبقى اسمه مستتراً، لكي يبقى العطاء مُجلبَباً بروعة الصمت والتواضع.

 الشُكر لكم جميعاً يا مَن عملوا في تهيئة هذا المكان، وفي المقدّمة سيادة المحافظ ومعاونوه الأكْفاء، إلى سائر المهندسين والمشرفين والفنّيّين والحرفيّين والعمّال.

ولا ننسى أن نوجّه تحيَّة الشُكر أيضاً إلى وسائل الإعلام التي تواكب احتفالنا هذا. ونخصّ بالذِكر التلفزيون السوريّ، الذي رافقنا في نقله المباشر لاحتفالنا الأوّل، مطلع كانون الأوّل الماضي، وما تبعه من مقابلات ولقاءات… وشُكرنا يذهب أيضاً إلى تلفزيون O.T.V.، الذي كان حاضراً معنا أيضاً في يوم القدّاس الأوّل. ثمّ نظّم في اليوم التالي لقاءً تقويميّاً لزيارة دولة العماد ميشال عون، وركّز فيه على أماكن مار مارون، مطلقاً، بدَوره، حملة تبرّعات شارك فيها أشخاص، أصبحوا لنا، في حمى مار مارون، إخوة محبّين من مسلمين ومسيحيّين. وهو يتابع اليوم نشاطه الإعلاميّ في هذا المنحى حاملاً منّا المزيد من العرفان للذين، استعدّوا ويستعدّون، أن يكرّموا هذا المقام ويساهموا في أن يكون مرتع هناءة وراحة روحيَّة. والشُكر أيضاً إلى أعضاء بعثة تلفزيون "تيلي لوميير" الذي كرّس رسالته لإعلان البُشرى ومواكبة الأحداث التي تعيشها الكنيسة في الشرق والغرب.

وفي النهاية، نزفّ تهاني هذا العيد إلى كلّ الحاضرين معنا الآن يضرعون ويبتهلون ويتأمّلون: مَن أتى من بعيد، فزاد سرورنا سروراً. ومَن لم يستطع أن يأتي، ومَن يتابع الاحتفال عبر التلفزة.  نقول لكم جميعاً: عيداً مباركاً!… أغدق الله عليكم بشفاعة القدِّيس مارون هباته السماويَّة لحياة بارّة تعيشونها وعائلاتكم ومحبّيكم بالفرح والمحبّة والسلام.

وأملنا أن يكون ضريح مار مارون وهذه الديار التي عاش فيها، بنعمة سماويَّة خاصّة، وعلى مثال حياتيّ رائد، دعوةً، صفيَّةً صافيةً، لنا جميعاً، وعطيَّةً تهلّ عذوبةً ونقاوةً وضياء.

ولله الحمد والإكرام إلى دهر الدهور. آمين.