مجمع خلقيدونيا وأثره على الكنيسة والشعب الأرمنيين

 (1)

المجامع المسكونيّة التي مهدت لمجمع خلقيدونيا: مجمع نيقيا

بقلم الأب الياس جانجي

روما، الاثنين 3 مارس 2009 (Zenit.org

غالباً ما قسم علماء تاريخ الكنيسة المجامع الكنسية إلى قسمين: أولها المجامع الشرقيّة السبعة الأولى، من مجمع نيقيا الأول عام 325 إلى مجمع نيقيا الثاني عام 787؛ وثانيها المجامع الغربيّة أو البابويّة التي عقدت في الغرب وبدعوة من البابا نفسه، أي من المجمع اللاترانيّ الأول في روما عام 1123 حتى المجمع الفاتيكانيّ الثاني عام 1962. وكان سبب هذا التقسيم هو عدم اعتراف الكنيسة الشرقيّة الأرثوذكسيّة بالمجامع التي لحقت بالمجامع السبعة الأولى. ولكن ضمن القسم الأول نرى آباء الكنيسة يميزون المجامع الأربعة الأولى مجمع نيقيا والقسطنطينيّة وأفسس وخلقيدونيا، فهي تؤلف بالنسبة لهم وحدة متماسكة في ذاتها لها قيمة كبيرة. فمنذ القرن الخامس كانت تتمتع هذه المجامع بإجلال واحترام، حتى أن القديس غريغوريوس (لا يُذكر لقبه في المرجع) شبهها بالأناجيل الأربعة، بينما شبهها القديس إيسيدورس أسقف اشبيلية بأنهار الفردوس الأربعة النابعة من الينبوع الوحيد أي المسيح. واعتبرت بهذه الأهمية لأنها أثبتت إيمان الكنيسة ووطدته جوهريّاً وحدّدت العقائد المسيحيّة الجوهريّة .

توصلت الكنيسة إلى عقد المجامع المسكونيّة بفعل اصطدامها بالأخطاء التي هدّدت الإيمان المسيحيّ وزعزعت عقائده الأساسيّة، أي بسبب الهرطقات. وعقدت أيضاً بسبب واقع مواجهتها لبعض الأحداث كالانشقاقات التي هدّدت وحدتها. عندها حاول رعاتها حلّ هذه المشاكل جماعياً عبر مجامع محلية؛ ومع تنصر الإمبراطوريّة، ظهرت المجامع المسكونيّة الكبرى. ساد النظام الديمقراطيّ هذه الاجتماعات، وكانت تعقد بدعوة من الأباطرة أنفسهم، وحظي الرأي الأرثوذكسيّ فيها على موافقة الامبراطور .

    1ـ1. مجمع نيقيا 325

نشأت المسيحية في الشرق، كما في الغرب، إبّان حكم الامبراطوريّة الرومانيّة. ولأسباب عديدة اعتبر الأباطرة أن المسيحييّن هم أعداء الدولة، فشنوا عليهم ابتداءً من نيرون حملات اضطهاد. وبعد أن هدأت الاضطهادات التي لاقتها الكنيسة لمدّة ثلاثة قرون بصدور مرسوم "التسامح الدينيّ"  في عصر الملك قسطنطين 313 م، جاءت الحاجة ملّحة لعقد مجمع مسكونيّ لحلّ المشاكل التنظيميّة الخاصّة بالأبرشيات، ولتحديد موعد محدّد لعيد الفصح. أما السبب المباشر لعقد المجمع فقد كان بدعة آريوس، لأن الإمبراطوريّة كادت تنقسم بسبب تلك البدعة، حيث أنه كان آريوس يعتقد بأن ابن الله أتى من العدم؛ وأنه كان هناك وقت، لم يكن الابن فيه موجوداً؛ وأنه باختياره كان قادراً أن يكون صالحاً أو طالحاً؛ وأنه مخلوق ومصنوع . كان أسقف الإسكندرية أول من عارض هذه الفكرة، مما أدى إلى انشقاق في كنيسته، فأصبح جزء من الشعب مع أسقف المدينة "الكسندريوس"  والقسم الآخر يدعم الكاهن آريوس وآراءه الخاطئة. وانتشرت هذه الفكرة أيضاً خارج حدود مصر في مختلف أقاليم العالم المسيحيّ مما هدّد بنشر الخلافات في الكنيسة جمعاء. إنّ تفاقم التصلّب في المواقف الدينيّة واشتداد حدّة الاضطهادات دفعا الإمبراطور قسطنطين إلى التدخّل بحزم وشدّة، حيث أنه كان قد أنهى لتوه توحيد الإمبراطوريّة، فخشي أن تعيد تعاليم آريوس البلبلة في الدولة ، فقرر الدعوة لمجمع مسكونيّ يشارك فيه كل الأساقفة بغية تحديد عقائد الإيمان تحديداً جليًّا ووضع حدّ لهذا التصلّب.

  1ـ1ـ1. البدعة الآريوسية

تعود هذه البدعة إلى آريوس الليبيّ الأصل. درس أولاً في الاسكندريّة ، وبعدها انتقل إلى انطاكيا، جمع آريوس في تعليمه بين المدرستين الإسكندريّة والإنطاكيّة، تأثر بالفلسفة اليونانية وبالأخص بالفلسفة الأفلاطونية والرواقية ، وبالتيارات اللاهوتيّة المحيطة به، وبأستاذه الكبير لوقيانوس ونهل منهم جميعاً. مما دعى به إلى انحراف أفكاره اللاهوتيّة عن الإيمان المستقيم .

أنكر آريوس ألوهية السيد المسيح، فاعتبر أن اللوغوس إله، ولكنه إله مخلوق وليس من جوهر الآب، حيث أن الألوهة واحدة غير مخلوقة ولا مولودة. فاللوغوس كائن وسيط بين الله الإله الحقيقيّ (الآب) وبين العالم المخلوق لأنه لا يليق أن يتصل الله بالخليقة، وأنه أسمى من أن تكون له علاقة مباشرة بالخليقة. غير أن الاعتراف بألوهيّة المسيح يخالف في نظره توحيد الله، فلا يمكن اعتبار المسيح إلهاً، لشدّة إيمان أريوس بتسامي الله وتعاليمه.

انطلق آريوس من المونارخيّة  والدونيّة  ليثبت اعتقاده. فاعتمد على المونارخية ليقول أن الله هو الإله الوحيد والواحد، الأزلي وغير المولود، فلا يمكن بالتالي أن يكون أحد معه، وإلا لم يعد وحيداً. فهو يسبق كلمته (اللوغوس) بطريقة ما . لجأ آريوس كسواه من الهراطقة إلى الكتاب المقدّس لتبرير تعاليمه، فاستشهد بعدد كبير من الآيات منها سفر الأمثال: «الرب خلقني أول طرقه» . من هنا نستنتج بأن الآريوسييّن لم يفرقوا بين الطبيعة والأقنوم، فإن تسمية الابن لله لا تعني تجزئة طبيعته الإلهية وجعلها إلهين اثنين . أما اللوغوس لم يكن موجوداً في وقت من الأوقات، وبما أن الولادة تتطلب انتقال شيء من الطبيعة ذاتها، فلا يمكن أن تفهم إلا بأن يفقد الآب شيئاً من جوهره اللامتناهيّ، فبالتالي استنتح آريوس بأن البنوة لم تكن بحسب الطبيعة، بل بالتبنّي، على شكل البنوة الإلهيّة للبشر. فاستنتج أن اللوغوس لا يمكن أن يكون إلهاً بالمعنى الحقيقيّ، إنما هو أول مخلوقات الله، مخلوقاً من العدم، وليس أزليّاً مثل الآب . بما أن ابن الله خليقة فهو خاضع للتغير مثل كافة الكائنات، لكنه بإرادته يستطيع أن يبقى صالحاً .

تأثر آريوس بفكر أوريجانس الذي اعتبر الابن من ذات جوهر الآب، ولكنه أدنى منه. كما شدّد على مبدأ "الدونيّة" ، معتقداً أن في الثالوث ثلاثة جواهر متمايزة، غير متشابهة ولا متساويّة. أصلها الآب الذي يعتبر الأصل والحكمة والقوة، فالابن هو أول الخلائق، خلق من العدم .

وينتج من ذلك، في رأي آريوس وأتباعه، ان المسيح غير مساوٍ للآب. فهو ليس إلهاً من إله، إنما هو فقط من أصل إلهيّ. فذلك يعطيه مركزاً رفيعاً لدى الآب. فهو الوسيط بين الآب والخلائق، وهو أيضاً الوسيط في الخلق. وهو الذي، في لحظة من الأزل، خلق الروح القدس. فكما أن الابن هو صُنْع الآب، كذلك الروح القدس هو صُنْع الابن.

نشر آريوس وأتباعه أفكارهم في كل مكان بالمناقشات الفلسفيّة العلنيّة ولا سّيمَا بالترانيم الشعبيّة، بحيث انه في بداية القرن الرابع أفاقت الكنيسة المسيحيّة في الشرق والغرب من كابوس المجادلات الفلسفيّة وإنشاد الترانيم الهرطوقيّة لتجد نفسها على شفير الآريوسيّة.

1ـ1ـ2. تاريخ المجمع

انعقد المجمع في نيقية  سنة 325م بأمر الملك قسطنطين خوفاًَ من الانقسام الحاد الحادث في الإمبراطوريّة بسب بدعة آريوس. وكان عدد آباء هذا المجمع حسب ما وصل إلينا في تقليد الكنيسة 318، علماً بأن عدد الآباء الحقيقيّ غير مؤكد، ولربما لم يتجاوز الثلاثمئة أسقف. وقد اختلفت آراء المؤرخين، فيما يختص تحديد العدد الصحيح. ويبدو أن هذا الاختلاف الطفيف في الرقم، عائد، إلى اشتراك أساقفة جدد وصلوا متأخرين إلى المجمع. وقد أتلف الآريوسيون بعد ذلك قرارات المجمع، فاضطر اثناسيوس إلى عقد مجمع آخر في الاسكندريّة، دُعي "مجمع الآباء المعترفين"، عام 362، جلب فيه الآباء كل ما يملكونه من معلومات عن المجمع، وأعادوا جمع القوانين العشرين وقانون الإيمان النيقاويّ .

قدم آباء نيقيا من مختلف البلاد، ومثلوا غالبية المقاطعات: فقد حضر أساقفة من اليونان وسوريا وفينيقيا، وفلسطين ومصر وطيبة، وليبيا وكيليكيا وبلاد ما بين النهرين، وغلاطية وكبادوكيا وآسيا، وفريجيا وبمفيليا وتراقيا، ومكدونيا وأخائية وأبيروس، وإيطاليا وغاليا وإسبانيا وأفريقيا الشماليّة، إلا أن أسقف روما لم يتمكن من الحضور بسبب تقدمه في السن، فأرسل ممثلين عنه هما الكاهنان فكتور وفنشنزو. كما كان حاضراً سيسيليانوس أسقف قرطاجة من أفريقيا. وشارك في المجمع نسّاك من الصحراء ورجال بدت على أجسامهم آثار الاضطهاد والتعذيب. وادّعى البعض أنّه كان بين الحضور نفر من الفلاسفة الوثنيّين الذين قادهم حبّ الاستطلاع إلى هذا الاجتماع .

ترأس المجمع "الأسقف الجالس عن يمين الامبراطور" ، حيث أنه اختلف المؤرخون حول هوية الشخص الذي ترأس المجمع. فمن المرجح أنه كان أفستاثيوس أسقف انطاكيا، أو ربما كان اوسابيوس أسقف قيصريّة كما يقول سوزومينوس أو أوسيوس أسقف قرطبة على حسب ما وصل إلينا من القديس أثناسيوس . 

لم تحفظ أعمال المجمع باللغة اليونانية ولا حتى باللغة اللاتينية. وكل ما وصلنا منها مأخوذ من مؤلفات افسابيوس وروفينوس وسقراط وسوزومينوس وثيودوريطس وايرونيموس، ومما كتبه جلاسيوس الأول في عهد الامبراطور زينون سنة 476 وهو الذي صار فيما بعد أسقفاً على قيصريّة فلسطين .

1ـ 1ـ3. تحديده الإيمانيّ

نظم قسطنطين هذا المجمع على نسق المجامع المدنيّة التي كان يعقدها بها للتدول في أمور الدولة، وكانت الجلسات عامّة لجميع المشاركين. وصلنا من أعمال المجمع ثلاثة وثائق: دستور الإيمان، الرسالة المجمعيّة والعشرين قانون. ومن الواضح أنه لم يكن يوجد محاضر للأعمال المجمعيّة، وكلّ ما كان يتبناه الآباء من قوانين أو عقائد كانوا يصادقون عليها ويوقعونها، كما يذكر أوسابيوس في كتابه "حياة قسطنطين". أراد المجتمعون الاستفادة من الفرصة لمناقشة بعض المسائل التنظيميّة  واتخاذ القرارات اللازمة التي وافق عليها الجميع .

يعد قانون الإيمان النيقاويّ  أول تحديد عقائديّ جماعيّ اتخذته السلطة الكنسية، له تأثير كبير على المجامع الكبرى ، ولا يزال يتداول حتى يومنا هذا مع بعض الإضافة. ينقسم هذا القانون إلى جزئين الأول يحتوي على صيغة إيمان المعموديّة، بينما يحتوي الثاني على صيغ لإدانة طروحات آريوس العقائديّة وسأتناول بالتفصيل كل من هذه الصيغ:

ـ الابن المولود من الآب: نشأت الديانة اليهوديّة وسط شعوب وحضارات كانت العقيدة السائدة فيها الايمان بتعدّد الآلهة، كالبابليّة والمصريّة والفينيقيّة واليونانيّة. وقد توصّل الشعب اليهوديّ إلى الإيمان بوحدانيّة الله تدريجيّاً مع إبراهيم وسائر الآباء، وبشكل واضح ونهائيّ مع موسى. وتكرّس هذا الايمان في الوصية الأولى من وصايا الله . فكانوا يدعونه "الإله الوحيد، الله الأب" لتميزه عن الآلهة المزيفة، فظهرت فكرة وحدانية الله في العهد القديم، وجاء المسيح في العهد الجديد وحدثنا عن الله الآب وأوضح لنا سر الثالوث وأرانا إياه في المعموديّة، وغيرها من الأحداث .

«ربنا يسوع المسيح ابن الله الوحيد، المولود من الآب» إن هذه العقيدة مستوحاة من العهد الجديد، كما نرى أن يسوع ذاته يحدثنا عن الأب السماويّ "أبي الذي في السماوات" مركزاً بذلك على البنوة الروحيّة الإلهية ولم يركز على نوع هذا التبني. وربما هذا ما قاد آريوس إلى الاعتقاد ببنوة الله الآب ليسوع بأبوة بشريّة معتبراً إياها بمثابة الولادة البشريّة . فالولادة هي برأيه بحسب الطبيعة، وليس نتيجة تدّخل إرادة الله الآب. وبالتالي الكائن المولود يختلف عن المخلوق بالجوهر. أقر آباء المجمع أن الابن مولود من جوهر الآب، وليس من أقنوم الآب، بل من جوهر الآب وطبيعته. ولذلك أضاف الأباء: «إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق» وذلك للاعتراف بأن "الآب" هو إله ونور وإله حق، وكذلك "الابن" هو إله ونور وإله حق.

ـ الابن مولود غير المخلوق: تجاه ادعاء آريوس واتباعه بأن الكلمة قد خُلق من العدم، أعلن آباء المجمع بأن يسوع الأقنوم الثاني هو "مولود غير مخلوق" لأنه إذا كان ابن الله الحقيقيّ هو ابن بحسب الطبيعة فهو ليس مخلوقاً، بل خالق. وإن القوة الخالقة هي بطبيعتها خالقة. فخلط أريوس ما بين الخاصيّة الأقنوميّة وبين صفات الجوهر، وحوّل الصفة الأقنوميّة إلى صفة من صفات الجوهر الإلهيّ وبذلك فصل جوهر الابن عن جوهر الآب، واعتبر أن الآب كائن لا تعتمد كينونته على آخر، بينما الابن كينونته متوقفة على الآب. أى أنه اعتبر أن كينونة الابن كينونة من نوع آخر. أما كينونة الآب فنابعة منه وهو يملكها، وكما يقول علماء اللاهوت أنه يملك في ذاته علّة وجوده. أما بحسب رأي آريوس فإن الابن لا يملك في ذاته علّّة وجوده، لأن وجوده نابع من الآب ومعتمد عليه. أمام هذا التفكير قرر آباء المجمع أن اقنوم الابن هو مولود من جوهر الآب، وليس مخلوق عنه. فالولادة هي صفة أقنوميّة وليست صفة جوهرّية.

ـ الامووسيوس (الابن المساوٍ للآب في الجوهر): كان رأي بعض الأساقفة خلال مجمع نيقيا هو الاعتماد على العبارات الكتابيّة فقط. لكن بعدما وجد آباء هذا المجمع أن هذه العبارات يمكن أن تفسّر بما يضّيع معناها. قرروا ايجاد عبارات أوضح وأدّق دلالة وخالية من كل غموض، عملوا على تثبيتها بهدف الوحدة في الإيمان ، وهكذا أجمع الآباء على إدخال كلمة "امووسيوس"  الكلمة الغير الكتابيّة، من الثقافة اليونانيّة، المتجذرة في الإسكندريّة . كان هذا التعبير عصب الأساس لمجمع نيقيا، بالرغم من كونه من المفردات الفلسفيّة التي لا علاقة لها باللاهوت. استخدم الآباء هذا التعبير ضد آريوس بالذات لأنه قبل بتعبير "مشابه للآب" عوضاً عن "مساو للآب" وذلك لاثبات التشابه التام بين الآب والابن في الهوية. فألوهيّة الابن في الطبيعة مثل الآب، ومساوية له في كل شيء. كما أنه لا يمكن اطلاق هذا اللفظ على كائنين إلا إذا كانا شخصين متمايزين، لأنه لا يمكن لأي شيء أن يكون مساوياً في الجوهر لنفسه، بل لشيء آخر. وبالتالي يمكن للآب وللابن أن يكونا متساويان في الجوهر وذلك في الطبيعة الإلهية، وأن يكونا شخصين متمايزين . وفي هذا الصدد يعبّر القديس اثناسيوس عن هذا خير تعبير: «إن الابن ليس مشابهاً للآب فحسب، بل هو المنبثق من الآب، ومساو له تماماً؛ هو غير منفصل عن جوهر الآب… نحن نعترف بمبدأ واحد، ولا نقول أن للوغوس الخالق، حياة مختلفة عن حياة الله الواحد. ولكن يمكن اتهام الآريوسيّين بتعدد الآلهة أو بالإلحاد؛ فهم يعتقدون أن الابن خليقة إلهيّة غريبة، وكذلك الروح القدس، مخلوق من العدم. وهكذا  هم مرغمون على القول، إما أن اللوغوس ليس إلهاً، وإما أنه ليس من جوهر الآب. وبما أنهم يعترفون بأنه إله حسب قول الكتب المقدسة، فذلك يؤدي بهم إلى الاعتراف بعدة آلهة بسبب اختلافها (أي الآب والابن)، وإذا قالوا أنه إله بالمشاركة كبقية الأشياء، فهم أيضاً كفرة، لأن اللوغوس يصبح واحداً من المخلوقات. وهذا ما لا نقبل به إطلاقاً. إن نوع الجوهر الإلهيّ واحد، وهذا ما يتصف به اللوغوس أيضاً. واحد هو الله الآب، الكائن بحدّ ذاته، وفوق كل شيء: يظهر في الابن، ويهيمن على الأشياء كلها، بواسطة الابن الذي فيه. وهكذا نعترف بإله واحد في الثالوث، ولا بالألوهيّة المتعدّدة الأوجه، التي ينادي بها الهراطقة، لأننا نؤمن بألوهيّة واحدة في الثالوث» .

كما ذكرت سابقاً، أراد الآباء الاستفادة من الفرصة المتاحة لهم في هذا الاجتماع لمناقشة بعض المسائل التنظيميّة، فأصدروا عشرين قانوناً في نهاية مناقشاتهم تناولت عدداً كبيراً من المواضيع أغلبها إدارية وتنظيميّة وحياتيّة، وقد قسمها الأبوان أبرص وعرب إلى خمسة مواضيع: هيكليّة الكنيسة، كرامة الاكليروس، التوبة العلنية، قبول المنشقين والهراطقة، ترتيبات ليتورجيّة . سيثبت المجمع المسكونيّ الرابع في قانونه الأول، ومجمع ترولو والمجمع المسكونيّ السابع هذه القوانين . كما قام الآباء بتعيين موعد محدّد لعيد الفصح.

قرر آباء المجمع الحكم على آريوس والأساقفة المشارعين له، فنفاهم الامبراطور، وتمّ تعيين أساقفة جدد بدل المنفييّن.

 

 (2)

* * *

  1ـ2. مجمع القسطنطينيّة 381

استمر النزاع الآريوسيّ بعد وفاة آريوس سنة 336 حيث ظهرت في الكنيسة تيارات متعدّدة تستند في عقيدتها إلى الآريوسيّة ولكنّها تختلف معها في بعض الوجوه. فعرف النيقاويون أيام صعّبة، وكان على كل من الفئتين أن تسعى لكسب أكبر عدد ممكن من الأساقفة والشخصيّات في فريقها. وهذا ما يفسّر تحوّل قسطنطين بعد فترة قصيرة من انعقاد مجمع نيقيا . إذ كان هذا الأخير ينشد السلام في امبراطوريته وحين لمس أن قرارات نيقيا لم تعط الثمار المتوقعة، أصدر عدداً من القرارات بعزل أو بجلب الأساقفة المواليين أو المعرضين بغية الهدف المنشود ألا وهو توطيد أركان حكمه في المملكة. وأتى بعد قسطنطين أولاده حيث كان كل منهم يميل إلى أحد الطرفين . وعقد في أيامهم عدة مجامع محلية كان أبرزهما مجمع الإسكندرية  (362) ، مجمع إنطاكية  (363).

كما ظل الصراع مستمراً في خطوطه العريضة بين النيقاوييّن  وخلفاء الآريوسيين. وظهرت هرطقات جديدة، كان ورائها هراطقة جدد، في منحى الآريوسية أو نتيجة لتعاليمها. كما برزت مشاكل إدارية استوجبت التدّخل السريع والحازم، كقضية الإنشقاق الواقع في كرسي إنطاكيا، وقضية اغتصاب كرسي القسطنطينية على يد مكسيموس الكلبيّ. وقد وُصفت المعضلات التي أدت إلى عقد المجمع بالشائكة، والتي لم يكن لها مثيل في تاريخ الكنيسة .

أما على الصعيد السياسيّ فعندما تسلّم ثيودوسيوس العرش كانت الآريوسيّة منتشرة بقوّة في الشرق، وكان أسقف القسطنطينيّة ديموفيل آريوسيّاً. وكانت الكنيسة في حالة تضعضع وصراع بين النيقاويّين وعلى رأسهم اثناسيوس وغريغوريوس اللاهوتيّ وبين الآريوسيّين بمذاهبهم المختلفة. وكان الأرثوذكس في القسطنطينيّة يمارسون شعائرهم في بيوت خاصّة لأنّ الآريوسيّين سيطروا على كلّ الكنائس. وقد نال الإمبراطور ثيودوسيوس سرّ المعموديّة على يد أسقف تسالونيكيّ الأرثوذكسيّ، وأعلن، بعد تسلّمه العرش، أنّه لا يقبل الجدل العقائديّ الحاصل بين المسيحيّين في الساحات والأماكن العامّة المختلفة، لأنّ ذلك يحطّ من قدر المسيحيّة. فأصدر مرسوماً سنة 380 فرض فيه قانون الإيمان النيقاويّ على رعاياه، فأصبحت الأرثوذكسيّة دين الدولة الرسميّ، وألحقه بمرسوم في 10 ك2 381 حرم فيه كلّ من لا يؤمن بقانون نيقيا. وليثبّت ذلك دعا إلى مجمع مسكونيّ في القسطنطينيّة أمل في عقده سنة 378، لكن ظروف الحرب مع القوط حالت دون ذلك، وتأجّل عقده إلى سنة 381 .

1ـ2ـ1. أسباب الدعوة إلى عقد هذا المجمع

كما ذكرت سابقاً فقد ظهر للآريوسية أبطال جدد، جددوا إيمان معلمهم آريوس.كان أبرزهم افنوميوس  الذي صاغ لاهوته بمنطق عقلانيّ – علميّ الطابع، حيث أخضع الإيمان لمقتضيات العقل. اقتنع بوجود ثالوث لكنه غير متساو في الجوهر حيث يوجد تراتبيّة في الدرجة والمنزلة والجوهر. دعى الله باللامولود جوهراً، وصنف الابن بباكورة خلائق الآب، كذلك وصف الروح بأنه أول أعمال الابن، فهو أدنى منه مرتبة وخاضع له. حيث أن الروح يأتي ثالثاً في الرتبة والمرتبة والكرامة أي في الطبيعة ، وبالتالي يكون أفنوميوس قد حقق فكرته في الوحدانية والتثليث على قاعدة اللامساواة في الجوهر بين الأقانيم. لجأ أفنوميوس إلى فقه اللغة مفسّراً آيات الكتاب المقدس وتعابيره. فتارة كان يعتمد على نظرية تطابق الأسماء  وتارة أخرى على قلب الآيات مدخلاً نظرّية لغوّية أخرى، تستند إلى اساس المغايرة التامة بين التكلّم الإلهّي واللغة البشرّية مستنتجاً أن الكلمات عينها ليس لها المعنى نفسه في كل الحالات .

فرض أفنوميوس على الذين يريدون الانضمام إلى مذهبه إعادة معموديتهم، وكان يعمدهم مغطّساً إياهم مرّة واحدة، ومنكّساً رؤوسهم إلى أسفل وأرجلهم إلى أعلى . وقد توصل إلى رفض عقيدة نيقيا نتيجة تفكيره المنطقيّ وقال أن القرارات غير منطقيّة، فما كان من القديس باسيليوس الكبير إلا أن هبّ للدفاع عن الإيمان القويم، فكتب ثلاثة كتب ضد أفنوميوس يهدم فيها آراءه.

كانت هرطقة أفنوميوس، من جهة، أحد الأسباب الجوهريّة التي أدّت إلى عقد مجمع تناقش فيه آراءه، إلا أنها لم تكن السبب الوحيد لعقد هذا المجمع. فمن جهة أخرى، كانت مناقشات النزاع الآريوسيّ دائرة حول هوّية الابن ومنزلته في الثالوث، ولم يتطرق أحد لموضوع الروح القدس. ولكن ما لبثت أن خرجت هذه المسألة إلى الوجود، وأبرزت معها تساؤلات عن شخص الروح القدس وماهيته وعلاقته بالآب والابن. مما أدى إلى ظهور هرطقة ضد الروح القدس بين سنتين 359 و 360. عرفت بـ "خصوم أومحاربو الروح القدس" . راجت تعاليمهم وانتشرت في الشرق، ووصلت إلى مصر حيث كانت في قلب التيار الآريوسي. كان مؤسسها الحقيقي إفستاثيوس أسقف سبسطيا، أما زعيمهم فكان باسيليوس أسقف أنقيرة. ومن أشهر اتباعهم مكدونيوس أسقف القسطنطينية الذي شكّل جماعة كبيرة وإفستاثيوس أسقف سبسطيا وإلفسيوس أسقف كيزيكو وماراثونيوس أسقف نيقوميدية وآخرون.

تركزت تعاليم المكدونييّن على إنكار لاهوت الروح القدس ، مستندين إلى تعاليم الكتاب المقدس  في ذلك. ولاقوا مشلكة في تصنيفه، فمن جهة اعتبروه خليقة كسائر المخلوقات، ومن جهة أخرى أرادو وضعه مع الأقنومين الآخرين. فصار الروح في معتقدهم نصف إله ونصف مخلوق .

ومن الهراطقة الآخرين كان أبوليناريوس  أسقف اللاذقية، الذي أسّس مدرسة لاهوتيّة متأثرة بنسق مدرسة الإسكندريّة. لم يلحظ أحد بادئ الأمر أخطاء أبوليناريوس اللاهوتيّة، لكن عندما انتشرت تعاليمه هبّ الكثيرون لمواجهتها ومن بينهم أثناسيوس الذي كان صديقه في الدفاع ضدّ الآريوسيّين. فقام بدحض آراء الآريوسيين في الثالوث، لكنه ما لبث أن استرجع مبادئهم في الكريستولوجيا . ويعود خطأ أبوليناريوس «إلى عدم وضوح في الرؤيا، وإلى تشابك الأفكار، وإلى نظرة جدّ مادّية داخل اللاهوت، وإلى اختيار اعتباطي لنظريات من مدارس فلسفية متنوعة» . حيث أنكر أبوليناريوس على الكلمة المتأنس ناسوته التام، معتبراً أنه اتخذ الطبيعة البشرية، لكن دون نفس عاقلة .

من الأسباب الأخرى التي أدت إلى عقد هذا المجمع كان الصراع على الأسقفيات، لمَ له من أهمية حيوية في حياة الكنيسة واستمراريتها، سعياً من الجميع إلى مكتسبات تؤمن لهم ربح المعركة والسيطرة على الأوضاع. وخاصة مع تدخل السلطات المدنية التي كانت غالباً ما توزع الكراسي على المواليين لها وتنفي من لا يروق لها. بالتأكيد كانت المتروبوليتيات والمدن الكبرى محطّ أنظار الجميع. وهذا ما حدث في كرسي القسطنطينية بعد أن أصبحت هذه مقر الإمبراطور، فأضحت محط أنظار الجميع، لأن الملك يكون مع الذي يكون على رأسها. أما كرسي إنطاكيا الذي بقي لفترة طويلة عاصمة الشرق فقد مرّ بأزمتين: فمن ناحية كان الصراع بين الهراطقة والأرثوذكسيون؛ ولكن الصراع الأخطر كان بين الأرثوذكسيّين الذين انقسموا على أنفسهم لتُصبح إنطاكيا رعية براعيّين. وما أزمة هذين الكرسيين إلا نموذجاً وانعكاساً لما حدث في غالبية الكراسي الأسقفية في الشرق، وقد كانت هذه الأزمة أحد أسباب الدعوة إلى عقد المجمع المسكونيّ الثاني ومدار البحث فيه .

1ـ2ـ2. تحديده الإيمانيّ

أراد الامبراطور ثيودوسيوس عقد مجمع لحل المشاكل وخصوصاً في الشرق. فعقد في مطلع العام 381، مجمعاً في القسطنطينية . كان هذا المجمع معدّاً لأن يكون مجمعاً إقليميّاً ليحل مشاكل القسم الشرقي من الامبراطورية. حضره 150 أسقفاً من الشرق أبرزهم غريغوريوس اللاهوتيّ وتيموثاوس الإسكندريّ وملاتيوس الإنطاكيّ وكيرلس الأورشليميّ وغريغوريوس النيصيّ وبيلاجيوس اللاذقيّ . ولم يحضر أحدٌ من أساقفة الغرب حتى ولا مندوبون من قبل بابا روما .

كان من المفترض أن يترأس المجمع تيموثاوس أسقف الاسكندرية، باعتباره الكرسيّ المتقدّم، لكن بسبب تأخره ترأس المجمع ملاتيوس أسقف أنطاكية في بدايته ، لكنه توفي فجأة، في أوائل المجمع. عندها ترأس غريغوريوس النزينزيّ المجمع، بصفته رئيس أساقفة القسطنطينية، حتى وصول أسقف الاسكندرية تيموثاوس. وبعده انتخب نكتاريوس أسقفاً مكانه فترأس المجمع حتى نهايته .

كما ذكرت سابقاً، كانت الغاية الأساسيّة للدعوة هي دحض بدعة مكدونيوس وتعاليم أبوليناريوس والأفنوميين والأفدوكسيين والصالبيين والمركليين والفوتينيانيين ، وإكمال ما بدأه مجمع نيقيا ، ويمكن تلخيص قرارات المجمع بالنقاط الآتية: ثالوثيّة وكريستولوجيّة وبنمفاتولوجيّة . أدت المناقشات اللاهوتية إلى قانون إيمان ، وإلى نص عقائدي وإلى أربعة قوانين كنسية. حدد قانون الإيمان مساواة الأقانيم الإلهية الثلاثة في الجوهر، وتجسّد الابن الكامل، وألوهيّة الروح القدس. مرّ هذا القانون بمراحل متعددة فكان أولاً بسيطاً جداً وتوسع بحسب النزاعات العقائدية حتى وصل إلى الحالة التي أقره به المجمع الثاني. ينقسم هذا القانون إلى «قسمين رئيسين، وإلى سبعة أجزاء فرعية في ثماني عشر مقولة: في القسم الأول، وهو القسم الأساسي، نجد الإيمان بالإله الواحد المثلث الأقانيم، وعلاقته بالخليقة وبخاصة الإنسان، وتدبيره الخلاصي. وفي القسم الثاني المؤلف من جزئين: يقدم، في جزئه الأول، الإطار الصحيح الذي تتم فيه عملية الإيمان هذا وحياة الإيمان التطبيقية، أي في الكنيسة. وأما جزئه الثاني، فيقوم أصلاً على فضيلة الرجاء، أي مجيء المسيح الثاني في آخر الأزمنة، والدينونة والحياة الأبدية، أو كل ما يختص بـ"الباروسيّا"» . كما أنه قام آباء المجمع بإضافة «الذي لا فناء لملكه» للتأكيد على ألوهية الروح القدس. كما عمدوا إلى شرح الجزء المتعلق بالروح القدس وعلى التأكيد بأنه «الربّ». كما أنهم أكدوا على أن الروح القدس "ينبثق من الآب" فكما أن الابن مولود من الآب، كذلك الروحينبثق من الآب. كما يعلن أن الروح القدس "معبود وممجد مع الآب والابن". فالروح القدس ليس مخلوقاً بل هو بمرتبة الإله، وليس أدنى أو أقل رتبة من الآب والابن. وآخر إضافة عن الروح القدس كانت "هو الذي نطق بالأنبياء" وكانت هذه الإضافة إجابة على تعاليم مرقيون الخاطئة التي رفضت تعاليم العهد القديم. فالروح القدس هونفسه الذي تكلم في العهدين .

أما بالنسبة إلى مشاكل كرسي إنطاكيا، فلم يستطيع آباء المجمع التوصل إلى حلّ مسألة الشقاق الحاصل فيها، بل ساهموا في تفاقمها وازديادها. إذ لم تشكل وفاة ملاتيوس نهاية الانشقاق الفعلية، حيث أن النزينزي دعم اعتراف بولينوس أسقفاً لإنطاكيا، لكن مساعيه باءت بالفشل حيث أن انفعالات عدد كبير من الأساقفة حالت دون القبول. فهدد النزينزي بالاستقالة، لكن تهديده لم ينفع. فسخط من تصرفات الأساقفة واستقال. وكذلك الأمر بالنسبة إلى كرسي القسطنطينية .

إن تحديد المجمع المسكونيّ الثاني، الذي أضيف إلى قانون الإيمان النيقاويّ، قد أكّد ألوهيّة الروح القدس، بيد أنّه لم يوضح علاقات الروح القدس بالآب والابن، ولم يقل إنّ الروح القدس هو من ذات جوهر الآب. وهذا النقص في الوضوح سيكون سبباً للخلافات التي ستنشأ في مرحلة لاحقة بين الشرق والغرب، ولا سيما في موضوع انبثاق الروح القدس. ففي حين اكتفى المجمع بالقول إن الروح القدس "منبثق من الآب"، سيضيف الغرب المسيحيّ أنّه "منبثق من الآب والابن" .

ختم المجمع أعماله في 9 تموز عام 381. وسلم الآباء قرارات المجمع إلى الإمبراطور لكي يوافق عليها وبالتالي لتصبح نافذة بقوة القانون .

(3)

 

* * *

1ـ3. مجمع أفسس 431

إن الصراع العقائديّ حول ألوهيّة السيّد المسيح وحول الثالوث الأقدس ومساواة الأقانيم في الجوهر، في القرن الرابع الميلاديّ انتهى بانتصار الأرثوذكسيّة في المجمع المسكونيّ الثانيّ في القسطنطينية كما ذكرت سابقاً. وتم تأكيد قانون الإيمان النيقاويّ الذيّ صاغه آباء المجمع مع إضافة الجزء الخاص بتأكيد ألوهية الروح القدس الرب المحيى المنبثق من الآب. وبذلك تم صياغة عقيدة الثالوث القدوس وهي الإعتقاد بثلاث أقانيم متساوين في المجد والصفات ولهم نفس الجوهر الإلهيّ الواحد. إلا أن الصراع لم ينته هنا، حيث كان هناك صراع عقائديّ حول شخص السيد المسيح وطبيعته. هل يعقل أن يكون السيد المسيح هو ابن الله وابن الإنسان في نفس الوقت. أي هل هو هو نفسه، وبنفس شخصه الكلمة الإله الحق المولود من الآب بغير انفصال قبل كل الدهور، والإنسان التام الذي بلا خطيئة وحده، المولود من القديسة العذراء مريم في ملء الزمان. مساو للآب في الجوهر من حيث لاهوته، ومساو لنا في الجوهر من حيث ناسوته . بعض الهراطقة لم يفهموا سر التجسّد الإلهيّ، فكيف يمكن لله أن يظهر في الجسد. وهكذا تعددت الهرطقات حول هذه العقيدة العظيمة أي سرّ التجسّد الإلهيّ لخلاص البشرّية.

1ـ 3ـ1. الهرطقات التي أدت إلى عقد المجمع

استمرت الهرطقات بعد مجمع القسطنطينية، فى الهجوم على العقيدة الأرثوذكسّية، وظهر في أنطاكيا واعظ قدير يدعى نسطوريوس . وأراد أن يحارب الأريوسيّة التي تنكر لاهوت الابن وتنكر مساوات الابن للآب فى المجد والكرامة والربوبيّة، فاستمر يدافع عن اللوغوس ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور. فقال أن اللوغوس مثل الآب تماماً لا يموت ولا يتألم ومنزه عن الاتحاد بالمادّة، وهو قد تجسّد وأخذ جسداً بشريّاً مثلنا تماماً. فلم تعد ألوهيّة المسيح أو إنسانيته موضوع شكّ، لكن السؤال يكمن عن كيفية اتحاد كائنين كاملين. فسؤال نسطوريوس يكمن في كيفية اتحاد الله الكلمة بالإنسان يسوع في التجسّد . إن سؤاله ليس فقط انتولوجيّ بل يتعداه ليصل إلى التساؤل الدينيّ الجوهريّ أي إلى السوتيريولوجيّ، هل يعقل أن يعاني "كلمة الله" من إهانات التجسّد والولادة والحياة الزمنية والموت على الصليب . واعتبر أن المسيح قد ورث الخطيئة الأصليّة كإنسان وأنه قدَّم نفسه ذبيحة عن نفسه وعن العالم كله. وأن اللوغوس قد سكن فيه ورافقه من البطن وأعطاه كرامته وألقابه وسلطانه وصورته ومشيئته . وبذلك أعطاه سلطاناً أن يصنع كل ما صنع من المعجزات وأن يأخذ لقب ابن الله على سبيل التكريم وأنه ليس إلهاً حقيقيّاً. فقال أن الذي يولد من الإنسان هو إنسان وليس إله، وأن كل طبيعة تلد ما يناظرها وقال أن اللوغوس قد رافق يسوع الناصريّ في آلامه وقواه ليحتمل الصلب واتخذه كأداة لخلاص البشريّة.

ورفض أن يدعو العذراء والدة الإله وبالرغم من أنه تلّقن من أستاذيه ديودورس الطرسوسّي وثيودورس الموبسويستيّ أنها والدة الإنسان ، فقد حاول المراوغة وتغطية فداحة هرطقته بحيلة جديدة حينما وجد الصراع يحتدم بين أنصار "الثيئوطوكوس"  و"الأنثروبوطوكوس"، فقال أنه ينبغي أن ندعو العذراء والدة المسيح "كريستوطوكوس"، وقال أن لقب "ثيئوطوكوس" يخص الآب السماويّ وحده في ولادته للابن قبل كل الدهور .

كما اقتبس نسطوريوس من هرطقة أوريجانوس فكرة أن الروح الإنسانيّ هو الواسطة أو الوسيط بين اللاهوت والجسد، لأن الله منزه عن الاتصال بالمادّة. وفى ذلك يكون – في نظر نسطوريوس- أن الله الكلمة قد اتصل بالإنسان يسوع بدون اتحاد بين الطبيعتين بل باتحاد الصورة والهيئة الخارجيّة. واتصل به عن طريق روح يسوع الإنسانيّ. وعندما سلّم يسوع روحه على الصليب يكون الله الكلمة قد فارق جسد يسوع مفارقة تامة؛ لا اتحاد ولا حتّى اتصال بل مجرد جسد لا علاقة له باللاهوت على أى مستوى .

بعد انتشار آراء نسطور من القسطنطينية إلى ولايات أخرى، وجد كيرلس أنه من الملائم إيقاف هذه الأفكار، وحدّها من الانتشار بسبب هرطقتها. وبالأخص حين بدأت تنتشر بين رهبان مصر الكثيرين.

من الأسباب التي أدت إلى عقد هذا المجمع أيضاً كانت هرطقة بيلاجيوس  الذي سقط في التطرّف المعاكس للمذهب الماني  وللغنوصيّة  وذلك لشدة تخوفه منهما. ويمكن تلخيص تعاليمه على الشكل التالي بأن خطيئة آدم  تنحصر بآدم فقط، والأولاد الذين يولدون لا يحملون هذه الخطيئة ولا يولدون بالآثام بل هم أبرياء. وهم ليسوا محتاجين إلى المعمودية إلا للاتحاد مع المسيح، وليس لمغفرة الخطايا كما صرّح دستور الإيمان. كما أن الإنسان لا يحتاج إلى النعمة ليعيش حياته، بل يمكن أن يعيش دون أن يرتكب أية خطيئة .

1ـ3ـ2. تحديده الإيمانيّ

بعد مدة طويلة من الخلافات مع أتباع نسطوريوس، دعا الإمبراطور إلى عقد مجمع مسكونيّ يشارك فيه الأورثوذكسييّن والنساطرة وذلك لتسوية الخلاف. قبل إصدار أية أحكام أو إبسالات، حدث خلاف بين المجتمعين الذي يمثل أحدهم المدرسة الإنطاكيّة والآخر الذي يمثل المدرسة الإسكندريّة. فقام الطرف الثاني بحرم الأول وكذلك العكس. حتى وصل الأمر إلى تحطم أواصر الشركة بين الطرفين وسعى الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني ليعيد السلام مستخدماً نفوذه. إلى أن تمّ الصلح بعد سعي الطرفين .

كان للبابا كيرلس  دور كبير في المجمع حيث اعتمد الآباء على كتاباته وتحليله وإيمانه .كان لاهوته يعتبر تفسيراً لقانون الإيمان والكتب المقدسة. لم يضف آباء المجمع أية كلمة على  قانون الإيمان النيقاويّ – القسطنطينيّ. إلا أنهم قاموا بشرح معنى التجسّد، واعتمدوا مصطلحات جديدة مثل "أم الله" والوحدة في الشخص. فهذا المجمع جاء بشكل تفسيريّ ولاهوتيّ لكلّ ما سبقه من مجامع. وذلك اعتماداً على الكتب .

وقع المجمع خلال إصداره الحكم بالعديد من المشاكل ، وأهمها المشاكل اللغويّة ولاسيّما الاختلاف الفلسفيّ بين لفظتي Physis  (طبيعة) و   Hypostasis(أقنوم). فحين تحدّث كيرلس عن الطبيعة الواحدة قصد معنى الشخص الواحد، فكان كيرلس يرفض كلام نسطوريوس قائلاً: إن للمسيح طبيعتين. ومن جهة ثانية كان نسطوريوس يدّعى أن للمسيح طبيعتين اثنتين لكنه كان يستخدم لفظة   Hypostasis بمعنى مختلف عن معنى كيرلس الذي كان يأخذ اللفظة بالمعنى اللغويّ الدقيق. لذلك رفض كيرلس تعاليم نسطوريوس . كما أن كلمة أقنوم عند كيرلس تعني الشخص مع الطبيعة التي يحملها. وعبارة الاتحاد الاقنوميّ تعني اتحاد طبائع في شخص واحد بحسب الطبيعة، أي تعني الاتحاد الطبيعيّ للطبيعتين في شخص واحد . قَبِل كيرلس الإسكندريّ بلغة المدرسة الانطاكيّة ، وكذلك يوحنا الإنطاكيّ قبِل بلغة المدرسة الإسكندريّة ، ولكن بعد حين. وهذا يدل على قبول آباء المجمع بتعددّية التعابير اللاهوتيّة  (الوحدة الكيرلسيّة – التمييز الإنطاكيّ).

يمكننا أن نطلق على لاهوت مجمع أفسس تسمية "اللاهوت التنازليّ" على عكس لاهوت مجمع نيقيا الذي يعتبر "لاهوت تصاعدي". إذ أنه ينطلق من ألوهية المسيح التي حددها مجمع نيقيا، ويعتبر بإنسانيته التي كانت محدّدة مسبقاً ويتسائل عن الطبيعتين وعن كيفية الاتحاد بينهما .

من خلال الدراسات والحوارات الحديثة التي قامت بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة النسطورية، تبين بأن الخلافات مع هؤلاء لم تكن في جوهرها خلافات عقائدية أو لاهوتية، بل خلافات لغوية. فثمة امكانية مقاربة بين الطرفين حول عقيدة واحدة.

هكذا كان الصراع الفكريّ خلال القرون الأربعة الأولى للمسيحيّة في المشرق، حيث أنه تحلى بوجه سياسي أحياناً، وبوجه آخر عقائدي وكنسي وسلطوي. كل هذا مهد لمجمع خلقيدونيا الذي يعتبر محور أساسيّ في تاريخ الكنيسة، بالإضافة إلى كونه مفتاح الخلاف بين الكنائس الشرقيّة والغربيّة، أي بين التي أقرت تعاليمه وبين التي نبذتها.

 (4)

 بعد الإطلاع على المراحل التاريخيّة التي مهّدت لمجمع خلقيدونيا، وبعد المرور على أهم الأحداث والهرطقات الذين ساعدوا بدورهم في عقد مجامع كان لا بد منها، يجب النظر إلى الأسباب المباشرة التي أدت لعقد هذا المجمع، الذي سوف يلعب دوراً كبيراً في حياة الكنيسة بعد مرور خمسة قرون على ميلادها. إذ أنه سيقوم بتقسيمها إلى جزئين، أحدهما يقبل المجمع والآخر يرفضه، بالإضافة إلى ذلك فسوف يحمل أثره معظم الكنائس المعاصرة. إن غرض هذا المجمع بالتأكيد كان جيّداً ومدعاة للإصلاح حيث كانت مهمته ليست فقط إدانة تعاليم أوطيخا ومحاربة المونوفيزيّة كما سنرى، بل الحفاظ على حقيقة إنسانيّة يسوع المسيح. إلا أنه كحدث قد رسّخ آثاراً مؤسفة في حياة وتاريخ الكنيسة لم يُستطع حتى اليوم إزالتها.

إن لاهوت اليوم  يحكم على هذا المجمع، بالرغم من أهميته اللاهوتيّة البالغة، أنه سبّب أوّل انشقاق كنسيّ . فمن يبحث اليوم بموضوعيّة وبدون تحيّز في الأحداث الكنسيّة المعاصرة للقرن الخامس لا يجد سبباً كافيّاً لهذا الانقسام الذي تمّ بين الخلقيدونيّين واللاخلقيدونيّين، وإذا بحث المرء في التعليم العقائديّ الذي نما في القرون الخمسة عشر التالية بين الكنيستين، يجد هناك تطابقاً شديداً في كل النواحي تقريباً، والاستثناء هو اختلاف غامض في الرأي يتعلق في الصياغات اللفظيّة، ولعل الاختلاف اصطلاحيّ أكثر مما هو حقيقيّ.

في خلقيدونيا، قال الفكر المسيحيّ، للمّرة الأولى في تاريخ الفكر الإنسانيّ، بأن ثّمة "نموذجاً" هو يسوع الناصريّ، مزدوج من حيث وجوده، أي أنه إله كامل وإنسان كامل، وسيبقى كذلك حتى انقضاء الدهر. والإنسانيّ فيه لا يبتلعه الإلهيّ، بل يحتضنه ويحميه. كما أن الإلهيّ فيه لا يغيبه الإنسانيّ، بل يؤيّده ويظهره. الإلهيّ والإنسانيّ قائمان في يسوع ابن مريم معاً، في انسجام لا ينتابه تناقض.

تمّ الدفاع عن هذا المجمع من قبل العديد من العلماء التابعين للكنائس الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة، وفي الحقيقة لم يتلق أي مجمع آخر في التاريخ المسيحيّ دفاعاً متعمّداً ومقرّراً كالذي تلقاه هذا المجمع، ولم تكن نقطة النزاع بين أولئك الذي قبلوا هذا المجمع والذين نبذوه هي أن الأولين أكدوا والآخرين رفضوا الاعتراف بالاتحاد الكامل للذات الإلهيّة وللناسوت في المسيح الواحد، لأن الفريقين كانوا يعلنون الحقائق ذاتها ولكن بتعابير وكلمات مختلفة، وأحياناً أخرى بضعف واضح في هذه التعابير والألفاظ. مما أدّى إلى حدوث خلاف اعتبروه جوهريّاً، لكنه كان لغويّاً. هذا ما سأسعى لأبينه من خلال هذه الدراسة.

2ـ1. الأسباب التي أدّت إلى عقد هذا المجمع

لا يمكن لمجمع ما، وخاصّة مجمع مسكونيّ أن يعتبر حدثاً معزولاً في تاريخ الكنيسة. فله خلفية تاريخّية ويتبعه تاريخ ذو ديمومة تكون أكثر طولاً أو قصراً. ينشأ كل مجمع من مجريات ضمن الكنيسة، وأحياناً ينشأ من أزمة. فهو غالباً نتيجة لتوترات لاهوتيّة أو تنظيمّية تؤثر على الكنيسة برمتها.

كانت المشكلة الكريستولوجيّة المطروحة على التفكير المسيحيّ في النصف الثاني من القرن الرابع وبداية القرن الخامس متعلّقة أساساً بإنسانيّة المسيح. كان السؤال المطروح هو التالي: إذا كان كلمة الله قد أخذ في ذاته الطبيعة البشريّة، فماذا سيحل بهذه الطبيعة في عملية الإتحاد، هل سيحافظ كلمة الله – اللوغوس على الطبيعة البشرية، أم ستذوب هذه في الطبيعة الإلهيّة.

في ذلك الحين كانت القضايا التي سببها مجمع نيقيا قد تمّت معالجتها، أي لم يكن يوجد خلاف على ألوهيّة المسيح، لكن الخلاف تمحور حول حقيقة إنسانيّته، ومصيرها. فالابن المولود من الآب والمساوي له في الجوهر، هو نفسه الذي صار إنساناً في ملء الزمان من خلال العذراء مريم. كانت هذه العقيدة من أهم العقائد التي تداولها الآباء في مجمعي القسطنطينيّة وأفسس . وكما رأينا فيما سبق أن مجمع أفسس شدّد على وحدة شخص يسوع المسيح، لكنه لم يميز بين الطبيعتين الإلهيّة والإنسانيّة. وبالتالي ترك المجال للعديد من المناقشات والشروحات التي أدّت آخراً إلى عقد مجمع خلقيدونيا وذلك للتشديد على تمييز ازدواجيّة الطبيعتين مستنداً إلى وحدة الشخص التي أقرها مجمع أفسس . ويمكننا تقسيم الأسباب المباشرة التي أدت لعقد هذا المجمع إلى قسمين: أولاً تصارع المدرستين الإنطاكيّة والإسكندريّة على الكريستولوجيا القائمة وفقاً لتصميم "الكلمة-الإنسان"  و"الكلمة-الجسد" ، وثانياً لاهوت أوطيخا، وسأتحدث عن كل منهما فيما يلي.

2ـ1ـ1. تصادم مدرستي الإسكندرية والإنطاكية

منذ فجر المسيحيّة اهتم الشرق القديم باللاهوت وأقبل عليه بشغف، وابتداءً من القرنين الرابع والخامس قاد تطور العقائد والجدالات الكريستولوجيّة إلى ظهور مدرستين لاهوتيتين لكلّ منهما ميزتهما الخاصّة: مدرسة إنطاكية  ومدرسة الإسكندرية . غالباً ما دخلت هاتان المدرستان في صراع وتنافس على زعامة العالم المسيحيّ الشرقيّ القديم، وكانت الخلافات بينهما تتمحور حول تمايزات لاهوتيّة، أصبحت فيما بعد تتمحور على مستوى السياسة الكنسّية . كان لكلّ من المدرستين خلفية ثقافيّة ولاهوتيّة مختلفة أدّت إلى ظهور تمايز في العبارات وبالأخص الاختلاف في فهم كل من العبارات التالية: "شخص" و "طبيعة". سيطرت هاتان المدرستان على الفكر اللاهوتيّ خلال القرون الأولى وحتى يومنا الحاضر ، وأدّتا إلى عقد عدد كبير من المجامع لحل الخلافات العقائدّية التي كان ظاهرها اختلافٌ على بعض المصطلحات، أما باطنها اللاهوتي والفكري، فقد تقارب لدرجة كبيرة.

ـ تصميم Logos-Sarx (الكلمة ـ الجسد): برز هذا التصميم في الزمن الذي تلا مجمع أنطاكيا 268، كان هدفه تفسير وحدة الألوهة والناسوت في يسوع المسيح بما يتفق مع وحدة الجسد والروح في الإنسان . فإن اللوغوس يحلّ محل الروح في المسيح بشكل كامل ، لكن دون الوقوع في هرطقة آريوس الذي اعتبر أن اللوغوس يتحد "اتحاداً مادّيّاً" مع الطبيعة البشريّة.

إن الوحدة البشريّة للجسد والروح مطبقة بلا شك على تفسير شخص المسيح. المسيح هو طبيعة واحدة Physis لأن الذي يتحدّث عن طبيعتين يعطي أداة ممتازة لأولئك الذين يميلون إلى تقسيم الوحدة في المسيح، لأن الانقسام يعتمد وجود ثنائيّة . هذا ما أشار إليه أبوليناريوس في رسالته إلى ديونيسيوس. ويضيف بأن الجسد ليس على نحو الطبيعة، لأنه لا يقدر أن يمنح الحياة بنفسه. وبالتالي لا يمكن أن ينفصل عن اللوغوس المانح للحياة. فاللوغوس لا يوجد فقط في حالة ما قبل الوجود متحرراً من الجسد، لكنه في هذا العالم متّحداً مع الجسد .

كان سبب هذه الهرطقة غزو الفلسفة الهلينية الفكر المسيحيّ، والتي طرحت فكر الطبيعة. وخاصة أن سمو اللوغوس الإلهيّ وعلاقته مع الجسد Sarx كانتا عرضة للخطر. لقد فات أبوليناريوس وكل المتمسكين بهذا الفكر إدراك معنى نيقيا وهو سمو اللوغوس وألوهيته. ولقد تصدى لهذا التفسير الأبوليناريّ ذريوذورس الطرسوسيّ وتيودوروس المصّيصيّ، اللذان دافعا عن التمييز في المسيح بين ما يعود إلى الألوهة، وما يعود إلى البشرية فيه . يشدد هؤلاء على الفرق بين "الكلمة الذي يأخذ" و"الإنسان المأخوذ" (Homo assumptus). فالسؤال الأساسيّ الذي تحاول المدرسة الإنطاكية الإجابة عليه هو: بأي طريقة أُخذ الإنسان من قبل الكلمة .

ـ تصميم Logos-Anthropos  (الكلمة – الإنسان): ظهر هذا التصميم كرّد فعل على ما سبق، حيث أعلن أن جسد المسيح وروحه متّحدان تماماً كأي إنسان. وشدد على الناسوت التامّ ليسوع المسيح . وهو بخلاف التصميم السابق، يعطي الأولوية للطبيعة الإلهيّة من حيث أنها مبدأ العمل الوحيد في المسيح. حيث لا يمكن تصوّر بشرّية تعطي إمكانيّة العمل كـ"مبدأ مستقل". في الكلمة المتجسّد، الإنسان هو الكلمة، ولكن من حيث أنه الكلمة المتّحد بجسد . فالجسد هو لباس الكلمة ومكان عمله، وهو يشكل كياناً واحداً معه.

وُصف اللاهوت الإنطاكيّ بالنظرة العقلانّية، أما اللاهوت الإسكندريّ فوُصف بالصوفّي . وكان هذا الخلاف بينهم عميق، يحتوي على عدد من المقومات التي تدفع إلى الانشقاق. فمن خلال مجمع أفسس انتصر نوعاً ما اللاهوت الإسكندريّ على الإنطاكيّ. ورفض التعليم الإنطاكيّ العبارات "الأقنوم الواحد"، "الطبيعة المتجّسدة الواحدة لله الكلمة"، "الاتحاد الاقنوّمي" . واستبدلوا الأقنوم الواحد بالـ"prosopon" وأقروا بوجود "طبيعتين بعد الاتحاد" وذلك لأنهما وُجدتا معاً وهما متحدتان . وسيقبل الإنطاكيون الموقف الذي أكّده كيرلس والاسكندرّيون الذي يقول بأن اتحاد الطبيعتين كان دون تشويش أو انفصال. إلا أنهم لم يقبلوا الاتحاد الأقنومّي، أقنوم واحد، وطبيعة متجّسدة واحدة لله الكلمة.

2ـ1ـ2. لاهوت أوطيخا

لا بدّ بداية من التعريف عن هوية أوطيخا، قبل تحليل لاهوته.

كان أوطيخا أرشمندريتاً في أحد أديرة القسطنطينيّة. قاوم البدعة النسطورّية، عُزل سنة 448، ثمّ أعيد إليه اعتباره في مجمع أفسس (اللصوص) سنة 449. لكنه أُدين خلال مجمع خلقيدونيا ونفاه الإمبراطور مرقيانس إلى مصر . لم يكن "لاهوتيّاً" بارعاً، بل كاهناً عجوزاً له تأثير في بلاط الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني . تعاطف مع اللاهوت الإسكندريّ وخاصّة مع كيرلس، إلا أنه ظلّ محدوداً في إمكانياته وعنيداً في طبعه .

تمحور تفكيره اللاهوتيّ حول عدم إمكانية رفضه أن يكون المسيح مؤلفاً من طبيعتين بعد الاتحاد، وسبب ذلك يعود إلى اعتقاده بأن الخصائص الإلهيّة والإنسانيّة في المسيح قد اختلطت (Sugkhusis-Krasis)، خلال فعل التجسّد. فكان يعتقد أن الطبيعة الإلهيّة امتصت الطبيعة البشرّية، فزالت وتلاشت الإنسانيّة في الألوهة ، أي أن الطبيعتين امتزجتا معاً في طبيعة واحدة. كان أوطيخا معارضاً للتقليدين الإسكندريّ والإنطاكيّ. ومن هنا جاءت تسمية أوطيخا "مونوفيزيسم" monophysisme  وتعني "طبيعة وحيدة". راجت تعاليمه في القسطنطينيّة وخارجها، خصوصاً وأنّه كان رئيساً لدير يضمّ 300 راهب .

وفي هذا السياق اتهم أوطيخا بالهرطقة، وعُقد مجمع في القسطنطينية عام 448 لمحاربة هرطقته. فأُدين في رفض الاعتراف بـ "الطبيعتين بعد الاتحاد" ، لأن هذه المقولة جزء من الأرثوذكسيّة المعلنة، والتي لم يعترف بها الجانب الإسكندريّ، وبما أن المجمع طلب من أوطيخا تأكيد هذه العبارة فهو بالتالي سيقوم بإدانة ورفض تعاليم معلميه أمثال اثناسيوس وكيرلس وتعاليم المدرسة التي ينتمي إليها. كما أنه عبّر عن تحفظه حول صيغة "المتساوي في الجوهر مع البشر".

أما الطرف الإسكندريّ فقام بعقد مجمع في أفسس عام 449، أصرّ على أن التأكيد على عبارة "الطبيعتين بعد الاتحاد" هو معارض للإيمان الأورثوذكسي. ونقض ما تم التوافق عليه في مجمع القسطنطينيّة عام 448، وتمّ إعادة اعتبار أوطيخا وحرم فلابيانس الذي كان قد ترأس مجمع 448 .

في هذه الأثناء قام البابا لاون الكبير (Léon le Grand)   بكتابة رسالة عقائدّية إلى فلابيانوس أسقف القسطنطينية، مقدّماً حلاًّ لاهوتيّاً من دون الأخذ بعين الاعتبار وضع الشرق العصيب، ويمكن أن يتشابه موقفه مع التقاليدين الإنطاكيّ والإسكندريّ معاً، إلا أنه اقترب من الموقف الإنطاكيّ الذي كان قد أعلنه مجمع أفسس في عام 431 على أنه الإيمان القويم. لذلك رحّب المدافعون عن مجمع القسطنطينية بهذه الرسالة. أما في مجمع أفسس المعروف بمجمع اللصوص، فلم يقم أحد بقراءة رسالة البابا لاون، فاستاء هذا الأخير وبدأ يسعى لعقد مجمع جديد في إيطاليا لرفض مجمع 449، وتكللت مساعيه بالنجاح وذلك من خلال مجمع خلقيدونيا.

يمكننا أن نستنتج من دفاعات أوطيخا أثناء محاكمته الأفكار اللاهوتية التالية: قبل أن يصبح الله الابن متجّسداً وقبل أن يتّحد اللاهوت بالناسوت في يسوع المسيح كان مؤلفاً من "طبيعتين". لكن عندما اتحدت الطبيعتان أصبح المسيح ذا "طبيعة واحدة". وبما أن أوطيخا كان ممانعاً يرفض وجود الطبيعة البشرية في المسيح، فإن تعبير "طبيعة واحدة" ربما عنى له على نحو صحيح أن الناسوت فُقد، بعد الاتحاد . وهذا المعنى هو الذي استشفه البابا لاون، وبعض أساقفة خلقيدونيا إذ إن أوطيخا استعمل كلمات مضللة فقال: «صار الكلمة بشراً بطريقة تتضمن أن المسيح حُبل به من رحم العذراء وامتلك شكل إنسان بلا جسد حقيقيّ متّخذاً من أمه» .

إلا أنه في الوقت عينيه يقرّ أوطيخا بالإيمان القويم وذلك حين قال: «إن كلمة الله نفسه نزل من السماء بلا جسد وصار جسداً من جسد العذراء نفسه بلا تغيّر ولا تحوّل على نحو عرفه وأراده هو نفسه. فالذي هو دائماً إله كامل قبل الدهور صار بشراً لأجلنا ولأجل خلاصنا» . من الملاحظ أن إيمان أوطيخا هنا هو قويم لكنه ناقص ولم يكتمل. ولذلك هناك العديد من العلماء  الذين يعتبرون أن آباء المجمع استشهدوا فقط ببعض أقواله . 

2_2. المصادر اللاهوتيّة للمجمع

كانت المصادر الأساسيّة لهذا المجمع دستور الإيمان الذي أعلنه مجمع نيقيا وأكمله مجمع  القسطنطينيّة، ورسائل كيرلس الإسكندريّ، بالإضافة إلى رسالة لاون أسقف روما إلى فلافيانوس. وسأقوم الآن بتحليل العبارات الهامة لهذه الرسائل التي سبقت عقد المجمع.

ـ رسائل كيرلس المجمعية: قُرأت خلال المجمع رسالتان لكيرلس الإسكندريّ، إحداهما كانت موجهة إلى نسطور والأخرى وُجهت إلى يوحنا أسقف إنطاكيا . وعلى أثر قراءة هاتان الرسالتان، صرخ الأساقفة: "كلنا نؤمن بهذا" .

عندما بدأ كيرلس بمعارضة نسطوريوس عام 429 بدأ اعتقاده يتكّون حول فكرة أن في المسيح «طبيعة الله الكلمة الواحدة المتجسدة» . كانت هذه الصيغة أبوليناريّة، مع أنه لم يكن هو أبوليناريّاً، لأنه كان يعترف بناسوت المسيح الكامل بالجسد والروح. وكانت صورة المسيح لدية تتلائم مع صورة "العليقة المحترقة"، فكما استطاعت العليقة أن تحمل النار، كذلك استطاعت طبيعتنا أن تحمل المسيح في إلوهيته؛ فكلّ شيء تم تصوّره على ضوء الوحدة في اللوغوس .

اعترف كيرلس بأن ألوهة المسيح هي طبيعة واحدة Physis، وأن الناسوت هو أيضاً طبيعة واحدة Physis. وشرح أيضاً أن الطبيعتين غير مشوشتان في المسيح الواحد، وأكّد على تمايزهما فيه .

يقبل الخلقيدونيين واللاخلقيدونيين كلاهما الصيغة السابقة بكونها الدليل الآبائي الوحيد والأول على المسيحانيّة الأرثوذكسية ذات الإيمان القويم، لكنهما يتهمان أحدهما الآخر بعدم الإخلاص الكليّ لها. لكن للأسف الشديد وبسبب الاختلاف المتبادل في فهم المصطلحات اللغوية، نجد العديد من الآباء ومن بينهم كيرلس يفسرون عبارة "طبيعة واحدة" مثل عبارة "أقنوم واحد" ، وينظرون إلى هذه العبارة بالمعنى الذي ورد عند الإنجيلي يوحّنا في عبارته «الكلمة صار جسداً» . فإن الألفاظ مثل "طبيعة"، "أقنوم"، "شخص"، كانت مترادفة في ذلك الوقت. ولذلك يجب أن نفهم لفظة "الطبيعة" في العبارة التي نحن بصددها كـ "شخص" في ذاته ومن ذاته أي شخص الإله – الكلمة السرمديّ. ومن خلال لفظة "الواحدة" يقضي على كل معنى نسطوريّ متعلقّ بانقسام شخص كلمة الله المتجسّد الواحد وهي بالتالي تؤكد وحدته. أما "المتجسّدة" فتدل على أن الطبيعة الإنسانيّة التي اتخذها كلمة الله واتحد بها اقنوميّاً في ملء الزمان.

ـ رسالة البابا لاون أسقف روما: أرسل البابا هذه الرسالة إلى القديس فلابيانوس اسقف القسطنطينية حين ارتاب في تعليم أوطيخا كشكل من الظاهرّية (Docetisme)  والمانوّية (Manichaeisme) ،  وقد فنّد فيها تعاليم أصحاب الطبيعة الواحدة. ولما قُرئت الرسالة علناً في المجمع صرخ الآباء: «هذا هو إيمان الآباء. هذا هو إيمان الرسل. القديس بطرس يتكلم هذه الأشياء بفم لاون» . ولهذا دعيت هذه الرسالة عامود الأرثوذكسيّة. كان تعبير البابا اللاهوتيّ أقرب إلى مدرسة إنطاكية وذلك بتشديده على طبيعتين اثنتين متميزتين. وكان لاهوته مماثلاً للاهوت كيرلس من حيث الاتحاد: "الإله الحقيقيّ وُلد كاملاً فيما هو له، كاملاً فيما هو لنا" .

لم يرغب لاون بالتفكير بطريقة نسطورّية، فيجعل المسيح شخصاً مستقلاً . ففي وحدة المسيح يتم الاحتفاظ بالطبيعة الإنسانيّة، كمبدأ للفاعليّة. حيث قال في رسالته: «إن كل واحدة من الطبيعتين اللتان للمسيح تحتفظ بخصائصها، بينما تكون في نفس الوقت متّحدة في شخص واحد» .

كانت الهتافات المناصرة لكيرلس ولاوون معاً في المجمع، ولا سيّما الهتافات الموجهة لرسائلهما. كان لاهوتهما واحداً، إلا أن تعبيرهما اللاهوتيّ كان مختلفاً، ولا سيما فيما يختص بارتباط وحدة الشخص بتمييز الطبيعتين. فكان يتوجب تحرير نص عقائديّ يدمج النظريتين، وهذا ما قام به الآباء في المجمع.

2ـ3. مجريات المجمع

في 17 أيار سنة 451 صدرت دعوة عن الإمبراطور مرقيانوس لعقد مجمع مسكونيّ في اليوم الأوّل من شهر أيلول في نيقيا، ولكن لظروف عسكريّة، والبعض يقول صحيّة، تم نقل المكان إلى خلقيدونيا لقربها من العاصمة. وبدأ المجمع أعماله في 8 ت1 451 بحضور 630 أسقفاً ومشاركة الإمبراطور وزوجته بلخيريا. في كنيسة القدّيسة أوفيميا في خلقيدونيا .

                2ـ3ـ1. التآم المجمع

تُقسم وقائع هذا المجمع إلى ثلاثة أقسام. في القسم الأول تمّ البحث في رسائل متعدّدة. ونوقشت الأعمال التي أجازها فلافيانوس في القسطنطينية بالإضافة إلى الأعمال التي أجازها مجمع اللصوص في أفسس، أما القسم الثاني فبحث الآباء فيه أعمال هذا المجمع وهي ستة عشر عملاً، أما القسم الثالث فبُعثت رسائل مختلفة من المجمع ومن الملكين .

افتتح المجمع بخطاب من الملك، وتحوّلت الجلسة الأولى لمحاكمة ديوسقورس الإسكندريّ على تصرّفه خصوصاً عقده لمجمع أفسس اللصوص. وتداول الآباء ما جاء في أعماله، وأعلن أكثريّة الأساقفة أنّهم أُرغموا على توقيعها. ويظهر أنّ الحضور كان منقسّماً إلى جناحين من حيث الجلوس، كلّ تيار في جهة يتوسّطهما أرباب السلطة. وكان كلّ من يتراجع عن مواقفه ينتقل من جهةٍ إلى أخرى.

وبعدما ناقش الآباء تعليم فلابيانوس القسطنطينيّ حُكم على بطلان كلّ ما حصل في مجمع أفسس اللصوص، وحُكم على ديوسقوروس بالقطع.

عقدت الجلسة الثانية في 6 ت1 واقتصرت على تلاوة قانون نيقيا والقانون القسطنطينيّ ورسالة لاون وتوضيح بعض معانيها. وتلتها جلسة يوم السبت في 13 ت1 التي خصّصت لعرض ظلامات ديوسقورس في الإسكندريّة واستبداده وطمعه. وبعدما امتنع عن الحضور ثلاث مرّات حُكم عليه وأُبلغ الإمبراطور بقرار الحكم.

وعقدت الجلسة الرابعة نهار الثلاثاء الواقع فيه 16 ت1، وفيها وافق الآباء على الدستور النيقاويّ المكمّل بالقسطنطينيّ، ووافقوا أيضاً على تعليم القدّيس كيرلّس في مجمع أفسس ضدّ نسطوريوس ورسالة البابا لاون ضدّ أوطيخا. أما الجلسة الخامسة كانت نهار الاثنين في 23 ت1 وفيها وضع الآباء صورة إيمانهم وحفظوها في قبر القدّيسة أوفيميا.

الجلسة السادسة عُقدت في 25 ت1 بحضور الملك الذي تلا خطاباّ شكر فيه الله وأشار إلى السلام والإيمان الأرثوذكسيّ. ثمّ تُلي تحديد المجمع ووقّعه الآباء بخطّ يدهم وثبّته الملك. أما الجلسة السابعة فعُقدت في 29 ت1 وخُصّصت لمصالحة أسقفيّ أنطاكية وأورشليم وتحديد حدود كلّ أبرشيّة وسلطة كلّ أسقف.

وبعد ذلك عقد المجمع تسع جلسات تمّ فيها تبرئة كلّ الذين أُدينوا على يد ديوسقوروس في مجمع أفسس اللصوص، ووضعت القوانين التنظيميّة للكنيسة وكان عددها ثلاثون. وكانت الجلسة السادسة عشرة الأخيرة وفيها اعترض ممثّلو روما على القانون 28 الذي يمنح القسطنطينيّة التقدّم والمرتبة الشرفيّة بعد روما وعلى حساب الإسكندرية وإنطاكيا .

2ـ3ـ2. اعتراف الإيمان الخلقيدونيّ   

«إنّنا نتمسّك باتّباع الآباء القدّيسين في الإعتراف بمن هو واحد وهو نفسه الابن في الألوهيّة وتام في البشريّة، إله حقّ وإنسان حقّ، وهو نفسه مكوّن من نفس عاقلة وجسد. إنّه مساوٍ للآب في الألوهيّة ومساوٍ لنا في البشريّة، شبيه بنا في كلّ شيء ما خلا الخطيئة. قبل كلّ الدهور ولد من الآب بحسب الألوهيّة، وفي الأيام الأخيرة هو نفسه، لأجلنا ولأجل خلاصنا، ولد من مريم العذراء والدة الإله، بحسب البشريّة. واحد هو، وهو نفسه المسيح، الابن الوحيد، الربّ، الذي يجب الاعتراف به في طبيعتين متّحدتين دون اختلاف ولا تحوّل ولا انقسام ولا انفصال. إنّ اتّحاد الطبيعتين لم يزل ولم يلغ بأي شكل من الأشكال ما فيهما من تباين. بل على العكس من ذلك، قد حفظت سالمة جميع خصائص الطبيعتين اللتين اتّحدتا في شخصٍ واحد وأقنومٍ واحد. وهو لم ينقسم ولم ينفصل إلى شخصين، بل واحد هو، وهو نفسه الابن الوحيد، الإله الكلمة، الربّ يسوع المسيح. هكذا تكلّم عنه الأنبياء قديماً، وهكذا علّمنا يسوع نفسه، وهذا ما علّمنا إياه الآباء في قانون الإيمان» .

قسم معظم العلماء المعاصرين نص مجمع خلقيدونيا إلى قسمين: القسم الأول عبارة عن تلخيص للمجامع التي سبقته، أما الثاني فهو جديد، يتميز بتعريف الطبيعتين الإلهيّة والإنسانيّة ويتحدّث عن اتحادهما.

ـ خلقيدونيا ملخص للمجامع الأخرى: يدعو هذا المجمع إلى ضرورة العودة إلى الكتاب المقدس. كما يدعو أيضاً إلى العودة إلى مجامع نيقيا والقسطنطينيّة الأوّل وأفسس، معترفاً خاصّة بقانون الإيمان الذي حُدد في نيقيا – القسطنطينية. أراد المجمع الوصول إلى التعليم الواحد للقضاء على الخلافات والصراعات وذلك عن طريق "تعليم العقيدة الثابتة المعلنة منذ البداية".

لتوضيح الإعتراف الإيماني لمجمع خلقيدونيا يمكن أن نوزعه على الشكل التالي:

يجب الاعتراف بالابن الأحد نفسه، ربنا يسوع المسيح .

لقد شرح آباء مجمع خلقيدونيا مبتغاهم انطلاقاً من ركيزتين أساسيتين في الإيمان المسيحي، هما الكتاب المقدس وعبارات الآباء والمجامع السابقة كتفسير للكتاب المقدس. من الجدول السابق يمكن استنتاج ما يلي:

* نقطة الانطلاق هي وحدة شخص المسيح الذي أقر بها مجمع أفسس، ونقطة الوصول كذلك، فضلاً عن الإصرار على الوحدة بين كلمتي "هو نفسه" (le même) و"الأحد" (un seul). وقد تسلم منه مجمع خلقيدونيا هذا الاكتساب. ويكون التمييز بين الألوهة والإنسانيّة داخل هذه الوحدة.

* إن مجمع خلقيدونيا توسع في إنسانيّة يسوع مكملاً النظرات السابقة. فمن الجدير بالملاحظة أن كل ما يخص الإنسانيّة هو أطول مما يخص الإلوهيّة. فالمجمعان السابقان لم يشددا بالقدر الكافي على إنسانيّة يسوع، فأكدّ عليها مجمع خلقيدونيا.

* بما أن الإنسان مكوّن، بحسب العقلية اليونانيّة، من جسد ونفس. فقد أكد النص الجديد على هذه الحقيقة، رداً على بدعتين سابقتين: فبتأكيده على الجسد ردّ على المظهرانية (Docetism )، وبتأكيده على "النفس العاقلة" ردّ على الأبوليناريّة (ِApollinarisme) . ومن المهم أن يشار إلى أنه بعد التجسّد وفعل اتحاد الكلمة بالإنسانيّة، تظل هذه الإنسانية كاملة ومن جوهرنا نفسه، فلا تتلاشى في الإلوهيّة، كما ادّعى أوطيخا.

* ولادة يسوع مزدوجة: "من الآب قبل كل الدهور" / "في آخر الأيام…من مريم". فيمكن القول إن الكلمة الأزليّ دخل تاريخ البشرّية .

* الطابع المعاديّ (الإسكاتولوجيّ) للولادة الثانية ظاهر في استخدام التعبير الكتابيّ "في آخر الأيام". فالولادة الإنسانيّة للكلمة هي خلق جديد. حدث اسكاتولوجيّ، حين افتتح الكلمة نهاية الأزمنة بفعل تجسّده.

*الطابع الخلاصيّ واضح من خلال التعبير (لأجل خلاصنا).

* اقتبس هذا المجمع من مجمع أفسس لقب "أم الله" وأكده ثانيةً.

ـ الجديد في نص خلقيدونيا: تدخلت الفلسفة اليونانية في الجزء الثاني من نص خلقيدونيا،  وكانت بمثابة الجديد الذي يشرح ما سبق من الفرق بين الوحدة والتمييز .

* "في طبيعتين": (en duo physis  ) باستعمال النص للفظة (en  ) «في» عن المسيح، يريد بها الحديث عن المسيح ذو الطبيعتين بعد التجسّد. فالمراد تأكيده أن المسيح هو واحد في طبيعتين، لا فقط أنه شخص واحد وطبيعتان. والنص يؤكد على أن داخل الشخص الواحد طبيعتين إلهيّة وإنسانيّة .

* "طبيعتان اثنتان": أراد الآباء بهذا التعبير الردّ على بدعة أوطيخا التي أنكرت الطبيعتين واعتبرت بأن الإلهيّ قد امتص البشريّ في المسيح. إن مجمع خلقيدونيا أراد أن يشير إلى أن الطبيعة الإلهية بقيت كما هي، وكذلك الطبيعة البشرية بقيت كما هي، بعد فعل التجسّد .

* "دون اختلاط ولا تغيير": إن الله الكلمة لم يفقد ذاته بفعل تجسّده. ولم يتحوّل بفعل اتحاده بالجسد، ومن جهة أخرى لم يمتص الكلمة الإنسان، فلم تختلط الإنسانيّة بالإلوهيّة بدون تمييز بينهما. فالله ليس إنساناً والإنسان ليس إلهاً، والفرق بينهما واضح، و«خصائص كل من الطبيعتين» لا تمتزج بخصائص الأخرى .

* "دون انقسام ولا انفصال": فالكلمة المتجسّد كائن واحد وليس كائنان ولا فاعلان، الواحد بقرب الآخر وخارج عنه، كما كان يدّعي نسطوريوس، ولكنه مسيح واحد يتصرّف تصرفاً إلهيّاً وإنسانيّاً في آن واحد .  

وضع مجمع خلقيدونيا تحديداً للإيمان وكان أعضاء المجمع في البداية يرفضون هذا الأمر، ولكنهم تحت إلحاح مندوبي الإمبراطور رضخوا في النهاية. وكانت المسودة الأولى تنص على أن المسيح "من طبيعتين". ولكن مندوبي الإمبراطور ألحوا أن يتضمن النص "في طبيعتين". وبعد مقاومة كبيرة على أساس أن هذه العبارة متضمنة في رسالة البابا لاون الذي قبلها المجمع ولا داعي لوضعها في تعريف الإيمان، قبلها المجمع تحت إلحاح من مندوبي بابا روما وممثلي الإمبراطور.

لم يكن التحديد الذي قبله المجمع نسطورّياً، حيث أن المجمع في قراراته أكّد حرم كل من النسطوريّة والأوطيخيّة. ولكنه لم يتضمن عبارة "الاتحاد الأقنوميّ "ولا عبارة أنه "لا يمكن التمييز بين الطبيعتين إلا في الفكر فقط" وهى العبارات الهامّة في تعليم القديس كيرلس الكبير. كما أنه وردت عبارة تحرم "كل من يعتقد بطبيعتين قبل الاتحاد وبطبيعة واحدة من بعد الاتحاد"، والمقصود بهذه العبارة هو أوطيخا وعقيدة الامتزاج بين الطبيعتين. ومن المعلوم أن الجانب اللاخلقيدونيّ يحرم من يقول "بطبيعتين قبل الاتحاد" لأن هذا التعبير يفترض وجود الناسوت قبل اتحاده باللاهوت، لكن هذا الفريق يقبل "من طبيعتين في الاتحاد" و "من طبيعتين بعد الاتحاد". أما حرم من يقول "بطبيعة واحدة بعد الاتحاد" فكان يحتاج إلى توضيح، لأن هذا الحرم من الممكن أن يفسّر أنه ضد تعليم القديس كيرلس الكبير القائل "طبيعة واحدة متجسّدة لكلمة الله" الذي تمسك ويتمسك به الجانب اللاخلقيدونيّ حتى الآن، مع رفضهم التام لفكرة الامتزاج وتأكيدهم على استمرار وجود الطبيعتين في الاتحاد .

إن ميزة خلقيدونيا تكمن في الحفاظ على حقيقة إنسانيّة يسوع المسيح، التي كانت مهددة في لاهوت أوطيخا ومن بعده في لاهوت المونوفيزيّة، فهي تخلط بين الطبيعتين، فيكون أن إحدى الطبيعتين تمتص الطبيعة الأخرى، وبالأخص أن الطبيعة الإلهية تمتص البشريّة، كما ذكرت سابقاً، لأنها أعظم منها.

كان الجانب اللاخلقيدونيّ يرغب في نبذ النسطوريّة بتأكيد عقيدة الطبيعة الواحدة المتجسّدة لله الكلمة طبيعة واحدة من طبيعتين بغير امتزاج ولا اختلاط ولا تغيير، لأن تعبير الطبيعة الواحدة هو أصدق تعبير عن "الاتحاد الطبيعّي" الذي علّمه القديس كيرلس في رسالته الثالثة إلى نسطور والتي قبلها كلٌ من مجمع أفسس ومجمع خلقيدونيا.

وكان الجانب الخلقيدونيّ يرغب في نبذ الأوطيخيّة بتأكيد عقيدة وتعبير الطبيعتين غير المنفصلتين أو المتجزئتين لتأكيد استمرار وجود الطبيعتين وعدم تلاشيهما في الاتحاد، ولتأكيد عدم تلاشى الفرق في خصائص الطبيعتين بسبب الاتحاد بينهما.

ربما كان كل جانب مكمّلاً للجانب الآخر في تعبيره عن الحقيقة الواحدة؛ فالذين قالوا بالطبيعة الواحدة المتجسّدة من طبيعتين أضافوا "بغير امتزاج ولا تغيير" لنفي الأوطيخيّة والذين قالوا بالطبيعتين أضافوا "بغير انفصال ولا تقسيم" لنفى النسطوريّة. وقد تكلّم الجانبان عن حقيقة واحدة هي أن السيد المسيح كائن واحد إلهيّ ـ إنسانيّ، أي تكلموا عن كينونة واحدة من طبيعتين قد اتحدتا في المسيح والواحد. فالذين عبّروا بالطبيعة الواحدة المتجسّدة قصدوا التعبير عن حالة الكينونة بأنها واحدة. والذين عبّروا بالطبيعتين قصدوا التعبير عن حقيقة استمرار الكينونة للطبيعتين.

قُسمت الكنيسة بعد هذا المجمع إلى عدة أقسام، أولها كان الكنيسة الكاثوليكية في جميع أنحاء العالم التي تقبل الطبيعتين. أما قسمها الثاني فكان الكنيسة الأورثوذكسية التي قُسمت بدورها إلى جزئين، منهم مَن يقول بالطبيعتين، وتدعى هذه الكنائس بالكنائس الأورثوذكسية الخلقيدونية كالروم الأورثوذكس وجميع الكنائس الأورثوذكسية البيزنطية. أما الكنائس الأورثوذكسية المصرية والحبشية والسريانية والأرمنية، فهي الكنائس التي رفضت قرارات مجمع خلقيدونيا والتي تقول بالطبيعة الواحدة. 

على هذا الأساس تم الاتفاق بين الجانب الخلقيدونيّ والجانب اللاخلقيدونيّ في الحوار الأرثوذكسي في دير الأنبا بيشوى بمصر (يونيو 1989) وفى شامبيزى بسويسرا (سبتمبر 1990). فقد قبل كل من الجانبين التعبير اللاهوتيّ للآخر، معترفاً بأرثوذكسّيته. واتفق الجانبان أن كلمة الله هو هو نفسه قد صار إنساناً كاملاً بالتجسّد مساوياً للآب في الجوهر من حيث لاهوته، ومساوياً لنا في الجوهر من حيث ناسوته – بلا خطيئة. وأن الاتحاد بين الطبائع في المسيح هو اتحاد طبيعيّ أقنوميّ حقيقيّ تامّ بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا انفصال. وأنه لا يمكن التمييز بين الطبائع إلا في الفكر فقط. وأن العذراء هي "والدة الإله"  مع حرم كلاً من تعاليم نسطور وأوطيخا وكذلك النسطورّية الخفية التي لثيوذويطوس أسقف قورش. لعل هذا الاتفاق يكون هو أساس للوحدة بين الفريقين .

(5)

مجمع خلقيدونيا والكنيسة الأرمنية

ويعود الفضل إلى القدِّيس "غريغوريوس" (كريكور) المنوِّر  في اهتداء الملك الأرمنيّ "درطاد" إلى الدِين المسيحيّ، الذي تعمد وحاشيته في العام 301. وبهذا تُعتبر أرمينيا أوّل دولة اعتنقت المسيحيَّة دِيناً رسميّاً لها. وقد نال "غريغوريوس" الدرجة الأسقفيَّة على يد أسقف قيصريَّة (كبادوكيا)، وحاز على لقب "كاثوليكوس"، ودُعي بالمنوِّر لأنّه أنار الشعب الأرمنيّ بنُور المسيح. شرع غريغوريوس بتنظيم شؤون الكنيسة الأرمنيَّة من حيث التعليم الدينيّ والطقوس الليتُرجيَّة، واختار مقرّاً له في "فاغارشاباد"، وبنى فيها كنيسة على اسم "إتشميادزين"، ومعناه "نـزول الابن الوحيد" . وكان للقدِّيس الكاثوليكوس "نرسيس الكبير" (353 – 373)  الفضل العظيم في وضع القوانين الرهبانيَّة، وتنظيم حياة الأديرة، وإنشاء الأبرشيّات والمياتم ودُور العجزة والمستشفيات، فازدهرت الكنيسة الأرمنيَّة الفتيَّة في عهده ازدهاراً بارزاً . ولمّا كانت الصلوات والطقوس تُقام باللغتين المقروءتين: اليونانيَّة أو السريانيَّة، مع ترجمات وشروحات شفويَّة باللغة الأرمنيَّة، لعدم وجود أبجديَّة أرمنيَّة، فقد سعى الراهب "مِسروب"، على طلب من الكاثوليكوس "ساهاك"، إلى وضع أبجديَّة أرمنيَّة مؤلفة من 36 حرفاً. وقد تكلّلت أبحاثه بالنجاح في العام 406. فنُقلت أُمّهات الكتب الدينيَّة والفلسفيَّة والتاريخيَّة إلى اللغة الأرمنيَّة، وعُرف ذلك العصر "بعصر الثقافة الأرمنيَّة الذهبيّ" .

اعترفت الكنيسة الأرمنيَّة بالمجامع المسكونيَّة الثلاثة الأولى ورفضت الاعتراف بمجمع خلقيدونيا لأنّها لم تشارك فيه، إذ كان الأرمن في العام 451، رجالَ دينٍ وشعباً يدافعون عن إيمانهم المسيحيّ ضدّ هجمات الفرس، بقيادة البطل الشهيد القدِّيس "فارطان" .لم يكتفِ الملك الساسانيّ "شاهنشاه هازكيرد" بولاء الأرمن له، فأصدر في العام 449 فرماناً يطلب فيه مِن جميع سكّان الإمبراطوريَّة ومَن في حُكمها أن يعتنقوا الزرادشتيَّة، وأرسل الكهنة المجوس وأعوانهم إلى مختلف المناطق لبناء معابد لآلهة النار، وأَمَر بقمع كلّ حركة عصيان. ما إن وصل الجنود إلى أرمينيا حتَّى انتفض الشعب بقيادة فارطان ماميكونيان. فقد عانوا الكثير من الفرس ولكنّ الكيل كان قد طفح وأصبح الاضطهاد علانية. واجتمع الأساقفة والأمراء في أشتيشاد وبعثوا برسالة إلى الشاه يرفضون فيها اعتناق الديانة الزرادشتيَّة ويؤكّدون تمسّكهم بالدين المسيحيّ. حينذاك، جهّز الفرس جيوشهم النظاميَّة وساروا بعدد كبير لإخضاع الشعب الأرمنيّ. وكانت معركة أفراير في العام 451 التي استبسل فيها الجيش الأرمنيّ بقيادة فارطان ورفقائه الأمراء، ولكنّهم لم يستطيعوا مقاومة الجيش الفارسيّ المتفوّق بالعَدَد والعتاد، فاستشهدوا على أرض المعركة. أعلنت الكنيسة الأرمنيَّة قداسة فارطان ورفقائه لأنّهم ماتوا من أجل الإيمان بالمسيح. بعد معركة أفراير، خضعت أرمينيا للحكم الساسانيّ ولكنّ الشاه تخلّى عن سياسته القمعيَّة وسمح للأرمن بالحفاظ على ديانتهم المسيحيَّة وممارسة شعائرهم الدينيَّة، تحت ولاية أحد أفراد عائلة ماميكونيان مانحاً إياه لقب "مارزبان" أي رئيساً للولاية . وشهدت أرمينيا بعد تلك الأحداث ازدهاراً كبيراً في مجالات البناء والآداب والعلوم.

3ـ1. موقف الكنيسة الأرمنية من الجدالات اللاهوتية في القرنين الرابع والخامس

قبل الحديث عن موقف الكنيسة من مجمع خلقيدونيا، لا بد لنا من أن نلقي نظرة على الآباء الأرمن خلال فجر المسيحية في أرمينيا. تتلمذ القديس ساهاك بارتيف (387- 438)  والقديس مسروب ماشدوتس (390-439)  وكتّاب العصر الذهبيّ ، لدى المدارس الإنطاكية، حيث كان القديسان مسروب وساهاك زميلا القديس تيودوروس المُصيصي. إلا أنه وبالرغم من أنهم وكل من اتبع نهجهم في أرمينيا، قد طُبعوا باللاهوت الأنطاكيّ، نراهم قد تبنّوا قرارات مجمع أفسس ورفضوا البدعة النسطوريّة ، وذلك بدعم كبير من قبل بطريرك القسطنطينية . فقد ضحوا بصداقتهم مع تيودوريوس من أجل إيمانهم وعقيدتهم. وهكذا استمر الأرمن بقبول الفكر الأنطاكيّ حتى سنة 436. لكنهم تحوّلوا بعد ذلك إلى تبنيّ اللاهوت الإسكندريّ مع كيرلس. «إن هذا التحول الجذري مهم لأنه في القرن السادس بدأ الأرمن يؤمنون بتعاليم كيرلس، ويرفضون تعاليم معاكسيه. فبالتالي عن غير قصد منهم أخذوا يرفضون أتباع كريكور المنّور ومسروب ماشدوتس وساهاك بارتيف» . أما أسباب هذا التحول فتعود إلى:

ـ الأسقفان القديسان أكاكيوس ورابولا: بعد انتهاء مجمع أفسس، سيطر التيار الإسكندريّ ليس فقط في الإسكندرية، بل في أنطاكية أيضاً برئاسة أكاكيوس أسقف ملاطيا ورابولا أسقف يتسيا (الرها). حاول هذان الأخيرّان بكل جهدهم تحذير الناس من قراءة كتابّات تيودوروس المُصيصي، لاحتوائها على بذور البدعة النسطورية . فقام أكاكيوس بإرسال رسالة إلى كاثوليكوس الأرمن، الذي أجابه برسالة مماثلة لم يذكر فيها اسم تيودورس. لكن بعض علماء العقيدة ينفون هذا الحدث ويؤكدون بأن جواب البطريرك الأرمني كان غريباً وتهرّبياً. لأنه لا يُعقل أن كتابات شخص مشهور مثل تيودورس لم تصل إلى البلاد الأرمنية قبل هذه المراسلة. فنستنتج بأن الكاثوليكوس الأرمني لأسباب خاصة قد تحفظ عن إعلان رأيه حول عقيدة تيودورس .

ـ المراسلات مع برُكلّس بطريرك القسطنطينية: لم يستطع أكاكيوس أن يحصل على الموافقة، من الكاثوليكوس الأرمنيّ، على التصرف بحرية داخل حدود الأراضي الأرمنية. وحاول للمرة الأخيرة أن يقنع الأرمن بالانضمام إلى التيار المعادي لتيودوروس، اعتماداً على مساعي برُكلّس بطريرك القسطنطينية، وذلك بإرسال رسالة يوضح فيها مطلبه.

بالمقارنة بين النص اليونانيّ والنص الأرمنيّ للرسالة ، نجد ما يلي:

•             في النص الأرمنيّ، رسالة برُكّلس مرسلة إلى البطريرك ساهاك وإلى القديس ماشدوتس، بينما في النص اليوناني فهي موجّهة إلى أساقفة وشيوخ أرمينيا، حيث ورد في عنوان عنوان الرسالة "إلى أساقفة وشيوخ أرمينيا" وليس "إلى مسروب وساهاك".

•             في النص اليونانيّ لا يذكر برُكّلس اسم تيودورس، على عكس النص الأرمنيّ الذي يحتوي على مقطع بكامله يحتوي على الفكر النسطوريّ والتيودوريّ المنحرف. لكن من الأسلوب المُستخدم في هذه الرسالة يبيّن لنا أن المترجم قد أضاف فيما بعد هذا المقطع.

•             يذكر في النص اليوناني: «أنهم قد كتبوا رسالة لحضرتكم جواباً لرسالتكم، التي أرسلتموها لنا». فالمترجم يغير بعض الكلمات ويترجم: «إن كل هذا كُتب لحضرتكم، لأنكم سمعتم». بالتالي من الواضح أن المترجم بدون شك هو من أحد سعاة البريد. فقام بصياغة هذه الرسالة الموجهة إلى برُكّلس من قبل أساقفة أرمينيا. مما دعاه إلى تغيير بعض المقاطع، ليبعد الشبهات عن عمله الخاطئ الذي قام به. ومن الناحية الثانية لم يستسيغ جواب برُكّلس، فقام بإضافة اسم تيودورس ونسطوريوس. وأخيراً بدلاً من أن تكون هذه الرسالة موجهة إلى أساقفة وشيوخ أرمينيا، وجهها المترجم إلى مسروب وساهاك.

من هنا نستنتج بأن الجيل القديم لم يعارض حركة المُصيصي الجديدة. على عكس الجيل الجديد المؤلف من تلامذة ماشدوتس، حيث أنهم كانوا يتجولون في القسطنطينية وملاطيا والرها ويسمعون أقوال تعاكس الحركة المُصيصية، مما أدى إلى اقتناعهم بالحركة الكيرلسيّة. من هنا نستطيع أن نفهم هذا التحول الذي طرأ على الشعب الأرمنيّ والذي ساهم في تقوية التيار الكيرلسيّ في الكنيسة الأرمنية، هؤلاء الذين عارضوا القائلين بطبيعتي المسيح.كما إن تلاميذ ميسروب ماشدوتس هم الذين جلبوا قرارات مجمعي نيقيا وأفسس إلى أرمينيا وقام الأساقفة الأرمن بالتوقيع عليها .

(6)

3ـ2. مشاركة الأرمن في المجمع الخلقيدونيّ

 في ذلك العهد، كانت أرمينيا منقسمة إلى قسمين: الأول تحت تأثير السيطرة البيزنطية، وكان السلام عاماً فيها، أما الثاني فكان تحت السيطرة الفارسية – الساسانية. وحين انعقاد مجمع خلقيدونيا سنة 451، كان الأرمن يخوضون حرباً ضد الفرس، دفاعاً عن إيمانهم المسيحيّ، كما ذكرت سابقاً. حيث أنهم لم ينسحبوا من هذه المعركة، بل ضحوا بحياتهم من خلالها دفاعاً عن إيمانهم. كانت هذه السيطرة شديدة لدرجة أن الكاثوليكوس هوفسيب، خليفة الكاثوليكوس ساهاك، لم يستطع الذهاب إلى القسطنطينية من أجل ترقيته إلى درجة الأسقفية، فبقي من دونها .

يعتبر بعض الباحثين أنه بعد انتهاء حرب "أفاراير" أُسر بعض الأساقفة الأرمن في بلاد فارس وسيقوا منها إلى اليونان واشتركوا في مجمع خلقيدونيا. إلا أن هذا الرأي لم يلق الصدى الكبير لدى بقية الباحثين . وخاصة أن هذه المشاركة لا تعني أن الأرمن كانوا يقبلون بهذا المجمع مجمعاً مسكونيّاً. لأنه بعد هذا المجمع على الفور أصبح هناك صراع بين تيار خلقيدونيّ وآخر غير خلقيدونيّ، وليس فقط في أرمينيا بل في سوريا، ومصر، وأثيوبيا وحتى داخل حدود القسطنطينية. وخاصة أن أتباع أوطيخا وديوسقورس اتحدوا مع أتباع كيرلس، وتصارعوا مع أصحاب الطبيعتين ومع أصحاب المذهب النسطوريّ. وهذان الأخيران يعتبران بأنهما "انتصرا في مجمع خلقيدونيا". لكن في نفس الوقت أتت رسالة البابا لاون  إلى فلابيانوس المُصاغة عقائديّاً وبأسلوب دقيق لتحل كل المشاكل دون التحزب لأي تيار لاهوتيّ. «لو كان القديس كيرلس على قيد الحياة، كان سيركع أمام هذا الفكر اللامع، وسيفرح بالقرار المُتخذ في المجمع الخلقيدونيّ، عندما صرخ الأساقفة بصوت واحد: "هذا هو إيماننا، فقد تكلم القديس بطرس بفم البابا لاون"» .

من الذين كانو قد أسروا خلال الحرب كان الكاثوليكوس يوسف ، والأسقف يريزا "بابا الأرمن"  والأسقف ماناسي  وبعض الأساقفة الآخرين الذي كانوا ينتمون إلى القسم المضطرب. وهؤلاء بالتأكيد لم يستطيعوا أن يشاركوا في المجمع بالرغم من تلقيهم دعوة، هذه الدعوة التي تدل على طيبة العلاقات الأرمنية البيزنطية، التي بدأت منذ أيام مسروب والكاثوليكوس ساهاك، والتي تتابعت من خلال الامبراطور مرقيانوس رئيس المجمع. فبالتالي إن غياب هؤلاء الثلاثة، وخاصة أن الكنيسة كانت تحت تصرفهم، يؤكد أن رئاسة الكنيسة الأرمنية لم تشارك في المجمع. 

ولا بدّ من التذكير بأنه لم يكن لدى الأرمن مدرسة لاهوتيّة مستقلة، بل كانوا متأثرين بالمدارس اللاهوتية المحيطة بهم، فقد كان الأرمن يأخذون من كل مدرسة الشيء الذي يتوافق مع الإيمان الذي يمثل إيمان الكنيسة الجامعة ويعملون على "أرمنة" هذا الفكر اللاهوتي. وهذا دليل على خضوع هذه الكنيسة بشكل كامل للإيمان المسيحيّ في ذلك الوقت، لكنها كانت ضحية العديد من التيارات الفكريّة الهرطوقيّة. وبسبب العلاقة الشديدة بين الأرمن والسريان . استفاد السريان من غياب الأرمن عن المجمع بسبب الحرب مع الفرس وقاموا بكسبهم إلى جانبهم.

لكن هل تعتبر الكنيسة الأرمنية المجمع الخلقيدوني مجمع مسكونياً؟

«لقد اعترف اليونان واللاتين في القرون اللاحقة بمجمع خلقدونيا على أنه مجمع مسكونيّ. بينما الكنيسة الأرمنية لم تساوم ولم تعترف بهذا المجمع على أنه مسكونيّ، بل لم تقبل تعاليمه، وبقيت أمينة لقرارها الأول، وقد وضعت قانون أن كل ما يُضاف إلى عقيدة التجسد هو مرفوض» .

كانت هذه إحدى وجهات النظر التي لا تعترف بمسكونيّة المجمع، وقد وضعها الأب أورمانيان، حيث أنه يعتقد بأن الحجة الرئيسية التي يمكن الاعتماد عليها لبرهان مسكونية أية مجمع هي عدد الأساقفة المشاركين فيه وليس الحكم الصادر عليه من قبل الكنائس ، فبالتالي إن غياب الأرمن وبعض الكنائس عن هذا المجمع يعدّ نقصاً بالغاً حتى ولو حضر المجمع ممثلي 56 إقليم. كما أن مجمع خلقيدونيا لم يُضف شيئاً على عقيدة التجسد ولم يسئ لقرارات المجامع السابقة بل شرح ماهية هذا التجسد. لكن هناك رأي آخر مناقض لهذا الفكر يعترف بمسكونيّة المجمع ويُثبت ذلك كما يلي: إن عدم الاعتراف بمسكونيّة المجمع يدل على أنه كان مجمعاً إقليميّاً، يضم جزءاً من ممثلي الكنيسة. لكنه ومن خلال الإطلاع على الرسائل التي أرسلها الإمبراطور مرقيانوس وزوجته بلخيريا، نجد أنهما كانا يتطلعان إلى عقد مجمع مسكونيّ، لهذا السبب أرسلا دعوة إلى جميع أقاليم المسيحية وحتى إلى البابا لاون من أجل حضوره. وهذا دليل قاطع على مشاركة الكنيسة جمعاء فيه. ولهذا فإنه من الطبيعي أن ينتقد بعض الرهبان هذا المجمع ويعتبروه غير مسكونيّ. ومن الطبيعيّ أيضاً  أن تستمر بدعتهم، لكن كل هذا لا يلغي قوة وطابع المجمع . لكن هذا ليس بدليل كاف لإثبات قبول مسكونية هذا المجمع، فهل تكفي رسالة يُعتقد بأنها وُجهت لكنيسة لكي تعتبر قبولها به أو عدمه؟ فبالتالي تبقى هذه الحجة أيضاً ضعيفة. لكن في حوالي منتصف القرن السابق، ظهر باحث أرمني، درس هذه الأحداث وحللها بطريقة منهجية عقلية ، كما يلي:

•             من خلال الأحداث التي سبقت عقد هذا المجمع، تبين أنه مجمع عُقد من أجل إقليم القسطنطينية ومن أجل الطروحات اللاهوتية المعاصرة له، وإذا كان هذا المجمع إقليمي فكيف صدّق على قرارات مجمع نيقيا وجعلها رسمية وأقرّ بمسكونيتها، فبالتالي إن مجمع خلقيدونيا هو مجمع رسمي حدث بمشاركة الرؤساء الروحييّن الرئيسييّن في ذلك الوقت.

•             في ذلك الوقت لم تكن الكنيسة مقسّمة، أي كانت شاملة تضمّ كل من يعترف بالإيمان الأورثوذكسي القويم. وكانت كل كنيسة محلية تعترف مباشرة بقرارات أية مجمع مسكونيّ لأنها كانت في شركة مع الكنيسة الجامعة، ولم تكن بحاجة لعقد مجمع محلي لقبول قرارات المجمع المسكونيّ. فالأرمن لم يعقدوا أية مجامع محلية لقبول قرارات المجامع المسكونية الثلاث التي سبقت خلقيدونيا، بل صدقت عليها مباشرة لأنها صادرة عن إيمان الكنيسة الجامعة حتى منتصف القرن السادس.

يبقى الصراع بين هذان الفكران مستمراً حتى اليوم، بعض الأرمن يقبلون بمسكونية هذا المجمع أما البعض الآخر فيرفضها.

 

(7)

 3ـ 3. المباحثات الخلقيدونيّة في أرمينيا (452-703)

يمكن تقسيم الفترة التي تلت مجمع خلقيدونيا إلى ثلاث حقبات:

الحقبة الأولى (452-502): يمكننا القول بأن معظم الباحثين الأرمن الكاثوليك ، وكذلك الأمر بعض الباحثين الحيادين منهم مثل مالخاصيان ومامانتيان يقبلون بأنه خلال النصف الثاني من القرن الخامس كان القسم الفارسيّ من أرمينيا باتفاق مع القسم البيزنطيّ. وكان معظم البطاركة في تلك الحقبة أمثال البطريرك هوفهان مانتاكوني  يقبلون الفكر الهلينيّ، ويتتلمذون في مدرسته .  لكن هناك علماء آخرون يؤكدون لا خلقيدونيّة  هذا البطريرك، وذلك استناداً إلى أسقفه المساعد يوحنا .

كما ذكرت سابقاً، فإن حرب "أفاراير" تزامنت مع مجمع خلقيدونيا، وبعد هذه الحرب كان البطريرك هوفهان منشغلاً بوضع شعبه السياسيّ والاقتصاديّ، وبحل النزاعات مع البلدان المحيطة، ولذلك لم يكن لديه الوقت الكافي للاهتمام بالمجمع أو بقراراته العقائديّة، بل كان عليه تأمين نوع من الهدوء الدبلوماسي بينه وبين الفرس، أي الحفاظ على الأرض والهوية الأرمنية. ولهذا فإنه حافظ على الإيمان القويم الذي استلمه من خلفائه ولم يعطي رأيه بشكل نهائي بهذا الخلاف، وخاصّة بأنه لم يكن لدى الأكثرية من أساقفة أرمينيا علم بانعقاد هذا المجمع .

الحقبة الثانية (505-550): خلف البطريرك هوفهان البطريرك بابكين الأول فتمسيتسي (502-508)  ، الذي في عهده عُقد مجمع تفين  بمشاركة الأفغان . كما أنه سعى إلى عدم قبول الكنيسة الأرمنيّة للفكر اللاخلقيدونيّ. فالكاثوليكوس أبراهام (607-611)  يذكر بأن بابكين رشق المجمع الخلقيدوني بالهرطقة ورفض رسالة البابا لاون. وإن هذه الرسالة فُقدت لفترة من الزمن، ووُجدت بالترجمة اليونانيّة، فأُعيدت ترجمتها إلى اللغة الأرمنيّة ولكن مع الكثير من الأخطاء.

من المؤكد أن بابكين قد كتب رسالتين على طلب سيمون بت ارشاماتسي السريانيّ ، لأن هذا الأخير كان يريد من بابكين أن يرسل رسالة راعوية إلى بلاد الفرس ضد البدعة النسطوريّة، ذلك لأن اتباع هذه البدعة اشتد شأنهم بعد تعليم المجمع الخلقيدونيّ . فالرسالة الأولى التي أُرسلت إلى الأساقفة لا تحتوي على أي شيء ضد هذا المجمع، وخاصة عندما يعترف الجميع بأن: «هذا هو إيماننا: إيمان روما والأرمن  والأفغان». أما سيمون فلم يكن راضياً عن الرسالة المُرسلة، فأتى ومعه مرسوم الإمبراطور زينون سنة 482. ففي هذه الرسالة يقبل الإمبراطور المجامع الثلاثة الأولى، لكنه لا يرشق المجمع الرابع بالهرطقة. لاقت هذه الرسالة قبولاً كبيراً من قِبل الرهبان الشرقييّن. رأى بابكين أنه من الضروري أن يحدد موقفه، وخاصة أنه من جهة، كانت النسطوريّة تستغل المجمع الخلقيدونيّ لمصالحتها الشخصيّة، وهذا ما كان يقلق أتباع كيرلس، حيث أنهم بدلاً من أن يدافعوا عن صحة العقيدة الخلقيدونيّة، أصبحوا يكرهونها ويهاجموها. أما من الجهة الثانية مع أن البابا فيلِكس الثالث رفض رسالة الإمبراطور زينون ، قبل اليونان، حيث كانوا يضعون التعليم الخلقيدونيّ في موضع الشك. من هنا ففي الجو المعاكس للتيار الخلقيدونيّ قرر بابكين أن يتبّنى موقف اليونان بقبوله الرسالة، من أجل أن يتخلص من ضغطهم، وخاصة أن أرمينيا لم تلتقط أنفاسها بعد الحروب التي خاضتها. وهكذا لا يمكننا الحديث عن رفض المجمع الخلقيدوني في الرسالة السابقة، لأن الخطأ هو ترجمة النص الأصلي من اللغة اليونانية .

أما بما يتعلق باتباع بابكين ففي سنة 519 عقد القيصر يوستينوس وبطريرك القسطنطينية يوحنا الصلح مع روما وذلك بقبول المجمع الخلقيدوني. ومن المحتمل أن الأرمن في ذلك الزمان لم يكونوا ضد التيار الخلقيدوني . فلو حصل هذا الانشقاق في النصف الأول من القرن السادس، فإن الإمبراطوران يوستيانوس ويوستينوس الأول كانا سيبذلان كل جهدهم من أجل أن يضموا الأرمن تحت لواء امبراطوريتهم. لكن التاريخ لم يسجل مثل هذا الحدث .

الحقبة الثالثة (552-611): في عهد نرسيس أشداراكيتسي الثاني  حدث الانفصال والرفض بشكل رسمي لمجمع خلقيدونيّا، خلال مجمع تفين الثاني المُنعقد في عام (554). لكن يرى بعض الباحيثين  أن المجمعين تفين الأول والثاني ملخصان تحت اسم مجمع تفين الثاني. الأول (551) من أجل رسامة ابتيشو السرياني. والثاني (554-555) مختص بالبدعة النسطوريّة، حيث وُقعت وثيقة "ميثاق الجمعية"، التي لا تأتي على ذكر المجمع الخلقيدونيّ .

في بدايات القرن السادس حدثت تفرعات كثيرة ومتناقضة. فالصراع كان قائماً بين البطريرك صفرونيوس الأنطاكيّ والأسقف يوليانوس. لكن بعد وفاة يوليانوس، نقص عدد اتباعه في المنطقة، فاضطروا إلى إرسال وفد إلى كاثوليكوس الأرمن نرسيس ، طالبين منه أن يرقّي ابيتيشو إلى الدرجة الأسقفية. فنجحوا في الحصول على مساندة بعض الأساقفة والأمراء الأرمن لهم. فطلب ابيتيشو من الأساقفة عند رسامته أن يرفض المجمع الخلقيدوني وكتاب لاون. بالتالي ولأول مرة في رتبة طقسية أرمنية وجهاراً يُرفض المجمع الخلقيدوني. بعد عشرين سنة يكتب يوحنا الأورشليمي للأسقف أباس الفارسي، محذراً إياه من بدعة الأرمن اتباع يوليانوس: "لقد خُدع الأرمن من قِبل السريان على يد ابيتشيو" .

فالخدعة الكبيرة تتوقف في خداع السريان للأرمن على أنهم ينتمون إلى العقيدة عينها، باعتبار النسطوريّة عدوة الكل، والمجمع الخلقيدونيّ هو مساوٍ للنسطورية ويحمي هرطقتها. وهكذا فإن حرم نسطوريوس لابد له أن يؤدي بنا إلى حرم مجمع خلقيدونية. أما بحسب أرسين الفارسيّ إن هدايا البلاط الفارسيّ، قد لعبت دوراً مهماً في نجاح التعاقد بين السريان والأرمن. وهذه الفرضية يمكن أن تكون صحيحة، لأن الملك الفارسيّ كان يريد أن يحقق هدفه الذي لم يستطع تحقيقه سابقاً ألا وهو فصل الأرمن عن اليونان الذين كانت تجمعهم وحدة الإيمان. من هنا فقد لعب السريان دور الوسيط للفصل بينهما .

كان معظم الأرمن مناصرين للتيار الخلقيدونيّ، ومتصلين مع اليونان. لهذا السبب قبلوا المجمع القسطنطينية الثاني (الخامس) الذي لحق بمجمع خلقيدونيا على أنه مجمعاً مسكونياً، حيث قُرأت رسالة أسقف أرمينيا ساهاك الأخيرة الموجهة إلى برُكّلس أمام أعضاء المجمع كلهم. أما البطريرك اللاحق يوحنا بابيغيان (558-574)  فعقد المعاهدة عينها مع اليونان. بينما البطريرك (موفسيس) موسى يغيفارتتسي (573- 604)  الذي لحق ببابيغيان يرفض دعوة القيصر موريك للأتحاد بقوله التاريخي الشهير:" لا أعبر نهر أزاد (أراكس)، ولا أريد خبز خمير، ولا أشرب الخمر المُسخن. مُلمحاً إلى القرابين المستعملة لدى البيزنطيين" .

في هذه الفترة ظهر فريقان، فريق خلقيدوني ممثلاً باليونان، وفريق لا خلقيدوني ممثلاً بالفرس. فتسلم أبراهام الذي لحق بموفسيس الكاثوليكوسية لمدة ثلاث سنوات، وهذا هو أكبر إثبات للقول بأن التيار الخلقيدوني الأرمني قد قوّي في بلاد فارس. لكن سرعان ماتحول أبراهام كاثوليكوس وأصبح إيمانه ضدّ التيار الخلقيدوني. من هنا أصبح لدينا انقسامان: أولهم كان انقسام الكنيسة الفارسية، حيث أنها لم تكن مبتعدة عن التعليم الخلقيدوني بشكل رسمي، وأكبر إثبات على ذلك هو قبول رسالة الإمبراطور زينون. فكوريون أسقفها الذي رسم على يد موفسيس كاثوليكوس الأرمن، تجرأ وانفصل عنهم، فلحق باليونانين المناصرين للمجمع الخلقيدوني. أما الانقسام الثاني هو انقسام الكرسي البطريركي الكاثوليكوسي إلى كرسيين. حيث أن رؤية القيصر موريك بأن أساقفة الأرمن اليونانيين هم خلقيدونيين، أدى إلى اعتبارهم خارج صلاحية الكاثوليكوسية الأرمنية، وقام برسم يوحنا باكاراناتسي  كاثوليكوساً جديداً على أرمينيا .

لكن لحسن الحظ، فإن هذا الانقسام على صعيد الكاثوليكوسية لم يدم طويلاً، لأن الكاثوليكوس كوميداس (611)  الذي جاء بعد الكاثوليكوس أبراهام وحّد كل رعايا أرمينيا الكبرى . ففي هذه الأعوام قام القيصر هراقل الذي تعود جذوره لأصل أرمني، بغزوات حتى وصل إلى ديزبون عاصمة بلاد فارس. فبالتالي حققّ النصر السياسي للتيار الخلقيدونيّ. أما في عهد الكاثوليكوس يزر  وبأمر الامبراطور عُقد مجمع كارين (633)  حيث أقتنع وقَبِل الأرمن بعد دراسة طويلة وتمحيص دقيق بأن المجمع الخلقيدوني خالي من البدعة النسطورية .

تبع تعليم يزر الخلقيدوني البطريرك نرسيس الثالث الملقب بالباني (شينوغ) (641-661) . لكن لم تنقص الضغوط السياسية من قبل اليونان، الذين أرادوا أن يجعلوا من الأرمن تابعين لهم. بينما كان نرسيس في المنفى لمدة ستة سنوات، سأم الأساقفة الأرمن القهر اليوناني، فقاموا بعقد مجمع منزكرت ضد مجمع خلقيدونيا، وكتاب لاوون ومجمع كارين .

بعد هذه الفترة الزمنية بقيت الكنيسة الأرمنية في مهب التيارين المتصارعين، تارة تسلم التيار الخلقيدوني الكرسي البطريركي، وتارة أخرى تسلمه التيار اللاخلقيدوني. وإضافةً على ذلك كانت سياسية القياصرة اليونان تسيء العلاقة بين الأرمن واليونان.

اليوم، يعتقد بعض الباحثين المعاصرين الذين ينتقدون أسباب الانشقاق على القيم و المعايير العلمية الحديثة أنه لم يرفض الأرمن تعاليم خلقيدونيا لأنهم خُدعوا من السريان، أو لأنهم لم يفهوا تعاليم المجمع،  لاختلاف الألفاظ بين المدرستين الإسكندرية والإنطاكية، ولا من أجل أسباب سياسية. إنما موقفهم هو قبل كل شيء ديني ولاهوتي بحت. فالسبب اللاهوتي الذي دعى الأرمن للانفصال هو أنهم رأوا في المجمع الخلقيدوني عودة النسطورية.

لكن المشكلة اللاهوتية المطروحة هنا هي أن أيّ من الفكرين اللاهوتيين أصح؟ فالكتّاب الكاثوليك يؤيدون الفكر اللاهوتي الخلقيدوني، ويسعون ليعرضوا توجهات الكنيسة الأرمنية في القرنين الخامس والسادس، على أنها كانت تقبل بتعاليم المجمع الرابع، ويعتبرون أن الأسباب التي رفضها الفريق الآخر هي التي خلقت تيار لا خلقيدوني. أما الكتّاب المؤيدين للفكر الأرمني ينطلقون من مقولة كيرلس على أنها نقطة الانطلاق. فقد كانوا يبذلون جهوداً حثيثة لزرع الميل اللاخلقيدوني في قلوب البطاركة المعتلين الكرسي البطريركي، أما إذ لم يستطيعوا إقناعهم كانوا ينسبون ذلك إلى الضغوطات السياسية المتأتية من اليونان.  لكن هذه النقطة تحتمل الخطأ لأن المجمع الخلقيدوني لم يحرم كيرلس، بل على العكس اعترف به كأب من أباء الكنيسة، بشرح مقولته الشهيرة وتعليمه القويم. لكن من المحتمل أن تكون ترجمة رسالة البابا لاون غير صادقة. فنقرأ في مقطع من رسالة البابا بأن «كل طبيعة في شخص المسيح تعمل بما هي مختصة به. فالكلمة تعمل بما لها، والطبيعة البشرية بما لها. واحدة تصنع العجائب، والأخرى تتحمل العذاب» . في النص الأرمني ترجمت كلمتا "الواحدة، والأخرى" بـ "أي إنسان، وأي إنسان".  وكلمة إنسان تدل على الشخص وليس على الطبيعة. فمن الأفضل لو ترجمت بـ"هذه وتلك".

بالنسبة إلى الأسباب الأخرى لا يمكننا غضّ النظر عن المشاكل السياسية، التي لعبت دوراً فاعلاً في الكنائس قديماً، وكما اليوم في بعض الدول. إضافة إلى الطروحات العقائدية واللاهوتية لم تنقص في حياة الكنيسة السابقة، حيث أنها أصبحت عناصر التعليم العقائدي الكنسي القويم. لكن للأسف فإن هذه العناصر الدينية أيضاً أصبحت منابع للتخاصم أدت إلى الانشقاق.

 

(8)

3ـ4. انشقاق الكنيسة الأرمنية عن الكنيسة الجامعة

درس الكثير من الباحثين والعلماء الأرمن أسباب انشقاق الكنيسة الأرمنية وتعمقوا فيها. فتوصل البعض منهم إلى أن أسباب الانفصال هي دينية، والبعض الآخر نسبها إلى أسباب سياسية.

فمن الباحثين القائلين بالأسباب السياسية كان الأب أورمانيان الأرمني في كتابه " الكنيسة الأرمنية" حيث يقول: «إن المشكلة المطروحة والمُعالجة في المجمع الخلقيدوني، ليست هي المشكلة اللاهوتية العقائدية عن شخص المسيح، إنما المشكلة هي الصراع بين البطريركيات الثلاث: إنطاكية، الإسكندرية وروما على من سيمثل فيها السلطة العليا التي تسيطر على الأخرى» . واليوم بعض من اللاهوتيين ورجال الدين ينحون في هذا المنحى. فيقول غريلميير أن أسباب الانشقاق هي العداوة بين كبادوكيا – إنطاكية، وكيرلس – الإسكندرية. وينتهي أورمانيان ليقول أنه العامل السياسي " أخيرا وليس آخراً ، ما كانت التكتلات السياسية إلا عاملاً حاسماً في تاريخ المجمع الخلقيدوني . وأنه ما من أحد يستطيع الإنكار بأن السياسة كانت مهيمنة على تاريخ علم اللاهوت بشكل لم يعد فيه – أي علم لاهوت – ملتزما بقوانينه الخاصة .

أما الطرف الآخر فيقول إن الأسباب هي أسباب دينية وهذا ما يؤكد عليه المطران كوكيان في كتابه "الكنيسة الأرمنية" من خلال جوابه على كتاب أورمانيان. فالسبب الرئيسي هو الخلاف حول شخص المسيح. وهذا ما نلاحظه في قول دي فريز:«لا بد لنا من الإقرار، كحقيقة واقعة، بأن المجمع الخلقيدونيّ لم يرتفع إلى مستوى الأهداف التي توقعوها منه : فهو لم يقتصر على تسجيل فشل ذريع في تحقيق المصالحة العامّة بين الكنائس عامة فحسب ، بل تسبب أيضا في إحداث انشقاق جديد استمر، لسوء الحظ حتى يومنا هذا. وأنها لحقيقة مؤلمة أن المحاولات التي من شأنها أن تعبّر عن السرّ الذي لا يدرك للمسيح بعبارات بشرّية، أدت إلى صراع مسيحيّ – مسيحيّ. ومع ذلك، فقد كان الجميع يتوخون الهدف ذاته: أن يشهد المجمع بأن هناك مسيحا واحدا الذي هو إله حق وإنسان حق في الوقت نفسه . لقد نشأ النزاع في العجز الإنسانيّ الأساسيّ في ذلك الوقت ، عن تصور بأنه يمكن التعبير عن الحقيقة نفسها وبكلمات مختلفة تبدو أكثر تناقضاً في ظاهرها» .

ولا بد لنا من التذكير بالدور الذي لعبه الفرس على يدّ السريان من أجل قطع علاقة الأرمن بالبيزنطيين الروم، وخاصة أن هؤلاء كانت علاقة قوية ومرتبطة على كافة الأصعدة، وبالأخص على الصعيد العقائدي. فقد لعب أبتيشو أسقف السريان دوراً كبيراً كما ذكرت سابقاً. فأثر هذا على بعض الأساقفة الأرمن. فقام بتقديم ذاته كعدو للنسطورية، وأقنعهم بأن مجمع خلقيدونيا مساوٍ لهذا التعليم النسطوري. فبالتالي حين قاوم الأرمن النسطورية فسيقاوم أيضاً مجمع خلقيدونيا. فقام الأساقفة الأرمن بسيامته أسقفاً مع زملاء له ثلاث. كما أن الهدايا الفارسية لعبت على الوتر الحساس وأجبرت ملك الأرمن على تغيير خطته الاستراتجية والدينية العقائدية.

نستخلص من كل هذا أن أسباب الانفصال تعود لاختلاف التعابير اللاهوتيّة المُتداولة لدى كل من المدرستين الإنطاكيّة والإسكندريّة. وتعود أيضاً إلى رفض الإمبراطور البيزنطي مساندة الأرمن في حربهم ضد الفرس، عندما طلبوا منه النجدة. وبقي هذا الحدث مطبوعاً في عمق ذاكرة الأرمن الذين استبسلوا في الدفاع عن أرضهم وإيمانهم المسيحيّ بقيادة الشهيد فارطان ماميكونيان.

(9)

 

 

3ـ 5. بعض المحاولات التوحيديّة المعاصرة لمجمع خلقيدونيا

 

ـ المحاولة الأولى: كما ذكرت سابقاً فإن الكاثوليكوس نرسيس شينوغ أي الباني هو من أطلق الحرم على مجمع خلقيدونيا، لكن الكنيسة والشعب الأرمني لم يتحولا إلى لا خلقيدونييّن بين ليلة وضحاها. حيث أنه بقيت بعض الأقاليم في أرمينيا تعترف بالمجمع الخلقيدونيّ. كان يرأسهم الأسقف بطرس (549-558) وخلفه بعد ذلك الأسقفان كريكور (559-562)  وفرتانيس (562-684) . وإن هذا الأخير رفض أن ينال سيامته من أساقفة أرمن لا خلقيدونييّن، فطلب من بعض الأساقفة الأفغان منهم الكاثوليكوس أباس (551-595)  سيامته، وثبت علاقاته مع كرسي أورشليم، فكتب أسقف كرسي أورشليم بعض الرسائل التي تحتوي على بعض الأفكار بالنسبة إلى الذبيحة الإلهية وممارسة الأسرار .

وقد حاول الأساقفة الذي لحقوا الكاثوليكوس نرسيس الباني أن يُعيدوا الخلقيدونييّن إلى التيار اللاخلقيدونيّ وبالأخص الكاثوليكوس يوحنا الثاني كابيغيان ، وبدأ يتحجج بأن هذا التيار هو تيار غريب وحديث جداً على الإيمان القويم، وعلى إيمان المجامع القديمة . وحين رأى أنه لم ينتفع شيئاً، بدأ بمهاجمة الأفغان والقسم الشمالي لأرمينيا، فطلب أباس أسقف الأفغان منه أن يعترف بطبيعتي المسيح . وهنا نلاحظ التقارب الشديد بين الاثنين وخاصة عندما كتب الكاثوليكوس يوحنا أيضاً رسالة إلى بطريرك أورشليم، ويجيب هذا الأخير بوضوح تام بأن أفكاره لا تتعارض مع أفكار المجمع. ومن وقتها أدركا سويةً اللعبة التي قام بها "أبتيشو" أسقف السريان . لكن وبسبب بعض المشاكل السياسيّة والعسكريّة التي كان يواجهها الأرمن في صراعهم مع الفرس وبالأخص عام 572، حيث أنهم لم يستطيعوا الصمود أمام هذه الضغوط الكبيرة. فهرب بعض الأساقفة إلى القسطنطينية، حيث عقد فيها اجتماع عام 573 من أجل توحيد الكنيستين، فتواصلوا مع اليونان وقبلوا بالوحدة. فذهب أحد الطرفين إلى الوطن الأم من أجل مواجهة الصراع مع الجيش الفارسي، وبقي الطرف الثاني في القسطنطينية، مع العلم أنه تلقى دعوة إلى مجمع تيفين، الذي ذكرته سابقاً. لكنه توفي في القسطنطينية معترفاً بالإيمان القويم. مع موته ذهبت كل الأحلام بالتوحيد .

ـ المحاولة الثانية: بعد موت الأسقف يوحنا، عاد الكرسي الكاثوليكوسي إلى الأسقف موفسيس يغيفارتيتسي ، واستطاع الطرف الثاني بقيادة الأسقف موشيغ ماميكونيان  أن يهدأ الأحوال قليلاً بمساندة القيصر البيزنطي موريغ. ويعيد هذا الأسقف جزءاً كبيراً من أرمينيا إلى السلطة البيزنطيّة، ولكن تبقى هناك مساحة صغيرة خاضعة للسيطرة الفارسية وضمن هذه الرقعة عُقد مجمع تيفين، هذا المجمع الذي لعب دوراً كبيراً في حسم الخلاف. فطُلب موشيغ من القسطنطينية فلبى الدعوة ولكنه يرفض التعامل مع القيصر وطلب عقد اجتماع آخر لدحض القرارات السابقة متعذراً بعدم الإلمام التام بأعمال خلفه وبالأخص بالقضايا العقائديّة. ويتبيّن من خلال هذا المجمع الذي شارك فيه معظم الأساقفة الأرمن بأنه ليس فقط معادٍ لمجمع خلقيدونيا، بل يكره بشدة السيطرة البيزنطيّة. كان عدد الأساقفة الأرمن المشاركين 21 أسقفاً. هؤلاء اتحدوا مع البيزنطيين وقبلوا الوحدة معهم، إلا أن الأسقف موسى رفض هذه الوحدة وعقد مجمعاً آخر مع أتباعه مؤكداً فيه أن كل من يتواصل مع روما يكون مسانداً للطرف الخلقيدونيّ. أما الطرف الخلقيدونيّ الآخر عقد مجمعاً ثانياً باسم تيوتوروس، شارك فيه بعض الأساقفة البيزنطييّن ونصبوا الأسقف هوفنان باكرانتسي (593-611)  كاثوليكوساً على كرسي أفان . وهكذا انقطعت العلاقات بين الطرفين إلى حين .

قامت بعدة هذه المحاولتان محاولات أخرى، إلا أنها لم تعطي النتيجة المرجاة. فظل هذا الانشقاق داخل الكنيسة إلى يومنا هذا، حيث قام الكاثوليكوس كاريكين الثاني بتوقيع وثيقة مشتركة مع البابا يوحنا بولس الثاني وذلك في روما في 9 تشرين الثاني، سنة 2000.

 

(10)

3ـ 6. أثر خلقيدونيا على الليتورجيّا الأرمنيّة

نشأت الليتورجيّا الحاليّة للكنيسة الأرمنية بدءاً من القرنين الرابع والخامس، فكتاب القداس وكتاب الطقوس أخذ شكلهما النهائي في القرن العاشر. لكن كتابي الصلوات والتراتيل اكتملا وزُينا بأناشيد وألحان وتراتيل جديدة حتى القرن الخامس عشر، وسأتحدث الآن عن القسم الذي يضم المشاكل الخلقيدونيّة فقط. تتلخص العقيدة المسيحانية للكنيسة الأرمنية في إعلان الإيمان الأورثوذكسي "القويم" على النحو التالي: «إننا نؤمن بالله الكلمة اللامخلوق، المولود والصادر عن الآب قبل الأزل، فهو ليس بعده وليس أحدث منه، لكن كما أن الآب هو آب هكذا يكون الابن معه ابناً» . جاء ابن الله، الكلمة الكائن منذ البدء، إلى العالم ليخلص الناس من الشر والخطيئة والموت. فمن مريم العذراء «اتّخذ جسداً ونفساً وعقلاً وكل ما في الإنسان، ما عدا الخطيئة، فصار الإله الكامل إنساناً كاملاً، لا افتراضاً بل حقاً» . «نؤمن بأن الله الابن، أحد الأقانيم الثلاثة، ولد من الآب قبل كل الدهور، وبأنه لما نزل إلى مريم العذراء في الزمن واتخذ دمها وحده بلاهوته. تسعة أشهر بقي صابراً في رحم العذراء الطاهرة، فصار الإله الكامل إنساناً كاملاً بنفس وعقل وجسد. فهو شخص واحد ووجه واحد وطبيعة واحدة متحدة. صار الله بشراً بلا تغيير أو تحول، حبل به بلا زرع وكانت ولادته بلا فساد. كما أن لا بد للاهوته هكذا لا نهاية لناسوته، وكما أن يسوع المسيح كان في الأمس وهو في اليوم فسيبقى هو هو إلى الأبد» .

كما إن أناشيد الكنيسة الأرمنية تُعلن بتكرار صيغة "الوحدة غير الموصوفة"، وتشدد على أن المسيح من خلال الوحدة كان إلهاً كاملاً وفي الوقت عينه إنساناً كاملاً. «إننا نتوسل إليك يا ابن الآب السرمدي الذي وُلدت من العذراء بكونك بالطبيعة الإله والإنسان، المخلوق الأول فارحمنا» . «ظهر خالق السماء والأرض، بكونه إلهاً وإنساناً، في مجاري نهر الأردن، فجسده اتّحد باللاهوت وغسل العالم من الخطايا. فمّجده إلى الأبد» . «إن الكلمة الذي لا بدء له عندما ابتدأ من العذراء ظهر بالجسد في العالم ورآه رسل كلمة الحق وأعلن نفسه للمسكونة إلهٌ وإنسان» .

كما أن الكنيسة الأرمنيّة استخدمت لقرون عديدة نشيداً يدين مجمع خلقيدونيا ورسالة لاون وكان يتلى خلال الاحتفالات الطقسية وخلال أعياد الآباء في الكنيسة. لكنه حذف أثناء محاولات الإصلاح بين الكنيسة الأرمنيّة الكاثوليكيّة والكنيسة الأم ، إلا أنه يوجد بعض الإبسالات في طقوس وضع اليد نأمل أن تحذف في المستقبل من أجل تسهيل العلاقات المسكونية. يقول هذا النشيد: «أيها البرعم الجميل النابت من جديد من جذور الآباء القديسين، يا زهرة الإيمان، وشاهداً عظيماً للمسيح، يا ديوسقوروس القديس، إنك في مخالفتك المجمع غير الشرعي أبسلت لاون وكتابه الكفري» . هكذا كانت الليتورجيا الأرمنية تعبيراً عن عقائد كنيستها أداة سهلة في نشر التعليم الكنسي بين الشعب، وذلك عن طريق التراتيل والصلوات التي كانت تحمل في معظم الأحوال دلالات على التعليم العقائدي داخل الكنيسة.

(11)

 "مجمع خلقيدونيا وأثره على الكنيسة والشعب الأرمنيين"
يعتبر علم اللاهوت كلام ينشئه الإنسان تعبيراً عن مداناته وبحثه في سرّ الله، وإن كلمة سرّ بحد ذاتها هي كلمة غريبة تُربك الباحث وتُغلق باب اليقين أمامه. ومن بين العلوم الإنسانية وحده علم اللاهوت الذي يعوزه موقف ثابت من التسليم والإيمان. هذا ما أثبتته الكنيسة عبر مرّ العصور في تاريخها، وهذا ما سعى علماء اللاهوت القديمين والمعاصرين إثباته من خلال أبحاثهم ودراساتهم. وهذا ما توصلت إليه بعد جهد وعمل حثيثين ساعدوني لأفهم معنى إيماني.
اعتمدنا في رسالتنا على عدد من المصادر والمراجع والمجلات، والتي كان من أهمها، أولاً: المداولات المسكونية غير الرسمية بين لاهوتييّن من الكنائس الأورثوذكسية الشرقية والكنيسة الكاثوليكية الرّومانية، ثانياً: بعض المراجع القيمة باللغة الأرمنية التي تتحدث عن مجمع خلقيدونيا وتتحدث أيضاً عن كيفية مشاركة الأرمن في مجمع خلقيدونيا.
لقد تبين لنا أن الكنيسة الأرمنية لم تشترك رسمياً في هذا المجمع، في حين أنها كانت تواجه حالة مصيرية في صراعها من أجل البقاء، ضد الفرس. تعرضت أيضاً هذه الكنيسة إلى عدة محاولات لإقصائها عن الطريق والإيمان القويم، مما أدى إلى حدوث شرخ كبير بينها وبين الكنائس الأخرى. أثر الفرس على نظام هذه الدولة والكنيسة تأثيراً كبيراً وذلك كله من أجل إيزان معادلة سياسية بينهم وبين البيزنطيين.
لكن لا بدّ لي من أن أقف على مجمع تيفين الذي تعرضت له من خلال دراستي، وقعت أحداث هذا المجمع حوالي 554 – 555، حيث كان قد مرّ حوالي المثة عام على انعقاد مجمع خلقيدونيا.
بدأت الدولة البيزنطية بتغيير سياستها اتجاه الدول الشرقية، وبالأخص اتجاه أرمينيا، وذلك على الأصعدة السياسية والثقافية والدينية والليتورجية. خلال هذا التغيير الدبلوماسي، ونتيجة تقارب الكنيسة السريانية، عن طريف الأسقف ابتيشو، من الكنيسة الأرمنية. بدأت هذه الأخيرة بتكوين علاقة باردة اتجاه المجمع الخلقيدوني منذ عام 481، حيث أنها اعتبرته موازياً للبدعة النسطورية، استمرت هذه العلاقة حتى عام 554 حيث أعلنت الكنيسة الأرمنية رفضها القاطع لقرارات مجمع خلقيدونيا نتيجة لمجمع تيفين.
بعد هذا، بدأ يظهر في أرمينيا بعض البطاركة أو الكاثوليكوسيين أو حتى بعض مطارنة، الذين يقبلون مجمع خلقيدونيا ويعتقدون بقراراته، مثل المطران سينيانتس. إلا أن موقف الكنيسة لم يتغير بالرغم من وجود أمثال هؤلاء الأشخاص الذين دافعوا عن المجمع. وبالتالي تركز إيمان الكنيسة الأرمنية على المجامع الثلاث الأولى التي تحتوي على العقائد الضرورية للإيمان التي تؤدي بالتالي إلى خلاص النفوس، أما باقي المجامع فهي جدالات عقائدية ضخمة وكبيرة جداً ولا تؤدي بالكنيسة إلا إلى الإنشقاق، ولهذا فالكنيسة الأرمنية لا تقبل بباقي المجامع التي لحقت بالمجامع الثلاثة الأولى. ولهذا نستطيع القول بأن الأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية التي تلت هذا المجمع كانت سبباً كافياً للانفصال، لم يكمن السبب في مشاركة الكنيسة في المجمع أوعدم مشاركتها، لكن في وصول هذه القرارات إليها، بطرق مختلفة، ونتيجة لمصالح مختلفة.
الكمال هو لِلَهِ وحدَّه، فرسالتنا هذه ليست سوى محاولة وخطوة أولى، حاولنا فيها قدر استطاعتنا أن نضع ما اكتسبناه على المحكّ لتكون على درجة من الأمانة للبحث العلميّ. فالمطالعات والأبحاث والمقارنات على المستوى المنهجيّ، الفلسفيّ واللاهوتيّ واللغويّ ساهمت كلُّها في دفعنا خطوة إلى الأمام في مسيرة الحياة العلميّة. آملين أن نكون قد بلغنا فيها القصد وأصبنا الهدف، والله ولي التوفيق.