ألمُ الصليِبِ ومجدُ القيامة

 

 

حياةُ المسيحِ من الميلادِ إلى القيامةِ تشمَلُ مضمونَ الصلبِ والموتِ بمفهومِ الفداء ومضمونَ القيامةِ بمفهومِ إعطاءِ الحياةِ الجديدة. فَسِرُّ الصليبِ وسرُّ الخلاص أعلنا قدرةَ المسيحِ على حمل الخطيئةِ والموتِ عنّا ليرفعنا اليه، وما تحتفلُ به الكنيسةُ وتحيي ذكراهُ يومَ الجمعةِ العظيمة لم يكن ابداً رسالةَ حزنٍ بقدرِ ما هو رسالةُ انتصارٍ وفرح لإعطاءِ حياةٍ جديدةٍ وإعادةِ المسرّةِ ومصالحةِ الانسانِ مع الله. وها هي الكنيسةُ اليومَ تحتفلُ بفرحٍ عظيمٍ يعّمُ جميعَ الشعب، فرحٍ لا يُنطَق به ومجيد، فرحٍ بنصرة ربِّنا وإلهِنا ومُخلِّصنا يسوع المسيح النهائيَّةِ على الموت، فرحٍ بقيامته المعطيةِ الحياةِ الجديدة. جاءتِ البشارةُ المُبهجةُ بميلادِه في ملءِ الزمان: اليومَ ولدَ لكم مخلصٌ فيه تحقَّقتْ نبوَّاتُ الأنبياءِ وصَدَقَت مواعيدُ الله. اليومَ جاءتْ الساعة، انتصرَ حملُ اللهِ المذُبوِح وحَمَلَ خطيئةَ العالم، وداسَ الموتَ بموتِهِ واستردَّ الحياةَ الأبديَّةَ للبشريَّةِ وحوّلَ فينا حياةَ الحزنِ والبكاء إلى حياةِ فرحٍ وابتهاج. حياةَ التشاؤمِ والنفور الى حياةِ التفاؤلِ والقبول، حياةَ الظلمةِ الى حياةِ النور ونقلَنا من العبوديّةِ الى الحريّة، حرّيةِ أبناءِ الله وغسلَنا من خطايانا بدمِهِ الثمين؛ فعلينا أن نفرحَ ونتصالح، أن نُعطيَ بعضُنا بعضًا قبلةَ القيامةِ المُقدَّسة، قُبلةَ المُصالحةِ والسلام. هذا هو قلبُ ايمانِنا الذي نعيشهُ ونرنّمُ له ترنيمةَ الفرحِ والانتصار. لقد كسرتْ قوَّةُ القيامةِ قوَّةَ الشرّ وهزمتِ الموتَ وبادتِ الجحيمُ وبدأتْ حياةٌ جديدةٌ خالدة.

الحياةُ المسيحيّةُ كلّها حركةٌ مستمرّةٌ للانتقال من الحياةِ بحسبِ الجسد، إلى الحياةِ بحسبِ الروح وهذا لا يتمّ إلاّ من خلال الصليب.

جذبَنا المسيحُ اليه ورفعَنا من امورِ الارضِ الى أمورِ السماء. الأشياءُ كلُّّها مُنيرةٌ الآن، السماء والأرض وما تحت الأرض.

عبَّر القدِّيس يوحنا ذهبيُّ الفم حسنًا عن هذه النصرةِ في صلاتِه الفصحيَّة فقال:
”اليومَ جاءَ الخلاصُ إلى العالَم، ولا أحدَ يخشى الموتَ بعْدَ الآن فموتُ مُخلِّصِنا أعتقنا من العبوديّةِ وصيّرَنا أحرارًا. المسيحُ قامَ والأشرارُ انطرحوا وهلِكوا. المسيحُ قام والملائكةُ تبتهج. المسيحُ قامَ، والحياةُ قد أُعتِقَتْ وتحرَّرَت“.
لم تكن قيامةُ المسيحِ من الأموات مُجرَّدَ قيامةٍ شخصيَّةٍ له بعد الموت بل أكثر مِن ذلك بكثير؛ ولم تكن مُجرَّدَ إعلانٍ أنَّ هناك حياةً بعد الموت بل أكثرَ مِن ذلك بكثير؛ كانت بدايةَ تاريخِ حياةٍ جديدةٍ للبشريّةِ جمعاء، من دونِ استثناء، أيّ أنَّ اللهَ دخلَ التاريخَ البشري، وهزمَ الشرَّ وقهرَ قوَّتَه. وأشرقَ عصرٌ جديد، وأُعلِن رجاءٌ حيٌّ جديد، وأملٌ جديدٌ لبني آدم. وهذا ما يشهدُ عليه الرجالُ والنساءُ الذين نالوا قوَّةَ القيامةِ الجديدة وتابوا، وانتصروا على الخطايا التي حاصرَتهُم مِن قبل“. ومن بين هؤلاء:
1- التلاميذ: إنتابَهُم الخوفُ والرهبةُ بعدَ احداثِ الصلب
واختبأوا خلفَ الأبوابِ المُغلقة، ولكن بعدَ قيامةِ يسوع، امتلأوا بقوَّةٍ جديدة وحِكمة جديدة، وانطلقوا مُسرعين وصاروا يكرزون باسمِ المسيحِ الربِّ القائم! فتوما عندما لمس أثرَ المسامير، صرخَ: «ربِّي وإلهي!» (يو20: 28) وبطرس الذي أنكرَ يسوع، انطلَقَ بشجاعةٍ لا مثيل لها للكرازةِ بكلمتِه، ثم تركَ شاولُ بولس، أعظمُ مُضطهِدٍ للكنيسةِ، كلَّ شيءٍ وصارَ كارزَ الأُمم بعد أن تقابَل مع يسوع القائم على طريق دمشق. هذا ما تُحْدِثُهُ القيامةُ في حياتِنا اليوميَّة من الآن وتستمرُّ الى الأبد. كثيرٌ مِن الناسِ يَرَوْنَ أنَّ لا معنى للحياةِ ولا طَعمَ لها، هؤلاء يعيشونَ كما لو كانوا موتى ومدفونين. هؤلاء هم موتى الأرواحِ والأذهانِ والآمال، وما يحتاجون إليه حقًّا هو أن يقوموا إلى حياةٍ جديدة.

ونحنُ، عندما نحتفلُ بعيد القيامة، لا نحتفِلُ به كحدثٍ مضى وانتهى، بل كحدثٍ مُعاصِر واختبارٍ مستمرٍّ كلَّ يوم. اليومَ يسوع يُقيمُنا، ويُعطينا طعمًا جديدًا للحياة، وغَلَبَةً جديدةً على الخطيئة. اليوم، يعطينا رُؤيةً جديدةً وفرحةً جديدةً وسلامًا جديدًا. يشهَدُ لذلك التحوّلُ الجذريّ في حياةِ بولسَ الرسول.

كان زكّا العشَّارُ لِصًّا طمَّاعًا أنانيًّا مُتواطِئًا مع الأعداء، وتحوَّل إلى رجُلٍ سخيٍ يُقدِّمُ الإحسان.

وتحوّلت مريمُ المجدليَّةُ مِن خاطئةٍ إلى قدِّيسة.

كذلك، دخلَ لصُّ اليمينِ الفردوس.

ونحن، عندما نعيشُ القيامة، تتحوَّلُ حياتُنا مِن اليأسِ إلى الرجاء ومِن الحُزنِ إلى الفرح ومِن الموتِ إلى الحياة.  كما قال القدِّيس غريغوريوس النـزينـزي : ”بالأمس صُلبتُ معه واليومَ أتمجَّدُ معه. بالأمس مُتُّ معه واليومَ أحيا معهُ. بالأمسِ دُفِنْتُ معهُ واليومَ أقومُ معه“. نستطيعُ نحنُ اليومَ أن نختبِرَ القيامةَ وبطريقةٍ شخصيَّة لأنّنا عندما ندعو الربَّ يسوعَ ليدخُلَ حياتَنا، يمنحُنا القوَّةَ لأنْ نقومَ مِن قبرِ الخطيئةِ والموت إلى نوعيَّةٍ جديدةٍ مِن الحياة، تدومُ إلى الأبد.

المسيحُ القائمُ من بين الأمواتِ حيّ، يمنحُ الحياة، يُدخِلُنا فى سرِّ حبّهِ الإلهيّ لينتصرَ فينا على الشرّ، ويهبُنا نصيبًا فى الحياةِ الأبديّة. وكما أنّ الموتَ لم يمنعِ المسيحَ من أنْ يقومَ منْ بينِ الأموات، هكذا لا شىءَ قد يحدثُ لنا فى الحياة، يقدرُ أنْ يحولَ دونَ أنْ يعملَ يسوعُ فينا بقوّةِ قيامتِه. عندما نقدّمُ له جراحَنا، من إخفاقٍ وأمراضٍ وأتعاب، وآلامٍ ومضايقاتٍ وأحزان، يضمُّها إلى آلامِهِ ليشركَنا فى صليبِهِ وفى قيامتِه، أيّ في نصرةِ حبّهِ الرحيم. لا يختفي الصليبُ مع القيامة، وإنّما يتحوّلُ إلى علامةِ سلامٍ وحبّ وانتصارٍ ورحمة ونورٍ وحياة لأنّ المرفوعَ عليه لم يقبلِ الآلامَ والموتَ مسمَّرًا ليكونَ ضحيّةً منهزمةً أمامَ الشرِّ والكراهيةِ والعنف، وإنّما ليحرّرَ الإنسانَ منْ تسلُّطِ الخطيئةِ والموتِ وسيادتِهِما. اختارَ أنْ يموتَ بالجسدْ ليجدّدَ بشريَّتَنا ويجعلَها تنفتِحُ على ألوهيّتِه. على الصليب، فرّقَ المسيحُ بين الخطيئةِ والخاطىء، فسحَقَ الخطيئةَ وخلـّصَ الخاطىء. مدَّ المسيحُ يدَهُ لأبناءِ آدمَ جميعًا، ليرفَعَهُم إلى موكِبِ الحياةِ الإلهيّةِ حيثُ النورُ والحبُّ والسلامُ والخير.

 

*********

تدعونا قيامةُ المسيح إلى أنْ نسيرَ فى النور ونؤمنَ بالحياة ونحترمَها ونحميَها وندافعَ عنها. تدعونا القيامة إلى أنْ نقولَ لا للموت ونعم للحياة، لا للشرّ ونعم للخير، لا للكراهية ونعم للحبّ.

العالمُ فى حاجةٍ إلى روحِ الانتصار، ليغلُبَ روحَ التشاؤمِ واليأسِ والاستسلام فى الأسرةِ ومع الأصدقاءِ والزملاء وفي العمل ومَعَ الإخوةِ فى الوطن. الجميعُ فى حاجةٍ إلى قوّةِ التفاؤلِ والانتصار، ليزدادَ السعيُ إلى الخيرِ والعطاء، والبناءِ والتضامنِ والمحبّة. ومسيحُ القيامةِ حاضرٌ معنا ليهَبََ هذه القوّة لكلِّ مَن يطلُبُها ويقبلُها بإيمانٍ وثقةٍ وتواضع.

علينا أن نسعى دائماً إلى تتميمِ واجباتِنا اليوميّةَ والعمليّة، وإنّما علينا أن نقدِّمَ الأولويّةَ دائمًا وفى كلِّ شىءٍ لما هو لله : الحقُّ والعدل، الخيرُ والسلام، احترامُ الحياة، الصدقُ والأمانة، الصفحُ والمغفرة، التضحيةُ وبذلُ الذات. هذا هو طريقُ المسيحِ إلى نصرةِ القيامة. وهو طريقُنا إلى الحياةِ فى المسيح وإلى المجدِ الأبديّ معه.

 

نرفعُ فى هذا العيدِ المجيد، عقولَنا وقلوبَنا وصلواتِنا وابتهالتِنا إلى المسيحِ القائمِ من الموت، ملتمسينَ منه أنْ يملأنا بالحبِّ والرحمة والسلامِ والنور والحياةِ وقوّةِ الروح والرجاءِ والثقة، ساعينَ إلى أن نعيشَ لما هو سماويّ، لننعمَ بفرحِ القيامة … ونتضرّعُ إلى أمِّنا العذراءِ مريم، التى رافقتْ يسوعَ فى مسيرةِ حياتِهِ كلِّها، فشاركتْهُ في أحزانِ الآلام، وعاشتْ أفراحَ القيامة، كي تمنحَنا النعمةَ لنكونَ أُمَناءَ له بأنْ نحيا كأبناءِ القيامة.

 

ونبتهلُ إليهِ تعالى أنْ يباركَ الرئيسَ محمد حسني مبارك والرئيس ميشال سليمان ويعضُـدَ خطواتِهما فى سعيهِما الدائمِ إلى توفيرِ كلِّ ما فيه خيرُ الوطنَيْن مصرَ ولبنان واستقرارِهما، وتآلفِ البلادِ فى منطقتِنا العربيّةِ وتضامنِها وسلامِها، محتملَيْنِ أتعابَ السفرِ والسهر، لإعلاءِ كلمةِ الحقِّ والعدل. ونصلّي من أجلِ الذينَ يحملون أمانةَ المسؤوليةِ جميعِهم. سدّدْ يا اللهُ خطاهُم، على طريقِ الحقّ، واحفظْ بلادَنا سالمةً، آمنةً، مباركة.

 

قام المسيح. حقا قام … وكل عام وأنتم بخير وفرح وسلام.

اعداد الاب                   

انطونيوس مقار ابراهيم      

                   راعي الاقباط الكاثوليك في لبنان     Naim.ibrahim@hotmail.com