حقيقة آلام وموت وقيامة الرب يسوع المسيح

 

المطران يوحنا إبراهيم

1- آلام الرب يسوع المسيح

بعد أن جاهدت الكنيسة الجهاد الحسن خلال الصيام الأربعيني، وصلنا إلى أسبوع الآلام، فعشناه مع بعضنا بعضاً خطوة خطوة، وذكّرتنا القراءات من الكتاب المقدس بمواقف السيد المسيح، وإنبائه بأن الآلام آتية، وابن الإنسان يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ. وَقَالَ الْقَوْلَ عَلاَنِيَةً.

 

وأكّد متّى الإنجيلي ما قاله مرقس، أن يسوع أظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم، وعندما كان يشرح لتلاميذه قول الكتبة بأن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً، بيّن بأن إيليا قد جاء ولم يعرفوه، بل عملوا به كل ما أرادوا، كذلك ابن الإنسان أيضاً سوف يتألّم منهم. وحتى بعد قيامته عندما مشى يسوع الناهض من بين الأموات مع التلميذين وكانا منطلقين إلى عمّاوس، وقد أُمسِكَت أعينهما عن معرفته، وبعد أن شرحا له ما وقع في أورشليم من أحداثٍ ليسوع الناصري الذي بحسب وصفهما: كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب، وقد استغربا كيف أن رؤساء الكهنة وحكّامهم قد أسلموه لقضاء الموت، وصلبوه، كان جواب الرب لهما: أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ. أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهَذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ.

 

ثم تأتي شهادة لوقا البشير وابتدأ يفسّر لهما من موسى ومن جميع الأنبياء الأمور المختصة في جميع الكتب، وكأنه يؤكّد على أن الآلام التي تحمَّلها كانت محتَّمةً، وهذه شهادة صادقة تأتي من الأنبياء بدءاً من موسى، في حقيقة الآلام.

 

وأدّت هذه الآلام إلى أن يجثو يسوع على ركبتيه، ويصلّي في جبل جثسيماني صلاةً، عبّرت عن عمق هذا الألم قائلاً: يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. كان يتحدّث عن مرارة الكأس، أي عن المرحلة التي سبقت الموت، وكان يرسم حدود ذبيحة الصليب بدقةٍ لتبلغَ مواصفاتها كفديةٍ لدى الآب وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ. ورغم أن نفسه نازعته نِزاع الموت مرّاتٍ ومرّات، وقطرات الدمِ النازلةِ على الأرض كانت قمّة آلامِ الفداء، ولكن رغم كلِّ هذا سلّم كل شيءٍ إلى إرادةِ الآب، وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ.

 

مرحلة الألم التي سبقت الصلب والموت لا تقلّ أهمّيةً عن المراحل الأخرى، وقد شرحها لنا معلّمنا بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين، إذ قال: الَّذِي، فِي أَيَّامِ جَسَدِهِ، إِذْ قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طِلْبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَسُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ. مَعَ كَوْنِهِ ابْناً تَعَلَّمَ الطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ. وَإِذْ كُمِّلَ صَارَ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُطِيعُونَهُ سَبَبَ خَلاَصٍ أَبَدِيٍّ. هذه الصرخات التي اقترنت بالدموع، والطلبات، والتضرعات، هي في الحقيقة صرخاتنا ودموعنا، وتوسّلاتنا وطلباتنا وتضرّعاتنا، لأن يسوع المسيح عندما تجسّد أراد أن يحمل كل أوجاعنا وآلامنا، وعندما تألّم تألّم من أجلنا.

 

2- الصلب

لقد تكلّلت الآلام بالصلب والإنجيليون الأربعة: متى ومرقس ولوقا ويوحنا يتحدثون عن صلب يسوع المسيح. الأول يقول: وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا، إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ… إِنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ فَلْيَنْزِلِ الآنَ عَنِ الصَّلِيبِ فَنُؤْمِنَ بِهِ. أمّا الثاني فيكتب: وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا مَاذَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ. وَكَانَتِ السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ فَصَلَبُوهُ… وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. أمّا لوقا البشير فيرسم صورة الصلب بريشة رائعة ويقول لنا، بينما كان اليهود يلجّون بأصوات عظيمة طالبين أن يُصلَب، مضوا به إلى الموضع الذي يدعى الجمجمة، صلبوه هناك مع المذنبين واحداً عن يمينهِ والآخر عن يساره. وأخيراً يتحدّث يوحنا الرّائي عن الموضع الذي يقال له موضع الجمجمة ويُقال له بالعبرانية الجلجثة: حَيْثُ صَلَبُوهُ وَصَلَبُوا اثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مَعَهُ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا وَيَسُوعُ فِي الْوَسْطِ. وَكَتَبَ بِيلاَطُسُ عُنْوَاناً وَوَضَعَهُ عَلَى الصَّلِيبِ.

 

إذاً صفحة الآلام تلاها الصلب الذي شهد له الإنجيليون الأربعة، وكتبوا عنه رغم أن بيلاطس بذل قصارى جهده في سبيل إقناع الجمهور بعدم صلبه، ولكن جمهور اليهود منعوا الوالي عن التحلّي بضميره الطاهر والعمل بموجب إنسانيته، وكرّروا صراخهم: اصلبه، اصلبه، دمه علينا وعلى أولادنا. ولا نستغرب أن يكون وقتئذٍ بين من كان يصرخ مع الجمهور: اصلبه اصلبه، كان أيضاً يصرخ مع الجموع يوم الأحد ليسوع مع أطفال أورشليم: أوشعنا لابن داود. والمسيحيون يؤمنون بأن الرب يسوع فعلاً وحقيقةً هو الذي رُفِعَ على الصليب، كما أنه هو هو الذي تحمّل كل الآلام والإهانات من قِبل رؤساءِ الكهنة. وعملية الصلب كانت عادة فينيقية الأصل أدخلها الإسكندر الكبير إلى بلاد اليهود، لكنّهم لم يمارسوها إلاّ نادراً حتى أنّه يُروى أن هيرودس الكبير مع كل إجراءاته الوحشية أبَى استعمالها، أمّا الرومان فعاقبوا بها المحتقرين فقط كالأجانب والعبيد، أمّا نحن في المسيحية فقد تبعنا قسطنطين الكبير الذي ألغى هذا النوع من العقوبات.

 

3- موت الرب يسوع

وبعد الصلب يأتي الموت، ونحن المسيحيين نردّد في قانون الإيمان النيقاوي: وصار إنساناً، وصُلِبَ عوضاً عنّا في عهد بيلاطس البنطي، تألّم ومات. ويسوع كان يعلم أن كلّ شيء يمكن أن يفكّر به التلاميذ ما عدا أن يموت أمامهم، وهو الذي فتح عيون العميان، وجعل العرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يُبَشَّرُونَ.

 

لهذا نرى يسوع المسيح يُعدِّهم لتلك الساعة أي ساعة الموت، فبعد أن اعترف بطرس الرسول بأن يسوع المسيح هو المسيح ابن الله، قال لهم: أنّ ابن الإنسان بعد أن يتألّم يُقتََل. وهذا كان أوّل إنباءٍ بموته، والمرة الثانية كانت بعد التجلّي، عندما صعد بهم إلى جبلٍ عالٍ، وتغيَّرت هيئته قدّامهم وظهر لهم إيليا مع موسى، وكانا يتكلّمان مع يسوع. وفيما هم نازلون من الجبل أوصاهم ألاّ يحدّثوا أحّداً بما أبصروا إلاّ متى قام ابن الإنسان من الأموات، فحفظوا الكلمة لأنفسهم يتساءلون: ما هو القيام من بين الأموات، ومرة ثالثة أنبأهم يسوع بموته عندما تشاور رؤساء الكهنة والفريسيون في أمر هذا الإنسان الذي يعمل آيات كثيرة وجاءت الفكرة: أنّه خيرٌ لنا أن يموت إنسانٌ واحدٌ عن الشعب، ولا تهلك الأمة كلها. ولم يقل هذا من نفسه بل إذ كان رئيساً للكهنة في تلك السنة تنبّأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة. وفي السياق ذاته أشار يسوع إلى الاثني عشر عندما كان صاعداً إلى أورشليم، بأن كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن ابن الإنسان سيتم، لأنه يُسلَّم إلى الأمم، ويُستهزأ به، ويُشتَم، ويُتفل عليه، ويجلدونه، ويقتلونه.

 

لقد تأكد خصومه أن موته كان حقيقة، فقائد المئة لما رأى يسوع وقد أسلم الروح مجّد الله قائلاً: بِالْحَقِيقَةِ كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ بَارّاً. وجاء دور يوسف الرامي الذي لم يكن موافقاً لرأي اليهود وعملهم، وكان مشيراً ورجلاً صالحاً باراً، فذهب إلى بيلاطس وطلب جسد يسوع لأنه مات، وأنزله ولفّه بكتانٍ نقيٍّ، ووضعه في قبر منحوت جديد كان قد نحته في الصخرة، ثم دحرج حجراً كبيراً على باب القبر ومضى. وقد شهدت نساء كنَّ قد أتين معه من الجليل، ونظرن القبر وكيف وضع الجسد. إن رسل السيد المسيح وجدوا في موته أصعب أمرٍ عليهم، وكانوا يتمنّون أن ينكروا ذلك قائلين: أن سيدهم لم يمت، ثبت موته عندهم لدرجة جعلتهم لا يصدقون قيامته حتى بعد شهادات مكررة لا بل حتى بعدما وقف هو في وسطهم فظنّوه خيالاً، والبرهان الأقوى على موته ودفنه هو أنه في الغد الذي بعد الاستعداد اجتمع رؤساء الكهنة والفريسيون إلى بيلاطس قائلين: يَا سَيِّدُ قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ. إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ لِئَلا يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ فَتَكُونَ الضَّلاَلَةُ الأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الأُولَى. فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ. فَمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِالْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ. فكلّ هذه الأدلة تبيّن بأن المسيح حقاً تألّم ومات ودفن.

   

4- القيامة المظفرة

ويبقى موضوع القيامة أساس إيماننا، وهو المحور لكل الأحداث الإنجيلية التي نذكرها ونقف عندها. إنّ معلمنا بولس الرسول وقف عند القيامة في رسالته الأولى الموجّهة إلى أهل كورنثوس، عندما تحدّث عن الذين يعتمدون من أجل الأموات، فتساءل: إِنْ كَانَ الأَمْوَاتُ لاَ يَقُومُونَ الْبَتَّةَ فَلِمَاذَا يَعْتَمِدُونَ مِنْ أَجْلِ الأَمْوَاتِ. وَلِمَاذَا نُخَاطِرُ نَحْنُ كُلَّ سَاعَةٍ. وأمام هذا التساؤل شرح قيامة الأجساد بعد أن ميّز بين أجسام سماوية وأجسام أرضية، وأن مجد السماويات شيء ومجد الأرضيات آخر. هكذا أيضاً قيامة الأموات يُزرع في فسادٍ ويُقام بعدم فساد. يُزرع في هوانٍ ويُقام في مجدٍ، يُزرع في ضَعفٍ ويُقام في قوة، يزرع جسماً حيوانياً ويُقام جسماً روحانياً، إلى أن يقول: هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا وَلَكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّر. وقد بلغ بولس الرسول إلى ذروة فكره المتألّق في سرّ القيامة عندما طرح سؤالاً نقلاً عن قومٍ بين أهل كورنثوس مفاده أن ليس قيامة أموات، فكانت عبارته الشهيرة: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قِيَامَةُ أَمْوَاتٍ فَلاَ يَكُونُ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ! وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ. وبعد أن شرح لأهل كورنثوس في أن الذي لا يقول بقيامة المسيح يُعَد بين شهود زور لله. أكّد مرّة أخرى: لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَوْتَى لاَ يَقُومُونَ فَلاَ يَكُونُ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ. وزاد على ذلك إذ قال: أَنْتُمْ بَعْدُ فِي خَطَايَاكُمْ، إشارةً إلى أن عدم الإيمان بالقيامة، هو إنكارُ للتجسّد الإلهي. إذاً قيامة السيد المسيح هي المحور، لهذا الكنيسة تردد في قانون الإيمان بأنّ المسيح تألّم ومات ودُفِن وقام في اليوم الثالث.

 

لقد حرص السيد المسيح أن يهيّئ تلاميذه لقيامته من بين الأموات، فعندما كان في نواحي قيصرية فيليبس وسأل تلاميذه، قائلاً: مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ، وبعد أن ردّد الرسل قول الناس بأن قوماً يقولون بأنّه يوحنا المعمدان، أو إيليا، أو إرميا، أو واحد من الأنبياء، أعلن بطرس أنّه المسيح ابن الله الحيّ. يقول الإنجيليون أنّه من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر لتلاميذه أنّه ينبغي أن يذهب لأورشليم وبعد أن يتألّم كثيراً ويُقتل سيقوم في اليوم الثالث. وبعد التجلّي وعندما صار صوتٌ من السحابة قائلاً: هذا ابني الحبيب له اسمعوا مرة أخرى، وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُحَدِّثُوا أَحَداً بِمَا أَبْصَرُوا إلاَّ مَتَى قَامَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ.

 

وإذا عدنا إلى الإنجيل المقدّس لوجدنا يسوع المسيح وهو يقرّب إلى أذهان اليهود مفهوم القيامة من خلال شخصيات كتابية وردت في العهد القديم. فعندما سأله قومٌ من الكتبة والفريسيين قائلين: يَا مُعَلِّمُ نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً، بعد أن وبّخهم بقوله: جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً. ذكّرهم بيونان النبي الذي كان في بطن الحوت ثلاثة أيامٍ وثلاث ليالٍ، هكذا يكون ابنُ الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيامٍ وثلاث ليالٍ. ومرّّة أخرى عندما كان في أقدس مكان بالنسبة لليهود أي في هيكل سليمان، أيضاً طلب اليهود أن يروا آيةً، قال لهم: ﭐنْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ. ربّما للوهلة الأولى لم يفهموا معنى هذا الكلام، أو أرادوا أن يجعلوا أنفسهم في حالةٍِ شكٍّ من أمرِ قيامته، فقال اليهود: فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هَذَا الْهَيْكَلُ أَفَأَنْتَ فِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ. ولا نسمع جواباً على هذا القول، ولكن يوحنا الإنجيلي يبيّن أمرين : أولاً، أنّه لم يتكلّم عن هيكل سليمان، بل كان يقول عن هيكل جسده. وثانياً، أن تلاميذه تذكّروا هذا القول عندما قام من بين الأموات. ولكن رؤساء الكهنة والفريسيين لم ينسوا كلام يسوع المسيح، وكانوا يهدسون به، ويقفون عنده، ويخافون منه، والدليل على ذلك هو أنّه بعد موته بيومٍ واحدٍ، اجتمعوا إلى بيلاطس وقالوا له: يا سيد تذكرنا أن ذلك المضلّ قال وهو حيًّ إنّي بعد ثلاثة أيام أقوم، فلقد شغل موضوع القيامة بال الكثيرين من اليهود ورؤسائهم وقادتهم الدينيين. وكان يسوع المسيح في بشارته العلنية يؤكّد لهم بأن القيامة حقيقة وواقع، لا بدّ أن تأتي لأنّها محور الحياة، ولا يمكن لهذا الإله الذي يعبدونه -إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب- أن يكون إله أموات، بل هو إله أحياء. وعندما قال هذا من جهة قيامة الأموات أكّد أن الصدوقيين يضلون بفكرهم بإنكارهم القيامة لأنّهم لا يعرفون الكتب ولا قوة الله، وفي القيامة يكون الجميع كملائكة الله في السماء.

 

5- موتى يقومون

ولا ننسى في هذا السياق أستعلان قوة المسيح المحيية والمقيمة من الموت، فالإنجيليون مرقس ولوقا ويوحنا يصفون لنا ثلاث معجزاتٍ خارقات لقانون الطبيعة، فمرقس يتحدّث عن إقامة ابنة يائيروس، وهو واحدً من رؤساء المجمع وقد جاء إلى يسوع عندما كان عند البحر، وخرَّ عند قدميه، طالباً إليه قائلاً: ﭐبْنَتِي الصَّغِيرَةُ عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ. لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا. وعندما تأخّر في ذهابه إلى بيت يائيروس، جاء مَن يقول أنّ ابنة يائيروس قد ماتت، فلا حاجة أن يُتعب المعلم، ولكن يسوع أخذ معه تلاميذه بطرس ويوحنا ويعقوب. وذهب إلى بيت رئيس المجمع، ورأى ضجيجاً، الحاضرون يبكون ويولولون كثيراً، فدخل وقال لهم: لِمَاذَا تَضِجُّونَ وَتَبْكُونَ؟ لَمْ تَمُتِ الصَّبِيَّةُ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ، ولكنهم لم يفهموا كلامه، بل ضحكوا عليه، أمّا هو فأخذ أباها وأمّها ودخل حيث كانت الصبية مضطجعةً، وأمسك بيد الصبية وقال لها: طَلِيثَا قُومِي! (ﭐلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا صَبِيَّةُ لَكِ أَقُولُ قُومِي). وَلِلْوَقْتِ قَامَتِ الصَّبِيَّةُ وَمَشَتْ لأَنَّهَا كَانَتِ ابْنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. فَبُهِتُوا بَهَتاً عَظِيماً.

 

وصف لنا الإنجيلي لوقا إقامة ابن أرملة نائين، كان المشهد حزيناً جداً عندما اقترب يسوع إلى باب مدينةِ نايين، وكان معه الكثير من تلاميذه وجمعٌ كبيرٌ، فإذَا مَيْتٌ مَحْمُولٌ ابْنٌ وَحِيدٌ لأُمِّهِ، وَهِيَ أَرْمَلَةٌ وَمَعَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا رَآهَا الرَّبُّ تَحَنَّنَ عَلَيْهَا وَقَالَ لَهَا : لاَ تَبْكِي. فعندئذٍ لَمَسَ النَّعْشَ وتَوَقَّفَ الْحَامِلُونَ. وَقَالَ : أَيُّهَا الشَّابُّ لَكَ أَقُولُ قُمْ. فَجَلَسَ الشاب وَابْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ.

 

أما الحدث الاعجازي الثالث فهو إقامة لعازر من الموت، وكان له أربعة أيامٍ في القبر، فعندما جاء إلى بيت عنيا، جاءت مرتا التي كانت معروفة بأنّها مهتمة ومضطربة بأمورٍ كثيرة إلى يسوع، وقالت له : يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي. لَكِنِّي الآنَ أَيْضاً أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ يُعْطِيكَ اللَّهُ إِيَّاهُ. وعندما قَالَ لَهَا يَسُوعُ: سَيَقُومُ أَخُوكِ. قَالَتْ لَهُ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي الْقِيَامَةِ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. ولكن يسوع كان واضحاً وصريحاً عندما أشار إلى نفسه بقوله: أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا إلى الأبد. وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ. وحقيقةً أقام يسوع المسيح لعازر عندما ناداه بصوتٍ عظيم: لِعَازَرُ هَلُمَّ خَارِجاًّ!

 

إن هذه المعجزات الكبيرة كانت باباً آخر لتوضيح مفهوم القيامة لتلاميذه وللمسيحيين من بعدهم. فعلى هذا الأساس تحيا الكنيسة وتعيّد قيامة ربّنا يسوع المسيح، ولهذا نحن نردّد في تعاليمنا بأن المسيح حقيقةً صُلِب… ومات… ودُفِن… وفي اليوم الثالث قام من بين الأموات. وتفرح الكنيسة عندما تعيّد قيامة الرب يسوع المسيح لأنّها تعتبر القيامة أساساً لإيمانها وكرازتها.

 

ما أجمل أن نختم عظتنا اليوم في حقيقة آلام، وموت، ودفن، وقيامة ربنا يسوع المسيح، بكلمات معبّرة جداً عن هذا السر العظيم، قالها القديس يوحنا الذهبي الفم، في عظة له عن قيامة المخلص: اليوم قام المسيح من بين الأموات لابساً الظفر، اليوم أشرقت للعالم مصابيح الخلود، اليوم أشعة الصليب أنارت الخليقة المظلمة، اليوم تمزّقت شبكة الموت التي نسجتها خطيئة آدم، اليوم توقّف سير الخطيئة وجفّت دموع حواء بواسطة مريم، وانقلب حزن الخليقة فرحاً، اليوم تحطمت القباب العاليات بقوة الصليب، سقط سلطان الثلاّب وتعرى من ملكه عدو البشر، والمسيح من بعد الصليب وهو يملك في السماء خلص الهالكين وحررهم بتدبيره وأعادهم إلى حالة البر الأولى.

عن موقع ابونا