همسات الروح: تأمل في سفر المزامير
أولا: تقديم المزمور:
المزمور التاسع عشر هو مزمور حمد ومديح، يُنشده المرنّم لله خالق الكون الذي أعطى الشريعة لشعبه. فالإله الخالق هو ذاته الإله المخلّص، وكلّ ما تحسبه الشعوب المجاورة آلهة كالشمس وغيرها، إنما هي مخلوقات، تمجّد الخالق وتدعو الإنسان إلى إنشاد الحمد له. يمجد المزمور الرب "يهوه" الذي له علاقة فريدة بشعبه، تحيي كل جانب من جوانب وجودهم وتُضفي عليهم البهاء. ويرى بعض الدارسين إن هذا المزمور يحوي تسبحتين منفصلتين [1-6؛ 7-14]، بينما يؤكد آخرون وحدة المزمور. فهو يظهر إعلان الله عن نفسه لتثقيف أبنائه بثلاثة طرق هي: الخليقة، والكتاب المقدس، والخبرة الحياتية؛ حيث ُتعلن الخليقة عن قدرة الله ومجده، أما كلمته فتعلن حبه وسرّ قداسته الذي يعمل لتقديسنا، ومن خلال خبرتنا اليومية نكتشف العلاقة الشخصية بين الله وكل كائن من الكائنات المخلوقة ، يتحقق ذلك كله من خلال نعمة الدخول معه في علاقة خاصة. يحمل المزمور تفاؤلاً روحياً واتجاهاً مسكونياً قويا فهو يتضمن:
1. تقديراً للكون في كلّيته؛ عالم يغلفه الله بمجده.
2. تتطلب هذه الرؤية الكونية حفظ سرّ الإيمان، لئلا يضيع أو يتلاشى في موكب الحياة. فالمزمور يطبق هذا المجد ويعكسه على حياتنا اليومية من خلال القوانين الطبيعية.
3. يؤكد المزمور على وجود تفاعل وتناغم عميق بين ليتورجية الكون وليتورجية الصلاة البشرية. كأن الطبيعة في شهادتها بعمل الله ليست منفصلة عن عبادة البشر له وتمجيدهم إياه.
4. ليست الخطية هي ثمرة الإرادة الشريرة للفرد البشري وحده، إنها تلقى بظلالها حتى على المثاليات والصلاح في ضمير الإنسان.
هكذا نلاحظ أن الإعداد من [1-6] هي "مزمور الطبيعة"، كالمزمور الثامن، مع تركيز أعظم على إظهار إبداع الله، بالتأمل في جلال الله المعلن في الخليقة بشيء من الرهبة؛ وانعكاس فكر كاتب المزمور الثامن يكمن بالأكثر في التركيز على العلاقة بين الخالق وخليقته.
أما هذا المزمور فقد ركز على إعلان الله في الخليقة؛ فالخليقة كلها في خدمة الله، وواجبها كأداة إعلان، يكمن في أن تتغنى بحمده؛ فالسموات والنهار والليل كلها شهود وُهبت القدرة على الحديث عن الجلال الإلهي وعظمة الخالق؛ فالسيد يُعرف من خلال أعماله.
لا يُذكر اسم "الله" في هذا القسم إلا مرة واحدة. وقد استخدم اسم "إيل أو إلوهيم"، أي القدير أو إله الآلهة، بكونه اسم الله الخالق.
أما القسم التالي للمزمور ( 8- 15) فهو إعلان الوحي الإلهي في الكتاب المقدس، إعلان عن الله الفاعل في حياة البشر. حيث يعلن الله عن ذاته من خلال كلمته الفاعلة في حياة البشر اليومية، ويتغنى المرنّم بشريعة الله الموحاة إلى شعبه والتي تُدير حياة أبناءه وتوجّه قلوبهم نحو خالقهم، لذلك نراه يستخدم اسم "يهوه"، وهو الاسم الخاص بالله الذي تجلى لموسى في العليقة ليقيم عهداً مع البشر.
ثانيا: نص المزمور وتقسيمه:
القسم الأول: إعلان الخليقة عظمة الله في الكون: الأفلاك تنشد مجده في حراّك صامت رائع النظَّام (1- 6):
1- لكبير المغنيين مزمور لداود.
2- السماوات تنطق بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه.
3- فيعلنه النهار للنهار، والليل يخبر به الليل،
4- بغير قول ولا كلام ولا صوت يسمعها أحد.
5- في الأرض كلها بان مقامها، وفي أقاصي الدنيا زمانها. للشمس أقيم مسكن فيها.
6- تُطل منه كالعروس الخارجة من خدرها، يبتهج الجوزاء يقطع شوطها.
7- من أقاصي السماء شروقها ، والى أقاصيها دورانها ولا شيء يستنير عن حرّها.
القسم الثاني: إعلان الكتاب المقدس: يتغنى بوحي الله في الناموس والشريعةَ لتوجّيه قلب الإنسان نحو خالقه ( 8- 11):
8 – شريعة الرب كاملة تنعش النفس وفرائضه حق تجعل الغبي حكيما.
9 – أمر الرب مستقيم يفرح القلب، ووصيته صالحة تنير العيون.
10 – كلام الرب طاهر ثابت إلى الأبد وأحكامه حق وصدق وحدها.
11 – أشهى من الذهب الإبريز الكثير الثمن ، واحلي من العسل وقطر الشهد.
القسم الثالث: إعلان العهد: تفاعل بين وحي الله وحياة الإنسان البار (12-14):
12 – وأنا عبدك أستنير بها، لي في حفظها ثواب عظيم.
13 – الزلات من يشعر بها يا رب؟ ومن الخطايا المستترة نقني.
14 – إمنع عبدك من الكبرياء لئلا تتسلط علىّ فأكون منزهاً عن كل عيب ونقي من معصية كبيرة.
القسم الرابع: صلاة ختامية: ثمرة التفاعل (15)
15 – وتكون أقوال فمي يا رب وهواجس قلبي مرضية لديك يا خالقي وولي أنت.
ثالثا تفسير المزمور:
القسم الأول: إعلان الخليقة عظمة الله في الكون: الأفلاك تنشد مجده في حراّك صامت رائع النظَّام (1- 6):
1 – لكبير المغنيين مزمور لداود:
ربما كان داود يتأمل جمال السموات وقت السحر حين اُلهم بكتابة هذا المزمور، فهو تسبحة حمد لإله الكون "إلوهيم"، الذي يُظهر صدى كلمته السرية وبهاء لاهوته في السماء والأرض، فالفلك ينشد مجد الله لا بالكلام، بل بالتحرّك المنظَّم والعمل الصامت.
2- السماوات تنطق بمجد الله ، والفلك يخبر بعمل يديه
يقول إشعياء النبي: "ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه؛ من الذي يُخرج بعدد جندها يدعو كلها بأسماء، لكثرة القوة وكونه شديد القدرة لا يُفقد أحد" (إشعياء 40: 26).
يشخّص المرنّم السماء والأيام والليالي وكل الخليقة، ويدعوها لتشارك في الإنشاد لله. والسماوات هي مكان سكنى الله، موضع عرشه، وهي برغم روعتها في عظمتها بل وقدسيتها، حيث تشير إلى كل ما هو سام وعال ورفيع المقام … إلا أن الله لم يعطها موهبة النطق فليس لها لسان لكي تنطق كالإنسان، معلنة مجد الله وجلاله.
يقول المرنّم إن السماوات والخليقة لا تتكلّم لغة البشر، لكنّ لها لغتها الخاصّة التي تمجّد الله بها، وما على الإنسان سوى أن يحلّ شفرة رموز هذه اللغة، وقد قام داود بهذه المهمة العظيمة فاستنطق السموات وجعلها تتكلم، وليس هذا بغريب على داود، الشاعر المرهف الحس الرقيق القلب، فهو من شدة حبه للرب الإله لا يكفيه أن ينطق بمجده وأن يلهج في ناموسه نهاراً وليلاً ، بل ينطلق بمخيلته للتأمل في أعماله، ويُشرك الكون بجميع خلائقه في ذلك. وأول هذه المخلوقات وأشملها وأسماها هي السموات أم كل الكواكب والنجوم والأفلاك، التي توحي بانتظام دورانها وتعدد كائناتها الذي يزيد ويقارع رمل البحار ودقة مساراتها،التي تثير اهتمام البشر وتعجبهم وانبهارهم منذ الخلق…بعظمة من صفّها وأقامها وكأنها دعوة دائمة للخشوع والتأمل.
حين يتأمل الإنسان السماوات وما فيها من نجوم وكواكب، لابد أن يكتشف أن هناك يداً قديرة تسيرّها وتحدد مساراتها وأفلاكها بقوانين عجيبة كالجاذبية والمغناطيسية و… إلى آخر ما اكتشفه العلم ولم يعرفه داود، والى ما سيكشفه العلم ولا نعرفه نحن أبناء القرن الحادي والعشرين، حقا إن التطلع إلى السماء والتأمل في الكواكب كان ومازال وسيظل أمراً يقود النفس البشرية إلى التسبيح في خشوع.
3 – فيعلنه النهار للنهار والليل يخبر به الليل:
عاش الإنسان دوماً يراقب الشمس والقمر والنجوم، تدور به الأيام والليالي وهو يحاول أن يعرف ويكتشف سر هذه الدورة العجيبة. عَبَدَ الفراعنة الشمسَ وتصورها تخرج مشرقة في موكب بديع بمركبة تجرها خيول ذهبية لتنير العالم وتطارد بأشعتها الذهبية فلول الظلام وتطردها. وودعوها بجلال مع كل غروب كرمز للنهاية التي تعقبها قيامة، حيث حفروا مقابرهم وينووا أهراماتهم، وهكذا عاشوا النهار والليل بطريقة تعكس روحانية أولية بديعة . كذا عبدت شعوب أخرى الشمس والكواكب ونظمت الطقوس وقدمت الذبائح.
طالما كان الليل والنهار موضع تأمل وتفكير، وطالما ارتبط النور والظلام بالحرب بين الخير والشر إلى يومنا هذا… لا غرو إذاً أن يتكلم النبي الشاعر الذي سبق وأعطى السماوات لساناً، على فم النهار والليل فيجعلهما ينطقان، فيضع على فم النهار خبراً يعلنه ورسالة يحملها، وعلى شفتي الليل بياناً ينقله وموضوعاً يخبر به الخلائق العاقلة… والخبر ينتقل هذه المرة بدون قول ولا كلام فهو أجلي من أن يحدّه قول وأعظم من أن يصاغ في كلمات، فكثيراً ما تقف الكلمات عاجزة والألسن صامتة والشفاه متحجرة أمام هذه العظمة، هكذا يخبرنا النهار بمجد الله وقدرته… فماذا عن الليل ونحن نعرف أنه يمثل الظلمة التي تعني غياب الله في الكتاب المقدس؟ بما يثير الهول والخوف وسيطرة الشر على الخير!… كلا إنه يقدم مفهوماً جديداً لليل، فحتى هذا الليل المظلم الرهيب، هو خليقة من صنع الله مجندة لتمجيده، وهذا المفهوم اللاهوتي المتطور يريد أن يعلن حقيقة رائعة، إن الله هو "الإله وحده" ولا مثيل أو شريك له، ليس هناك إله للخير وإله للشر، ليست هناك قوة تعادل أو تضارع قوة الله، فلا وجود للشر في حد ذاته انه مجرد "ليس":
v فالظلام: "ليس" إلا غياب النور، يغيب النور فتظلم الدنيا ومتى أشرق وانبثق يغيب الظلام كأنه لم يوجد، النور هو الفاعل الأوحد!
v والكذب: "ليس" إلا غياب الحق والصدق فلا كيان له في ذاته فمتى حضرت الحقيقة ذاب الكذب وتلاشى.
v والبغض: "ليس" إلا غياب الحب لا كيان له في ذاته، فمتى حل الحب اختفى الكره والحقد.
v والحرب: "ليست" إلا غياب السلام، فمتى حل السلام وساد، اختفت الحرب.
v والنجاسة: "ليست" إلا غياب الطهارة، فمتى تحققت الطهارة، اختفت النجاسة والدنس وتوارتا فيعود الكل نظيفاً طاهراً بلا دنس.
وهكذا فما لليل من سلطان وليست الظلمة بغريم معادل للنور، ليس هناك إله للنور وإله للظلام يتصارعان قي مباراة متكافئة الأطراف، إنما هناك إله واحد خالق للنور والظلام، والليل والنهار كلاهما، يتحدث عن مجده ويخضع أمام جبروته.
4 – بغير قول ولا كلام ولا صوت يسمعه أحد:
هكذا يخبر الليل بالنور الغائب عنه "الله" كما يتحدث النهار بالنور الحاضر فيه "الله"، وبقدر ما ينبثق الإعلان واضحاً مجلجلاً، بقدر ما هو صامت في جلال.
5 – في الأرض كلها بان مقامها وفي أقاصي الدنيا زمانها للشمس أقيم مسكن فيها "نصب خيمته":
في كبد السماء نصبت الشمس خيمتها تشع ببهائها على الأرض كلها، فلا شيء يمكن أن يُخفي عنها، ولا شخص يمكن أن يُنكر وجودها. تبدو كملك عظيم يسير في موكب عالمي، يضرب خيمته في جبروت ليعلن سلطانه، ثم سرعان ما يخلع أوتاد الخيمة ليرحل منتقلاً إلى حيث يشاء. كذلك الشمس تشرق بنورها وتبعث حرارتها لتهب الحياة ثم تغيب، لكن ليس قبل أن تحدد موعداً آخر، تاركة الكون ينتظر اللقاء. عندما نقرأ هذه الصورة عن مسيرة الشمس اليومية، ودورانها كعدَّاء يريد أن يحرز النصر! ندرك عمق ما قصده داود النبي، حيث لم تعُد الشمس إلهاً يُعبد كما في الديانات الوثنيّة، بل صارت خادماً أميناً بين يدي الرب وشاهداً على عظمته.
v وفي أقاصي الدنيا زمانها "خرج منطقهم":
هذا الإعلان الصارخ عن عظمة الله ومجده وجلاله لا يخفى على أي مخلوق، لاسيما الإنسان، فإعلان السماوات والأرض والليل والنهار عن مجد الخالق لا ينكره عقل ولا ينفيه منطق. إنه إعلان بديهي، فمن ينظر إلى الكون يدرك تلقائيا أن هناك يد خالق مبدع، وعقل مدبر جبار، وفكر مهندس عظيم، خلق وأبدع ودبر مسار كل هذه المجرّات المنتظمة بدقة تفوق الإدراك… أثناء عودة نابليون بونابرت من مصر على متن إحدى السفن الحربية عبر البحر الأبيض المتوسط، سمع أحد ضباطه يتفوه ببجاحة بكلمات إلحاد، عندئذ أشار نابليون إلى النجوم، وقال: "من صنع هذه؟" فلم يكن للإلحاد من إجابة… أعمال الله في الخليقة تشهد له بأنه ليس القدير وكلي الحكمة فحسب، بل كونه الآب الذي يهتم بالكبير والصغير. فالذي علّق النجوم على الضياء وأسكن الشمس كبد السماء ونظم رحلتها اليومية بدوران الأرض حولها وحول نفسها لتستقبل من الشمس النور والدفء والحرارة هو الله وحده وعن طريق نظامه الفائق الدقة والإعجاز تتحدد الأزمنة والفصول والأيام والساعات والدقائق.
6 – تطل منه كالعروس الخارجة من خدرها، يبتهج الجوزاء يقطع شوطها:
وكأن دورة الليل والنهار تمثلا دورة الحياة: لذا يستعير داود تشبيه العريس الذي يسير نحو عروسه فيتبادلا الحب ويثمرا البنين كي تستمر دورة الحياة. الشمس في اللغة العبرية كما في الآرامية "مذكر"، لهذا تقارن بالعريس.
v الجوزاء:
الجوزاء برج من الأبراج السماوية، وهو عبارة عن مجموعة فلكية تأخذ شكلا بصورة توأم. والنبي يشبه الليل والنهار بتوأم من أب واحد خالق، يسير ابناه التوأمان في مسار محدد لا يحيدان عنه، وهما يطفران بفرح وتهليل لأنهما يحققا مشيئة الله الآب وغرضه من خلقهما… ما أروع التشبيه!
7 -من أقاصي السماء شروقها ، والى أقاصيها دورانها ولا شيء يستنير عن حرّها:
يعود للحديث عن الشمس ذلك المخلوق الجبار الذي يجول السماء من أقاصيها إلى أبعد نقطة فيها، وهو إذ يجول يصنع خيراً، يمد كل شيء بالنور والحرارة ولا يخفى عنه شيئا… لكنه في كل حال سواء تهلل مثل الجبار أو سار العريس أو ذهب عدواً إلى أقاصي الشرق والغرب أو كشف كل المستورات ومد كل شيء بالنور والحرارة والحياة… فإنها في النهاية خليقة من خلائق الله، يحدد الله لها مسارها ودورتها الزمنية.
القسم الثاني: إعلان الكتاب المقدس: يتغنى بوحي الله في الناموس والشريعةَ لتوجّيه قلب الإنسان نحو خالقه ( 8- 11):
في هذا القسم من المزمور نسمع أصوات مديح نفهمها، لأنها أصوات بشر، وهي تثني على الشريعة التي تنظّم علاقة الناس بالله، وعلاقاتهم بعضهم ببعض. هكذا يقدم لنا المرنّم على خلاف المزمور الثامن، موضوعاً آخر للتمجيد، اسمه شريعة الربّ، أي الناموس والوصايا الإلهية، حيث تبدو الشريعة في هذا المزمور نوراً وخلاصاً، يُعلن وصايا الله التي تربِّي قلب الإنسان وتوجّههُ وتقوده نحو الرب خالقه، كما تنجِّيه من الزلل وظلمة الخطيئة، وترشده إلى طريق الحياة. وهي تعبير عن اهتمام الرب بالإنسان وعنايته به، متى حفظها حفظته ومتى ردّدها في قلبه تُصبح جزءاً من حياته وتُدخله في حوار مع الله.
فكما وضع الرب للمخلوقات مسارات وقوانين لا تتجاوزها ولا تتعداها وإلا تسببت في كوارث فظيعة، وضع للإنسان ناموساً إذا سار عليه يضارع أروع هذه المخلوقات بهاءً ويفوق أعظمها مقاماً. فإن كان تمجيدُ الخلائق يُرى فتمجيدُ الإنسان يُسمع، والكلمة والحوار العاقل المدرك تتفوق على المشاهدة الصامتة. وكما تبدو عظمة الله كنور ينعكس عبر الأفلاك النورانية، كذلك يتمجّد الإنسان الذي يحفظ ناموس الله "حينئذ يشرق الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم" وتصير حياته وأعماله إشارة حية لخالق عظيم وأب مجيد "ويرى الناس أعمالكم الحسنة فيمجدون أباكم الذي في السماوات". لذلك يقدم القسم الثاني من المزمور الشريعة كإشارة لا تقل سطوعاً عن الشمس ولا بهاءً عن القمر ولا تألقاً عن النجوم. إنها الحياة مع الله وفق مشيئته القدوسة. ويختتم هذا القسم بالنتيجة البديهية والمنطقية: من حفظَ الشريعة حفظته ونجّته من كل خطر.
8 – شريعة الرب كاملة تنعش النفس وفرائضه حق تجعل الغبي حكيماً:
يقدم المرنّم ستة ألقاب لكلمة الله، ربما ليشير إلى ستة أيام العمل، وألقاب كلمة الله الستة الواردة في هذا المزمور هي: ناموس الرب، شهادة الرب، فرائض الرب، وصية الرب، خشية الرب، أحكام الرب. وكأنه يليق بنا في جهادنا اليومي أن ننعم بكلمة الله كل يوم بلقب ومذاق جديد، فكلمة الله لا تشيخ مطلقاً. أما في اليوم السابع، أي السبت والراحة، ففيه نلتقي بكلمة الله نفسه وجهاً لوجه بطريقة لا يُنطق بها.
بعد أن فرغ النبي الشاعر من تأمل الخلائق وانفرجت نفسه وانفتح مجال فكره المحدود أمام عظمة الله اللامحدودة في الكون والخلائق… يصل إلى الإنسان الذي أوجده الله بيديه ويعتني به شخصياً ويخاطب عقله بالناموس ويدرب قلبه بالشريعة ليقوده نحو الكمال، كمال الوجود والمحبة، فالحفاظ على الناموس لا يفيد الله في شيء، وان كان يعلن مجده، لكنه يفيد الخلائق أولا… ثم في خطوة جديدة يدخل النبي إلى واقع حياته الشخصية: فيعلن أن ما أوصله إلى هذا أنه شخصياً كإنسان يحيا هذا الانبعاث بمحافظته على الوصايا وتأمله في الناموس والشريعة حيث يعيش:
1- السلام النفسي، 2- الأمان الروحي،
2- الحكمة الفكرية، 4- الصحة الجسدية
9 – أمر الرب مستقيم يفرح القلب، ووصيته صالحة تنير العيون:
يؤكد النبي معنى الآية السابقة، إن السير حسب أوامر الله ووصاياه، يجعل القلب فرحاً، فيسير الإنسان في نورها بلا خوف أو تردد، فالله يحفظ حافظي شريعته ويسهر عليهم فلا تؤذيهم الشمس في النهار ولا القمر في الليل. ويعيش حياة صالحة مستقيمة، يمضي في طريق مستقيم، ويحيا في النور كابن للنور فلا يخشى الظلام.
10 – كلام الرب طاهر، ثابت إلى الأبد، وإحكامه حق وصدق وحدها:
كما تأملنا في المزمور الثاني عشر كلمة الرب تحيي وكما يكرر يسوع في الإنجيل ( يوحنا ) الكلام الذي أكلمكم به نور وحياة. وهكذا نرى كلام الرب ونتعرّف عليه من خلال كلام الرب في الكون والخلائق والأفلاك وفي الكتاب المقدس بالناموس والشرائع والقوانين.
v وحدها:
العالم كله بما فيه من أفلاك وخلائق وقادة عظماء، ووصايا وأحكام وكلمات حكمة في كفة، والله وكلمته الأزلية الأبدية في كفة أخرى، لا مجال للمقارنة أو التشبيه، كل ما هو مطلوب أن نطيع، إن نصغي، أن نتأمل ونخضع…
11 – أشهى من الذهب الإبريز الكثير الثمن ، وأحلى من العسل وقطر الشهد:
تشتهي النفس كل ما هو نفيس: من الطعام أثمنه، ومن الملابس أفخرها، ومن المعادن أغلاها. والذهب مشتهى كل البشر منذ التاريخ. والشريعة بالنسبة للمؤمنين بالله هي أشهى من الشهد وأثمن على قلوبهم من الذهب وأي شيء آخر.
القسم الثالث: إعلان العهد: تفاعل بين وحي الله وحياة الإنسان البار اليومية (12-14):
نقرأ في القسم الثالث كيف يأخذ المؤمن على عاتقه العمل بحسب الشريعة ليرضى الله. فعبر الطاعة تتكوّن علاقة شخصيّة بين الله والإنسان، لكن المأساة تكمن في أن الله حاضر دائماً وأمين، بينما البشر ضعفاء وخاطئين؛ لهذا صارت العلاقة رجوعاً دائماً إلى الرب، وإقراراً بالخطيئة، وطلب مغفرة، ووعد بأن تكون حياة الإنسان وعواطفه متّجهة إلى الله.
12 – وأنا عبدك أستنير بها، لي في حفظها ثواب عظيم:
كانت الخطورة الكبرى في العصور الأولى أن يؤلّه الإنسان في ضعفه قوى الطبيعة التي لم يكن يجيد التحكم فيها؛ واليوم إذ يظن الإنسان أنه قادر على ذلك، فالخطر أن يؤلّه نفسه؛ أما داود فقد أدرك بوضوح قوة الله وحكمته من خلال تأمله المزدوج، في الطبيعة وفي كلمة الله، وأمام عظمتهما يقدّم الملك ذاته، كعبد، معترفاً بقوة سيده ومستنيراً بكلمته يحفظها في قلبه كثواب عظيم.
13 – الزلات من يشعر بها يا رب؟ من الخطايا المستترة نقني:
هكذا يخر الملك العبد معترفاً بضعفه ووهنه وزلاته الكثيرة أمام سيده، لكنه يعلن أن الخطر الذي يهدد حياة النفس مع الله ليس كامناً في تلك الزلات الصغيرة، فالبار يخطئ ويزل سبع مرات في اليوم ، لكن الخطر كامن فيما هو مستور من الخطايا أو التي لا يجرأ الشخص أن يجهر بها، وتُرتكب في الستر دون أن تُرى، إنه لا يطلب من الرب أن يحفظه من الزلل المرتبط بالطبيعة البشرية والحياة اليومية، بل أن يحفظه وينقيه من الخطايا المدبرة في السر التي تخشى النور لئلا تنكشف.
14 – امنع عبدك من الكبرياء لئلا تتسلط علىّ فأكون منزهاً عن كل عيب وأتنقى من معصية كبيرة:
ما يخاف منه النبي بالحقيقة ليس الزلل وهو لا يخشى أيضا الخطايا المستترة فقلبه مفتوح أمام الله وليس فيه سوء وضميره لا يعرف الشر والحقد والنميمة، لكنه يخاف كل الخوف من خطيئة أخرى كامنة عند الباب وهي أمّ الخطايا وأصل كل الشرور.
v الكبرياء:
إنها سبب سقوط الإنسان الأول في الفردوس مما أعطى الشيطان الحجة ليهدم علاقته مع الله. لقد لعب إبليس منذ البدء على هذه النقطة "إذا أكلتما من ثمرة هذه الشجرة فستصيران آلهًة مثله" ( تكوين 1 :5) فأغرى الخليقة البائسة أن تقارن نفسها بالخالق العظيم، وتطمح بكبرياء ساذجة أن تكون مساوية له… لقد فهم النبي كل شيء وأجاد تلخيصه فكل الخطايا يمكن أن تُغفر للإنسان إلا الكبرياء التي تدفعه إلى التجديف على خالقه. أذكر في إحدى حواراتي مع احد الأساقفة عن صعوبات يقابلها مع الكهنة أنه أذهلني بقوله "كل خطيئة للكاهن يمكن أن تغتفر ويُشفى منها إلا الكبرياء" وعندما تساءلت كيف؟ " قال الكاهن ككل خاطئ بالتوبة والندامة يمكن أن يتغير، لكن الكبرياء لا علاج لها ولا شفاء منها…" والنبي يطلب من الرب أن ينقذه من الكبرياء كما من خطر رهيب، وأن يحفظه من السقوط في هذه التجربة وينجيه من هذه الآفة القاتلة، فهي حين تتسلط على شخص ما، لا يعود يرى سوى نفسه، ولا يعتقد إلا بذاته، ويصير كل شيء وكل شخص آخر نسبياً وهامشياً… وداود إذ يراجع صدق ضميره ويفحص سيرته، يخشى إذا قارن نفسه بمن حوله من الأثمة والخطاة، أن يسقط في الكبرياء… فإذا نجاه الله منها سيكون نقياً أمامه من كل المعاصي.
القسم الرابع: صلاة ختامية (15)
15 – وتكون أقوال فمي يا رب وهواجس قلبي مرضية لديك يا خالقي وولي أنت:
بهذه الطلبة يختم النبي مزموره الجميل متضرعاً إلى الله أن يطهرّه من كل خطيئة سواء بالفكر أو القول أو الفعل أو الإهمال، وأن يبعد عنه خطر الكبرياء التي تفصل الإنسان نهائياً عن الرب. هكذا يستطيع أن يشعر يرضى الله عنه فالمهم عنده هو رضا مولاه وسيده، ربه وإلهه وهكذا يصل إلى الرضي عن الذات.
رابعاً: تطبيق المزمور:
o كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور؟
نستطيع أن نطبق المزمور على حياة الرب يسوع فالمسيح هو:
– المسيح هو شمس البر: جاء ليشرق على نفوس مؤمنيه الذين كانوا جلوساً في الظلمة وظلال الموت من المشارق والمغارب ليهبهم استنارةً ودفئاً روحياً وحياةً متجددةً على الدوام. فبدّل شريعة العهد القديم بشريعة جديدة تعطي الإنسان النور والحياة والسعادة والخلاص. فكلمة الله الذي به كان كل شيء وفيه كانت الحياة والحياة كانت نوراً للناس والنور أضاء في الظلمة، الذي منذ البدء كان عند الله وكان هو الله نور العالم، هو الكلمة الأزلي وحيث أن الله ابدي لا يتغير: فكلمته ثابتة من الأزل إلى الأبد وحيث أن الله حق وعادل: فكلمته حق وإحكامه عدل، تظل وحدها ثابتة صادقة "السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول"( متى 24 :35)
– الله الخالق الفادي: صوّر المزمور الله في وجهتين: فهو الخالق الذي يُحسّ به الإنسان إلهاً دون أن يدركه، وهو الفادي الذي يعطي شعبه المختار العهد والشريعة وله يكشف عن ذاته، ونحن نفهم خبرة الإله الخالق على ضوء خبرة الله الفادي، فإيل يوصل إلى يهوه، لا فرق بينهما، بين إله العهد وإله الطبيعة، فالنظر إلى الطبيعة يقود الإنسان إلى سيّد الطبيعة وخالقها. وإله العهد فادي شعبه، هو تقديم لإله يفتدي كل الشعوب، لأنه خالقها جميعاً. بذا لا يَعُد لأحد عذر إن لم يعرفه ويمجّده ويشكره كما ينبغي (رومية 1: 21).وقد حقق الرب يسوع بسفك دمه على الصليب، الفداء الكامل والنهائي لكل البشر.
– يَد الله تُدير الكون: علّمنا الرب يسوع كيف نرى ونلمس إصبع الله في كل مجالات الحياة لاسيما في الطبيعة، فإذا كان المرنّم يرى كل الخليقة بكل ما فيها ككيان حي يخدم الله وينشد مدائحه؛ فالمسيح كذلك يرى الخليقة كلها تتكلّم عن الله الآب الذي يُشرق بشمسه على الأبرار والأشرار (متى 5: 45)، ويطعم طيور السماء ويكسو زهور الحقل كما لم يلبس سليمان في كل مجده (متى6: 26-30). والكنيسة عندما تنشد الله الخالق، تقدم صلاتها في الذي به خُلق كل شيء،"كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان، فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس، والنور أشرق في الظلمة والظلمة لم تدركه" ( يوحنا 1: 5) فالمسيح هو المخلّص، وهو من شاء الله أن يصالح به كل شيء في الأرض والسماء (1 كولوسي : 18- 19).
– علمنا السيد المسيح أن نرى الله في شريعة العهد الجديد: الرب يسوع علًمنا الشريعة الجديدة دون أن يتجاوز الشريعة القديمة، قيل لكم أما أنا فأقول لكم" وصية جديدة أعطيكم أن يُحب بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا".
– علمنا أن نرى الله في حياتنا اليومية: نرى الله ونشكره في كل لحظة وكل حال، بل أن نراه ونلمسه في إخوتنا " كل ما صنعتموه بأحد إخوتي هؤلاء لصغار فبي فعلتموه" (.
o كيف نعيش هذا المزمور كمسيحيين؟
– إعلان الله في الخليقة: تحمل الخليقة شهادة لله كخالق. يقول القديس بولس: "لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته" (رومية 1: 20). فالخليقة هي الشاهد الأول لله عند البشر، بكونها لغة يفهمها الطفل ويستمتع بها الفيلسوف والعالم. لا توجد قطعة شعرية تحمل دلائل ضد الإلحاد أروع وأفضل مما ورد في هذا المزمور.
حتى ليقال أن إلهنا قد أصدر كتابين: كتاب الخليقة فيه نقرأ عن قدرة الخالق ولاهوته؛ وكتاب العهد، الكتاب المقدس، الذي يعرفنا إرادة الله ومشيئته في حياتنا. وفي هذا يقول القديس يوحنا الذهب الفم " ألا تسمع السموات وهي تبعث صوتاً، بينما ينطق النظام العجيب في كل الأمور بأكثر وضوح من بوقٍ؟ ألا ترى ساعات الليل والنهار مترابطة معاً بلا توقف، النظام البديع للشتاء والربيع وغيرهما من فصول السنة كأمر ثابت أكيد، والتزام البحر حدوده رغم دواماته وأمواجه؟ هكذا ترتبط كل الأمور بجمالٍ وإبداع، ربما تصمت السموات، لكن التطلع إليها يثقفنا لا بسماع الإذن وإنما باستخدام العين، فان الأخيرة تقدم معلومات أكثر تأكيدا ودقة من الأولى.
– يُعرف الفنان بأعماله: يقول القديس أثناسيوس الرسولي "غالباً ما يُعرف الفنان بأعماله حتى وإن لم يره الشخص، وقد أعطى الله للكون ترتيبه وتدبيره، حتى يمكن للبشر أن يتعرفوا عليه من خلال أعماله ما دام هو بطبعه غير منظور. فالسموات هي الكتاب الذي يمكن للعالم أن يستقي منه معرفة الله". يكشف علم الفلك عن بعض عجائب السموات غير المدركة، لكن القليل الذي نعرفه عن ملايين النجوم والمجموعات الشمسية يكشف عن مجد الله، كما يقدم لنا شعوراً بالفرح إذ خلق الله الكون كله لأجلنا؛ فنحن الخليقة الترابية ننظر نحو السموات، متأملين أعمال الله، ممجدين إياه. إن التناغم الرائع الذي للسموات يعلن عن الحكمة التي تشع في الخليقة وتبرز عظمة مجد الله من خلال الأمور المنظورة.
– إعلان الله في شريعة العهد الجديد:: "فإننا نعلم أن الناموس روحي" (رومية 7: 14) كلمة الله ترد النفس وتشير إلى طريق الخلاص وتكشف عن الخطيئة ، وتهب المؤمنين البسطاء نعمة مجانية وحكمة. "وإنك منذ الطفولة تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تجعلك حكيماً للخلاص" (1تيموثاوس 3: 15). إن كنا قد فسدنا بالخطية فان ناموس الرب بلا عيب، يحمل النفس الفاسدة إلى الخلاص، فتصير هي أيضا بلا عيب.
– يختبر المسيحي حضور الله بطريقة شخصية: الإنسان عامة وشعب إسرائيل خاصة، والمسيحي بصفة أخص، يعرف الله ويختبر حضوره بطريقة شخصية، وهو الخليقة التي تنطق وتنشد نشيداً خاصاً نشيد العهد الجديد.
لا تعرف الخليقة عن الله سوى وجوده، فحتى وإن قدمت تسبيحاً عظيماً، يمجد خالقها ويتردّد صداه من يوم إلى يوم، لكن كي لا يبقى الله ذاك الذي يستقبل ويسمع فقط، بل يتجاوب ويدخل في حوار، ولينتقل الإنسان إلى مستوى المسؤولية فلا يَعود مجرد متفرج يبدي الدهشة والإعجاب بنشيد غيره من الخلائق، جعله شريكاً معه بالشريعة والعهد، ثم بالتجسد والفداء فصار الاتحاد معه بابنه ممكناً فخرجت من قلبه وفمه لغة تسبيح ينفرد بها وحده عن سائر الكائنات، إنه نشيد العهد الجديد الذي أتمه يسوع الفادي على الصليب من أجله فخلصه من عبودية إبليس. بهذا النشيد الجديد، نشيد البنوة، يعطي الله الإنسان محبة أبدية، لهذا فأبناء الكنيسة ينشدون نعمة العهد الجديد ويترنمون بالفداء والخلاص وتعلو تسبحتهم، ولا غرو أنها عزيزة في عيني الرب عذبة في أدنه.
تشهد الكنيسة للإنجيل في حياتها اليومية: بحياتها لا بالكلام، إذ يسكن كلمة الله في حياتها الداخلية بالصمت، فتنطق بالخدمة والتكريس والحياة المقدسة في المسيح. يقول العلامة ترتليانوس: "لديكم نبوة عن عمل الرسل في كل الأرض خرج منطقهم والى أقطار المسكونة بلغت كلماتهم"، بمعنى أن كلماتهم التي حوت الشريعة، قد انتشرت". ويقول أثناسيوس الإسكندري "بينما في تلك الأيام كان يُكرز بالناموس من دان إلى بئر سبع، الآن "في كل الأرض خرج منطقهم" (رومية 10: 18؛ مز 19: 3)، وعَبَدَت الأمم المسيح، وبه عرفوا الآب. لقد بلغ صوت الرسل إلى كل الأرض، لقد سُمع عنه في كل أقطار العالم. إذ يقول داود في المزامير: "تعالوا إلى الله يا مدن الأمم قدموا للرب مجداً وكرامة، قدموا لله ذبائح لاسمه، خذوا ذبائح وادخلوا إلى دياره".
يمجد المسيحي والكنيسة الله نهاراً وليلا، بجهاده في الحياة نهاراً، والإشادة بنعمته وبالتأمل في أسراره في كل حين وبحياة التكريس وإن كان العمل والتأمل يمثلان حياة واحدة متكاملة. نحن نؤمن أنه بالإيمان الحيّ يتمجد الله في حياة أبناءه.
خامساً: خاتمة المزمور:
إن كانت المخلوقات عظيمة هكذا فكم تكون عظمة الخالق؟ وان كان هكذا جمال الأشياء المصنوعة، فكم يكون جمال صانع الكون؟ وإن أمكن توافر كل ذلك الجمال في الماديات فكيف يكون بهاء السماويات.
إن كنت تشك في عناية الله سلْ الأرض والسماء والشمس والقمر، سلْ الليل والنهار، َسلْ الصخور والجبال والكثبان والتلال والبحار،َ سلْ الكائنات وطيور السماء والزرع والزهور… أينما توجهت، ستسمع شهادة ناطقة بهذه العناية الفائقة، ستكتشف وتدرك أن عناية الله أوضح من الشمس وحنانه أدفأ من أشعتها، ومحبته أقوى من حرارتها.
فما الأيام والليالي سوى ينابيع تفيض بمجد الله وتعلن رحمته ورعايته المتجددة. مع كل نهار إذ يشرق شمس البّر ينطق المؤمنون بكلمات تعكس تجديدهم المستمر، فتصير حياتهم ينبوعاً يفيض مياه حية بلا توقف، تشهد لله نهاراً وليلا، في الفرج والضيق.
وراء الكلمة المكتوبة يختفي مسيحنا الكامل، فنتحد به بروحه القدوس ونحمل سماته فينا ونُحسب في عيني الآب بلا لوم، إذ يرى صورة ابنه الوحيد الجنس مطبوعة في أعماقنا.
لا تخف أيها المسيحي من تسلّط أي قوة خارجية، إنما خف الله على الدوام من الشر الذي في داخلك، من شهواتك الدنيئة التي هي من صنعك أنت. لقد خُلقت لتكون لله أمينا، لكنك خلقت لنفسك سيداً ورفضت الخضوع لمن خلقك، فصرت مستحقاً لعبودية الشر مؤهلاً للخضوع للسيد الذي خلقته لنفسك.لكنه عاد فافتقدك وخلصك وحررك من سلطان إبليس، فعد من حيث سقطت وتفكر في خالقك فتحيى.
صلاة
حنانك يا رب الأكوان
من أنا يا رب لتذكرني وما مدى قامتي تميل بأذنيك فلتسمعني؟
السماوات تحدث بمجدك والأفلاك ترتل لك،
الليل قبل النهار، والشمس قبل القمر،
يسبحونك ويخبرون بمجدك،…
أنت الذي تناجيك النجوم
وتهمس الكواكب بجلال عظمتك
فمن أنا يا رب لتذكرني؟
أعطيتني سلطاناً على جميع أعمالك
ونصبتني سيداً على خلائقك
أقمت السماء لي سقفاً
سخرت الشمس لي مناراً
والقمر مصباحاً ليهدي دربي إليك
فماذا كان ردي؟
أخطأت وسقطت فتعريت واختبأت،
غفرت لي وأنهضتني وسترتني ولم تهملني
أعطيتني الناموس عونا لتهتدي إليك خطاي
أرسلت لي الأنبياء والرسل، وآخر الكل لم تبخل علىّ بابنك الذي أحبني فخلصني وحررني،
أقدم لك يا سيدي
مشورات حريتي واكتب أعمالي طاعة لناموسك وأقوالك فاقبل يا رب حياتي شهادة لك.
يا من فداني ورد لي الحياة
أقم ملكوتك في داخلي، وأعلن سماواتك في أحشائي، هبني أن احدث بخلاصك وبعمل حبك فيّ من خلال طاعتي وحياتي
أيها العريس المشرق كشمس البر،
اغرس أحكامك في قلبي فتشبع بك نفسي،
هبني سلاما فلا ينزع العالم فرحك من أعماقي!
هب لي قوةً نعمتك لأجاهد ضد إبليس وظلامه
استرني من خطاياي الخفية والظاهرة،
أحفظني من سهام العدو
هب لي برّك فيمتلئ قلبي فرحاً ولساني تهليلاً.
سيدي، رب الأكوان يا أشهى من كل عذوبة،
اقبل يا رب حياتي.أمين