لا أؤمن بهذا الجحيم

بقلم شريف كامل فهمي جرجس 

 

 

الفهــــــــــــــرس

الموضوع:

إهــــــــداء

تقديم : الأب بولس جرس

تقديم : الأب هنري بولاد

مقدمة :

الفصل الأول : نؤمن بالله الأب

الفصل الثاني : كان لرجل ابنان

الفصل الثالث : الله…الإنسان …العدالة…

الفصل الرابع : عدالة المحبة المطلقة

الفصل الخامس : المصير

خاتــــمة

المراجع

 

 

                    إهـــــــــــــــــــــــــــــــداء

إلي كل من حمل الشعلة أمامي لينير الطريق. .

إلي كل قلب نقي وضمير مستقيم. .

إلي كل إنسان لديه إحساس مرهف وعميق. .

بالله الأب. .. . الله العادل. .. .الله المحبة .

أو. . .

الله الذي يعاقب وينتقم ويرسل الأشرار إلي جهنم حيث نار لا تطفئ ودود لا يموت. .

إلـــــــــــــــــــــــــي

الذين يرتعدون خوفا مما يسمونه نار جهنم الأبدية. . .

والذين لا يعرفون أن رحمة الله غير محدودة ولكنها ليست عمياء. .

إلــــــــــــــــــــــــــي

الذين يشعرون في أعماق قلوبهم المرهفة أن حكما بالهلاك الأبدي لا يتجاوز حدود الرحمة والعدل فحسب، بل يصبح حكما يفتقد إلي مبرر. . وسيفا للانتقام دونما هدف أو نتيجة. .

إلــــــــــــــــــــــــــــــي

كل قلب و عقل مستنير، يشعر ويفكر ويتأمل

 

                                              اهدي هذا الكتاب

                 

تقــــــــــــديم

قرأت هذا الكتاب مخطوطا في مراحله الأولي لكاتبة الشاب شريف كامل اثر حوار شيق في نفس الموضوع ابلغني خلاله انه عبر عن خواطره كتابتا فطلبت أن اقرأ ما كتب، ولا أستطيع أن اصف مقدار دهشتي وشديد إعجابي بما يحويه الكتاب من أفكار لاهوتية عميقة ولا أبالغ إذا قلت إنه يتوازى مع أكثر الأفكار اللاهوتية الحديثة والتقدمية في الكنيسة الغربية بعد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الذي يركز علي رحمة الله وحبة.

وعساي انصح القارئ الغير متعمق أن يراجع الكتاب قراءة مرة أخرى قبل أن يتسرع بإصدار حكم متعجل وانفعالي .

والكتاب يقدم ببساطة متناهية وتسلسل منطقي وسلاسة في التعبير وقوة في الإقناع، موضوعا يهم كل مسيحي يبحث عن خلاصة ومصيره، ليس في هذه الحياة فحسب بل في الحياة الأخرى .

ولعل أكثر ما يشدني شخصيا إلى هذا الكتاب قلب ابن يحاول في حياته وليس فقط من خلال هذا الكتاب أن يدخل في علاقة شخصية مع أبيه وأن يحس بمدي ارتباط هذا الأب بأبنائه. . وعمق الحب المطلق الذي لا يكل ولا يمل " فمع أن الحكم بلا رحمة لمن لم يعمل الرحمة، فأن الرحمة تفتخر علي الحكم " يعقوب 2 : 13 "                                                                                                  

فلنقرأه بهدوء وتمعن، ولنعد قراءته فأن كل ما فيه ممتع وجذاب وجديد .

آمل أخيرا أن يحظى هذا الكتاب ما يستحق من الاهتمام، وأن يلقي كاتبة الشاب ما يليق به من التشجيع والتكريم .

والله الموفق

 

                                          الأب / بولس جرس

 

 تقــــــــــديم

أخيرا كتاب عن رحمة الله ومغفرته. .

أخيرا كتاب يعلن بنغمات رنانة أن الله محبة. .

كتاب يحاول أن " يعيد التوازن " ويصحح هذا الإلحاح الذي نجده في العظات والكتب باللغة العربية. . عن الرعب أو الخوف من الله، من انتقامه وعقابه. دين أبناء. . أمام دين عبيد

إني أجد أن هذا الكتاب يعطي مفهوما صحيحا وعميقا، ويعلن عمق الإنجيل " إنجيلي لا غش فيه "

هو صرخة من القلب، صرخة حرية وتحرر من قلب شخص يكتشف فجأة حرية " أبناء الله " وأن الله أب، اسمه أب.

كتاب كله " معجون " من الإنجيل ومن المراجع الكتابية، كتاب لا يخترع شيء سوي انه يضع خطا تحت ما تركه الكثيرين في الظلام بسبب تربية روحية معينة. .

كتاب يسير جنبا إلي جنب مع تقليد عبادة قلب يسوع الحقيقية، أي انه يركز الضوء علي رحمة الله اللامتناهية، وعلي قلب يسوع المجروح بجروحات الحب .

كتاب خالي تماما من أي أخطاء لاهوتية. يركز في آن واحد علي رحمة الله، وعلي حرية الإنسان الذي يتجه نحو الله ويقبل مغفرته .

الأسلوب سلس بسيط و مشوق، واللغة العربية متقنة.

ومن مميزات هذا الكتاب أن مؤلفه علماني لا بل هو أيضا شاب " أعجب من ذلك انه شاب "

نحن عادة كبشر ننسب لله العدل، لا بل الدقة و القسوة وعدم التراخي في عدله " عدم التفاهم في عدله " ولكن الله غير ذلك تماما، له طريقته الخاصة في العدل، له دينونته وهي تختلف تماما عن دينونتنا ،وهذا ما أظهره المؤلف.

أن محبة الله تعطي لعدالته مفهوما آخر لا يفهمه البشر، والعدالة البشرية لا يمكن أن نفهم من خلالها عدالة الله المحبة.

" لو بكتك قلبك فأن الله أكبر من قلبك. .( يو الأولي 3-20) "أن محبة الله تجعل من عدله شيئا لا يفهمه البشر ولا يفهمه العدل البشري المحدود.

كم وكم من الجرائم والفظائع والتعذيب ارتكبه الإنسان علي مدي التاريخ باسم العدل؟

نحن نفهم عدل الله من خلال عدلنا، شكلنا إلها علي صورتنا، منتقما، متعطش للدم ورافعا في يمينه ميزان العدل، عدلنا البشري الذي هو عدل " الابن الأكبر " أما عدالة الله فهي عدالة الأب نحو الابن الضال.

هذا الكتاب يستعمل مراجع شيقة في إطار الفلسفة مثل نيتشه، ومن علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الإجرام، ويستند علي تطور قانون العقوبات تجاه المجرم، لكي يعيد تقييم مفهوم المسئولية والحرية.

 

                                       الأب هنري بولاد اليسوعي

 

 

مقدمة

ذات يوم حدثني صديق عن الله، وطال بنا الحديث، عن العدالة الإلهية والجحيم والمحبة الإلهية. لكن جهنم ظلت حجر عثرة أمام محبة الله، لان الجحيم ذاته يضع حدا لهذه المحبة الغير محدودة .

لكن مشكلة الجحيم ظلت فكرة غامضة في ذهن حائر. . هذه الفكرة ودت يوما أن تخرج إلي النور فكان هذا الكتاب !

لكنه ليس كتابا في العقيدة، ولا بحثا لاهوتيا أو فلسفيا خالصا ،ومع ذلك فهذا الكتاب فيه شيئا من كل شيء !

إن نظرة الكثيرين إلي الله لا تزال نظرة بدائية يشوبها الخوف والغموض.إن نظرتنا إلي الله بعد ألفي سنة من إعلان قانون الرسل (نؤمن بالله الأب)لا تزال في نظر الكثيرين علاقة الحاكم بالمحكوم، علاقة القاضي بالمتهم الذي لا يعرف إلا أن يعاقب أو يكافيء – أو لدي البعض علاقة المحكوم بالحاكم الذي يمكن خداعة أو استرضائه ببعض الصلوات أو الطقوس الروتينية !

هناك كثيرون ممن تملاء قلوبهم مخافة الله ويحرصون علي حفظ الوصايا وأداء الطقوس، ولكن ما أندر من تربطهم بالله عاطفة بنوة حقيقية، أو شعور حقيقي بالانتماء لإله هو بالفعل "أب" حقيقي وشخصي لكل منا.

الله "أب". . هذا هو حجر الزاوية الذي يجب أن نبني عليه كل أفكارنا وتصوراتنا عن الله.

وعلي صفحات هذا الكتاب سنحاول أن نعرف كيف يتفق أن يكون الله المحبة الغير محدودة. . اله عادل أيضا !

واضعين في الاعتبار بكل حزم، أن الله الأب عندما يسمح "بعقاب" فذلك ليس للعقاب ذاته ولا رغبة في الانتقام، ولكن لكي يرد الابن الضال إلي حضن الأب، وذلك طبقا لناموس عدالة مطلق، واحترام مطلق لحرية الإنسان، ووفقا " لقانون الارتقاء الحر " الذي يحكم كل الخليقة.

فالعدالة الإلهية تترفع أن تدين كما العدالة البشرية، فان كان ثمة عدالة ودينونه، فهي عدالة ودينونه محبة.

لان الذي يجمع ويخلص حاشا له أن ينقلب إلي قاضي أو منتقم !

هذا ما سنحاول أن نعرفه علي صفحات هذا الكتاب، متعمقين في البداية في معني أبوة الله، هذه الأبوة التي تتفوق بلا حدود علي كل أبوة بشرية.

ثم سنتناول في الفصل الثاني، مثل الابن الضال باعتبار أن هذا المثل يكشف بوضوح عن حقيقة المحبة الأبوية لله تجاه الإنسان، هذه المحبة التي تترفع أن توصد الباب أمام ضعف الإنسان حينما يتردى في الخطيئة بعيد عن الله.

وفي الفصل الثالث سنحاول أن نتفهم العلاقة المتبادلة بين أطراف ثلاثة. . الله. . الإنسان. . العدالة، ومن خلال هذة العلاقة سنعرف في الفصل الرابع كيف يتسنى للعدالة الإلهية أن تقترن بالمحبة الإلهية ليكونا في النهاية شيء واحدا هو عدالة المحبة أو المحبة العادلة التي تعطي كل واحد حسب أعماله.

ثم نتعرض لمشكلة الجحيم في الفصل الخامس باعتبارها حجر عثرة أمام المحبة الإلهية، في حين أن المحبة الإلهية بريئة من وصمة هذا الجحيم !

وسنتعرض في نفس الفصل إلي عقيدة المطهر باعتبارها حتمية يجب أن يفرضها العقل قبل الإيمان، وباعتبار أن المطهر أيضا لا يتنافى مع محبة الله المطلقة والدائمة نحو كل إنسان. . لذلك شئت أن ارفع كلمات هذا الكتاب صلاتا وقربانا لهذا الدفق الغامر من المحبة التي اشعر بها تغمر كياني وتملئني بالدهشة و الذهول. . والتي أنا مدين لها بكل شيء.

فهذه المحبة وحدها بإمكانها أن تجعلني أمينا لها قدر استطاعتي، أكثر من جميع العذابات الجهنمية.. .

                                             المـــــــــؤلف

 

 

الفصل الأول

نؤمن بالله الأب

تمهيد:-

يلزمنا منذ البداية أن نتفهم بعمق معني أبوة الله، لكي نستطيع أن نبني علي هذة الأبوة كل أفكارنا عن الله، وحتى نتمكن حين نتجه بأنظارنا إلي الله، أن ننظر إليه نظرة البنيين إلي أبيهم.

الله. . خوف الكثيرين في طفولتهم. . والكثيرين لا زالوا في كبرهم ينظرون إليه نظرتهم إلي قاضي لا يعرف إلا أن  يكافيء أو يعاقب. . وما اشد العقاب !!

أن نظرة كهذه إلي الله ليست خاطئة فحسب، بل هي تجديف علي أبوة الله. .هي طعن لأبوة الله في الصميم.

لكن هذه الأبوة تملاء قلوبنا فرحا وطمأنينة وتمنحنا ارتياحا عميقا، أننا لسنا عبيد في يد اله قادر علي كل شيء، مطلق السلطان، يصنع بنا ما يتراءى له، أن مفهوما كهذا يجعل حياة البشرية مظلمة وتعيسة .

اله قادر علي كل شيء. . تري ماذا سيصنع بنا ؟

لكن هذا الإله هو" أب " بكل ما تحمل الكلمة من معني، " أب " للجميع و" أب " شخصي لكل منا. هذه الأبوة هي الضامن الوحيد، أننا لسنا لعبة في يد الأقدار أو ريشة في مهب ريح.

هذا ما أعلنته الكنيسة بتهلل منذ البداية، نؤمن بالله الأب. . ضابط الكل.

(قانون الإيمان" يفحمنا " بكلمة تحيرنا تماما " أب " الله الأب ضابط الكل. . هنا تنفجر أفكارنا، لقد انتهي" أمر الله الكلي القدرة فكلمة أب تسطع هنا كحقيقة غير منتظرة تغير كل شيء، الله لم يعد له ذات المفهوم، وكذلك كلي القدرة )

نعم الله كلي القدرة في محبتة وأبوته وهذة الأبوة هي وحدها التي تمنحنا حرية الخطاء ونحن بإزاء اله قدوس قادر على كل شيء. .انه الإله الأب. . أو الأب الإله !

وهذه المحبة الأبوية هي التي جعلت الأب يقبل رحيل الابن الضال مجازفا بكل شيء. .

هذا لأب لحبه من القدرة ما يجعله يحترم حرية أبنائه إلي أقصى حد، وأكثر مما يمكننا أن ننتظر من أفضل أب بشري.

الأب الحقيقي يولي ابنه ثقته مهما كلف الأمر من مجازفة فهو يراهن علي ابنه بكل شيء، باسمه وشرفه وعمله، ماذا سيفعل الابن بكل هذا !؟

بإمكانه أن يخسر كل شيء. . هذا ثمن الحرية لا يمكن بناء

إنسان بأقل من هذا، وهذه المحبة الأبوية، هي أيضا التي  جعلت الأب يقبل عودة الابن الضال ويمنحه المغفرة دون قيد ولا

 شرط ( فقام وجاء إلي أبيه، وفيما هو بعيد رآه أبوه فتحنن عليه، وأسرع والقي بنفسه علي عنقه وقبله ) لو 15-20.

سنعود مرة أخري لهذا المثل لما فيه من غني.

 

v     أبوة الله في العهد القديم

هذه الأبوة أعلنها الله منذ خلق الإنسان، تدريجيا وعلي مدى التاريخ، حسب إمكانيات الفكر البشري المتزايدة (خلق الإنسان علي صورته وكمثاله ) تك 1- 26

الله يأخذ دائما بزمام المبادرة مع الإنسان منذ اللحظة الأولي،

 ومن أبوة الله تستمد كل أبوة بشرية قيمتها ومعناها، بل وتستمد وجودها أيضا، خلق الله الإنسان علي صورته ومثاله كما ينجب الأب ابنه !

سلطه علي كل الخليقة وعلي صنع يديه، الله يعلن ضمنيا للإنسان حين يسلطه علي كل الخليقة انه ابن حر ومسئول.

علي المستوي البشري، حين يتنازل شخص عن سلطته ويمنحها لشخص أخر فهذا يعني انه موثوق فيه ومحبوب.

هذا ما يبدو من خلال التاريخ الذي تسرده المصادر الكهنوتية التي وضعت علي سلم الأجيال. . ادم المخلوق علي صورة الله ". تك 1-27 " والقادر أيضا أن ينجب أولاد علي صورته ( تك 5-3:1) وكأنها تقصد إرجاع التسلسل البشري إلي الله نفسه.

هذا الإعلان الأولي واضح الدلالة علي أبوة الله للإنسان، ولو لم تكن الأبوة البشرية بكل ما تحمله من معني. ربما كنا لا نستطيع أن نتفهم شيء من أبوة الله.

عبر التاريخ يظل الله ممسكا دائما بزمام المبادرة .. أوحي ذاته لنا بتدخلاته في تاريخنا بظهورات تدريجية. فقد ظهر لرجل ثم لعائلة فلشعب ثم لسائر الشعوب لكي يعيش جميع الناس هذه العلاقة البنوية معه فهو أبوهم.

طوال ستمائة سنة كان هناك متسع من الوقت لإسحاق ويعقوب ذرية إبراهيم الصالح لكي يصيروا شعبا، هذا الشعب مستعبد في مصر والله سوف يوحي ذاته بطريقة أعمق سوف يوحي اسمه ويضرب بقوة، الأمران معا.

لكي يبقي اسم الله الأب ملازما لعمل لا ينسي، عمل تحرير وحرية، اقترب الله كثيرا من موسي بينما كان يرعى يوما قطيع حماه في صحراء سيناء، ناداه من وسط عليقة تحترق، أنا اله آبائك اله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. .

لقد رأيت ألام شعبي في مصر وسمعت صوت عذابة تحت

 وطأت ظالميه فقررت تحريره، امضي ألان. . سأقول إذا لبني إسرائيل أن اله إبائهم يرسلني أليهم، وان سألوني عن اسمه فبماذا أجيب ؟ أنا الكائن. . هذا ما تجيب به بني إسرائيل الكائن يرسلني أليكم، هو الاسم الذي سأحمله دائما وبه ستدعوني الأجيال المقبلة. . (خر3)

هذا وحي اسم يهوه، أنا هو، لحظة خارقة يخطو فيها الله خطوة الصداقة الحميمة فيعطي الأخر سلطة علي ذاته بقوله اسمي فلان من ألان تعرف كيف تدعوني.

ليس للاسم الموحي هنا ايه صفة تحديدية، فهو اسم علم اسم شخص محسوس شخص ماثل هنا هو اسم حضور وقرب وخلاص. أنا هنا. . أنا هنا لأجلكم وسوف تجدونني في العمل.

أنا هنا قربكم ولن أترككم أبدا، أنا هنا معكم وسط تقلبات تاريخكم أنا هنا دائما والي الأبد.

وترتبط أبوة الله التي لازالت غامضة في تاريخ شعب الله بنوع جديد من الأبوة يمثل مرحلة انتقالية أساسية نحو إعلان أبوة الله الكاملة للجنس البشرى تلك هي أبوة الإباء " إبراهيم وإسحاق ويعقوب " إبراز الطابع الروحي في الأبوة البشرية قد

ساعد في تفهم أبوة الله " وسيظل شعب إسرائيل متمسكا بهذه الأبوة والمواعيد المعطاة لإبراهيم معتقدين أن هذه الأبوة وهذة المواعيد ستقتصر فقط علي إسرائيل دون الأمم!

لكن هل يمكن لشعب أو امة أن تحتكر محبة الله وأبوته؟ 

الطابع الروحي للأبوة البشرية كان مرحلة انتقالية ضرورية لانفتاح شعب الله واتجاهه نحو تفهم أعمق لأبوة كاملة وشاملة هي أبوة الله، وبعد أن تتأصل هذة الأبوة البشرية ذات الطابع الروحي في ضمير شعب الله علي مدي التاريخ. . وفي وقت السبي خاصة نجد أن فكرة (أبوة الإباء) تهتز تماما في وجدان الشعب، وتبداء الأفكار تتجه نحو الله ذاته نحو أبوته بالذات.إذ يصرخ الشعب علي لسان اشعياء النبي ( فأنك أنت أبونا – إبراهيم لم يعرفنا وإسرائيل لم يعلم بنا، أنت يارب أبونا وفادينا منذ الدهر اسمك " اشعياء 63- 16")

محنة السبي اتجهت بلانظار إلي أبوة جديدة أكثر شمولية وامتلاء "انك أنت أبونا إبراهيم لم يعرفنا وإسرائيل لم يعلم بنا"

أن أبوة إبراهيم ويعقوب لم تعد كافية ألان بل أصبحت أبوة عاجزة أمام محنة السبي. . .

اختبار جديد لشعب إسرائيل. . ألان ينبغي أن يتجه الشعب إلي الله رأسا، يجب أن يتدخل الله (شخصيا) باعتباره الأب الأعظم وأبو الإباء، وباعتباره أيضا فادي ومخلص. . ." أنت يارب أبونا وفادينا منذ الدهر"

نعم يارب أنت أبونا وفادينا منذ الدهر، وهذه الأبوة هي التي تستطيع أن تنقذ الشعب من سبي الخطيئة.

 وعلي صفحات التاريخ. . التاريخ المقدس، تاريخ تدخلات الله في تاريخنا، نكاد لا نجد سفرا يخلو من إعلان عن أبوة الله.

" فاعلم في نفسك انه كما يؤدب المرء ولده أدبك الرب إلهك. " تثنية 8 – 5 " وعلى لسان ملاخي النبي يقول الرب (أنهم سيكونون خاصة لي، قال رب الجنود اعمل وأشفق عليهم كما يشفق الإنسان علي ابنه الذي يخدمه. ( ملاخي 3-17)

ولعل من ابلغ ما أعلنه الوحي عن أبوة الله ومحبته التي تفوق كل تصوراتنا البشرية ما جاء علي لسان اشعياء النبي (أتنسي المرآة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها، لكن ولو أن هؤلاء نسين لا أنساك يقول الرب (اش49-15)

فالوحي يتجه مباشرة  نحو اقوي عاطفة بشرية عرفها الإنسان، عاطفة الأمومة، يبدو أنة نوع من التحدي، نعم الله يتحدى كل عواطفنا البشرية الضئيلة أمام محبتة، مبرهنا لنا عن محبة غير محدودة، تتجاوز بلا مقارنة كل ما يملاء قلوبنا الصغيرة من عواطف محبة، حتي لو كانت محبة أم لرضيعها، مهما كانت رائعة ،إن نست ألام رضيعها، هذا يبدو غير ممكن، لكن يقول الوحي حتي لو حدث هذا فان الله لا ينسي. . لكن إلا ينبغي أن نفهم جيدا أن طرق الله غير طرق البشر؟!

 

v     أبوة الله في العهد الجديد

لقد أعلن الله أبوته في العهد الجديد من خلال المسيح إعلانا كاملا من حيث الجوهر. إلا أن الكنيسة ستظل علي مدي تاريخها تتعمق في هذه الأبوة وتستكشف فيها أفاقا جديدة كما يحاول طفل صغير أن يتفهم ما هي الأبوة علي مدي سنوات طويلة.

وكما أن الكنيسة لا تستطيع أن تتفهم عقليا حقيقة إيمانية ما، تفهما كاملا وتاما، كذلك فأنها لن تستطيع أن تتفهم حقيقة أبوة الله تفهما كاملا ونهائيا، لأنه لا يوجد فهم كامل وتام لحقيقة ما إلا لدي الله وحده. لكن الكنيسة دائما في حركة تقدم ونمو وتفهم أعمق لحقائق الإيمان. هذا ما نستطيع أن نلاحظه في تطور فهم الكنيسة للحقائق الإيمانية في العصور الأولي عنه في القرون الوسطي، ثم انفتاح الكنيسة المعاصرة فكريا وثقافيا نحو تفهم أعمق لحقائق الإيمان حسب قدرات أبنائها، والاحتياجات الحياتية، وإمكانيات الفكر المتزايدة، دون أن تصل في ذلك إلي نهاية.

سنحاول ألان أن نتفهم هذه الأبوة من خلال العهد الجديد، من خلال المسيح نفسه، الذي سمع من الأب وكما سمع اخبرنا. .

ولعل أول ما يتبادر إلي ذهننا، هو تلك الصلاة الرائعة التي علمها المسيح إلي تلاميذه، عندما سألوه قائلين، يارب علمنا أن نصلي.

فقال لهم : أن أردتم أن تصلوا فقولوا " أبانا الذي في السموات. . متي 6 : 9 "

هذه الصلاة الرائعة لم تكن مجرد صلاة فقط، لكنها كانت مجرد أسلوبا جديدا للصلاة. المسيح أراد أن يعلم تلاميذه ليس مجرد صلاة، وإنما أسلوب جديد للصلاة.

صلاتنا ألان محض مناجاة بين أبناء وأبيهم. . أبانا الذي في السموات. . نداء الأبناء لأبيهم الذي نردده كل يوم بحماس، وربما بغير وعي – في صلاتنا الشخصية وفي كنائسنا، كلمة توحدنا جميعا كأخوة وأبناء لأب واحد.

أب يستجيب لنداء أبنائه. . " أطلبوا تجدوا. . اسألوا تعطوا. . اقرعوا يفتح لكم، لان كل من يطلب يجد ومن يسال يعطي، ومن يقرع يفتح له " اله دائما يعطي ويستجيب لمن يطلب منه، لذلك يعود فيسأل من جديد (من منكم إذا سأله ابنه خبزا فيعطيه حجرا، أو إذا سأله سمكة يعطيه حية، فإذا كنتم انتم الأشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا صالحه فكم بالحري أبوكم الذي في السموات، يمنح الصالحات لمن يسأله "(متي 7 : 7-11)

يجب أن ننتزع نفوسنا من التبلد واللامبالاة عندما نقرأ هذه الكلمات، لكي نتعلم أن نطلب بثقة، لا عطايا لمن لا يطلب. . لا توجد عطايا تعطي جزافا لمن لا يطلب، أب يستجيب إذا يجب أن يكون هناك ابن يطلب.

أب أيضا حاضر في تاريخ البشرية، وفي تاريخنا الشخصي، عمانوئيل، الله معنا وفينا وحاضر دائما في صميم حياتنا، موجود في التاريخ الشخصي لكل منا، بل في داخل ذواتنا، وهو الذي يكيف مصائرنا. . فإذا ما أصغينا إلية سيقودنا بلا شك نحو حياة متجددة، لان ملكوت الله داخل نفوسنا هنا وألان.

أب يمنح العناية لكل الخليقة. . (أليس عصفوران يباعان بفلس، ومع ذلك فواحد منها لا يسقط علي الأرض بدون أبيكم " متي10- 29 )

طيور السماء التي لا تزرع ولا تحصد، وليس لها أهراء الله يقوتها " لو12-24 " شكرا لك يارب، لأنك تهتم بخليقتك الضعيفة. .

وعندما قال المسيح (اطلبوا ملكوت الله أولا، وهذا كله يزاد لكم " لو 12-31" ) أراد أن يقول لنا أننا ينبغي أن ندخل أولا مع الله في علاقة صميمة حميمة، علاقة أبناء بابيهم.

يجب أن نقبل هذة الأبوة أولا. ونتفاعل معها، يجب أن نقبل الله في حياتنا كأب.

هذا ما يؤكد عليه المسيح " أبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلي هذا" انه أب ويعلم احتياجات أبنائه، لكن هل يقبل الأبناء هذه الأبوة؟

" لكن اطلبوا ملكوت الله أولا ". . أن احتياجاتنا الحياتية ستتوفر بكثرة، بل أننا سنصبح في غير احتياج شديد لها، لأننا سنكتفي بالله عن كل شيء، سوف لا نخاف أو نجزع بعد ألان، لان لنا صخرة خلاص. . وماذا أيضا؟

نقرأ في انجيل لوقا ( لا تخف أيها القطيع الصغير، لأنه حسن لدي أبيكم أن يعطيكم الملكوت " لو 12 : 32" )

لقد شاء الأب أن يمنح بنيه الملكوت، هذا الملكوت يبدأ منذ قبولنا العميق لأبوة الله، لسلطته كأب، نعم أن الأب شاء أن يمنح بنيه أن يرثوا معه الملكوت، ذلك حسن لديه، كما حسن لديه أن يخلق الإنسان علي صورته ومثاله.

فالذي يقيت الطيور التي لا تزرع ولا تحصد، ويلبس زنابق الحقل التي تطرح غدا في التنور، أفضل من سليمان في كل مجده. . يمنح محبتة لبنيه بدون حدود.

سوف لا يقتصر الأمر عند هذا الحد، لكن الله سيوحي ذاته علي غرار ما صنع مع شعبه، شعب إسرائيل حينما كان مستعبدا في ارض مصر، سيبادر بعمل تحرير وحرية، سيبادر بعمل تحرير حاسم ونهائي.

مبادرة الخلاص ترجع أصلا إلي الأب الذي يرسل ابنه الوحيد " غلاطية4- 4"رومية 8- 3" فالأب مصدر كل شيء وغايته " كورونثوس 8- 6" لذلك فانه يجب أن نرد كل شيء إلي الأب، صاحب كل مبادرة ومبتدى كل شيء. سيوحي ذاته ويبادر بعمل تحرير وحرية، هذه المرة سيكون عمل حاسم ونهائي، سيرسل ابنه الوحيد، خلاصا وفداء من اجل البشر حتي لا يهلك الجميع.

الأب سيغامر بابنه الوحيد من اجل خلاص سائر الأبناء، الأب الحقيقي يقبل جميع التضحيات لكي يخلص بنيه، وينزل إلي "الجحيم" لكي يرفعهم. لكن اله يصنع هذا، شيء لا يصدقه عقل. . اله لا يصنع هذا لا نستطيع أن نؤمن به. .

 لأنه اله أب، وهذا الأب هو المحبة بالذات، ولا شيء سوي ذلك، ولذلك فان المجانية الوحيدة المطلقة والأبدية في الحب، هي في حب الله الأبوي الكلي القدرة

لقد وصل هذا الإعلان إلي ذروة كماله في شخص المسيح نفسه، باعتباره الابن الوحيد منذ الأزل " والشخص " الوحيد الذي سيقود البشرية جمعاء إلي الاب، جامعا في شخصه أخوة جديدة لكل البشرية، ومعني أعمق للبنوة. . وليضم بتكفيره ألانهائي جميع الأبناء إلي الآب.

معجزة الفداء هي في المقام الأول معجزة حب، هي معجزة " أب ضعيف وفقير أمام محبته، محبته تغلبه دائما علي أمره "

معجزة المحبة في طرف. . ونقيضها الجحود والرفض في الطرف الأخر، لكن لمن ستكون الغلبة ؟

سنري فيما بعد

 

الفصل الثاني

كان لرجل ابنان

  

بعد أن تكلمنا عن أبوة الله و محبتة العميقة للإنسان هذة المحبة التي تجاوزت كل توقعات الفكر البشرى، وستظل أبدا تتجاوزها…

 فهي التي حققت الخلاص للبشرية بالتجسد و الفداء فأصبح  الطريق ممهدا أمام الإنسان ليمضى قدما نحو هذة المحبة اللانهائية ..

وفى هذا الفصل سنتناول مثل الابن الضال باعتبار إن هذا المثل يكشف بوضوح عن حقيقة المحبة  الأبوية لله تجاه الإنسان، هذه المحبة التي ترتفع أن توصد الباب أمام ضعف الإنسان حينما يتردى في الخطيئة بعيدا عن الله من ناحية ـ ومن ناحية أخري حالة الإنسان الذي يظل يتأرجح بين الخير والشر، بين قبول الله ورفضه، ويظل في صراع دائم بين حريته الذاتية التي سنجد فيما بعد أنها تتناقض وتصطدم بالنواميس الطبيعية، وحرية المحبة المدعو لأن يعيشها مع الله، وذلك بعد ما طرأ على طبيعة الإنسان من خلل وضعف كنتيجة طبيعية لخطيئة الإنسان الأول ضد الله، ومن جهة ثالثه سنلقى الضوء على موقف الابن الأكبر باعتباره يمثل الإنسان أيضا عندما يقف عاجزا عن تفهم أسرار المحبة الإلهية، فيحاول أن يضع حدودا لهذه المحبة و يبنى افتراضات خاطئة للعدالة والعقاب مؤسسة على منطق بشرى، لا تتفق في جوهره مع المحبة الإلهية المطلقة.

نقرأ في انجيل لوقا " لوقا 15: 11-32 " ما تعودنا تسميته مثال الابن الضال. .

" كان لرجل ابنان " في البداية ينبهنا المثل إلي أن الابن كان أصلا في النعمة، ولم يكن بعيدا عن الله، بل مع الله. انفصال الإنسان عن الله ليس قدرا محتوما، بل فعل إرادي حر، تسبقه رغبة باطنية وإرادة متحفزة لإتمامه. . كان لرجل ابنان. .

" فقال الأصغر لأبية يا أبت اعطني النصيب الذي يخصني من المال " هذا الابن يريد أن يستقل، يريد أن يكون حرا. . خطيئة ادم القديمة. حركة تمرد وعصيان ضد الله. الإنسان يريد حريته بعيدا عن الله، اختيار صعب بين حرية الابن ومحبة الأب. اعطني النصيب الذي يخصني، لا أريد أن أقيم معك، أريد أن أكون حرا. .اعرف ماذا اصنع، وسأتحمل كل العواقب.

" فقسم لهم معيشته " قسم لهم معيشته، هكذا بكل بساطة، دون أن يقول كلمة واحدة، حينما كنت طفلا واسمع هذا المثل، كنت أتوقف عند هذا الأب كثيرا وأتساءل، لماذا يترك ابنه يرحل بهذه " السهولة " ودون أن يقول كلمة واحدة، كثيرا ما استوقفني موقف هذا الأب وحيرني، حين إذ لم أكن افهم الأمور علي حقيقتها، لكن هل كان ينبغي أن يرفض؟

الأب الحقيقي لا يحرم ابنه من الحرية، لكن الابن سيتعلم الدرس، سيدفع ثمن الحرية. كان بوسعه أن يمنعه من الرحيل، ويجبره أن يمكث معه، لكن هل كان يستطيع أن يجبره علي محبته إلا بمزيد من الثقة المحبة؟

الله لا يقبل أن يقهر حرية إنسان. . الله لا يجبر إنسان علي محبته. . ماذا يستطيع أي أب أن يفعل أمام ابن عاق يرفض محبته؟ أراد أن يرحل، فليرحل إذا. المحبة الإلهية تقتضي احترام حرية الإنسان إلي ابعد الحدود. . لذلك قسم لهم معيشته.

" وبعد أيام غير قصيرة جمع الابن الأصغر كل شيء له، وسافر إلي بلد بعيد، وبزر ماله هناك " أراد أن يكون حرا فجمع كل شيء وسافر، هناك سيكون حرا لكن وحيدا، هذا هو ثمن الحرية. . الحرية بعيدا عن الله. . حرا لكن وحيدا ومحروما من كل شيء.

هناك بذر ماله، باع نفسه للحرية، صار عبدا لحريته. . نعم هو حر. . لكنه مستعبد لأنانيته. الحرية إلي خفق لها قلبه سابقا، صارت ألان عبئا ثقيلا ومخيفا.

" عائشا في الخلاعة " عندما يعيش إنسان وحيدا ومحروما من حب نقي، يبداء يفقد إنسانيته. يظل يبحث عن نفسه بلا جدوى، وكلما حاول أن يرتوي ازداد ظمئا !

إنسان وحيد لا يعرف كيف يخرج من ذاته ويهب الحب، ولا يستطيع أيضا أن يفتح ذاته ليقبل الحب، هذا الإنسان يموت شيئا فشيئا. . يوما ما يصير جسدا بلا روح.

" فلما انفق كل شيء " انفق كل شيء، بدد كل طاقاته. . لكن أين الحرية ؟ هذه الحرية لم يعد لها قيمة، لأنها حرية متقوقعة، حرية تتغذي علي ذاتها. . هذه الحرية كشفت ألان عن معناها الحقيقي، أنها محض أنانية. . تابوت مغلق علي ذاته، كائن بائس ووحيد وفقير للغاية. . هذا المثل كان يجب تسميه مأساة الابن الضال.

" فحدث في ذلك البلد مجاعة شديدة " حدثت مجاعة شديدة، لكن هناك مجاعة أكثر عناء من المجاعة المادية، واشد قسوة ،تلك هي المجاعة التي تحدث في داخل الإنسان، في قلب الإنسان بالذات، مجاعة كل من يرفض الله، وناموس المحبة، لينغلق علي ذاته في عزلة أليمة، هذه المجاعة هي الجحيم بالذات، كما سنري فيما بعد، إنسان ينغلق علي ذاته تماما، يساوي إنسان في الجحيم، جحيم الحرمان. . فأخذ في العوز، لعله ألان " يلعن " هذة الحرية. . لكن ربما كانت حرية الإنسان، هي الشيء الوحيد الذي ليس له الحرية في أن يتخلى عنه، حرية بعيدة عن الله، تساوي هوة عميقة من العطش والجوع. . هذا هو أيضا جحيم كل من يرفض الحب. . اخذ في العوز.

" فذهب وانضوي إلي واحد من أهل هذا البلد، فأرسله إلي الحقل ليرعى الخنازير، وكان يشتهي أن يملاء بطنه من الخرنوب الذي كانت تأكله الخنازير، فلم يعطه احد " كان يشتهي طعام الخنازير ولم يعطه احد. . يا للعار. . لكن أمام الفقر والجوع الروحي والأنانية لا يتبقى لنا أي حرية. .  

" فرجع إلي نفسه " يبدو أن صراعا كان يدور هناك، في قلب هذا الابن الذي كان ينشد الحرية، لكن هناك صراعا أيضا في داخل كل إنسان، صراع ضد الحرية، حرية الأهواء والشهوات، صراعا غالب ما يرافق الإنسان في كل مسير ة حياته، هذا الصراع في حقيقته ما هو إلا صراع بين أنانية الإنسان، وناموس المحبة الذي في باطنه، لعل هذا ما تعودنا تسميته " الصراع بين الخير والشر "

لكن مهما كان عناد الخاطئ  وإصراره، فأن إمكانية التخلي عن العناد تظل قائمة أبدا. ومهما تقسي قلب الخاطئ، فقد يأتي وقت تنهار فيه مقاومته أمام محبة الله، ذلك لان محبة الله تظل تطارده دائما وأبدا. . فرجع إلي نفسه.

" قال كم لأبي من أجراء يفضل عنهم الخبز، وأنا هنا اهلك جوعا " بعد أن رجع إلي نفسه، بدأ يتكلم عن محبة أبيه، شركة المحبة التي رفضها سابق " اعطني النصيب الذي يخصني " بدأ يعقد مقارنة بين حريته ومحبة أبيه – كم لأبي من أجراء يفضل عنهم الخبز. . وأنا هنا اهلك جوعا ! مجاعة رهيبة تفغر فاها في أعماق كل إنسان، لازال يتلمس طريقه في الظلام بعيدا عن الله. لقد تبدد هذا السراب " وحلم الحرية " أصبح حقيقة رهيبة. . أن هنا اهلك جوعا – ماذا ينبغي أن اصنع ؟

" أقوم وارجع إلي أبي " لقد وصدت جميع الأبواب، وسدت كل الطرق، والحرية صارت سجنا رهيبا ،ليس أمامي إلا أبي، لكن هل لا يزال " أبي "؟ لعله ألان لا يحبني لا يريد أن يراني، ماذا صنعت ؟ لقد ضيعت كل شيء. . أبي سوف يرفضني سيطردني خارجا، ماذا افعل، ماذا أقول له ؟

" أخطأت إلي السماء وقدامك، لست مستحقا أن ادعي لك ابنا، اجعلني كأحد أجرائك " نعم لست استحق أن ادعي له ابنا. لقد تركته بلا سبب، ضيعت أمواله في الرزيلة، له العذر كل العذر. . إذا فليجعلني كأحد أجرائه، هل سيرفض هذا أيضا ؟ لعله يقبل أن أكون كأجير لديه ؟ ربما يقبل هذا. . سأتوسل إلية أن يقبل، أكون أجير عند أبي أفضل ألف مرة  من أن كون حرا ووحيدا – سأقوم وامضي إليه، غدا سأكون هناك، في بيت أبي. . في بيتي. . يا لها من سعادة. .

" فقام وجاء إلي أبيه، وفيما هو بعيد رآه أبوه " فيما هو بعيد، كيف إذا رآه ؟ هل كان في انتظاره هل كان ينتظر عودته!

لعله يتذكر ألان، أخر مرة رآه فيها، عندما اخذ كل شيء وغادر البيت. ابن جاحد يعود ألان بعد أن ضيع كل شيء ؟ لماذا يعود ؟ ماذا يريد ؟ هذا الابن العاق يجب أن يركع إلي الأرض، يطلب الصفح بدموع كثيرة، يجب أن أوبخه بشدة علي ما صنع. . علي الأقل يجب أن اسمع منه كلمة اعتذار وندم، ربما أستطيع أن اصفح عنه بعد ذلك. بل يجب أن يكفر من كل ما فعل. . ثم لعله يعود مرة أخري من حيث أتي ؟ لست أثق فيه لقد خان ثقتي. . للمرة الثانية "يفحمنا" هذا الأب بمحبته، ويحطم كل توقعاتنا، ويهدم منطقنا البشري تماما.

" فتحنن عليه، وأسرع والقي بنفسه علي عنقه وقبله " في طفولتنا كثيرا ما كان يقص علينا هذا المثل ،حينئذ لم يكن يعطي اهتماما إلا لجسامه الخطيئة، وما لاقاه الابن من حرمان بعيدا عن أبيه، لكن هذا الأب يملاء عقولنا بالدهشة مرة ثانية عند عودة الابن. . لماذا يستقبله بهذا الفرح !؟ تصرفات هذا الأب تحيرنا تمام، تحنن، أسرع ،القي بنفسه، قبله، اشتياق عميق ،انتظار طويل، حب ولهفة، كأنما خرج للقاء أي شخص أخر غير هذا الابن العاق الذي بذر أمواله. تصرفات هذا الأب تربكنا تماما، سابقا قسم لهم معيشته وترك الابن يرحل، لم يتدخل في الأمر، لم يطلب منه أن يبقي، لم يبدي أي ممانعة، وألان الم يكن من الأفضل أن يعاقبه ؟ علي الأقل يجب علي الابن أن يبدي حسن نواياه، وانه لن يعود لمثل ما فعل مرة أخري، لكن الأب سيضرب عرض الحائط بكل هذا " ويفحمنا " للمرة الثانية. . أسرع وقبله!

" فقال له الابن يا أبت أخطأت إلي السماء وقدامك، ولست مستحق أن ادعي لك ابنا، فقال ألاب للعبيد هاتوا الحلة الأولي، وألبسوه، اجعلوا خاتما في يديه، وفي رجليه حذاء، وأتوا بالعجل المسمن، واذبحوه، فنأكل ونفرح جميعا لان ابني هذا كان ميتا فعاش، وكان ضالا فوجد، فطفقوا يفرحون " فما معني هذا الكلام ؟ لقد عاد الابن ونال الصفح بلا قيد ولا شرط، ألا يكفي كل هذا. . كلا، لقد عاد الابن وسيبقي في بيت أبيه كابن، والأب سيرد إليه كل حقوقه كابن. ولا ينبغي أن يشعر بعد ألان بأي نوع من العار أو الخجل أو الشعور بالذنب. وسيبرهن الأب علي أن صفحه كان تاما وكاملا ونهائيا. . الحلة الأولي. . الخاتم والحذاء. . والعجل المسمن.

لقد ردت الأمور إلي نصابها، وعاد الابن إلي حيث ينبغي أن يكون، لقد أدرك خطئه، هذا يكفي.

يبدو أن هذا الأب " متهاون " أكثر مما ينبغي، إلا يجب أن يكون هناك عقاب !؟ بالفعل لقد نال الابن عقابا. . كان ميتا وضالا. . وكاد أن يهلك جوعا، اشتهي طعام الخنازير ولم يعطه احد، كان معوز وفقير وجائع،. . كان محروما من المحبة ووحيدا. . الأب يفهم انه نال العقاب. ليس ثمة ما يدعوا لعقاب. . هذا الابن لا يحتاج لعقاب، بل لمزيد من المحبة، انه ألان متعطش أكثر إلي الصفح والمحبة.. عقاب !. . ماذا بأمكان العقاب أن يفعل أمام قوة المحبة ؟ نحن نظن أن العقاب يجدي. . لكن الله " يفهم " إذ لم تجدي المحبة، فلا شيء أخر يجدي.

" وكان ابنه الاكبر في الحقل، فلما أتي وقرب من البيت، سمع أصوات غناء ورقص، فدعا احد الغلمان وسأله ما هذا. فقال قدم أخوك، فذبح أبوك العجل المسمن، لأنه لقيه سالما فغضب ولم يرد أن يدخل " هذا ما نفكر به دائما تجاه الآخرين.

غضب ولم يرد أن يدخل لان الأب قبل أخاه، نحن نقبل الصفح والمغفرة لأنفسنا، أما بالنسبة للآخرين فالأمر يختلف ! يجب أن يتحملوا مسئولية أخطائهم. . ألم يكونوا يعرفوا أن هذا خطأ. . كان ينبغي إلا يفعلوا هذا، يجب أن يكون هناك عدل، إذا يجب أن يكون هناك عقاب.

الآخرين. .  الأمر لا يخصنا. . نصدر أحكاما سريعة، ونطالب بتطبيق عدالة، الله سيعاقب وينتقم، الله عادل. . وننسي أن الله محبة !!

أما حين يتعلق الأمر بنا. . فأننا معذورون ضعفاء، ليس الذنب ذنبنا، لسنا مسئولين عما حدث، إذا كان الأمر يتعلق بنا، فإننا ننتظر العفو والرحمة. . مغالطة مفضوحة ومنطق بشري أناني.

يحكي لنا كاتب ملهم " أن الله في نهاية الزمان، فصل الأبرار عن الأشرار، وجعل الأبرار عن يمينه والأشرار عن شماله، فطفق الأشرار يتوسلون إلي الله بدموع كثيرة أن يرحمهم ويقبلهم في ملكوته، فتحنن عليهم وصفح عن الجميع وأدخلهم إلي ملكوته. . فبدأ الأبرار يتذمرون قائلين: كيف يساوي هؤلاء الأشرار بنا، هذا ليس عدلا، فماذا كانت النتيجة ؟ لقد هوي هؤلاء الأبرار في الحال إلي الجحيم، لأنه لم تكن فيهم المحبة " بار بلا محبه لا يساوي شيء " بولس الأولي إلي كورونثوس 13- 1: 13 هذا الكاتب كان ملهما وعبقريا.

"فخرج أبوه وطفق يتوسل إليه، فأجاب وقال لأبيه، كم من السنين أخدمك ولم أتعدي وصيتك قط وأنت لم تعطني جديا لأتنعم به مع أصدقائي، ولما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني ذبحت له العجل المسمن "

خرج أبوه وطفق يتوسل إليه. . يا للعار. . يتوسل إلية. . من اجل أخيه ! هذا الابن يعتبر نفسه بارا لم يتعدى وصية أبيه، لكنه صنع ما هو أعظم من ذلك، رفض ناموس المحبة، غضب ولم يرد أن يدخل. لديه مبرر " قانوني " توجد أسباب وجيهة لذلك – كم من السنين أخدمك ؟ لم أتعدى وصيتك قط. . أسباب وجيهة، لكنها تنبثق من منطق أناني. بدأ يعقد مقارنة. . الأب لا يفهم الأمور علي حقيقتها، يجب أن يوضح له الأمر، كم من السنين أخدمك ؟ لم اتعدا وصيتك. . لم يكن بارا مثلي. . لم يقل أخي، بل ابنك، كأنه ليس بأخيه. . أسلوب لا ينطوي علي محبة بل " تفوح " منه رائحة الجهل والأنانية.

لعل الابن الأكبر كان أكثر ضلالا عندما حاول أن يضع حدودا للرحمة، وقيود علي محبة أبيه، مثلنا تماما عندما نتطوع دائما ونبادر بوضع القيود علي محبة الله!!

" فقال له يا بني أنت معي في كل حين، وكل ما لي فهو لك، ولكن كان ينبغي أن نفرح لان أخاك هذا كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد " يا بني أنت معي في كل حين، كان ينبغي أن تفهم ما هي محبة الآب، كان يجب أن تفرح لان أخاك كان ميتا فعاش. . وكان ضالا فوجد.

هذا كان منطق العدالة " الابن الاكبر " بإزاء قوة المحبة "الأب " وبين الاثنين ضعف الخاطئ " الابن الضال "

ومن خلال تناولنا لهذا المثل كنا أمام ثلاث شخصيات رئيسية، تمثل ثلاث قيم مختلفة، هي المحبة الإلهية، ومنطق العدالة، وضعف الطبيعة البشرية، لذلك فأن تناولنا لهذا المثل، لا يتضمن أكثر من نظرة تحليلية لإلقاء الضوء علي هذة القيم، وتعطش الإنسان للحرية بعيدا عن الله، التي ربما تكون هي خطيئة ادم الأولي. .  

 

    

الفصل الثالث

الله. . الإنسان. . العدالة

رأينا في الفصل الأول كيف أن الله يمسك دائما بزمام المبادرة تجاه الإنسان، متجاوزا في محبته كل توقعات الجنس البشري. ثم رأينا في الفصل الثاني، مجاوبة الله تجاه الإنسان، عندما يرفض الله والمحبة ألالهية، باعتبار أن الخطيئة هي رفض الله بطريقة أو أخري،  ثم الأخ الأكبر باعتباره منطق العدالة البشرية التي تضع قيودا علي المحبة الإلهية.

ألان سننظر إلي نفس هذه القيم بطريقة أكثر وضوحا وشمولية. . باعتبارها تمثل ثلاث زوايا في مثلث واحد، متواجهه ومتكاملة.

1-    الله. . قوة المحبة – قبول دائم للإنسان، ومحبة لا نهائية

2-    الإنسان. . ضعف الطبيعة البشرية – وجود يتأرجح بين القبول والرفض.

3-    العدالة. . منطق العدالة – باعتباره منطق بشري يضع افتراضات خاطئة، للعدالة الإلهية والعقاب.

يجب أن ننتبه هنا إلي أن هناك علاقة متبادلة بين الله والإنسان – محبة الله من طرف – واستجابة الإنسان من الطرف الأخر. . لكن مهما اختلفت هذه الاستجابة، فأنها تمثل مجاوبة من جهة الإنسان تجاه الله. ولا شك أن هذه الاستجابة ستختلف من شخص إلي أخر، لكنها مهما اختلفت فأنها ستكون حاله ما بين طرفي نقيض. . أما القبول التام، وأما الرفض التام، وبين هذين النقيضين يقع الملكوت والجحيم، ذلك لان الملكوت والجحيم حالة يصل أليها الإنسان، حسب قدرته ورغبته في الانفتاح علي المحبة الإلهية وقبولها، أو الانغلاق عن هذه المحبة ورفضها، وسنحاول أن نتفهم العلاقة القائمة بين أطراف هذا المثلث.

 

v      أولا : الله. . قبول دائم للإنسان ومحبة لا نهائية. .  

حين أوحي الله ذاته لموسي في العليقة الملتهبة قال له " أنا من أنا – أو أن الكائن " ذلك لان الله لا يُعرف، لا يمكن أن نحصر الله في كلمات بشرية، لغة البشر تعجز تماما أن تضع تحديدا لله، حين يحاول أي إنسان أن يضع تعريفا لله سوف تتملكه الحيرة والارتباك أمام هذا الكائن آلا محدود الذي يحار في فهمه الحكماء. . لكن تبقي كلمة واحدة في اللغة البشرية بمقدورها أن تعطي تعريفا عن الله. كلمة واحدة فقط استطاعت المسيحية أن تعرف بها الله هي المحبة، الله محبة، حين أرادت المسيحية أن تعرف الله للآخرين، عرفته بأنه محبة. . الله لم يعرف بأنه عدالة أو رحمة أو خالق. . الخ، بل محبة وكفي. نعم يمكن أن نقول أن الله عادل أو رحيم أو خالق، لكن هل نستطيع أن نقول أن الله عدالة، أو الله رحمة، أو الله خلق ؟. . هذه يمكن أن تكون صفات إلهية. . لكن الله ذاته هو محبة.

هذه المحبة لها من القدرة ما يجعلها تقبل الإنسان حتي في أسوء حالات الجحود والتلوث بالخطيئة، وتمد يدها إلي ذلك المخلوق التعيس الشقي، الذي يتأرجح دائما بين الخير والشر، لتأخذ بيده وتمضي به قدما علي طريق المحبة والفضيلة. بل نستطيع أن نقول أن مصير الجنس البشري بأكمله يتوقف علي هذه المحبة، فالمحبة الإلهية، والمحبة الإلهية وحدها بأمكانها أن تظل دائما فيضا من " الدفء والنور" يغمر الإنسان ويساعده علي أن يخرج من ذاته لينفتح علي الأخر، والكون والله، ويمضي في طريق لا نهائي مغامرا بكل شيء ليحقق وجوده.

هذا ما يبدو من خلال الابن الضال، قبول الأب لعودة الابن كان تاما وكاملا، لكن يبدو هنا أن هذا القبول كان مشروطا بعودة الابن، بدون رجوع الابن لم يكن هناك أي إمكانية لهذا القبول. هل نفهم من ذلك أن المحبة الإلهية هي حاله مشروطة دائما بمبادرة الإنسان بالالتجاء أليها ؟ " أقوم وارجع إلي أبي "

نقرأ في انجيل متي ( ماذا تظنون إذا كان احد له مئة خروف فضل واحد منها ،أفلا يترك التسعة والتسعين في الجبال، ويمضي في طلب الضال ؟ فإذا وجده فالحق أقول لكم انه يفرح به أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضل. هكذا فأنه ليس من مشيئة أبي الذي في السماوات أن يهلك احد. . متي 18- 12: 14 نعم ليس من مشيئة الله الأب أن يهلك احد، هنا تظهر لنا المحبة الإلهية كحاله قبول غير مشروطة للإنسان، لا تنتظر عودته للالتجاء أليها فحسب، بل تبادر هي للبحث عن الضال بين الأشواك لتخلصه، هذا هو ناموس المحبة الإلهية !

وفي حياة يسوع علي الأرض ،نجد مواجهات عديدة بين المحبة الإلهية والإنسان. . الإنسان في أسوء حالات الجحود والتلوث بالخطيئة، لكن هذة المحبة تجيب دائما بطريقة واحدة وثابتة. . هي المحبة!

حين قدم إلية الكتبة والفريسيون امرأة أخذت في ألزني كانوا يبغون تطبيق الشريعة. . شريعة موسي تقول أن هذه المرآة يجب أن ترجم. . بإمكان المسيح أن يتركهم يرجموها، بإمكانه أن يوبخها ،الشريعة تدينها. .

هؤلاء الفريسيين ظنوا أن بإمكانهم أن يضعوا هذا الشاب العبراني الذي ظل ينادي لسنوات بالصفح والرحمة في مأزق حرج، شريعة موسي في كفة، ومبادئ هذا النبي في كفة، وعليه أن يختار. لكن هل كان بإمكان المسيح حقا أن يتركهم يرجموها ؟ لقد ظل دائما يرفض كل صور العنف والقسوة، حتي لو تنكرت يوما في رداء من العدالة، أو لبست ثوبا من الشرعية الزائفة. لكن صوت المسيح يأتي هادئا، وديعا، مسالما، هامسا كعادته دائما، لكنه قوي كالصاعقة. . من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بأول حجر! انقلب الموقف تماما والمشتكون عليها أصبحوا في موقف اشد حرجا، ولان كل إنسان يعرف انه ليس بلا خطيئة، طفقوا ينسحبون واحدا فواحد. وكأن لسان حال المسيح يقول لهم، أن المحبة الإلهية تترفع أن تدين كما العدالة البشرية، فأن كان ثمة دينونة فهي دينونة محبة. نعود مرة أخري إلي هذا المشهد. . المسيح جالس علي الأرض، والمرآة واقفة تنتظر، الم يدينك احد؟. . لا يا معلم، ولا أنا أدينك. . اذهبي ولا تخطئي أيضا.

كثيرا ما يتسأل الآخرين لماذا لم يدن المسيح المرآة الزانية ؟ ألزني خطيئة جسيمة في المسيحية، والمسيح ينصب نفسه محاميا عن هذه المرآة ؟ لكن من قال أن المسيح لم يدينها ؟. . بل أدانها حين قال لها ولا أنا أدينك. . أدانها، لقد وضعها وجها لوجه أمام نفسها. . هي نفسها ستدين ذاتها. . ليس ثمة دينونة من الخارج. . لكن الدينونة ستأتي من الداخل ! كل من تملكه الندم علي خطا ما فعله، يعرف كم يكون الندم اقسي واشد وطأه من أي لوم يوجهه إليه الآخرين. . أحيانا عندما نتهرب من نتائج أعمالنا. . ويظل ضميرنا يؤرقنا نود لم أن شخصا ما يديننا. . هذا أفضل من أن نكون قضاة لأنفسنا. لعل هذا هو السبب في أن بعض الهاربين من العدالة، يأتي عليهم وقت ويعترفون هم أنفسهم بجريمتهم، عندما يشعرون في قرارة نفوسهم أنهم حقا مذنبين، ولا يزال لديهم بقية من ضمير، وثقة في العدالة. . أن يدينهم الآخرين أفضل من أن يكونوا هم قضاة لأنفسهم. .

وان كانت الدينونة الذاتية، ليست اخف وطأة من دينونة الخارج، إلا أنها تبدو أكثرعدالة وإنسانية، وأكثر تمشيا مع مبادئ الناموس الخلقي الباطني الذي يقوم علي الحرية و المسئولية والضمير. . كما سنري فيما بعد.

مرة أخري تجيب هذه المحبة الإلهية علي جحود الإنسان وخيانته، هذه المرة كانت الخطيئة بوعي كامل وإصرار عنيد، خيانة مسبقة تم الأعداد لها بمهارة وإصرار، انه هو الذي اقبله فامسكوه. . قبله خيانة ونفاق مريرة، لكن ماذا قال له المسيح حين ذاك ؟. . يا صاحب أبقبلة تسلم ابن الإنسان ؟ صاحب !. . لا زال يدعوا من خانه صاحب وصديق !. . ولعلها كانت محاولة أخيرة من المسيح لأيقاظ ضمير هذا الإنسان، أكثر منها كلمة تأنيب.

أخيرا وإذا ما تذكرنا تلك اللحظات الرهيبة عندما كان المسيح هناك علي جبل الجلجثة معلقا بين لصين علي خشبة الصليب، رمز المحبة الأعظم، يهزئ به بعض الجنود القساة، وهو في شدة الألم، مجروح وجسده قد مزقته السياط، وبرغم هذا تنساب كلمات المسيح الأخيرة، كنهر دافق من المحبة يغمر البشرية بأسرها " يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعرفون ماذا يصنعون " هذه الكلمات نطق بها لأجل جنود الرومان، والذين كانوا يصرخون عليه بالأمس اصلبه اصلبه، ولأجل كل البشرية، ولأجلنا نحن جميعا ولاجل كل منا بصفة شخصية.

لقد اعتدنا أن نقبل هذه الوقائع، بفعل التعود والتكرار، الذي يصيب العقل والوجدان بالتبلد، لكن يجب علينا أن نقبل هذه الوقائع كل يوم كأنها جديدة تحدث ألان هناك علي جبل الجلجثة، بين لصين يموت هذا الشاب العبراني، لأنه احب خاصته إلي المنتهي، وهو لا يزال يردد " اغفر لهم يا ابتاه لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون " لقد مات الله ". . قضت عليه محبته أن يموت بين يدي البشر. . حين نفكر بهذا يجب أن يصيبنا الذهول، يجب أن ترتعش قلوبنا من الفرح والرهبة.

 

" قالت قطعت الجليد. . وقد مسها أول شعاع من اشعة الشمس في مستهل الربيع، أنا احب، وأنا اذوب، وليس في الامكان أن احب وأوجد معا، فأنه لابد من الاختيار بين امرين، وجود بدون حب، وهذا هو الشتاء القارص الفظيع، أو حب بدون وجود، وهذا هو الموت في مطلع الربيع "

 

v      ثانيا : الإنسان. . وجود يتأرجح بين القبول والرفض.

تروي لنا اسطورة لاتينية قديمة انه ذات يوم ( كان الهم يعبر نهر من الانهار، حينما لمح من بعيد قطعة صغيرة من الأرض، وراح يفكر ماذا عساه صانع بها ،حينما وجد نفسه وجها لوجه أمام جوبيتر، ومضي الهم يطلب من جوبيتر أن يسبغ الروح علي تلك الأرض، فلم يتردد جوبيتر في أن يجيبه إلي طلبه، ، ولكن الهم ما كاد يشرع في اطلاق اسمه علي تلك الخليقة الجديدة حتي احتج جوبيتر علي ذلك، بدعوى أن اسمه هو احق بأن يطلق علي ذلك المخلوق. بينما كان جوبيتر و الهم يتقارعان الحجج حول احقية كل منهما بالتسمية، ظهرت " الارض" وراحت هي الاخرى تطالب بأن يطلق اسمها علي ذلك المخلوق، بحجة أنها هي التي اعطته قطعة من جسدها. ثم استدار الجميع نحو " ساترون " طالبين إليه أن يحكم بينهما بالعدل، فلم يلبث أن اصدر الحكم التالي : بما انك يا جوبيتر قد وهبت الروح لهذا المخلوق، فسيكون من حقك أن تستردها منه عند الوفاة. وان ايتها الأرض بما انك قد جدتي عليه بالجسد فسيكون من حقك أن تستردي هذا الجسد، وأما أنت أيها الهم فلانك أنت الذي كونته من البداية، فسيكون من حقك أن تلازمه طوال حياته، وحيث أن ثمة خلاف حول الاسم ،فلنطلق عليه اسم " ادم " لأنه من اديم الأرض صنع "

هنا نحتاج إلي وقفة طويلة ومتأملة أمام هذا الكائن المخلوق من التراب. . وعلي صورة الله. هذا الإنسان ينتظر منه أن يصير كإله. . ومع ذلك فهو يظل دائما حاله بين الخير والشر. . الخطيئة والنعمة، ويظل يحمل عبء وجوده، وينوء بحمل الماضي و الحاضر والمستقبل، هذا الإنسان الذي تكللت حياته بالألم والشقاء، وكتب عليه أن يأكل خبزه بعرق جبينه، وارتبط مصيره " بالهم " والموت والتمزق بين السماء والأرض.

هذا الكائن الذي سلطه الله علي الخليقة وأتمنه علي صنع يديه، فتمرد علي الله وأراد أن يصبح كإله عارفا الخير والشر." تك 3-5 " وحين انفتحت عيناه وجد نفسه عريانا خارج الجنة. . فدفع ثمنا فادحا للمعرفة والحرية، واضحي ككائن مشرد بين السماء والأرض، بعد أن تمزقت أواصر الصداقة بينه وبين الخالق، حينئذ الجنة لم يعد لها من معني، لان الإنسان صار يفتقد إلي النعمة.

منذ هذه اللحظة بدئت اعظم مخاطرة في تاريخ الجنس البشري، وأصبحت حياة كل إنسان مخاطرة محفوفة بالشر والألم والموت، والجهاد المستمر ليصنع مصيره، علي نفقته الخاصة، ويخلق لنفسه نعيمها أو جحيمها.

وأصبح عليه أن يبدأ من جديد، بكل جهاد ومشقة، ليمد سلطانه علي الطبيعة و الكون، ويحاول أن يستعيد ولو جزء من سلطته المفقودة، وان كان هذا الإنسان خلال التاريخ قد تمكن شيئا فشيئا أن يخضع قوي الطبيعة ويكشف بعضا من اسرارها، وان يكن ببطء ومشقة، إلا انه ليس بإمكانه دائما أن يختار الخير فقط، بل وسيظل دائما أمام الشر والألم والموت يشعر بعجزه ومحدوديته، ويبقي الموت خاصة هو الصخرة العاتية التي تتحطم عليها جميع أماله.

ويبقي عليه أيضا أن يجدد " صداقته " مع تلك القوة المتعالية المجهولة، الله الذي تقول عنه التوراة، انه لا يمكن لأحد أن يراه ويعيش، فهو مجعول لعبادة من لا يراه مرتين. ومع ذلك فما اقل ما يعرف عن هذا الإله!

يروي لنا الحكيم الهندي راما كرشنا (أن اربعة من العميان انطلقوا يوما إلي فيل، فأخذ كل واحد منهم جارحة من جوارح الفيل، وجسها بيده، ومثلها في نفسه، فاخبر  الذي مس الرجل أن خلقة الفيل طويلة مدورة شبيهه بأصل الشجرة وجزع النخلة، واخبر الذي مس اذنه انه منبسط دقيق، واخبر الذي مس خرطومه انه طويل كالسهم. . وهكذا اخذ كل واحد من العميان يكذب صاحبه ويدعي عليه الخطأ والغلط والجهل فيما وصفه من خلق الفيل )

وهذا هو حال الناس حينما يحاولوا أن يعرفوا الله، فأن كل منهم لا يصيب الحق في كل وجوهه، ولا يخطئة في كل وجوهه، بل يصيب منه جهة واحدة، وبالتالي فأنه لا يري من الحقيقة الإلهية  الا وجها واحد من اوجهها العديدة اللامتناهية، ومن هنا كان اختلاف الفلاسفة والمفكرين ورجال اللاهوت حول حقيقة الله. اصاب الحكيم الهندي جوهر الحقيقة، فلا احد يستطيع أن يزعم أن لدية علم بكل الحقائق الإلهية – ومع ذلك – لا زال الكثيرين يعتقدون أنهم يعرفون كل شيء عن الله.

لكن الخطر الأعظم في حياة الإنسان، لا يأتيه من الخارج، بل يتهدده من داخل ذاته، فيخلق تناقضا باطنيا، وصراعا حادا في صميم وجوده. لقد كتب علي هذا المخلوق أن يناصب نفسه العداء، وان يهلك نفسه حتي يجدها، حسب قول الانجيل! فمعركة الإنسان الاساسية، ليست مع الله أو العالم أو الشيطان، بل مع ذاته، فإذا ما تواني – ولو لبرهة من الزمن – عن مواجهة قوى الشر والأنانية والكبرياء التي تموج بداخله، فأنها تنطلق من عقالها لكي تكتسح وتدمر كل شيء في طريقها، فيكون الإنسان ذاته في النهاية هو ضحيتها الأولي والأخيرة.

ولعل هذه القوي هي الشيطان الحقيقي في حياة هذا الإنسان، الذي مهما حاول أن يسقط عليه شروره، فأنه سرعان ما يتحقق أن الصراع الذي يقوم به ضد الشيطان ما هو في حقيقة الأمر إلا صراعا ضد نفسه، وعندما تضعف ارادته الخيرة، حينئذ تصبح الهزيمة أمر محتوما.

أن الشيطان قد يقرع الباب لكنه لا يقوي علي الدخول من تلقاء نفسه. لكن من يفتح الباب فقد هلك. هذا الشيطان الذي نقول عنه انه موجود، هل كان من الممكن أن يوجد لو أننا لم ننطق بكلمة " نعم " ؟

عبثا نحاول أن نبرر سقوطنا بالحديث عن قوة الشيطان وإغرائه، فان تلك الشخصية البارعة، التي نسقط عليها خبثنا وسوء نيتنا، لا يمكن أن تقوي علي عمل شيء، ما لم نرد نحن ذلك، بل ما لم تصح عزيمتنا علي السقوط.

لكن معركة الإنسان لا تكتسب مرة واحدة والي الأبد، وإنما هي مهمة يومية. وفي هذة المعركة تظل الحرية البشرية، حرية مجاهدة عليها أن تكسب كل يوم ما سبق لها أن كسبته، ففي حقيقة الأمر نحن لا نولد احرارا، بل علينا أن نتحرر كل يوم. . والويل لنا أن لم نتحرر!

هنا تظل الحرية البشرية هي الفيصل الوحيد في ملحمة الخير والشر، ولعل هذه الحرية هي المبرر الوحيد لنشوء الصراع بين الخير والشر القائم في الإنسان، حين إذ تبرز ارادة الموجود البشرى باعتباره كائن حر وعاقل، لتضع حدا لهذا الصراع، لكن مهما كانت قدرة الارادة علي اختيار الخير، فانه يبق أبدا في أعماق كل إنسان ممتاز، تناقضا حادا بين ما هو عليه، وما يجب أن يكون عليه. هذا ما عبر عنه القديس بولس حينما صرخ من اعماقه (أن الخير الذي اريده لا اصنعه، والشر الذي لا اريده اياه اصنع " رومية 7: 19 ") وعلي أي حال فأن حياة الإنسان تبقي مخاطرة مصيرية يخوضها علي حسابه الخاص وبمفرده. فهو يولد ويعيش مع الآخرين، لكنه يتألم ويموت بمفرده، وهو وحده يتحمل جسامة المسئولية والمخاطرة بمصيره.

لكن هذا المولود الشقي الذي يعرف أنه شقي، يظل أبدا يبحث عن السعادة والحرية، ولعل سر شقائه هو انه كائن يجب أن يعلو علي ذاته، يجب أن يصير أكثر من إنسان حتي يصبح إنسان، بل هو مدعو للالوهية. . هذا الإنسان لكي يحقق وجوده، يجب أن يخرج من ذاته ليهب نفسه للآخرين – هذا الإنسان اما أن يكون كإله أو أسوء من الإنسان !

لعل هذا ما قصده نيتشة عندما قال " ما الإنسان إلا حبل منصوب بين الحيوان والإنسان المتفوق، فهو الحبل المنصوب فوق الهاوية. . أن العبور للجهة المقابلة مخاطرة، وفي البقاء وسط الطريق خطر، وفي الالتفات إلي الوراء، وفي كل تردد وفي كل توقف خطر في خطر " لقد احسن نيتشة التعبير عن هذا المخلوق المتناهي، والغير متناهي في نفس الوقت، لكن بالرغم من امكانيات هذا الإنسان اللامتناهية، إلا انه يعجز أن يحقق نصرا حاسما ونهائيا علي ذاته وعلي الشر، ويعجز أيضا عن امتلاك حريته بصفة نهائية وتامة في كل الاوقات. .

لذلك فان حياة الإنسان تظل جهاد متواصل ومستمر، مع ذاته، ومع العالم، ومع الآخرين حتي يستطيع أن يكون أكثر حرية وإنسانية. . لعل هذا ما عناه احدهم حين قال " ليس الشهداء من يستشهدون مرة واحدة، لكننا أيضا نستشهد كل يوم مرات عديدة.

لذالك يجب أن نقر أن الايمان عنصر ضروري في حياة الإنسان، وان كان الإيمان نفسه ينطوي علي نوع من " المخاطرة الميتافيزيقية " لكن أي إنسان عاقل يجب أن يقبل هذه المخاطرة ويتمسك بها، لأنها تبقي للإنسان الامل الوحيد للنجاة. فالإنسان يعجز أن يحرز النصر بمفردة علي الشر والألم والموت، ومهما كان كبرياء الإنسان وعناده الذي قد يصل إلي الالحاد ورفض وجود الله ذاته، ففي النهاية يجب أن يسلم بعجزه واحتياجه الشديد إلي نوع من " الاغاثة " أو المعونة الإلهية التي يستطيع بها وحدها أن يحرز النصر علي هذه القوي التي تهدد وجوده وتجعل حياته مخاطرة كبرى.

وهنا تجيء المحبة الإلهية كغوث وفيض من المحبة، لتكمل ضعف الإنسان، وتمد له يد المعونة وتمضي به قدما نحو العلا، وقد اعطت للالم معني جديد، ومهدت السبيل أمام هذا المخلوق نحو الخلود.

 

 

 

 

 

 

v      ثالثا العدالة. . باعتبارها منطق بشري يضع قيودا علي محبة الله، ويوجد افتراضات خاطئة للعدالة الإلهية والعقاب.

تكلمنا عن المحبة الإلهية التي تفيض علي الإنسان، وتستطيع أن تقبل هذا الإنسان في أسوء حالاته عندما يكون ملطخا بالعار والخطيئة. ثم عن الانسان، هذا الموجود الشقي الذي يتارجح بين الخير والشر، ويظل في احتياج شديد إلي المعونة الإلهية حتي ستطيع أن يحرز النصر علي الشر والألم والموت. .

يبقي لنا أن نتكلم عن العدالة البشرية باعتبارها منطق بشري يضع افتراضات خاطئة للعدالة والعقاب. هذا ما كشفت عنه العلوم الانسانية الحديثة، كما سنري، لان هذه العدالة غير مؤسسة علي منطق المحبة، لذلك فقد عجزت علي مدي التاريخ أن تحقق غايتها. . وكان ضحيتها الأولي هو الإنسان نفسه، فأهدرت كرامته وإنسانيته. أن العدالة لا تستطيع أن تقف أمام التاريخ، والضمير الانساني، دون أن تكون يديها ملوثة بدماء الابرياء، وجبينها ملطخ بعار الاهدار الفادح لكرامة الإنسان وإنسانيته، فلكم من الجرائم علي مدي التاريخ ارتكبت باسم العدالة. . !

يقول لنا العلماء "أن السبب في قسوة المجتمع علي الجناة انما مردة إلي اصل غريزي في النفس البشرية، يثيره انفعال الخوف من الخارج علي القانون، بوصفه عنصرا جريئا عاتيا يهدد الشعور بالأمن. لذلك يتكتل الناس بتأثير المصلحة العامة للثأر منه. وقد ظلت هذه الصورة المخيفة للجاني ماثلة في الاذهان قرونا طويلة حتي تيقظ الباحثين الي أن هذه الصورة ليست حقيقية علي اطلاقها. وكشف علم النفس الجنائي، عن أن الجرأة ليست من سمات كل خارج علي القانون. واثبت أن الخوف والضعف كثيرا ما يكون من خصائص الجناة. وقال الاطباء أن المرض أيضا يكمن خلف الجريمة، لان الصحة الضعيفة معناها الضبط الضعيف. ودلل اصحاب هذا الرأي علي صدق تفسيراتهم، بأن الطفل في ضعفه قد يرتكب جريمة القتل، وقد يحرق عمدا، بل ربما اقترف من الجرائم والانحرافات، ما يتورع عنه أكثر البالغين جرأة.

لعله يحق لنا أن نتساءل ألان، هل نجحت العدالة في تحقيق غايتها ؟ يجيبنا احد مديري السجون الكبرى : انه لو قدرا لمن اعدموا شنقا أن يبعثوا إلي الحياة من جديد، ما استبعدنا أن يعاودوا ارتكاب الجرم نفسه، إذا وجدوا في ظروف تماثل تلك التي دفعتهم إلي القتل " هذا يعني أن العدالة لم تنجح تماما في مسعاها. فربما تكون قد استطاعت أن تقضي علي المجرم، لكنها لم تتمكن من القضاء علي الجريمة وأسبابها. لقد نجحت في أن تدين المجرم، لكنها لم تتمكن من ادانة الجريمة، لذلك فأن العدالة البشرية كان ضحيتها الأولي هو الإنسان نفسه. لعل هذا ما أرق ضمير العدالة نفسها حين قالت " أن اردت أن تكون عادلا، يجب أن تذهب إلي ما هو وراء العدل " ثم لم تلبث أن هتفت قائلة " أن الرحمة فوق العدل " نعم أن أي ضمير انساني يشعر في قرارة نفسه أن الرحمة أكثر انسانية. . لكن المحبة تظل دائما فوق الاثنين، فهل نقول أن الضمير الانساني لم يتوصل بعد، أن يهتف قائلا أن المحبة فوق الرحمة كما هتف من قبل أن الرحمة فوق العدل.

نقرأ هذه الكلمات من كتاب النبي لجبران " طالما سمعتكم تتخاطبون فيما بينكم عمن يقترف اثما كأنه ليس منكم بل غريب عنكم ودخيل فيما بينكم، ولكني الحق أقول لكم : أن القديس والبار لا يستطيعان أن يتساميا فوق الذات الرفيعة التي في كل منكم، هكذا الشرير والضعيف لا يستطيعان أن ينحدرا إلي ادني من الذات الدنيا التي في كل واحد منكم. وكما أن ورقة الشجرة الصغيرة لا تستطيع أن تحول لونها من الخضرة إلي الصفرة إلا بإرادة الشجرة ومعرفتها الكامنة في اعماقها، هكذا لا يستطيع فاعل السوء بينكم أن يقترف اثما بدون ارادتكم الخفية ومعرفتكم التي في قلوبكم. فأنكم تسيرون معا في موكب واحد إلي ذاتكم الإلهية. انتم الطريق وانتم المطرقون، فإذا عثر احد منكم، فإنما عثرته توبيخا للذين يسيرون امامه بأقدام سريعة ثابتة لأنهم لم ينقلوا حجر العثار من طريقه " يبدو أن هناك الكثير من الأمور تخرج من تحت طائلة العدالة، لأنها تحتاج لفهمها إلي أكثر من نظرة عدالة. .!

وربما بامكاننا ألان أن نطرح هذه المعادلة : بأذاء كل شخص خاطئ أو مجرم يمكن اصدار حكما ما، لتحديد مدي مسئوليته وبالتالي ادانته – وتحديد نوع القصاص أو العقاب. وهنا نفترض أن يكون هذا العقاب عادلا، ومع ذالك فأن أي حكم يكون عادلا من وجهة نظر العدالة. . يمكن أن يكون ليس " عادلا " إذا نظرنا إليه بمنظار المحبة، هنا نجد انه يوجد اختلاف جوهري بين نظرة المحبة ونظرة العدالة علي نفس الفعل. ومن ثم فأن ما تدينه العدالة قد تبرره المحبة.

ينبغي أن نعود مرة أخري إلي مثل الابن الضال، فلعل اهم جوانب هذا المثل، وأكثرها غموضا علي القراءة العابرة – هو موقف الابن الاكبر. . باعتباره يمثل منطق عدالة بشرية تطالب بعقاب الابن الأصغر. وهو يعطي مبررات " قانونية " ليحتج علي محبة أبيه باسم العدالة. هذا الابن يضع افتراضات، ربما تكون صائبة من جهة العدالة، لكنها ستبدو ظالمة إذا نظرنا اليها بمنظار المحبة، منظار الأب كما رأينا في المثل نفسه.

أن ما يهمنا من هذا هو أن الإنسان حين يتكلم عن العدالة الإلهية يسقط مفاهيم العدالة البشرية وافتراضاتها الخاطئة والناقصة علي عدالة الله. سواء بوعي أو بدون وعي، ومن ثم فهو يضع قيودا علي محبة الله وافتراضات خاطئة للعدالة الإلهية دون أن يدري. لذلك فأننا حين نتكلم عن المحبة الإلهية التي تستطيع أن تغمر الخاطئ، وحين نقول أن دينونة الله هي في المقام الأول دينونة محبة، ونحتج علي أن هذا يتنافى مع العدالة، يجب أن نتساءل أولا عدالة من؟. . العدالة البشرية فقط. . لكن مع الله الأمر يختلف. . عدالة الله هي في محبته. وإذا كان ثمة عدالة فهي عدالة محبة ،العدالة البشرية يجب أن تتأسس وفقا لمحبة الله وليس العكس. لا يجب أن نبني محبة الله وفقا للعدالة البشرية، بل العدالة البشرية وفق لمحبة الله.. الله هو مصدر كل شيء.

لعل هذا هو السبب في أن البشر يشرعون في تنقيح قوانينهم بين الحين والأخر، حتي تكون أكثر ملائمة. . العدالة البشرية في طريقها أن تتأسس وفقا لشريعة المحبة.

مع شروق شمس كل يوم جديد، تظهر في الافق قوانين أكثر انسانية، وأكثر ملائمة لفردية الإنسان وإنسانيته. . لا يزال الطريق طويل ومملوءا بالعقبات، لكن يبدو أن البشرية تسير علي الطريق الصحيح.

منذ اقل من مأتي عام طالب " فيكتور هيجو" بإلغاء عقوبة الاعدام باعتباره حكم غير انساني وبربري، في ذلك الوقت كانت فرنسا ذات التاريخ العريق في الادب والفكر، تعتبر اعدام إنسان علي المقصلة في ميدان عام امرا مشروعا، ودعوة أهل باريس لمشاهدة حفلة لفصل الرؤوس عن الاجساد أمرا عاديا لا غبار عليه، كانوا يسمون هذه المذابح الوحشية في ذلك الوقت " عدالة " حتي أن هيجو نفسه كان يطر إلي نشر كتبه التي تطالب بإلغاء حكم الاعدام دون ذكر اسم المؤلف.

وألان نجد أن الكثير من دول اوربا الغي عقوبة الاعدام باعتبارها عقوبة غير انسانية، وباعتبار أن المجتمع يسلب من المتهم شيئا لم يمنحه اياه، ولا يستطيع أن يرده له إذا ما وقع خطأ ما. . منذ اقل من مأتي سنه لم يكن احد يعير هذة الاعتبارات أي اهتمام، ألان بعض رجال القانون المعاصرين اتجهوا اتجاها ثوريا في السياسة الجنائية، ليس في استنكار عقوبة الاعدام فقط بل إلي حد المطالبة بإلغاء جميع العقوبات الجنائية.

يقول " فيليوجراماتيكا " بموجب اى مبدأ، والي أي مدي يجوز اعتبار الفرد مسئولا وبالتالي مستوجبا للعقاب من جانب الدولة كما يحدث ألان؟ "

بل ويطالب بإلغاء قانون العقوبات نفسه، وإلغاء القضاء الجنائي – والاكتفاء في مجال مكافحة الاجرام، بسياسة اجتماعية، محورها دراسة شخصية كل منحرف دراسة شاملة علي هدي معطيات العلوم التجريبية الحديثة، لتحديد اسباب انحرافه وتقرير المعاملة المناسبة له، بهدف علاجه أو تقويمه، وإعداده للتآلف الاجتماعي، فلا جريمة إذا ولا مجرم ولا عقاب. .! وقد بدأت " مبادئ الدفاع الاجتماعي " هذه توضع موضع التطبيق الفعلي في بعض دول اوربا وأمريكا. وقد تبنت منظمة الأمم المتحدة في عام 1984 مصطلح " الدفاع الاجتماعي " واتخذته شعارا لسياسة جنائية جديدة في مكافحة الاجرام. وأنشأت له قسما خاصا سمي باسمة.

رأينا أن العدالة البشرية بالرغم مما كانت عليه في العصور السابقة من قسوة تصل إلي درجة الوحشية " لا زالت هذه الصور قائمة في بعض المجتمعات " إلا أنها بدأت تتجه اتجاها ايجابيا أكثر انسانية، حتي أنها في الوقت الحاضر تطالب بإسقاط العقوبات الجنائية، وإحلال العلاج الاجتماعي والنفسي عوضا عنها واعتبار " المذنب مريض يحتاج إلي علاج، وليس مجرما يحتاج إلي عقاب "

 

v      عدالة أم محبة. . ؟

لعلنا ينبغي أن نتساءل ألان، هل محبة الله تامة ونهائية ولا رجوع فيها ؟ وما هو موقف المحبة الإلهية أمام رفض الإنسان ؟ بماذا يجيب الله علي رفض الإنسان وجحودة المتواصل والمستمر؟ ربما تكون هناك اجابة واحدة سريعة ومتهورة. . هي جهنم. لكن قبل أن نحاول أن نعلق علي هذه " الاجابة " يجب أن نقول أن المحبة هي الاقرب إلي روح الانجيل – والي العقل أيضا – الله كامل، والكامل لا يتغير، لا نستطيع أن نتصور اله يتحول من المحبة إلي العدل، ومن العدل إلي الرحمة، يغضب فينتقم، ثم يصفح. . الخ. الله لا يخضع لانفعالاتنا البشرية، الله لا يتغير، لأن كل من يخضع للتغير فهو ناقص، لا يمكن أن يكون اله.

منذ البداية يجب أن نقر أن الله محبة ولن يفيض علي الخليقة غير المحبة، هذه المحبة لا تخضع لقيود الزمان والمكان، ولا حتي لحاله الإنسان، سواء قبله أو رفضه، امن به أو انكره، فأن موقف الله ثابت لن يتغير. الله محبة وسيظل دائما وأبدا محبة. هذه الحقيقة يجب أن نقبلها ونتمسك بها، لأنها من صميم ايماننا، الله محبة ولا شيء سوي ذلك.

لكن يوجد خطاة وأشرار، يرفضون الله بكل عنف وإصرار، بل ينكرون وجوده. فما موقف الله من هؤلاء ؟. . لا شيء سوي المحبة ! لكن أين عدالة الله ؟ هل يتساوى البار بالخاطئ ؟ بالطبع لا. لكن الله لن يجيب إلا بالمحبة " هذا هو الاسلوب الوحيد الذي يجيد الله استخدامه " في كل الاوقات وفي جميع الظروف. . لا شيء سوي المحبة ! لا شيء علي الاطلاق يستطيع أن يحول هذا الكائن عن المحبة، لذلك فهو اله!

 

v      المحبة والعدل. . هل يتلاقيا ؟

الله محبة. . الشر يقتضي " عدالة ". . هناك تعارض العدالة شيء. . والمحبة شيء.

بعض المفكرين يقول أن العدالة هي نوع من المحبة لأنها تهدف إلي (مصلحة) الشخص نفسه – تبغي تقويمة – كما أنها لا تعود علي من يوقعها بأي " فائدة " هي محبة إذا أو نوع من المحبة. لكن هذا المنطق لا يخلو من مغالطة.

أولا : لان العدالة غالبا ما تقتضي نوعا من العقاب. فكرة العقاب لا تنبع أصلا من منطق المحبة.

ثانيا : أن المحبة تلتزم باحترام حرية الإنسان، قهر حرية الإنسان بوسيلة عقابية يتنافى مع المحبة والحرية.

ثالثا : لان العدالة ليست عاطفة تتجه نحو شخص بذاته، وإنما تتجه نحو " حاله أو موضوع " شأنها في ذلك شأن الرحمة.

بإمكاننا أن نصدر حكما عادلا " أو غير عادل " علي شخص ما، لكن هذا لا يعني بالضرورة أننا نحبه أو نبغضه. وبإمكاننا أن نغضب لان قاضي في مدينة ما، اصدر حكما  غير عادل في قضية، نحن لا نعرف المتهمين، لا تربطنا بهم أي علاقة ومع ذلك نغضب. ذلك لان العدالة اتجاه ذهني أكثر منها عاطفة بشرية – بإمكان اشد القضاة قسوة أن يصدر حكما عادلا.

لكن المحبة، والمحبة الإلهية وحدها بأمكانها أن تظل فيضا يغمر الإنسان دائما، وفي حضور هذه المحبة، ينتفي تماما كل احتياج إلي عدالة أو عقاب !

هل نفهم من ذلك أن الخاطئ يستطيع أن يهرب من نتائج أعماله الشريرة ؟ بالمحبة وفي المحبة فقط تتحقق العدالة والرحمة معا، لان المحبة هي منبع كل عدل ورحمة، المحبة هي الأولي. بل أن المحبة ذاتها تصير اعظم دينونة لكل من يرفضها ! الأمر يتوقف علي الإنسان نفسه. هذه المحبة يوما ما سوف تحكم له أو عليه، وسيبقي أبدا هناك جحيم " المحبة " ونعيم " المحبة " !

هذا يتوقف علي انعكاس المحبة في قلب الشخص نفسه. قبول هذه المحبة أو رفضها سيحدد مصير الإنسان.

نقرأ هذه الكلمات من كتاب ولادة الموت اللأب هنري بولاد ( لقد نظر المسيح إلي بطرس ويهوذا نفس النظرة، نظرة حب، بطرس انكر المسيح ثلاث مرات أمام جارية، اقسم انه لا يعرفه، ويهوذا أيضا خان المسيح. لكن نفس النظرة كانت لبطرس خلاصا، خرج خارجا وبكي بكاء مرا  وكانت ليهوذا هلاكا، نفس النظرة كانت ليهوذا هلاكا وكانت لبطرس خلاصا ) محبه الله كانت واحدة للاثنين. الامر يتوقف علي الإنسان نفسه، يقبل المحبة أو يرفضها. .

الله لا يصدر حكما ما بالعقاب. لكن العدالة والمحبة كلاهما سيتحقق في ذات ألان! هذا ما يمكن أن نطلق عليه " قانون عدالة المحبة المطلقة " وسنري كيف أن بإمكان هذا القانون أن يسري علي الجميع، محققا العدالة والمحبة الإلهية في نفس الوقت!        

 

  

الفصل الرابع

عدالة المحبة المطلقة

تكلمنا عن الله والمحبة الإلهية التي بإمكانها أن تقبل الإنسان دائما حتى عندما يكون غارقا في أوحال الخطية والشر وكذلك الإنسان باعتباره كائن يتأرجح بين الخير والشر، عليه وحده تقع مسئولية تحقيق وجوده لأن هذا الإنسان لديه إرادة حرة و بإمكانها أن تقبل دعوة الحب أو ترفضها !

الآن يمكننا أن نقول أيضا أنه ليس ثمة اختلاف بين العدالة الإلهية والمحبة الإلهية، بل أنه لا توجد عدالة تنفصل عن المحبة، ومحبة تنفصل عن العدالة، لكن ثمة شيء واحد هو العدالة المحبة، أو المحبة العادلة او "عدالة المحبة المطلقة "

لكننا قبل أن نحاول أن نتكلم عن العدالة يجب أن نكون واثـقين في المحبة الإلهية الدائمة والثابتة نحو البشر، ومن خلال هذه المحبة نستطيع أن نفهم بإيمان مستنير ماهية العدالة الإلهية، ليكون في النهاية معنى واحد للعدالة والمحبة ،هو عدالة المحبة التي تعطى كل واحد حسب أعماله .

فإذا شئنا أن نفهم العدالة الإلهية التي تتحقق في المحبة يجب أن نفهمها من خلال نقطتين أساسيتين هما الحرية والمسئولية .

الحرية تفترض مسئولية : عندما تكلمنا عن الإنسان قلنا أنه كائن حر وعليه وحده تقع مسئولية قبوله لدعوة الحب أو رفضها  هذه الحرية تحركها إرادة عاقلة قد تكون خيرة أو شريرة . وعندما نكون أمام إرادة شريرة لإنسان ما، هنا فقط يمكننا أن نقبض على الشر متمثلا في هذه الإرادة الشريرة، إذ أنه في حقيقة الأمر ليس للشر وجود حقيقي في ذاته فليس في أمكاننا أن نلمح الشر في وجود حقيقي إلا أن يكون متمثلا في إرادة شريرة لإنسان، فإن كان ثمة وسيلة لوجود الشر فهي إرادة الإنسان الشريرة ذاتها . لكن إرادة الإنسان الحرة هذه يحكمها دائما العقل والحرية والناموس الخلقي الباطني لكل إنسان . ولعل هذا ما عناه بولس الرسول عندما قال ( من ليس لهم ناموس فهم ناموس لأنفسهم. بولس "لأهل رومية 2 :14") .

وعلى هذا الناموس ستقوم الدينونة، أي على ناموسهم الخلقي  الكائن في داخلهم ويزداد الأمر إيضاحا عندما يقول أيضا ( من ليس لهم ناموس فبدون الناموس يدانوا ) . ولعلنا نتساءل كيف أنهم سيدانوا بدون ناموس ؟ لكن لاشك أن بولس الرسول كان يقصد أن من ليس لهم ناموس خارجي ليسترشدوا به، فأن بداخلهم ناموسا باطنيا طبيعيا سيدينهم و إلا على ماذا ستقوم الدينونة ؟

ولعل هذا الناموس أيضا ما عبر عنه " كانت " بطريقة شعرية عندما قال " شيئان لا يفتأن يبعثان في النفس الإعجاب والروعة، السماء المرصعة بالنجوم من فوقي، والقانون الخلقي في باطني ".

فأمام الارادة والحرية والناموس، يتحتم وجود مسئولية، فهل نقول أن هذه المسئولية أو المسائلة هي ما نسميه الدينونة؟ في حقيقة الأمر لا توجد دينونة سوي ذلك!

المسئولية هي ضريبة الحرية : لو لم يكن للانسان حرية وبالتالي مسئولية، مسئولية أمام ذاته قبل أن تكون أمام الله والآخرين، فماذا يكون هذا الإنسان؟ لو لم يكن الإنسان مسئولا أولا أمام نفسه عن كل ما يصنع، هل كان بإمكانه أن يرفع رأسه، وينصب نفسه سيدا علي كل الخليقة ؟ لو سمح الله أن لا يتحمل الإنسان مسئوليته أمام نفسه أولا قبل أن يكون امامه، لهبط بالإنسان إلي مستوي ادني من الحيوان، وأصبح ذلك اهدار لكرامة الإنسان وإنسانيته. فأن كان الله بمحبة الهية كفر عن خطايا الإنسان، وصالح نفسه مع العالم، فهو أيضا بمحبة الهية لا يمكن أن يسقط المسئولية تماما عن الإنسان، لان هذا الإنسان قد خلق حرا، وهذه المسئولية هي وحدها التي بإمكانها أن تحفظ للإنسان كرامته، فكرامة الإنسان معناها أن يتحمل تبعات أعماله حتي لو كانت ستذهب به إلي الجحيم!

الاستحقاق: يرتبط الاستحقاق أيضا بالمسئولية، فالاستحقاق والمسئولية وجهان لعملة واحدة، فان كانت المسئولية هي الجانب السلبي، فان الاستحقاق هو الجانب الايجابي، وكما أن كل إنسان بإمكانه أن يخلق لنفسه دينونة، كذلك فانه بإمكان كل إنسان أن يحقق لنفسه ربحا أو استحقاقا. وعندما قال المسيح أن " من يهلك نفسه يجدها " فهو قد أعلن قانونا ازليا، هو قانون الاستحقاق، فلاستحقاق هنا معناه، أن أي شخص لا يستحق اجرا غير الذي يحصل علية بمجهوده الخاص وأرادته. لذلك فان كل من يعتقد أن ملكوت السموات منحة ستعطي لكل من يرغب فيها، هذا الشخص تنتظره مفاجئة غير متوقعة لأنه سيواجه ذاته ذات يوم كشخص مفلس ليس لديه أي استحقاق، لان وزناته لم تحقق أي ربح ( فملكوت الله يغتصب والغاصبون يختطفونه " مت 11 : 12") اليس المسيح ذاته هو القائل أن لم يزد بركم علي الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات، فماذا يكون هذا البر أن لم يكن عمل وجهاد متواصل، وماذا يكون الاستحقاق، أن لم يكن مكافحة الشر في داخلنا، والانتصار علي الرزيلة تلو الاخرى، واكتساب فضيلة بعد أخري، والنمو المتواصل في المحبة، وهل يمكن أن يكون الاستحقاق شيء غير ذلك؟

عدالة المحبة معناها أن يكون لكل واحد بحسب أعماله، فليس بإمكان إنسان أن يحصل علي عطية ما لم يكن يستحقها، فلانسان يعطي بحسب استحقاقه لا بحسب رغباته.

الاستحقاق والألم : الاستحقاق جهاد ومعاناة وأهلاك للنفس حسب قول الكتاب، لذلك فهو وثيق الصلة بالألم. وان كان ألالم ذاته يبدوا لنا كأنه شيء دخيل علي الحياة، ليس له أي قيمة، وليس له أيضا أي هدف أو مبرر يبرر وجوده، بل وغالبا ما يبدوا لنا شيئا غامضا مستغلقا علي العقل والفهم، وكأن هناك قوي شريرة تنشر الالم والعذاب كيفما اتفق. لكن وان كان الإنسان بحكم طبيعته البشرية المادية يرفض الالم بل ويخافه، إلا أن الالم في حقيقة الأمر يتضمن في ذاته قيمة روحية ومعنوية عظمي، ويقود دائما إلي النمو الروحي. فأن كان الالم يصل بنا احيانا إلي حد القنوط واليأس. . فأننا هيهات أن ندرك نعمته ونحن في ظلمة يأسه. فلألم يمهد دائما الطريق امامنا للنمو والارتقاء. وكل من يستطيع مواجهة الالم بصبر وشجاعة ليخرج في النهاية منتصرا علي ذاته وعلي الالم، يحقق ارتقائه الروحي، ويفتح لنفسه ابواب السعادة الواحد تلو الأخر! لذلك فان الالم أيضا وبطريقة خفية هو نوع من الاستحقاق الذي يمهد للسعادة ويقودنا نحو الله، فهل يكون لدينا من الشجاعة ما يجعلنا نبارك المحن والآلام التي تقودنا نحو الله وتفتح لنا ابواب السعادة؟ هذا هو أيضا ما عبر عنه " جيته " عندما قال " أن من فآته أن يتذوق خبزه في الالم ومن لم يقضي ساعات سوداء يترقب باكيا طلوع النهار المتثاقل. أن مثل هذا الإنسان لا يعرفك ايتها القوي السماوية " ولعل جيته أراد أن يقول أن لا سبيل إلي معرفة الله والوصول إليه إلا عن طريق الالم. فالألم هو الطريق الذي يقودنا نحو الكمال!

الضمير و الدينونة : عندما يتحدث علم النفس عن " الذات العليا " يقول ان هذه الذات تضم الافكار الراقية والمعاني السامية النبيلة، وهي تمثل السلطة الضابطة التي بإمكانها ان تميز ما هو اخلاقي وما هو غير اخلاقي، ما يجب ان يكون وما يجب الا يكون. هذا هو ايضا ما نسميه بالمعني الديني" الضمير" والإنجيل ذاته غني بالمعاني العميقة عن الضمير، بل ان شريعة الانجيل في اساسها هي شريعة حب وضمير، بل يمكننا ان نقول ايضا ان الضمير هو شرارة الالوهية الموجودة بداخلنا، لكن هذا الضمير هو ايضا سجل مدون في قرارة نفوسنا، كل فعل وكل ظن وكل رأي وكل رغبة تدون علينا في هذا السجل الي الابد!

نقرأ هذة الكلمات من كتاب " الإنسان روح لا جسد – للدكتور رؤف عبيد" في شرح هذا المعني " اذا اشتري احد منكم شيئا من مؤسسة تجارية كبيرة دون ان يدفع الثمن فورا، فأنه لا يشعر بخطة العمل الدقيقة التي تجري من ورآه اذ يدون الحساب في وثيقة تمر علي اياد كثيرة قبل ان يصلك بيانها فيما بعد، فإذا دفعت قيمة الوثيقة فأنك تنسي كل شيء، لكن التسجيل الذي تم في المؤسسة لا يزال قائما.هكذا الحال في المخ، فأن كل عمل أو فكر مهما كان نوعه يسجل إلى الأبد، ثم يحل وقت الحساب عنه بعد الحياة الدنيا ثم بعد دفع الحساب يصبح السجل غير ضروري بل عديم الأهمية، لكنه يبقى رغم ذلك " وعلى هذا فأنه يمكننا أن نقول أن الضمير يمثل قانونا طبيعيا بإمكانه أن  يحكم ويدين، حتى وأن بدا هذا الضمير أثناء الحياة الأرضية قاضيا متحيزا بليدا فأن يقظته بعد الموت أمرا لا مفر منه!

لذلك يمكننا أن نقول أن الدينونة هي نوع من مواجهة الإنسان مع ذاته  الدينونة في صميمها هي كشف لحياة الإنسان أمامه على ضوء المحبة، باعتبارها سلسلة من الاختيارات التي حققها في حياته، أما للانفتاح والحب أو للانعزال والأنانية والكبرياء وبقدر ما تكون اختيارات الإنسان في حياته للحب سيكون الطريق ممهدا أمامه نحو السماء .. وبقدر ما تكون اختيارات الإنسان للأنانية والانعزال يصبح أمامه طريقا طويلا وشاقا، ويصبح عليه أن يتخلص من رذائله بطريقة أكثر صعوبة وعناء.

ولعل هذا هو ما يعطي "المطهر" حتمية وجوده أمام محكمة العقل قبل أن يكون بدافع الإيمان، باعتبار أن كثيرون يموتون وهم لم يتمكنوا بعد من التخلص تماما من جميع رذائلهم ولا يزال أمامهم طريقا طويلا يقطعونه نحو الله !

وعلى ذلك فسعادة الإنسان لا تتوقف فحسب على المكان الذي قد يوجد فيه، بل تتوقف قبل كل شيء على حالته الخلقية والروحية التي تمكن خلال حياته أن يصل إليها بإرادته الخاصة، بل لعلنا نستطيع أن نقول أن حالة الإنسان هي التي تحدد مكانه وليس العكس.

قضاه ولكن غير متحيزين : عندما نتكلم عن الدينونة يجب أن نتساءل أولا من سيدين من ؟ الله سيدين الإنسان ؟ كلا … بل الإنسان ذاته سيدين نفسه ! فعندما ينكشف الإنسان أمام ذاته بكل قوة و وضوح، وعندما يتحرر من غشاوة الجسد أمام قوة الحق و المحبة و سلطان الضمير، حين إذ سوف لا يجد أي وسيلة للتهرب من هذه الدينونة ،لأنه في واقع الأمر سيكون في مواجهه مصيرية و حاسمة أمام ذاته، فليس بإمكان أي إنسان أن يهرب من هذه المواجهة، لأن كل ما تعلمناه في حياتنا الأرضية من أساليب المغالطة و الدفاع  الكاذب عن النفس ستسقط تلقائيا إلي غير رجعة، حين إذ سيتعين علينا نحن أن نكون قضاة لأنفسنا، قضاة ليس بإمكانهم أن يكونوا متحيزين، وسنود لو أن الله يديننا، لأن دينونته ستكون أكثر رحمة، ولكن هذه الدينونة هي ضريبة الحرية التي سيتحتم على كل إنسان أن يدفعها بشرف ونزاهة لأنه لن يمكنه أن يفعل غير ذلك! لكن محور الدينونة وبصفة أساسية سيكون على المحبة ،هذا هو ما نستطيع أن نفهمه من كلام المسيح(مت 25:31-46) الذي لا يدعو إلى أي التباس "كنت جوعان… كنت عطشان… كنت سجين… إلخ" إنه يهتم و يركز بالدرجة الأولي على محبة القريب لأن من يستطيع أن يحب القريب فقد أحب الله فيه " كل ما فعلتموه بإخوتي هؤلاء فبي فعلتموه " هذه الدينونة التي  تعودنا أن نتجاهلها لنعطي  الأهمية القصوى للطقوس و العبادات هي وحدها التي بإمكانها أن تكشف الإنسان أمام ذاته، أمام أنانيته، وأمام رذائله، ذلك لأن كل من لم يلتقي الله في حياته و لم يعرفه، يظل القريب بالنسبة له حقيقة راهنة لا مفر منها، فالقريب هو المرآه التي بإمكانها أن تكشف له كل شيء عن ذاته .

في المسئولية و الدينونة تتحقق عدالة المحبة  : إذا كنا قد تمكنا أن نضع إطارا أو تصورا عاما للدينونة ، ترى هل يمكننا أيضا أن نضع إطارا أو تصورا عاما للعقاب ؟

هل نقول أن الإنسان بعد أن سجل على نفسه كل شيء أثناء حياته الأرضية وأيضا بعد أن أدان ذاته، هل يمكن أن نقول أنه سيعاقب ذاته أيضا!

ربما لا نستطيع أن نقول أن الإنسان سيعاقب ذاته، أو أن الله سيعاقب الإنسان، لكن يمكننا ان نقول ان هناك ناموسا خلقيا بسيطا للغاية، ولكنه في نفس الوقت صارم الي ابعد الحدود " هو ان كل رزيلة تحمل عقابها في ذاتها، وكل فضيلة ايضا تحمل ثوابها في ذاتها " لذلك فليس هناك اي احتياج لصدور حكما بالعقاب علي اي انسان، لان كل انسان يحمل في داخله عقابه الخاص به!

هذا هو ايضا ما نستطيع ان نلمسه منذ الان، في حياتنا وخبراتنا الاخلاقية اليومية، إلا نجني دائما ثمار المحبة في حب الآخرين لنا وسلامنا الداخلي مع انفسنا ومع الله؟.. الا تجلب لنا الكراهية والبغض عداوة الناس والهم والقلق، بل بأمكان الحقد والكراهية ان تجعل من حياة الإنسان جحيما لا يحتمل.

فعندما قال المسيح " احبوا اعدائكم " اراد لنا ان نرحم انفسنا اولا من نار الحقد والكراهية التي تنغص علينا حياتنا.

كما ان الانانية والكبرياء تؤدي الي الانغلاق والحرمان من الشركة مع الآخرين. كما يتسبب البخل في حرمان صاحبة، فيجعله كأنه فقيرا لا شيء له وان كان غنيا. والتبذير يجلب علي صاحبة الفقر والفاقة، وهكذا في كل فضيلة ورزيلة يمكننا ان نجد رد الفعل الذي يرتبط بها ارتباط السبب بالنتيجة. " فأن كنا لا ندرك هذة الحقائق الان وبشكل واضح ومباشر في هذه الحياة، ولا نشعر بما لهذة القوانين الطبيعية من قوة ونفاذ، فذلك لان الجسد يمثل غلافا كثيفا علي عقولنا وحواسنا، لكن متي سقط هذا الغلاف بالتغير الذي اعتدنا ان نسميه موتا سيسطع هذا القانون بقوة ووضوح، وسيجد كل انسان نفسه تحت سطوة هذا الناموس الخلقي الصارم " هذا الناموس الخلقي قد توصل اليه ايضا علم النفس الحديث الذي اثبت ان الامراض النفسية كثيرا ما يكون سببها الاساسي الانانية، وان السعادة النفسية مرتبطة بالخدمة والعمل وحب الآخرين. كذلك فأن عدم قدرة الإنسان علي ان يحب ويحب كفيل وحده ان يؤدي الي اختلال التوازن النفسي للشخص. كما اثبت ان الفراغ مدعاة إلي  الملل والشعور بالإحباط، والشهوانية مدعاة الي الانحطاط وتبلد الحواس، وهكذا. . إذن فكل رذيلة تحمل عقابها في ذاتها، فما من رذيلة مهما كانت يسيرة إلا وترتبت عليها نتائجها المحتومة . وما من فضيلة أو بادرة خير مهما كانت يسيرة حتى لو كانت كوب ماء إلا و نالت جزائها  المحتوم . هذا هو الناموس ..

ولعل هذا هو ما حاول أن يقوله " دانتي " منذ عدة قرون لمعاصريه في كتابه الخالد " الكوميديا الالهية " فعندما تكلم عن رحلته الي الجحيم و جعل في كل طبقة أصحاب رذيلة بعينها، جعل كل عقاب من جنس الرذيلة نفسها .

الذين كانوا في الحياة عبيدا للكسل، لا يصنعون خيرا و لا شرا، ولا يؤدون عملا نافعا ولا ضارا، كانوا أيضا هكذا في الحياة الأخرى أجسام تتزاحم وتتدافع بغير هدف ولا نظام، يعيشون حياة تبلد وسأم .

وفي طبقة أخرى كان عبيد المال، البخلاء والمبذرين على السواء كلاهما معا، فريقين مختلفين كل منهما يدين الآخر ويعيره ويتهمه بالخطأ والضلال ! وهكذا الحال دائما بلا رحمة أو توقف ،هذا هو جحيم عبيد المال كما صوره دانتي .

أما في جهنم السادسة فكان كل من تلوثت يديه بالدم و اقترف في حياته جريمة القتل، كانوا مغمورين في بحر من الدم القاني اللون، منهم من كان الدم يغمره حتى كتفيه، ومنهم من كان الدم يغمرهم حتى وجهه، ومنهم من كان الدم يغطي رؤوسهم، ومنهم حتى ركبهم، وهكذا كل حسب حالته ومدى تورطه في جريمة الدم .

كما وصف حال المنافقين في الطبقة الثامنة الذين كانوا يلبسون دروعا خارجها من الذهب وداخلها من الحديد والرصاص، وكانوا ملزمين دائما بلبسها كناية عن مظهرهم الجميل وداخلهم السيئ الرخيص، وهكذا في سائر طبقات الجحيم كل يعاقب حسب رذائله.

فما اراد ان يقوله دانتي هو ان العقاب يكون من جنس الرزيلة، او هو اشبه ما يكون بنتيجة طبيعية تصدر عنها – فلا بد ان هذا الشاعر كان يجمع بالإضافة الي عبقريتة الهاما خاصا حتي انه اقترب من هذه الحقيقة فبل ان يتوصل اليها علم النفس والعلوم الاخرى بعدة قرون.

وان كان دانتي قد عبر عن هذه الحقيقة بطريقة مادية وباعتبار ان هناك حكما خارجيا يوقع علي المذنبين. الا ان ما يجب وضعه في الاعتبار هو ان العقاب يكون كنتيجة لكل رزيلة يترتب تلقائيا وبطريقة غير مادية بصفة خاصة، اذ لا وجود للمادة في هذا العالم بمعناها المعروف في عالمنا.

وعلي هذا يمكننا ان نقول في النهاية، ان هناك ناموسا خلقيا يحكم الخير والشر بحيث ان كل شر يلاقي عقابه، وكل خير يلاقي جزائه وفقا لهذا الناموس : وذلك كما ينتج الاحتراق نتيجة لمس النار، او الموت نتيجة السقوط من مكان مرتفع، او المرض نتيجة الاهمال في الصحة. . وهكذا يمكن القول ايضا انه بنفس هذا القانون يلاقي البار والشرير جزائه . فان كانت المحبة الالهية تغمر الإنسان دائما، فأن عدل الله مؤسس في طبائع الأشياء، ويبقى على الإنسان وحده أن يتحمل مسئولية انتهاكه لهذه النواميس التي تحكم الكون والتي سبق وبينها الله للإنسان من خلال الوحي، وغرسها في قلبه وضميره بالفطرة السليمة النقية .

                                                              

 

الفصل الخامس

المصير

بعد ان تكلمنا في الفصل السبق عن عدالة المحبة المطلقة، ومسئولية الإنسان امام المحبة الإلهية، وعدالة الله المؤسسة في طبائع الاشياء، وفي النواميس الخلقية التي يكتشفها علم النفس والعلوم الاخرى ببطيء ومشقة. سنجد انفسنا ليس امام ثلاث اطراف علي مثلث. الله – الإنسان – العدالة. بل امام نقطتين علي طرفي مستقيم. الله. . الإنسان – وعلي الإنسان وحده تقع مسئولية تحقيق وجوده بعد ان مهدت المحبة الهية امامه الطريق.

الله بإزاء الإنسان. . والإنسان وجها لوجه امام الله والمصير. المصير تلك الكلمة التي تنطوي علي الخطورة والغموض، وترتبط بصميم وجود الكائن البشري. . هنا سنقف لحظة لنحاول ان نتأمل المجهول. . كتب فلتير عن نفسه يقول " انني اجهل كيف تكونت وكيف ولدت. وقضيت ربع حياتي وان اجهل تماما الاسباب لكل ما رأيت وسمعت وأحسست، وكنت ببغاء تلقنها ببغاوات اخري. ولما حاولت ان اتقدم في الطريق الذي لا نهاية له لم استطيع ان اجد طريقا معبدا ولا هدفا معينا ،فوثبت وثبة اتأمل الابدية، ولكني سقطت في هوة جهلي"

هذا هو بالضبط ما سنحاول ان نفعله، سنحاول ان نثب وثبة لنتأمل الابدية، والأبدية هي المصير. ربما سقطنا في هوة جهلنا، لكن يبقي ان نحاول!

لكن يجب منذ البداية أن نقرر أن المصير الطبيعي الوحيد الذي رسمه الله منذ الأزل هو أن يكون الإنسان في النعمة مع الله . تلك هي مشيئة الله الأب منذ خلق الإنسان كابن له على صورته وكمثالة .

لكن برغم هذا فأن كل قوى الشر والجحيم تظل واقعا حقيقيا ورهيبا يهدد مصير الإنسان ! لذلك فأن " وثبتنا ستكون نحو هذا الجانب الأكثر غموضا، ستكون نحو الإنسان باعتباره موجودا قد يفشل في تحقيق وجوده فشلا كليا أو جزئيا، لذلك فأننا يجب أن نتعرض هنا لنقطتين أساسيتين هما : جهنم والمطهر .

أولا جهنم : " أيها الداخلون من هذا الباب ودعوا عنده جميع الآمال " تلك هى الكلمات الرهيبة التي قرأها دانتى على باب الجحيم فى رحلته الخالدة!

لكن عندما نفكر بهذه المدينة الجهولة، هذة القلعة المشتعلة بالنار، هذا السجن الرهيب الذي نسميه جهنم و نفترض أن هناك آلاف بل ربما الملايين من البشر " يحترقون " هناك دائما وإلى الأبد بلا اي أمل في نجاه، عندما نفكر فى هذا نرتعد خوفا .لكن الأهم من ذلك هو أننا نبدأ نشك في محبة الله وعدالته لأننا إذ كنا قد استطعنا  من قبل أن نتفهم معنى وعمق أبوة الله للإنسان هذة الأبوة التي يوضحها مثل الابن الضال بطريقة عميقة وعملية لا تقبل الشك أو الجدل، فأننا لا نستطيع ان نتصور الله وكأنه مل من أن يكون أب فتحول إلي قاضى العدالة وقد تخلى عن محبته الأبوية! فكل من يفكر في جهنم ويحاول أن يربط  بينها وبين المحبة الإلهية لا يلبث أن يتمتم بهذه الكلمات ـــ لماذا خلق الله جهنم ؟ ! لماذا يرسل الله الناس إلى جهنم ؟

ثم لا يلبث أن يتساءل هل حقا هناك كائنات بشرية ستظل دائما وإلى الأبد محكوما عليها بالهلاك، وقد وصدت في وجهها جميع أبواب الرحمة والصفح إلى الأبد ؟

أننا عندما نفكر بالجحيم نكون أكثر اهتماما بالطقوس و العبادات، لكن هذا في العمق يباعد بيننا و بين الله لأننا نكون أكثر خوفا و لكن أقل محبة. .

نقرأ هذه الكلمات من كتاب نؤمن " الجحيم أيضا حجر عثار للذين خارج الإيمان بل هم يرفضون الإيمان بسبب مشكلة الجحيم هذه التي لا تستطيع تأكيدات الإيمان أو تمتمات اللاهوتيين ان تحل أبدا المشكلة المطروحة سابقا، والتي يعود فيطرحها العديدون الذين يرفضون الله خاصة بسبب الجحيم . إما اله ينفي الجحيم وإما جحيم ينفي الله . فإذا لم يكن الله محبة فأي شيء هو ؟! وإن كان الله محبة فالجحيم لا يعقل، لا معني له ، فما هو في ملكوت هذا الإله معني الاستمرار في بؤس مطلق لأناس قاموا من الموت ! حتي لو حكموا هم على ذواتهم بهذا الوجود الضائع، هناك تناقض بين هذا الحب المطلق و فرضية الجحيم "

وجود هذا الجحيم يجعلنا نتساءل هل بإمكان أحد أن يكون سعيدا حقا في ملكوت هذا الإله بينما هناك هالكين وصدت في وجوههم أبواب الرحمة و الصفح إلي الأبد ؟!

أن مسرة الله أن الجميع يخلصون و إلي معرفة الحق يقبلون فمن المؤكد أيضا أن الله ذاته لا يسعده وجود هالك واحد، إذا كان الله محبة .

وألا فما هو معنى أن يطالبنا هذا الإله بمحبة أعدائنا، وبالصفح لا سبع مرات بل سبعين مرة سبع مرات ..ثم يرسل الخطاه إلى نار جهنم الأبدية !

إله يتجسد ويقبل أن يموت بين يدي البشر ليخلص الجميع ويضرب للبشر أروع مثل للصفح والمحبة .. لكن عندما يتحول هذا الإله إلى قاضى ومنتقم … من يستطيع أن يؤمن بمحبته المطلقة !

أخيرا يبقي هناك تساؤل جدلي هو : هل من العدالة أن يعاقب الله شرا محدودا في زمن محدود ـــ  بعقاب غير محدود؟

إن من يفكر بهذا الجحيم لا يملك إلا أن يهتف قائلا : إن هذا الجحيم لا يتجاوز حدود الرحمة و العدل فحسب بل يفتقد إلي مبرر ويجب أن يتنافى مع عدالة الله ومحبته!

لكن امام كلمات المسيح الحاسمة " اذهبوا عني يا ملاعين الي النار الابدية المعدة لإبليس وملائكته – مت 25 : 41 " نجد انفسنا امام معضلة لاهوتية، ومشكلة فلسفية ميتافيزيقية ايضا.

والسؤال الان هل بلا مكان الرد علي هذه التساؤلات بطريقة منطقية ومقنعة وعلي ضوء الايمان؟ هل يمكننا حقا ان نتفهم حتمية وجود الجحيم دون مساس بمحبة الله الغير محدودة؟ لعلنا قبل ان نحاول ان نجيب علي هذه التساؤلات يجب ان نتساءل اولا ماذا عسي ان يكون هذا الجحيم الذي ناره لا تطفأ ودوده لا يموت؟

لكن لكي نتكلم عن جهنم، يجب ان نعود لننظر اليها نظرة تاريخية. يجب ان نرجع في الزمن عشرون قرنا، عندما كان المسيح يتجول في شوارع اورشليم مع تلاميذه لكي يبشر العبرانيين بملكوت السموات، ويكلمهم بأمثال كثيرة. وعندما اراد ان يتكلم ايضا عن المحرومين من هذا الملكوت، كان يجب ان يتكلم بطرية رمزية او بمثل حتي يستطيع اليهود ان يفهموه فهو دائما كان يكلمهم بأمثال " وبغير مثل لم يكن يكلمهم " لذلك فأن المسيح عندما اراد ان يكلمهم عن الذين سيرفضون ملكوت الله، استعار تشبيه من البيئة نفسها. نقرأ هذه الكلمات من كتاب نؤمن " جهنم واد حزين جنوبي اورشليم، حيث تصب كل اوساخ المدينة. فهي في ان كومة اوساخ ديدانه لا تموت. ونار مستمرة يتصاعد دخانها ليل نهار. موضع نفايات وحثالات وعفونات ونار مطهرة " فما اراد ان يقوله المسيح هو ان الخاطئ سيكون هناك في الخارج، خارج المدينة حيث تتجمع النفايات ويكون الخوف والظلام والنار المستعرة والدود ايضا. فمدينة اورشليم في ذلك الوقت كانت قبلة كل يهودي، هي الامان، هيكل سليمان، تابوت العهد، وارض الميعاد ايضا. لكن الخاطئ سيكون في الخارج، محروما من الامان، من الشركة مع الآخرين، المسيح اراد ان يقول ان جهنم تشبه حاله شخص منبوذ ومطرود خارجا. هذا كان مجرد تشبيه مادي، لكن جهنم بمعني من المعاني هي حاله الإنسان الذي يرفض الله، ويرفض المحبة. جهنم حالة انسان يتمسك بالأنانية والكبرياء فيظل ابدا حاله وجود لم يتحقق بكل ما تحمل الكلمة من صراع نفسي وتمزق مرير، قد يتجاوز في قسوته كل نار مادية.

جهنم هي حالة الإنسان الذي خان وجوده وتنكر لدعوته، دعوتة لان يحب. جهنم ايضا تقوم في حرمان الإنسان من الله – تقوم في الوحدة والانعزال والضياع، فيها يصير الإنسان كائن بائس ووحيد، لأنه لم يستطع اثناء حياته الارضية ان يعيش الحب فأصبح عاجزا بعد ذلك عن قبوله، لان الله هو الحب.

اخيرا جهنم هي حالة انسان قطع كل صلاته بالله والآخرين والكون، وانغلق علي ذاته لأنه كان عنيدا ومتكبرا وأنانيا، فلم يستطيع ان يحقق نموا روحيا او يقيم علاقة محبة حقيقية مع الله و الآخرين.

اذا هل نقول ان واقعة رفض الإنسان لله هي وحدها التي بإمكانه ان تخلق هذا الجحيم؟ وان الجحيم ذاته احتمال قائم وهذا الاحتمال لا يتحقق الا برفض الإنسان لله؟ عندما نسلم بهذا يمكننا ان نقول ان الله لم يخلق جهنم. . فالإنسان هو الذي يخلق جهنم لذاته، والإنسان هو الذي " يرسل " نفسه الي جهنم. ذلك لان الله لا يريد لأحد ان يهلك " لم يرسل ابنه الوحيد ليدين العالم بل ليخلص العالم. يو 3 : 17 " اذا فان جهنم احتمال قائم وضروري طالما كان للانسان حرية – عدم وجود جهنم يلغي حرية الإنسان.

هل يمكن ان نتصور ان الله يجبر الانسان علي محبته ؟

هل يمكن ان نتصور ان نكون مجبرين علي محبة الله ؟

ليس للنجاح قيمة لو لم يكن احتمال الفشل موجود..

ليس للسماء قيمة لو لم يكن احتمال جهنم الرهيب موجود..

فكل من قبل المحبة فقد قبل الله واختار مصيرة. .

وكل من يرفض المحبة فقد رفض الله واختار مصيره ايضا. .

فهل حان الوقت لكي " نبري الله " ونقول ان الإنسان هو المسئول عن وجود هذا الجحيم وليس الله ؟

وعلي ذلك فعقيدة الجحيم لا يمكن ان تفهم إلا من خلال المحبة الإلهية لذلك يجب ان نسلم مع مرمية ( ان مفتاح هذه القضية كمفتاح سائر قضايا الايمان هو هذه العقيدة المركزية " الله محبة " لا وجود للجحيم الا علي هذا النور. لا تقدر نصوص الكتاب ان تناقض التأكيد علي حب الله المطلق والشامل والدائم نحو كل احد بدون ان نمزق الانجيل والمسيح والله ذاته.

الله لا يريد الجحيم. لكن عظمة الله تأبي الا ان تعطي الملائكة والبشر حرية حقيقية، تلك التي تستطيع ان تقول له موجهة : لا بأمكان الإنسان ان يرفض الحب بعناد، هذه الامكانية بالذات تفرضها فكرة الجحيم. عقيدة الجحيم تعني هذا : حياة الإنسان مهددة بإمكانية فشل ابدي حقيقية. هذا التهديد كامن في انة قادر علي ان يتصرف بذاته بحرية بإمكانه اذا ان يرفض الله " لكن اذا كان حقا بأمكان الإنسان ان يرفض الحب و يرفض الله فأنه ليس بأمكان الله ان يرفض الإنسان او يتوقف عن محبته. نقرأ هذه الكلمات من كتاب ولادة الموت للاب بولاد " حب الله يتعقب الإنسان حتي الي الجحيم! فالرعب الاعظم بالنسبة للهالك هو حب الله له. . حب الله ابدي " وحين يظل حب الله ابدي و رفض الإنسان ابدي، يظل الجحيم ابدي!

لكن هل يحق لنا ان نتساءل : إلا يستطيع الله ان يفعل شيئا تجاه هذه الكائنات التي رفضت الحب وحكمت علي نفسها بالانعزال والوحدة والضياع ؟ اذا كان الله حقا يحترم حرية الإنسان، فسوف لا يستطيع ان يفعل اي شيء امام عناد الخاطئ وإصراره علي الرفض " فالله لا يقدر لان الخاطئ لا يريد ،الهالك يبقي حيث هو، اي في ذاته – مرتاحا لكنه مرتعب". عندما قال ابراهيم للغني الشرير " هناك هوة بيننا وبينكم " تري ماذا كان يقصد ؟ كان يقصد هذه القوقعة التي ينغلق فيها الإنسان الذي يرفض الحب – وكهوة لا يستطيع الإنسان ان يعبرها، ولا الله ذاته، لأنه لو كان استطاع ان يجد اي ثقب، اي شرخ، حتي ثقب ابرة – كي ينفذ من خلاله الي الداخل لكان بالتأكيد قد فعل.

الله ذاته لا يستطيع ان ينفذ الي داخل الإنسان المنغلق علي ذاته. لان هذا الإنسان لا يريد ان يفتح، والله ايضا لا يستطيع الا لن يحترم هذه الحرية.

يبقي لنا ان نطرح هذا التساؤل الاخير مع " مرمية " والذي يجيب هو ايضا عليه ( هل تتحقق فعلا هذه الامكانية، بالنسبة الي الإنسان، وباي نسبة ؟ للجواب علي هذا السؤال لا وحي لدينا، ولا قرار من الكنيسة، فمن جهة لا تسمح جدية حب الله وحرية الإنسان بالقول انه لا يوجد هالكون، ومن جهة ثانية وجود هالك واحد يبدو موضع شك – ففي الواقع بين الجحيم الممكن والجحيم الفعلي يقف الله حاجزا بكل قوة حبه )

لعلنا الان نكون قد قطعنا شوطا طويلا في هذه الوثبة نحو الابدية. وتفهما اعمق للجحيم والمحبة الإلهية.وبأمكاننا ان نقرر مع مرمية " ان الجحيم كرفض مطلق للحب لا يوجد ابدا الا من جهة واحدة، اي من جهة الذي يخلقه لذاته. لكنه يستحيل علي الله ان يشارك في هذا الزيغ، وبخاصة لكي يجد بانتصار عدله مجد حبه المخون، فأن كان لدي الله ردة فعل معاكسة لوجود الجحيم – وكيف لا يكون لدية مثل هذه الردة – فستكون ردة الم لا موافقة، ردة عذاب شديد لا ردة رضي.

اذا في النهاية : يمكننا ان نقول انه لا يمكن التسليم بوجود الجحيم وأبديته الا في حاله واحدة فقط، هي رفض الخاطئ لله رفضا نهائيا، واستمراره في هذا الرفض الي الابد.

لكن هل حقا بأمكان الهالك ان يستمر في رفض الله الي الابد ؟ إذا قلنا ان امكانية قبول الهالك لله قد اصبحت امكانية مستحيلة بعد الموت، الا يكون معني ذلك اننا نسقط حرية الإنسان، التي يجب ان تكون قائمة ايضا بعد الموت ؟ الا يجب ان نقول ان الإنسان الذي خلق حرا، ينبغي ان يظل حرا الي الابد، ومن ثم فأن امكانية قبول الله لا يجب اعتبارها امكانية مستحيلة بالنسبة الي الشخص الذي نسميه هالكا ؟

هل يحق لنا ان نتساءل الان علي اي اساس نفترض ان هذه القوقعة المنغلقة علي ذاتها، سوف تظل منغلقة الي الابد – سوف لا تفتح ابدا ؟

إذا كنا قد سلمنا من قبل بان عدم وجود الجحيم يتنافى مع حرية الإنسان – افلا يجب علينا ايضا ان نسلم بان ابدية الجحيم تتنافي مع حرية الإنسان، وألا اصبح هلاك الكثيرين قدرا محتوما عليهم!؟

اخيرا هل يمكننا ان نسلم بإمكانية قبول الهالك لله ( بافتراض انه حر وبإمكانه ان يستخدم هذه الحرية ) وبالتالي فان " واقعة" بدء قبول الهالك لله، يجب ان تضع هي ذاتها، وبطريقة تلقائية نهاية لهذا الجحيم – كما كان رفض الخاطئ لله هو ذاته الذي اوجد الجحيم؟ لعل هذه التساؤلات وغيرها، كثيرا ما تطرح نفسها علي العقل، لكنه يقف حائرا امامها اذا ما حاول الاجابة عليها، لأنها تحتاج الي اكثر من العقل للاجابة عليها!

لعلنا لا نكون قد تجاوزنا الحدود في وثبتنا هذه نحو الابدية، المجهولة المعلومة وحسبنا اننا قد تطلعنا لحظة من الزمن نحو هذا " المجهول " ولا يبقي لنا الا ان نعود ونتمسك " بالأيمان القويم" وكلمات المسيح البسيطة " اذهبوا عني يا ملاعين الي النار الابدية المعدة  لإبليس وملائكته، لأني جعت فلم تطعموني، وعطشت فلم تسقوني، وكنت غريبا فلم تؤوني، وعريانا فلم تكسوني، ومريضا فلم تزوروني. . الحق اقول لكم انكم كلما لم تفعلوا هذا بأحد هؤلاء الصغار فبي لم تفعلوه "

 

ثانيا المطهر : عندما تكلمنا عن جهنم، كنا نتكلم عن حاله روح فشلت فشلا كليا ونهائيا في الانفتاح علي الله وقبول دعوة الحب، وافترضنا عدم قدرة هذه الروح علي الانفتاح، ورفضها الله رفضا ابديا. ولكن عندما نتكلم عن المطهر فإننا نتكلم عن حالة روح فشلت فشلا جزئيا ومؤقتا في قبول دعوة الحب والانفتاح علي الله، ولكنها في طريقها للانفتاح الكامل وقبول الله قبولا تاما ونهائيا.

المطهر كنتيجة طبيعية لكل رزيلة ونقص : تأسيسا علي ما سبق وحتى تكتمل وثبتنا نحو " المصير" يجب ان يكون لنا وقفة عند " عقيدة المطهر" لكي نضع هذه العقيدة امام محكمة العقل قبل ان نفرضها كعقيدة ايمانية!

المطهر في ميزان العقل : اننا لا نستطيع ان نفهم عقيدة المطهر من الناحية العقلية، الا من خلال – الحرية والمسئولية، ومن هنا يكون المطهر حالة تفرضها حرية الإنسان ومسئوليته. لذلك بامكاننا ان نقول ان المطهر، هو حالة روح لا زالت عاجزة عن الانفتاح الكامل لقبول المحبة الإلهية، ولا تزال تحتاج لمزيد من النمو والتقدم الروحي. فوجود المطهر هو مسئولية الخاطئ نفسه، وعذاب المطهر ليس عقاب يفرضه الله، انما هو حالة النفس التي لا تزال تعاني من نقائصها التي لم تستطع ان تتخلص منها اثناء حياتها الارضية.

فكلمة مطهر لا يجب ان تفهم علي انها اسم لمكان، وإنما المطهر هو حالة روح لا يزال امامها طريقا طويلا او قصيرا، لكي تقطعه نحو الله.

ارادة وحرية : لكن الامر هنا يتعلق بالإنسان نفسه، ويتوقف علي ارادته الحرة، وحين يتمكن هذا الإنسان من التخلص نهائيا من رذائله ونقائصه، ويستطيع ان ينفتح تماما لقبول دعوة الحب، يمكننا ان نقول ان حالة المطهر قد انتهت بالنسبة له. لذلك فالأيمان بالخلاص والفداء الكامل والتام، لا يمكن ان يلغي حرية الإنسان ومسئوليته. فلا يمكن بأي حال من الاحوال اسقاط مسئولية الإنسان عن اخطائه، لان اسقاط هذه المسئولية معناه امتهان لكرامة الإنسان وحريته.

فهذه المسئولية لا تنتهي تماما لمجرد التوبة والندم، ذلك لان كل رزيلة ونقص تمثل اعاقة للروح، في نموها نحو الله، هذه الاعاقة الإنسان وحده يتحمل مسئوليتها، لأنه هو الوحيد المسئول عنها.

المحبة تتنقي : اذا قلنا ان المطهر ليس مكان بل حاله، وحاله روحية علي الاخص، فبامكاننا ان نقول، انه ان كان ثمة عذاب في المطهر فهو عذاب الحرمان من الله. عذاب الندم علي ضوء النعمة وليس علي سبيل العقاب، فالآلام التي تكابدها النفس، هي الام روحية، نتيجة عدم قدرة هذه النفس علي الانفتاح وحرمانها من الله، وهنا يمكننا ان نقول ان المطهر هو الحالة التي تتنقي فيها محبة الإنسان من شوائبها، فالله ذاته لا يفرض شيئا علي الإنسان، لكن العقوبة الوحيدة هي عدم قدرة الإنسان علي الانفتاح الكامل علي المحبة وقبولها.وما يترتب علي هذا من الام روحية، نتيجة عدم ترقي الإنسان ذاته الي المستوي الروحي الذي يمكنه من هذا القبول. ولان الله يحترم حرية الإنسان فهو يتركه حتي يتم هذا الترقي بنفسه وبحريته.

المطهر كعقيدة ايمانية : لكي نتكلم عن المطهر كعقيدة ايمانية سنكتفي فقط بالاعتماد علي ما جاء " لمرمية " في كتاب نؤمن لعدة اسباب اهمها:

اولا : لان ما جاء في هذا الكتاب لا يتناقض مع عقيدة الكنيسة.

ثانيا : لان المؤلف قد اسقط تماما، كل ما هو غير الكيد ويحتمل الشك، فيما يتعلق بهذه العقيدة.

ثالثا : لان المؤلف قد تمكن ان يضع النقاط علي الحروف فيما يتعلق بعقيدة المطهر بنزاهة وموضوعية. وتمكن ايضا ان يخلع علي هذه العقيدة، معني واضحا بسيطا ودقيقا، وفي نفس الوقت يمكن ان يتقبله الفكر المعاصر.

يقول مرمية " بقيت كلمة مطهر حتي القرن الثاني عشر، صفة كقولنا تعويضي او تكفيري، اذ بدلا من ان يدل علي حاله، اخذت هذه الكلمة في عقول غالبية مستعمليها السذج، تدل علي كيان، علي شيء، علي مكان، علي سجن، علي نار، علي مدة ايام وسنين، يحددها دوران الارض علي ذاتها وحول الشمس، اخطاء بأخطاء!

الكلمة تربويا مزعجة، واللغة الالمانية تستعمل كلمة اشد ازعاجا " فاكف ير" اي النار المطهرة!

يجب ان نتطهر نحن من هذه الصور لنتوقف عند تعليم اباء المجمع التريدنتيني الذي نجله : لا يجب نشر اشياء غير اكيدة حول هذا الموضوع، والحال ان كل ما قيل او كتب بهذا الصدد هو غير اكيد.

فلنضع اذا بنزاهة سر الآلام المطهرة في السر المسيحي الاساسي والعام السر الفصحى، سر موت وقيامة المسيح ولنقل :

1-     لقد حمل المسيح كل خطايا العالم، وأدخلنا في الحياة الإلهية بذبيحته وقيامته وصعودة. به غفرت كل خطيئة وأعطيت كل حياة الهية.

2-     لكن المسيحي ليس طفلا بعيدا عن المسئولية، لكي يشترك بهذا التحرر من الخطية، لكي يدخل كابن في بيت الاب، عليه ان يتحد بإرادته بموت المسيح ومجده " ان يصير واحدا مع المسيح "( روم 6- 5 ) العواطف ذاتها، حب الله والآخرين ذاته، نسيان الذات، هذا التمثل بالمسيح يتم اولا في العماد الذي يجعلنا نغوص في موت يسوع وفي سائر الاسرار، وبخاصة الافخارستيا، وفي الصلاة والحياة المسيحية كلها، وأخيرا في الموت المسيحي، الموت الذي يقبله بحب، والحياة التي يقدمها بحب.

3-     ففي ساعة عبورنا الي العالم الثاني، ان كانت التوبة علي انواعها، كدواء ضد الم – لم تلغ تماما مقاومتنا لحياة المسيح فينا، ان كان لم يزل هناك نوع من الانانية لا يمكن المسيح ان يتبناها، يجب ان يتم التطهير. لا بفعل عصا سحرية، بل من الداخل، اذا علي ان ينضج في الحب، اذا الحرية، بموت الإنسان يأتي الوقت السعيد ليتحقق اتحاده الكامل مع الله انما بنتيجة خطئه يستحيل الاتحاد الفوري. فلاتحاد اذا مؤجل. . انه زواج مؤخر، هي نار الحب تحملنا علي ان نقفز نحو الله. لكن الانانية خيط مربوط برجل عصفور فاقد البصر. لا يزال للقلب تعلقاته. لذا وجب التحرر اولا قبل الوصول نهائيا الي الله.

لقد كتبت القديسة " كاترين الجفوية " مقاله في المطهر تقودنا من الاب المنتقم الي اله الحب : لا كلمة واحدة تذكرنا بالعذاب. الحب المطهر ما هو سوي حب الله يحرقنا اي يذيبنا بكليتنا فنقول لا اظن انه بعد سعادة قديسي السماء يوجد فرح يوازي فرح النفوس المطهرية.

ربما يكون " مرمية " قد استطاع بحق ان ينفض غبار السنين الذي تراكم علي عقيدة المطهر، لكي يعود مرة اخري بهذه العقيدة الي وضوحها وبساطتها الاولي بعد ان تراكم عليها الكثير من الافكار والأقاويل حتي كادت ان تطمس معناها الحقيقي.

 

خاتمة

لعلنا في النهاية نكون قد استطعنا ان نلقي بعضا من الضوء علي جوانب مشكلة الجحيم والمحبة الإلهية، ونمهد الطريق نحو تفهم اعمق لحالة المطهر والجحيم باعتبارها حالة الإنسان وحده هو المسئول عن وجودها، فيكون بامكاننا ان نقول بحق اننا صناع مصائرنا، وإننا وحدنا يجب ان نتحمل مسئولية ما اعددنا لأنفسنا من مصير.

لأنه حاشا للمحبة الإلهية التي جعلت " الله" بالذات يقبل التجسد والفداء، ليتمم ملحمة الخلاص حبا بالإنسان، حاشا لهذه المحبة ان تتحول يوما لتطالب بعقاب او انتقام، وحاشا " لإله المحبة " ان يتحول يوما الي قاضي وديان.

وان كانت الكلمة الاخيرة لما هو بعد الموت، بل بالحري للحياة التي هي بعد هذا الموت لم يقدر لإنسان من سكان هذا الكوكب ان ينطق بها، لان الذي " لم تسمع به اذن ولم تره عين ولم يخطر علي قلب بشر " يعجز العقل والخيال ان يعبر عنه بكلمات وألفاظ هي في النهاية من صنع البشر.

لكن عندما يعجز العقل، يبقي الحس والفطرة التي ارشدت الإنسان البدائي منذ فجر التاريخ، قبل ظهور الاديان والرسالات ان هناك خلودا وحياة بعد الموت، وان هناك ثمة الها حكيما يحكم هذا الكون. هذا الحدس وهذه الفطرة الموجودة في قلب الإنسان، بأمكانها دائما ان تتلمس طريقها وان يكن في غموض وإبهام نحو الغيب والمجهول.

لكن بعيدا عن كل العلوم والفلسفات، بعيدا عن صخب الحياة وضجيج الاحياء، يبقي لنا في النهاية كلمات وحي صادق، والمسيح فادي ومخلص، وشعاع ضئيل من ايمان في اعماق قلوبنا، يظل هو الهادي الامين لنا في دروبنا المظلمة المحفوفة بالخطر. .

لذلك يصبح من الضروري علينا ان نؤسس مع الله علاقة محبة بنوية، لا يشوبها خوف او قلق. بل نصبح نحن قلوبا عامرة بالطمأنينة والحب تجاه محبة الهية مطلقة وثابة نحو كل انسان، محبة لا يشوبها تغير او تبديل

الي ابد الدهر امين.

 بقلم شريف كامل فهمي جرجس 

 

        مراجع الكتاب

v      الكتاب المقدس – المطبعة الكاثوليكية – 1960

v      معجم اللاهوت الكتابي – منشورات دار الشروق بيروت 1986

v   نؤمن – تيودول ري – مرمية – تعريب الخوري يوسف درغام – منشورات قسم الليتورجيا جامعة الروح القدس لبنان 1983

v      هكذا تكلم زرادشت – فريدريك نيتشة المكتب العالمي للطباعة والنشر – بيروت1979

v      الإنسان روح لا جسد – د. رءوف عبيد – دار الفكر العربي – القاهرة 1964

v      مشكلة الإنسان – د. زكريا ابراهيم – مكتبة مصر الفجالة – القاهرة

v      المجموعة الكاملة لمؤلفات – جبران خليل جبران المعربة – تعريب الارشمندريت انطنيوس بشير – 1985

v   الدفاع الاجتماعي في مجال التطبيق ضد الجريمة ومعاملة المذنبين – عبد العزيز فتح الباب – خبير الدفاع الاجتماعي – 1985

v      ولادة الموت – الاب هنري بولاد – 1976

v      سلسلة كتابي – حلمي مراد – الكتاب الثالث عشر – مارس 1953

v      سلسله اقرأ – سلامة موسي – دار المعارف يناير 1972

مذكرات محكوم علية بالإعدام – فيكتور هيجو – كتاب الهلال سبتمبر 1984