إشكاليات الأرض المقّدسة

 

 

لمَ مثلُ هذا الموضوع في هذا الوقتِ بالذات، حيثُ قام قداسة البابا بندكتس السادس عشر بزيارة الأراضي المقدّسة، وفي مثلِ هذه الظروف الّتي تتعالَى فيها أصواتْ تدعو إلى تبنّي النضَالِ السِلميِّ و"اللاّعنفيّ" في فلسطين، كما تتعالى أصواتْ أخرى داعيًة، على العكس، إلى الاستمرارِ في دوّامَةِ النارِ والدَّم، بل وإلى تصعيدِها أيضًا. قد يبدو موضوعًا خياليًا! ولكن لنصغ إلى منطق آخر غير منطق السلاح الذي اعتدنا عليه لعلّه يجدي نفعًا؟

 

فيما يلي نستعرض بعض أفكار المستعرِب والمستشرِق الفرنسي لويس مَسّينيون (1883-1962)، الذي كان تلميذًا روحيًا للناسك شارل ده فوكو الذي استشهد في صحراء الجزائر ضمن أحداث الحرب العالميّة الأولى. أسّس وترأس جمعية أصدقاء غاندي في باريس وكان نشيطًا في الدفاع عن ضحايا الاستعمار. أسّس مع ماري كحيل أخوّة البدليّة المسيحيّة في القاهرة المكرّسة لخير المسلمين سيم في أواخر حياته كاهنًا ملكيًا (روم كاثوليك).

 

لعلَّ أكثرَ ما يعرفُه بعض المثقفينَ العرب عن مَسّينيون هو أنّه ذلك المستشرق الذي حقّق أعمال الحلاّج ونشرها وعلّق عليها وفسّرها غير أنّنا لن نتطرق إلى هذا، بل سوف نلقي الضوء على جانب آخر من عمل هذا المفكّر وروحانيّتهِ ومن اهتمامه بقضايا العرب.

 

فمن خلال مقالات كتبها خلال سنوات (1948-1954) بصفته شاهدًا للنكبة عام 1948، وكان حاضرًا على أرضِ الواقعِ منذُ دخول القوات البريطانية المنتدبة في العام سبعة عشر وتسعمائة وألف (1917)، وهي شهادة رجل محايد ليس عربيًا ولا إسرائيليًا، فهو لا يحابي طرفًا وهو رجل موضوعيّ ومؤمن وقادر على نحو استثنائي أن يفهم معنى الشعب المختار ورمزيته، وأن يفهم أن المختارين حقًا هم المؤمنون بالروح بإله الضيافة، بإله إبراهيم، أيًّا كان انتماؤهم.

 

وما دمنْا نتحدَّث عن الشهادَةِ فلا جرَمَ أنّها شهادةٌ على كلِّ أنواعِ الظلمِ والوحشيّةِ واللاإنسانيّةِ والترحيلِ والطردِ الجماعي والعنصريّةِ واللاأخلاقيّةِ التي قامتْ عليها دولة إسرائيل. مع ذلكَ فليسَ قصدُنا من التركيزِ على هذه الناحيةِ صبَّ الزيتِ على النار وتبريرَ عنفٍ مقابِلٍ، بل هوَ بالأحرى أنْ نقولَ إنَّ مَسّينيون، المتأثِّر بغاندي، وبالمقاومةِ اللاعنفيّةِ، قدْ شهدَ أيضًا على ولادةِ عنصريّةٍ مقابلةٍ عند بعض العرب. ولقد انتقدَ مَسّينيون حينذاكَ، تسليحَ اللاجئينَ الفلسطينيَّين من قِبَلِ الدوّلِ العربيّةِ وأسفَ إلى رؤيَةِ عقليَّتهم تتغيَّرُ من تسليمٍ إسلاميٍّ رائعٍ للمشيئَةِ الإلهيّة إلى رغبةٍ في التسلُّح. أفلا تشهد ستونَ سنة من العنفِ المتبادلِ على عقمِ منطقِ التسلّح؟.

 

إنها باختصار دعوة موجهة لكلا الطرفين: فحين يعود الإسرائيلي إلى دينه الحقيقي، إلى الإيمان بإله إبراهيم، وإلى فهم تقدمة إسحق، وعندما يعود العربي مسلمًا كان أو مسيحيًّا إلى التمسُّك بقيم الضيافةِ والتسليم للمشيئةِ الإلهيّة، الأمر الذي لا يجب أن يُفهَمَ كاستسلام أو إذعان أو جُبن، وعندما يرفض أبناءُ الشرقِ أن ْ يكونوا رهنًا لقيم المجتمع الغربيّ، للمسيحيّة المُمَوَّضة والمُتَأَمرِكة، كما يسميها حينًا، فلا شك أن الأمور ستغدو أفضل بكثير، وسيكون باب السلام الحقيقي قد فتح على مصراعيه.

 

إن مَسّينيون وضع يدَه على الجرح في طرحِهِ بأنَ السلام لن يأتي عبر إتفاقيات ومعاهدات، ولا عبر تقسيمات أو خرائط طرق أو غيرها، ولا عبر الأمم المتَحدة والمؤسّسات الرأسماليَةِ الكبرى، بل بالأحرى بالنيَّةِ الحسنةِ وبالرجوع، على المستوى الشخصيّ، إلى القيم الدينيّة العميقةِ. وهو يبرز مثال غاندي الذي "وضع موضعَ الاستخدام الفعليّ، العتلة التي تسمحُ بردّ ثقلِ المسؤوليّةِ الجماعيَّةِ نحو الإخلاص الشخصيّ لكلّ فرد. وإنّنا لنعتقد بدورِنا أنّ مفتاحَ الحل يكمن هنا: أن نبحثَ عن العتلَةِ التي تسمحُ بردِّ الثقلِِِ باتجاه ضمير كل شخصٍ مكلّفٍ من سكان الأرضِ المقّدسة الحاليّين: من عربِ ويهود، من مقيمين فيها ومرحَّلين، من يهود ومسيحيّين ومسلمين، مُتَناسين وغافرين، كلَّ الماضي ومتطلّعين إلى الأمام وإلاّ، فلن ترى أرضُ السلامِ السلامَ.

 

إنّ هذه العودة إلى القيمِ الروحيّةِ، عندما تُنظم ثقافيًّا واجتماعيًا، تُشَكّلُ المقاومةََ اللاعنفيّة القادرة على رمي الطغيان في البحر وإبعادِ البغضاءِِ إلى البيداءِِ. 

 

يجب الاعتراف حقًا أنَّه إذا كان هناك من بلدٍ يجب أن ينحني فيه الزمنيّ أمام الروحيّ من أجل تحقيق حاجتنا في الوحدة العالمية، فهذا البلد هو فلسطين.

 

وختاماً إن المصالحة بين اليهود والمسلمين يمكن أن تأتيَ من عنصر ثالث هو العنصر المسيحيّ وما لم يفعله الحكم البيزنطيّ عبر التاريخ، ولم يفعله الأميركيّون حتى الآن، يمكن أن يفعله الفاتيكان كونَه يتمتّع بالإحترام المتبادل من قبل كلا الطرفين. وكوني مطّلع قريب من الفاتيكان فأنا واثق بأن البابا الحالي قادر ويسعى ويريد أن يقرِّب العلاقة بين اليهود والمسلمين، كما فعل سلفه البابا المحبوب يوحنا بولس الثاني، طبعًا بمساعدة القوى الخيِّرة في العالم.

 

المصدر: لويس ماسينيون، إشكالية الأرض المقدّسة، مقالات 1948-1954، ترجمة أديب خوري وباولو دلوليو، الأولى للنشر والتوزيع، دمشق 2005.

عن ابونا