الأنبا يوحنا : الدين والسياسة

 الأنبا يوحنا قلتة ‏المعاون‏ ‏البطريركى للأقباط الكاثوليك:

 إذا تدخّل الدين فى السياسة فسدت وإذا تدخلت السياسة فى الدين وقع التخلف

 

حوار   نشوى الحوفى    31/ 5/ 2009 
 
كان لقاؤنا فى كاتدرائية القديسة العذراء مريم للأقباط الكاثوليك فى مدينة نصر، فى الموعد كنا هناك، لنجده فى انتظارنا فى فناء الكاتدرائية، يجذبنى إليه ببساطة ردائه الكنسى، الخالى من مظاهر أبهة باتت معتادة لدى رجال الدين، ويقاطع تحيتى له بحديث أبسط من الرداء مع ثلاثة شباب كانوا يقطعون الفناء فى اتجاه الكنيسة، طالبا منهم بحنو الأب وضع سجادة حمراء ليسير عليها عروسان بعد أقل من ساعة. يتلكأ الشباب فلا يغضب ولا يعلو له صوت، بل يكرر الطلب بهدوء، فيستجيبون له.

الحديث مع الأنبا يوحنا قلتة، ‏المعاون‏ البطريركى للأقباط الكاثوليك، الذى تعود جذوره لقرية صغيرة تدعى «القطنة» على حدود أسيوط وسوهاج، ليس كأى حديث. فهو بجانب دوره الدينى، وثقافته اللاهوتية المميزة بتجدد مفرداتها، دارس للغة العربية، فى جامعة القاهرة، وحاصل على الدكتوراه فى الفلسفة الإسلامية وحافظ للقرآن الكريم، هذا غير عضويته فى نقابة الصحفيين، وهو ما يعنى أن الحديث معه لابد أن يعتمد على العقل الذى يقدسه ويراه من أهم نعم الله على الإنسان، فقط إن أدرك ذلك.

دراسة الأنبا يوحنا قلتة للإسلام تعبر – كما يقول- عن رغبته فى التعرف على دين المسلمين وحقيقته بعد أن اعتادت عيناه على رؤية مواطنى قريته، التى لم يكن تعدادها يتجاوز 8000 نسمة، وهم منقسمون فى الأربعينيات من القرن الماضى، بين جبهة شرقية على النيل يسكنها المسلمون العاملون بالزراعة، وجبهة غربية أسفل الجبل يسكنها المسيحيون الذين امتهنوا كل المهن، عدا الزراعة لبعدهم عن مصدر المياه، رافعين شعار «صباح الخير يا جارى، إنت فى حالك وأنا فى حالى». ولتتوالد فى نفس الصبى العديد من التساؤلات تجاه دين الآخر، القاطن على شاطئ النيل.

«المصرى اليوم» حاورته فتكلم عن الماضى والحاضر والمستقبل، فقال الكثير، بادئا حديثه بالقول: «بات رجل الدين صاحب مهنة، لا صاحب رسالة».

? كيف ترى العلاقة بين الدين والسلطة الآن فى مصر؟

– دعينا نعُد للتاريخ الذى ذكر لنا أن المسيحية ظلت مختبئة لمدة ثلاثة قرون، وحينما أعلن قسطنطين أنها الدين الرسمى للإمبراطورية الرومانية بدأت الصراعات التى أفسدت العلاقة بين المسيحيين وبعضهم البعض. وفى الإسلام أيضاً، نجد أنه بعد وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم – اختلف المسلمون، وإن كان هناك شك فى طريقة موت أبوبكر الصديق، الذى يقال إنه مات مسموما، فإن المؤكد أن عمر وعثمان وعلى – رضى الله عنهم – ماتوا مقتولين من جراء السياسة،

ولذا أقول إنه إذا تدخل الدين فى السياسة فسدت، وإذا تدخلت السياسة فى الدين وقع التخلف.. لماذا، لأن الهدف يتركز فى السلطة وشهوة المال فتضعف الرسالة، وحتى الآن لم ينجح رجال دين فى حكم بلد ما.. لماذا فصلت أوروبا الدين عن السياسة؟ لأن تدخل رجال الدين فى الحكم أفسد السياسة.. ولماذا نعانى الآن؟ لأن بعض رجال الدين من الجانبين يريدون أن يحكموا بين البشر بالشريعة الدينية، على الرغم من أن الدين هو علاقة بين ضمير الإنسان وربه.. كيف تحكم على الضمير البشرى؟

من السهل التظاهر بالإيمان، يمكن أن يكون هناك «زبيبة» فى مقدمة رأسى، أو أن أعلق صليباً فى عنقى، ولكن قد أكون غير مكتمل الإيمان، أو غير صادق النية.. هذه علاقة شديدة الخصوصية بين العبد وربه.. الدين وضع إطاراً على الفرد تطبيقه وهو ليس من مهام الدولة، أو من مهام رجال الدين.. لماذا نقحم الدين فى الشؤون الدنيوية؟ هل تستطيع الدولة أن تمنع الدعارة، أو تقلل الطلاق ومعدلاته. يجب ألا نقحم الدين فى الشؤون المدنية المتغيرة. الدين مدرسة الله وليس مدرسة البشر.

? إذن هل تعتقد أن الحكم فى شؤون المسلمين والمسيحيين فى مصر يجب أن يخضع لقوانين مدنية بحتة؟

– نعم ولكن فى إطار من القيم ومن الأخلاق.. وألا يكون الدين عنصراً من عناصر الحكم، لا يستطيع رجل دين أن يقضى أمراً فى الاقتصاد أو السياسة.

إلى الآن مازلنا حائرين فى البنوك وهل فوائدها ربا أم لا؟ وينادى رجال الدين المسلمون بما يسمى «المصارف الإسلامية»، وسؤالى: هل يختلف أسلوب عمل تلك البنوك عن البنوك الأخرى، أم أن هناك قواعد عامة تسير عليها كل البنوك مهما اختلفت المسميات.. ماذا يعنى طب مسيحى وطب إسلامى؟

أليس المفترض أن هناك علماً للطب ينطبق على الجسد الإنسانى أيا كانت هويته أو ديانته؟.. الهندسة للجميع، الكيمياء للجميع. لقد عرفت الإنسانية العلم منذ فجر الحضارات القديمة، قبل اليهودية وقبل المسيحية وقبل الإسلام، ألم يكن هناك علم؟.. ولكن نحن أصحاب الأديان الإبراهيمية الثلاثة مغرورون، يظن كل منا أنه يمتلك الحقيقة الكاملة المانعة الجامعة، وتلك هى الكارثة،لأنه لا يمكن لإنسان أن يمتلك الحقيقة المطلقة، ولا أن يمتلك الله، أين كان الله قبل الأديان الثلاثة؟

ألم يكن موجوداً، وأين سيكون بعد انتهاء الكون؟ سيبقى، لأنه المنزه عن الفناء والنقص، هو الباقى.. إذن ما القصة؟ القصة فى حب التحكم لدى بعض رجال الدين، ورغبتهم فى السيطرة على ضمائر الناس.. أرى بعض رجال الدين يسرقون ضمائر الناس ويتلاعبون بها، وإلا فما تفسير هذا الزحام فى الفتاوى لدى المسيحيين والمسلمين؟ معناه تضارب وتناقض وقصر نظر. مسكين هذا الإنسان الشرقى المستعبد من رجال الدين، الله محبة، وجميع المتصوفين الذين هم الصورة المشرقة للأديان، يقولون «امتلكنى يا الله»، لا أحد يقول أنا أمتلك الله. نحن نصّبنا من أنفسنا أبواقاً للسماء. لماذا يصر رجال الدين على تقييد حركة الإنسان الدنيوية.. الرسول قال «أنتم أدرى بشؤون دنياكم».

? هل تبقى العلمانية نموذجاً نحن بحاجة إليه؟ وأن نرفع شعار «دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»؟

– العلمانية كلمة ذات سمعة سيئة فى عالمنا العربى، لأنها غير مفهومة، ولكنها تعنى سيادة القانون المدنى، العلمانية لا تحارب الأديان، وليست ضدها، كما أنها لا تقف بين المرء ودينه، أو المرء وربه، كن ما شئت، راهبا أو وليا أو ناسكا، ولكن دع الحياة للقانون الذى ينظمها، الدين لا يدير حياة الناس اليومية، الدين يدير الضمير البشرى.. فى العالم العربى كارثة لا يدركها الكثيرون وهى سيطرة الفكر المتسلط الأصولى فى المسيحية والإسلام. وسأضرب لك مثلاً من صميم الحضارة الإسلامية: فى القرن الرابع الهجرى كان هناك شاعر وصفوه بالفسق والعربدة يدعى «أبونواس»، كان يلقى قصائده الشاذة على الملأ، هل قتله العلماء أو أباح الحاكم دمه؟ لا، لماذا؟

لأنه كان هناك فهم صحيح للدين. كانت هناك حرية، هل يستطيع أبونواس التواجد بيننا الآن؟ هل تقبل مجتمعاتنا نموذجاً آخر من أبونواس؟ لا لم نعد نتقبل الرأى الآخر، مسيحيين ومسلمين. الرأى لدينا واحد، وما عداه خطأ، حتى إننا فقدنا القدرة على النقاش وتبادل الرؤى، وبات القضاء ساحة لفض خلافات الرأى. الفيلسوف الألمانى «نيتشة» كتب فى القرن التاسع عشر كتاب «الله مات»، ورغم ذلك لم يقتله أحد، ولكن ردوا على كتابه بكتب.. فولتير قال عن المسيح «هذا هو الرجس»، لم يمسه أحد بسوء، وهكذا الأمثلة عديدة، والسبب أن المسلمين لم يكونوا يخشون شيئاً، لأنهم كانوا أصحاب حضارة وفكر، وكذلك المسيحيون فى أوروبا بعد عصور النهضة.. التخلف يولد التطرف والإرهاب، والحضارة تمنح الرؤية الصحيحة، والحرية تبارز الفكر بالفكر.

? فى اعتقادك لماذا نجح الفكر المسيحى الغربى فى استعادة رشده والتحرر من سيطرة الكنيسة؟

– حركة الكون والفكر الإنسانى فى تطور مستمر، وهى دليل على عظمة الخالق الذى لا يستطيع العقل البشرى إدراكها بعقولهم المجردة، ولا يجدون فى النهاية مفراً من التسليم بقدرة الله وألوهيته.. وإذا كان الكون فى تطور، فيجب على العقل البشرى التطور.. التطور المسيحى بدأ فى القرن الخامس عشر واستغرق نحو ستة قرون حتى وصل لما إليه حاله الآن.. حدث الكثير من التغيرات، بدأ العقل المسيحى الغربى بمبادئ اقتنع بها الجميع، أولها أنه ليست لرجل الدين سلطة على عقلى، هو فقط لتعليمى وإرشادى، وليس بصكوك الغفران.

من هنا كان احترام عقل الإنسان وإرادته وحياته، بإبعاد رجال الدين عن الحكم. فى عام 1914 وقعت معاهدة بين إيطاليا والفاتيكان، لفصل الكنيسة عن الدولة، كان هناك تخوف من انهيار المسيحية والكنيسة، ولكن الكنيسة لم تندثر، وكذلك المسيحية، وثبت أنه كان من مصلحة الكنيسة ما حدث لأنها صاحبة رسالة. لقد استفادت أوروبا بنظرية التأويل التى وضعها ابن رشد، وقامت حضارتها على أساسها، بينما رفضناه نحن، كان يسمى معلم أوروبا، ولكننا حرقنا كل إنتاجه.

اسمعى: ماذا يقول الجاحظ فى القرن الرابع الهجرى: «وكيل الله عندى هو عقلى»، وهذه مقولة ديكارت فيما بعد ذلك بعدة قرون، «أنا أفكر إذن أنا موجود». نحن فى حاجة للتحرر. رجل الدين المسيحى مازالت لديه رهبة العصور الوسطى، مع أن المسيح قال: «جئت لأخدم، لا لأُخدم». ونعلم أنه لا كهنوت فى الإسلام، ورغم ذلك بات لدينا كهنوت أقوى من كهنوت المسيحية، أليس الملالى فى إيران كهنوت؟.

? أين مكمن الأزمة فى علاقة الدين بالسلطة؟

– نحن نعيش أزمة حقيقية بين العقل والضمير، هل لرجل الدين سيطرة على هذا العقل؟ رجال الدين أصحاب رسالة أم أصحاب سلطة؟ الواقع المرير يقول إنهم أصحاب سلطة. الله قال فى القرآن: «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». وقال أيضاً: «إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء»، وفى إنجيل يوحنا: «تعرفون الحق والحق يحرركم». ولكننا الآن نرى من يريد أسلمة العالم، ومن يريد تنصيره، ما هذا العبث. الله يقول فى القرآن: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة».

لا توجد فترة فى التاريخ كان الناس يدينون فيها بدين واحد. الخلفاء المسلمون احتضنوا الحضارات الأخرى، وكان هناك مسيحيون ويهود فى قصر المأمون. وأقولها لكل من يخشى على مصير ذلك البلد، إذا سُجن ضمير الإنسان سُجن عقله، ومن هنا يأتى التخلف، ضمير حر لا يأتى إلا بعقل حر. والتطرف والتخلف وجهان لعملة واحدة، فالتطرف يعنى أننى أرفض فكر الآخر وأحتقره، أما التخلف فيعنى أننى لا أعرف شيئاً عن فكر الآخر ولا أى فكر يتبناه. والمشكلة لدينا مضاعفة، لأننا فى بلادنا العربية نعانى أمية يقدرها البعض بنسبة 60% ولا تفرق بين المسيحى والمسلم. ولا أعنى بحديثى الأمية الأبجدية فقط، ولكن الأمية الثقافية.

? وكيف ترى الحل لتلك الأزمة؟

– لا حل لها سوى بإعادة اكتشاف روح مصر، السمحة المنفتحة على كل العالم وكل الثقافات، وكل الأديان.. إبراهيم ويوسف وموسى والمسيح وأمه. أتذكر كاتباً مثل أنيس منصور، الذى أتمنى أن ترشحه الدولة لنيل جائزة نوبل، لأنه كاتب موسوعى وانفتاحه على ثقافة العالم منحه القدرة على قبول الآخر وتفهمه ودراسته.

فمنذ سنوات عديدة شاركته الحديث، فى برنامج بإذاعة صوت العرب كان يسمى «بعض من الفكر»، كان الحديث عن الأب الفرنسى «تيار دى شارتان»، يومها اكتشفت فيه عقلاً مصرياً أصيلاً، يمزج بين الثقافة الفرعونية والمسيحية والإسلامية على أرقى المستويات، وهذا الرجل يمثل فى النهاية ثقافة مصر الجميلة. نحن بحاجة لآلاف مثل أنيس منصور، بحاجة لتغيير طرق التعليم ومناهجه، ومقرراته، بحاجة لفرز ما لدينا من أفكار شاخت وانتهى وقتها، وما أنزل الله بها من سلطان.

? على ذكر التعليم، كيف ترى تجربة المدارس الكاثوليكية فى مصر، وما تعليقك على أنها مدارس تبشيرية؟

– دعينى أقل لك إن محمد على باشا كان رجلاً سابقاً لعصره بعشرات السنين، كان يدرك أن حضارته التى يسعى لبنائها لن تتحقق إلا بتعليم جيد يساير ما يحدث فى دول أوروبا، التى كانت تناصبه العداء، ورغم ذلك فتح الباب لمدارس الرهبان الكاثوليك ليخرج أجيالا من العقول التى أفادت النهضة فى مصر، ولم يخش من اتهامات البعض الذين يرون فى تلك المدارس تبشيراً للمسيحية، لقد مضى الوقت على تلك الأقاويل التى لا تقدم ولا تؤخر.. لدينا 170 مدرسة كاثوليكية، نسبة الدارسين بها من المسلمين 75%. وقد خرجت أجيالاً عديدة، من بينهم وزراء ومسؤولون على أعلى مستوى بالبلد، فلماذا لا تسألوهم إن كنا مارسنا التبشير معهم؟ وأقولها بلا مواربة: هناك حرب ضد تلك المدارس، وهناك تضييق من قبل بعض المسؤولين فى وزارة التعليم من ذوى الفكر الضيق، الذين يرون فى تلك المدارس تعليماً مسيحياً.

نحن نقدم تعليماً مصرياً يحترم عقل المسلم والمسيحى، ولا زلنا حريصين على التربية التى نراها الأساس فى العملية التعليمية، هل يعقل أننى أعانى بشدة من أجل الحصول على ترخيص بالقسم الثانوى فى مدرسة سان جورج، التى تخدم سكان المنطقة كلها. دعونا من تلك المهاترات، ولنتفرغ جميعا لنهضة بلادنا، أين عبقرية مصر؟ هل يُعقل أن نحتاج فى مصر لقمح، ونحن من أطعمنا العالم فى أوقات المجاعة؟ أشعر بالاختناق من البضاعة الصينية التى ملأت مصر.

? يصر المسيحيون على استخدام لقب «أقباط» رغم أنها تعنى المصرى. لماذا الاستئثار بها من دون المسلمين؟

– السبب هو الجهل والتطرف، المسيحيون يرفضون أن يطلق لفظ أقباط على المسلمين، والمسلمون يظنون أن تلك الكلمة تعبر عن المسيحيين فرفضوها. وأقول للطرفين هل قرأتم عن مصر فى الأساطير القديمة؟ مصر ابنة الشمس، الشمس عشقت الأرض والنيل فأنجبت مصر، بلاد النور والخير. فى أحد الأيام وأثناء عودتى من طنطا، وعند بلوغى منطقة بركة السبع، أعجبنى منظر ما قبل الغروب، ركنت سيارتى وجلست تحت ظل شجرة على قمة غيط.. فوجدت فلاحاً يأتينى عارضا مشاركته كوباً من الشاى معه.. فضحكت معه وقلت له أنا قسيس.. فقال لى: «أنا إيش عرفنى قسيس ولا شيخ ألست مصرياً وضيفاً». هذا هو المصرى الناعم بالأمان.

? فى إطار كل هذا لماذا برأيك يشعر المسيحيون بأنهم مضطهدون، ويشعر المسلمون بأنهم أصحاب حق مسلوب؟

– لا ذنب للمصريين فيما يحدث الآن من أى قوانين جائرة، لأنها ميراث أيام العصر المملوكى والعثمانى، الذى قسم الملل والأديان، ليس هذا فقط بل إن التاريخ ولد بين الطرفين أموراً تركت آثارها.

من أهمها الحروب الصليبية التى لم يطلق عليها مؤرخ عربى تلك الكلمة، حيث كانوا يطلقون عليها كلمة حروب الفرنجة.. ولكن فى العصر الحديث ترجمت كلمة «كروزات» إلى الصليبية.. وقتها تولد أدب الحروب الصليبية، الذى تبادل المسلمون والمسيحيون فيه السباب والهجوم على بعضهم.. ثم جاء الاستعمار الإنجليزى، الذى رفع شعار «فرق تسد».. وميز المسيحى ليوغر صدر المسلم، ثم جاء الإعلام ليتبنى قضايا وضعت النار على الزيت.

وبعيداً عن عقد الاضطهاد، هل يعقل ألا يكون فى أمن الدولة ضابط مسيحى؟ هل كلهم خائنون؟ كان لى 10 أشقاء، من بينهم ضابط حارب فى عام 1973، وآخر استشهد فى نكسة يونيو 1967، وهناك آلاف مثلهم، أليسوا مصريين؟ والكثيرون يستندون إلى البيعة العمرية فى القدس، وأنا أقول لهم: عمر بايع فى عصره بظروف عصره وفكره، وليس بظروف هذا العصر الذى نحياه.

? هل نحن بحاجة لتجديد الخطاب الدينى لدى كلا الجانبين؟

– نعم اللاهوت المسيحى والفقه الإسلامى، ولكن قبل ذلك علينا بتغيير العقول، وهو الأهم من الاقتصاد والسياسة. لايزال أصحاب الفكر يخشون الغوغاء. هناك حالة من سيطرة فكر العصور الوسطى علينا.

? وما أهم الأمور التى يجب إعادة النظر فيها؟

– نظرة المسيحى للمسلم، ونظرة المسلم للمسيحى، كلاهما يرمى الآخر بالكفر، وكلاهما يظن أنه يمتلك مفاتيح الجنة والنار، والله هو العالم فوق كل عليم. هو من يمنح المغفرة وهو من يقرر العذاب والنعيم. نسينا السلوك الطيب وأمسكنا فى تلابيب ما لا نملك. فى العقيدة المسيحية ممنوع الطلاق إلا فى علة الزنا أو تغيير الديانة، ولكن ما حال أوروبا المسيحية؟ 70% من حالات الزواج تكون بعيداً عن الأوراق.

وما حال بلادنا؟ بها أكبر نسبة طلاق فى مصر بين المسيحيين والمسلمين…الكتب المقدسة من حقها بيان الأمور ولكن تطبيقها يترك لضمير الفرد، ولحريته. ليس من الصواب اتهام تاركها بالكفر، وترويعه بالنار والعذاب. والمصريون يقولون عبارة رائعة «ربنا رب قلوب». وعلى الدولة أن تضع القانون وعلى الجميع أن يلتزم.

? الكنيسة تقول إن لها رعاياها وتطبق عليهم قانونها؟

– هذا خطأ لأننا لو طبقنا هذا الكلام لصار لدينا دولتان، مسلمون يتبعون الأزهر، ومسيحيون يتبعون الكنيسة. أنا مصرى ملتزم بقانون دولتى. كونى مسيحياً يعنى أن ضميرى يحتّم على اتباع الشريعة المسيحية، ولو أنى مسلم فهذا يعنى أن ضميرى يحتم على اتباع الشريعة الإسلامية. ولكن هويتى مصرية. الدولة تخشى نفسية الجماهير، أهل الفن والأدب والفكر يخشون الجماهير، نحن شعوب شبّت على الخوف حتى من آرائنا التى نؤمن بها.

السلطة تخشى سلطة رجال الدين من الجانبين. وهنا يبرز دور المفكر الذى يشبه ضوء شمعة فى طريق مظلم. ما أجمل فترة الليبرالية التى سبقت ثورة يوليو 52، وأفرزت مبدعين كثراً أدركوا قيمة التنوع والتسامح. فمنحتنا صلاح جاهين ونجيب محفوظ وطه حسين وشوقى وغيرهم كثير، لكن الثورة أخطأت عندما خطفت ضمير المصريين.