القانون الكنسي والحياة الراعوية

لما القانون الكنسي و ماهيّة الزواج

                                     للأب: هاني باخوم

 

إن الهدف الاساسي لسلسلة مقالات "القانون الكنسي والحياة الراعوية" هو جعل مفهوم نصوص مجموعة قوانين الكنائس الشرقية التي صدرت عام 1990 بمتناول جميع المؤمنين. لذلك سوف نسعى في هذه السلسلة لتقديم بعض المقالات التي تخص الحياة الراعوية حسب القانون الكنسي.

المقالة الاولى تعرض ماهيّة الزواج حسب القانون الكنسي (ق 776) ومفاعيله. لكن بدايةً  قبل التعرض هذا الموضوع، من المهم الاجابة على سؤال قد يبدو راسخاً في أذهان الكثيرين: لماذا القانون الكنسي؟ أو بمعنى آخر ألم يكن كافياً ان تقاد الكنيسة بمحبة الله التي غمرت قلوب المؤمنين بواسطة الروح القدس (روم 5، 5)؟ ألا تكفي الفضائل مثل المحبة والايمان لتنظيم العلاقات بين المؤمنين؟

إذاً لماذا القانون الكنسي؟

للاجابة على هذا السؤال يجب ان نتعرّف اولاً على هوّية الكنيسة  وطبيعة الانسان ودعوته:

أ. القانون الكنسي و هوّية الكنيسة

الكنيسة هى مجتمع مكوّن من عنصرين: عنصر الهي غير منظور يشمل عطايا الروح القدس وشركة القديسين، وعنصر بشري منظور وهو جماعة المؤمنين. بالرغم من ذلك تبقى الكنيسة وحدة واحدة، واقعاً واحداً لا إذدواجية فيه. الكنيسة هي مكان الحوار بين الله والبشر عبر التاريخ، وسيلة الخلاص المنظورة ليس فقط للمؤمنين بل لكل البشر الذين يتحقق فيهم وبهم هذا السر، سر الخلاص. هي اذاً مجتمع منظّم يهدف الى خلاص النفوس، فيها المؤمنون مدعوون  للمشاركة، كلُ بحسب حالته (اكليروس، رهبان، علمانين)، في تحقيق هذا الهدف.

 من هنا تنبع اهمية القانون الكنسي الذي يهدف الى  تنظيم وتحديد هذه المشاركة. فالقانون الكنسي، من خلال مجموعة من القواعد والقوانين، يُظهر لزمننا الحاضر يعبر بطريقة واقعية وملموسة ، كيفية الوصول الى الهدف المرجو، اي خلاص النفوس.

في الوقت ذاته الكنيسة هي شركة، بمعنى ان طبيعة الكنيسة وجوهرها هما الشركة: شركة تجمع كل المؤمنين بعضهم ببعض وبالله وبالكنيسة السماوية. شركة  تنبع من تلك الشركة التي توّحد  الثالوث الأقدس وتتحقق عن طريق عمل الروح القدس في كنيسته وتتجسد وتظهر من خلال أعمال المؤمنين وأفعالهم. هنا يأتي دور القانون الكنسي وهو اساسي في هذا المجال ليعبّر عن هوية هذه الشركة بطريقة واقعية ومنظورة وليظهر لمن يرجوها كيفية البلوغ اليها.

 

ب. القانون الكنسي و طبيعة الانسان ودعوته

العنصر البشري الذي هو احد عنصري الكنيسة، أي جماعة المؤمنين، وهم الأشخاص الذين تلقوا سر العماد بنعمة الروح القدس. هؤلاء هم دائماً في علاقة: علاقة مع الأخر وعلاقة مع الله، لان الانسان بطبيعته يسعى لتحقيق ذاته ودعوته للقداسة  من خلال اقامة علاقات مع من يحيط به ومع الله.

هذه العلاقات تتحدد من ثمرة خبرة الانسان ومن الالهام الالهي المستمر في التاريخ. وبطريقة ملموسة هذا التحديد يظهر من خلال نظام قانوني يهدف الى حماية حقوق كل الاشخاص داخل العلاقات المتنوعة وتنظيمها. فالقانون يرسم بخطوط واضحة ماهية العلاقات وطبيعتها، داعياً المؤمنين لتحقيقها من اجل الوصول الى غايتهم الاسمى وهي القداسة، و ما القداسة الا ان يحقق المؤمن ذاته كاملةً على صورة الله، التي هي المحبة. فالقانون يجسّد في العلاقات بين المؤمنين وبطريقة منظورة وصية المحبة، التي هي وصية وعطية الروح القدس الغير منظورة.

القانون الكنسي في هذا الاطار ليس هدفه فقط تحديد العلاقات بين المؤمنين بل له هدف تربوي ايضاً. بمعنى ان القانون الكنسي يصبح كمقياس واقعي لمدى عمق الحياة الروحية للمؤمن. ليس بالصدفة ان كلمة قانون مصدرها في اللغة اليونانية (κανων) وفي اللغة العبريه (qaneh) وكلا المصدرين يعنيان "المقياس"  وهو المقياس الخشبي الذي رآه حزقيال النبي يقاس به الهيكل في الرؤية (حز 4042).

فالقانون لا يزرع نبتة الايمان في قلب الانسان، فهذا العمل يأتي من التبشير واعلان الخبر المفرح، أي خبر موت وقيامة يسوع المسيح، بل هو يحدد العلامات المنظورة التي تظهٍر ان هذا الانسان قد تلقى بالفعل الايمان.

القانون الكنسي هو اذاً وسيلة تساعد المؤمن ليس فقط على تحقيق ذاته عن طريق اقامته علاقات مع الله والاخرين، بل تساعده ايضاً على مقارنة واقعه الايماني الحالي، بطريقة مستمرة وملموسة، بواقع الايمان الذي دعي اليه.

من كل ما سبق نستنتج ان القانون الكنسي هو وسيلة زمنية ضرورية لمساعدة المؤمنين لبلوغ غايتهم، تلك الغاية المطبوعة بضمائرهم والمعلنة بالوحي الالهي.

بعد هذا العرض المبسط لدور القانون الكنسي داخل تاريخ الخلاص، نتطرّق الان الى موضوعنا الاساسي: ماهيّة الزواج حسب القانون الكنسي (ق 776) ومفاعيله.

 

1. ماهيّة الزواج حسب القانون الكنسي (ق 776)

القانون الكنسي يعرِّف الزواج على انه:

أ. عهد

الزواج هو عهد بين الزوجين صنعه الخالق ونظم شرائعه. فالزواج ليس ثمرة تقدم علمي او حضاري اواجتماعي بل هو اساساً ينبع من مشيئة الله الخلاصية، لذا يبقي الوحي الالهي المصدر الوحيد لتحديد هويته ولتشريعه، فلا يمكن لاي سلطة زمنيه ان تعدِّل او تغيّر هويتّه او شرائعه الاساسية. فالزواج يدخل في قصد الخالق منذ البدء من اجل خير الانسان، "وقال الرب الاله: لا يحسن أن يكون الانسان وحده، فلأصنعنَّ له عوناً يناسبه" (تك: 2، 18). فالانسان  بالزواج (كما ايضاً بالتكريس) مدعو الى تحقيق هوّيته ودعوته الاساسية، كخليقة على صورة الله ومثاله، معطياً ذاته كلياً للاخر وبدون تحفظ على مثل المسيح الذي يعطي ذاته للكنيسة. وبهذا العطاء يحقق الانسان ذاته كاملةً.

بهذا العهد ينشأ بين الرجل والمرأة، وبرضى شخصي متبادل حسب القانون، اي بفعل حر وواعي واحتفالي، شركة في الحياة كلها. اي ان الزواج هو فعل بشري حر حسب القصد الالهي، عهد اسّسه الله وبرغبة حرة يقبله الزوجان بتبادلهما للرضي الزوجي.  فالرضى الشخصي المتبادل هو الاساس في صنع عهد الزواج وبه فقط تنشأ هذه الشركة في الحياة كلها بين الزوجين. ينتج عن هذه الشركة اتحاد روحي وجسدي بينهما، فيصيران واحداً.  هذا الاتحاد في الوقت ذاته يهدف الى:

ـ خير الزوجين: احد اهداف الزواج هو خير الزوجين: فالزوجان باعطاء كل واحد ذاته كاملةً للاخر يحقق دعوته الاصلية ألا وهي المحبة الكاملة ليصيرا على صورة خالقهما. فخير الزوجين لا يقتصر فقط على مداواة الشهوة او التعاون المشترك، وان كانا اساسيين. فالخير الحقيقي للزوجين هو ان يحققا ذاتهما من خلال تحقيق دعوتهما للحب. الحب نفسه الذي احب به الله شعبه، ودفع المسيح لاعطاء ذاته حتى الموت من اجل البشر. لذلك من يعاني من امراض نفسيه او جسدية تمنعه من اقامة هذه العلاقة من العطاء والمسؤولية او من برغبة حرة يرفض هذا الهدف، يعقد زواجاً باطلاً.  

ـ انجاب البنين وتنشئتهم: الهدف الثاني للزواج، كما يحدده القانون الكنسي، هو انجاب البنين وتنشئتهم. القانون يذكره كهدف ثاني ليس لانه اقل اهمية من الاول و لكن لان القانون يستخدم تسلسل طبيعي للاهداف في الحياة الزوجيه. بمعنى ان الزوجين باعطاء كل واحدٍ منهما ذاته كلياً للاخر وبدون تحفظ ينتج عنه ثمرة البنين، فانجاب البنين وتنشئتهم يتم حسب القصد الالهي وليس حسب الحرية الشخصية للزوجين. فالانسان لا يحق له كسر الرباط المقدس بين الاتحاد الجسدي وامكانية الانجاب. فبعمله هذا لا يكسر فقط وصية إلهية او تعليماً كنسياً بل يكسر شيئاً في طبيعيته الانسانية، يحطّم بداخله تلك الدعوة المدعو اليها وهي ان يعطي ذاته للاخر بلا حدود منفتحاً على القصد الالهي. هكذا يخطىء الانسان اولاً في حق ذاته وفي حق عهد الزواج الذي قبله برضاه الحر، قبل ان يخطىء ضد وصية مكتوبة. ومن يرذل هذا الهدف هو بالعمق يرذل ايضاً الاتحاد الكامل الجسدي والروحي حسب القصد الالهي وبذلك يعقد زواجاً باطلاً.  كما ايضاً يعقد زواجاً باطلاً من يعاني من عجز جنسي مؤبد وسابق لعقد الزواج، سواء كان هذا العجز مطلقاً (اى عجزاً عن إقامة علاقة جنسية مع أي شخص من الجنس الاخر) او نسبياً (اي عجزاً عن إقامة علاقة جنسية مع شخصٍ محدّد من الجنس الآخر).

ب. عهد وعقد

القانون الشرقي يستخدم كلمة "عهد" بدلاً من كلمة "عقد" والتي كانت تستخدم سابقاً لتحديد هوّية الزواج. وبذلك يتبع التقليد البيبلي والأبائي وايضاً تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني حول الزواج. بكلمة "عهد" يشار ايضاً الى العهد الابدي الذي اقامه الله مع الشعب المختار وتحقق بالمسيح. فتعريف الزواج على انه "عهد" يجعل منه صورة لذلك العهد الالهي: صورة لاتحاد الله بشعبه، وصورة لاتحاد المسيح بالكنيسة (فرح ورجاء، 48/ 2).

القانون الغربي (ق 1055) يستخدم كلى التعبيرين: "عهد" و "عقد". يستخدم كلمة "عهد" ليعبر عن الواقع الداخلي والعميق للزواج، اي انه يعبر عن جوهر الزواج بالعهد. وعلى المستوى القانوني يستخدم كلمة "عقد" ليشير الى ما له من نتائج ومفاعيل قانونية. كذلك في الشرق، وان كان القانون الشرقي يستخدم كلمة "عهد"، فما زال التعبير "عقد" يستخدم كمصطلح قانوني للاشارة الى الزواج. فالزواج هو عقد وان كان يتميز عن غيره من العقود بان موضوع العقد (مجال الاتفاق) بين الاثنين ليس مادياً بل هو الذات نفسها وكل الكيان الشخصي للزوجين، كما يتميز بانه ، عقد الزواج، بعد قبوله برضي شخصي من الزوجين وبمشيئتهما، يسموا بهما الى مشيئه الله. فلا يعد هذا العقد تابعاً لمشيئتهما بل لمشيئة الله وقصده. اي لا يعد لهما او لاي سلطة اخرى  الحق في فسخه او تعديله.

ج. عهد، عقد وسر مقدس

هذا العهد الزوجي بين المعمدين، والمعقود بطريقة شرعية، جعل منه المسيح سراً مقدساً. فبالزواج يصير الزوجان علامة سرية للوحدة والمحبة الالهية بين المسيح والكنيسة. فنعمة السر تمنح الزوجين قلباً جديداً لامكانية الحب، على مثال حب المسيح لكنيسته، حب صفته الديمومة فلا يفرقهما انسان او ظروف، حب صفته الاحادية والامانة.

هذا السر المقدس ينعم بصلاة خاصة لاستدعاء الروح القدس الذي يحوّل اتحادهم البشري الى سر مقدس ويقوم بها الكاهن للزوجين، امام شاهدين. هذه الصلاة، او البركة الزوجية،بالإضافة الى الرضى الشخصي هي اساسية لعقد زواج صحيح.  

بين المعمدين لا يوجد اي رباط زوجي معترف به من الكنيسة الا اذا كان هذا الرباط هو سر مقدس تم عقده حسب القانون الكنسي. فالزواج المدني للمعمدين غير معترف به كزواج ولذا ليس لديه أية مفاعيل وكانه لم يكن.  في نفس الوقت تعترف الكنيسة بزواج غير المعمدين كزواج صحيح اذا تم حسب القانون الذي يحكم هؤلاء الاشخاص بشرط الا ينافي الشرع الالهي.

الزواج الصحيح حسب القانون الكنسي يجب ان يتمتع بثلاثة عناصر اساسية:

ـ اهلية الزوجين: اى التاكد من عدم وجود اي مانع مبطل لدى أحدهما أو كليهما لعقد هذا الزواج (ق 800ـ 812)،

ـ ان يخلو الرضى الزوجي من اي عيب (ق 818ـ 826)،

ـ ان يتم حسب الصيغة القانونية (ق 828، 832).

هذا الزواج الصحيح  له خاصتين تنبعان من طبيعته:

ـ الأحادية: تعني الامانة الزوجية أي ان هذا العهد يتم بين رجل واحد وامراة واحدة. فالكنيسة لا تعترف بتعدد الزوجات او الازواج. هذا لان بالزواج، الانسان مدعو لاعطاء نفسه كلياً للاخر مما يمنعه عن اعطاء نفسه لثالث في نفس الوقت،

ـ عدم الانفصام او الديمومة: اي ان هذا العهد هوعهد ابدي لا يحله الا الموت (ق 835)، وهذا ينبع من طبيعة الزواج نفسه، كحب وعطاء الذات كاملةً مدى الحياة.

من يعقد زواجاً بنية معاكسة او نفياً للأحادية الزوجية او لعدم الانفصام فهو يعقد زواجاً باطلاً (ق 824).

 القانون الكنسي، وبالرغم من انه يذكر ان هذا العهد لا يحلّه الا الموت (ق 835) ، يشير الى ثلاث حالات فيها يمكن فسخ العقد، وسبب ذلك حرصه على خلاص النفوس وهذا هو القانون الاسمى في القانون الكنسي. تلك الحالات هي: ترجيح وفاة احد الزوجين (ق 1383)، حل الزواج لصالح الايمان (ق 854ـ 861) و التفسيح من الزواج المقرر غير المكتمل (ق 1384).

2. مفاعيل الزواج الصحيح

ينتج عن الزواج الصحيح، حسب القانون الكنسي، بعض المفاعيل:

رباط ابدي لا يحله الا الموت (ق 835)،

ـ المساواة بين الزواجين في الحقوق والواجبات بما يتعلق بشركة الحياة (ق 777). وبذلك يستبعد اي تمييز بين الزوجين،

ـ حق التوارث للزوجين ولابنائهم ،

ـ شرعية الابناء.

في هذه المقالة تطرقنا الى ماهيّة الزواج حسب القانون الكنسي ومفاعيله. في المقالة القادمة سنتطرق الى الاهتمام الراعوي اللازم لإعداد الخاطبين والإستقصاء الواجب عمله قبل الاحتفال بسر الزواج (ق 783ـ 789).

                                         الأب: هاني باخوم