الأقباط تحت حكم الولاة المستقلين

الدولة الطولونية والدولة الأخشيدية

الأب أنطون فؤاد

 

استقل الطولونيون والأخشيديون بحكم مصر ـ وإن ظلوا اسمياً تحت سلطان الخلافة العباسية ـ ويمكن القول أن تاريخ مصر الاسلامية يبدأ فعلياً مع الطولونيين. ظلت مصر خاضعة خضوعاً تاماً للخلافة العباسية طالما كانت الخلافة قوية, ولكن لما بدأ الضعف ينخر في جسمها, كنتيجة للصراع بين أبني هارون الرشيد الأمين والمأمون, وتفاقم هذا الضعف حينما بدأ الخليفة العباسي المعتصم بالاستعانة بالاتراك في حكم البلاد, والذين تعاظم نفوذهم في دولة الخلافة العباسية حتى وصل إلى حد إنتخاب الخليفة أو عزله, بدأ بعض الولاة يسعون بالاستقلال بولياتهم بعيداً عن سلطة الخليفة من هؤلاء أحمد بن طولون.

 

الكنيسة تحت حكم الدولة الطولونية

(870ـ905)

قدم أحمد بن طولون إلى مصر عام 868, من قبل الأمير باكباك صاحب إقطاع مصر, كان شاب له من العمر 33 عاماً, وجد الخلافة ضعيفة, فتحدى سلطة الخليفة واستقل بمصر فعلياً بل وضم سوريا إليها, واسس دولة عرفت باسمه (الطولونية), دامت لنحو 38 عاماً بعيداً عن سلطة الحكام العرب.

 

1. ملامح حكم الطولونيين

* السعي إلى تطوير البلاد

لما كان أحمد بن طولون مستقلاً عن السلطة المركزية, فلم يعمل على استغلال البلاد, بل حرص على تطويرها ونهضتها حتى يعلو اسم أسرته, عمل على تحويل مصر إلى مركز إمبراطورية عظيمة كان يهدف لخلقها, لذا حسن أحوال الإدارة, ورفع مستوى معيشة الأفراد, وعمل على الإرتقاء بالمستوي المعماري للبلاد.

* وضع نظام عام للبلاد

لم يعتمد الولاة المستقلون على تلقي أوامر تنظيم البلاد من الخليفة, بل أصبح الخليفة على قائمة أعدائهم, لذا حرصوا هؤلاء الولاة على كسب ود الشعب والحفاظ على وحدته, بما يتضمن هذا الشعب من أقباط أيضاً. خلع أحمد بن طولون جباة الضرائب الدخلاء وعين بدلاً منهم مصريين. حرص أيضاً على توجيه عنايته لكل الشعب دون فروارق شاسعة, فمنح حرية العبادة للجميع, وسمح للأقباط بمزاولة شعائرهم الدينية وبناء الكنائس والأديرة دون قيود, كذلك مباشرة أعمالهم التجارية والزراعية دون مضايقات.

* الأقباط في عصر أحمد بن طولون

نظراً لقصر فترة الطولونيين لا يمكننا القول بدقة إلى أي مدى وصل تسامحهم مع الأقباط, ولا إلى أي مدي تغيرت أحوال الأقباط  في عهدهم. لكن يمكننا القول أن أحمد بن طولون بدأ عهده بإجراءات حازت قبول المسلمين والمسيحيين معاً, فقد عدل نظام الضرائب, وأبطل العنف الذي كان مصاحباً لجبايتها, بوجه عام لم يلق أهل الذمة في عهده معاملة سيئة. لكن يظل السؤال لماذا إذاً كان عنيفاً مع البطريرك الغير خلقدوني خائيل الثالث (880ـ907)؟ ولماذا أمر بحرث قبور أهل الذمة؟ 

نبدأ بالنقطة الثانية, فبالرغم من قصر مدة حكم بن طولون (16 سنة) إلا أنه أقام من العمائر الشئ الكثير, ففي عام 870 اسس عاصمة جديدة سميت القطائع, اقام بها قصراً فخماً لنفسه واسس بها مسجده المشهور (جامع بن طولون), كذلك أقام بها دار الإمارة. ولما كانت هذه المنطقة هي قبور اليهود والمسيحيين, فأمر بحرثها لتشييد مدينته مكانها.

أما بخصوص معاملته مع البطريرك الخلقدوني, فيسجل البلوي الذي كتب سيرة أحمد بن طولون, والذي غالبا ما كان معاصراً له, أن بن طولون لم يكن يعامل كل طبقات الشعب على قدم المساواة, فكان يفضل الأتراك على بقية المسلمين, والملكيين الخلقدونيين على بقية المسيحيين. ويذكر هذا المؤرخ أن بن طولون كان يتردد على دير القصير (دير ملكاني قريباً من حلوان), ويعتكف فيه للصلاة. أما عن علاقته بالبطريرك الغير خلقدوني لم تكن جيدة, فقد استدعاه وأمره بدفع عشرين ألف دينار, ولما عجز البطريرك عن دفعها أمر بسجنه, وضمنه بعض الكتاب لبضعة أيام حتى يدبر أمره, فاضطر البطريرك إلى بيع بعض ممتلكات الكنيسة لليهود؛ مثل موضع المجمع اليهودي الحالي القريب من الكنيسة المعلقة, وموضع مقابر اليهود الحالية بالبساتين.

يرى البعض أن سوء علاقته بالبطريرك الغير خلقدوني يرجع لكون البطريرك أبى أن يحرج مركزه بتقديم ولائه الكلي لابن طولون من اللحظة الأولى, حتى لا يعادي الخليفة الذي يرفض الاعتراف به كوال شرعي لمصر.

 

* قصة مسجد بن طولون

بزغ في عهد الطولونيين نجم المهندس القبطي سعيد بن كاتب الفرغاني, وهو الذي تولى عمارة مقياس النيل في جزيرة الروضة عام 864, عندما أمر الخليفة العباسي المتوكل بعمارته. اعتمد بن طولون على المهندس السابق في تشيد مشروعاته, فبنى له قناطر وبئر بن طولون لتوصيل الماء إلى مدينة القطائع بين عامي 872 و 873. مع ذلك سجنه بن طولون لسؤ ظنه به.

شرع بن طولون في بناء مسجده الشهير, لذا شرع في هدم عدد من الكنائس وآخذ أعمدتها وأنقاضها للبناء, فلما سمع المهندس السابق في محبسه أعلن استطاعته أتمام البناء دون هدم الكنائس, وبالفعل نفذ ذلك وشيده برسمه الحالي, بدأ بناء هذا المسجد في 876 واستمر العمل به لمدة سنتين, تختلف الروايات حول مصير هذا المهندس, فيروي البعض أن بن طولون قد كافأه, ويروي البعض أنه عرض عليه الدخول في الإسلام فلما رفض قتله.

* عصر خمارويه بن احمد بن طولون (884ـ895)

زاد في عصره التعاطف مع المسيحيين, وحذا حذو والده بالتردد على دير القصير, أطلق سراح البطريرك الغير خلقدوني وعافاه من كل ما الزمه به والده.

* العلاقة بين الخلقدونيين وغير الخلقدونيين في عهده

كان خمارويه كأبيه يفضل الملكيين عن سائر المسيحيين, وبالتالي استطاع الخلقدونيين أن يقيموا لهم اسقفاً بالاسكندرية ثم ينصبوه بطريركاً, بعد فترة طويلة دون بطريرك, لكن الأنبا باخوم اسقف طما الغير خلقدوني , والذي كان مقرباً من خمارويه, أقنعه أن وجود بطريرك ملكاني لن يخدم استقرار البلاد, وشككه في إمكانية أن يكون هذا البطريرك جاسوساً ًللبيزنطيين أبناء ملته, واستمر حتى اقنع الأمير بعزل هذا البطريرك مع ستة من الأساقفة الخلقدونيين.

    * حالة الكنيسة بعد خمارويه

اغتيل خمارويه في أثناء زيارته لدمشق عام 895, وبوفاته أخذت الدولة الطولونية في الضعف والانحلال, فقد تولى زمامها أفراد من البيت الطولوني تنقصهم الحنكة السياسية. تولى بعد خمارويه ابنه أبو العساكر حبش (895ـ897) والذي لم يرض عنه الجند فخلعوه, تولى بعده أخوه أبو موسى هارون بن خمارويه (897ـ905) وهو في الرابعة عشر من عمره, لذا طمع الخليفة العباسي من جديد في استعادة سيطرته على مصر. بعث الخليفة المكتفي بقائد جيوشه محمد بن سليمان الكاتب على رأس جيش كبير هزم الأسطول المصري,  وفر هاون لكن عماه شيبان وعدي الطامعان في السلطة تعقباه وقتلاه, ونصب شيبان والياً على مصر, لكن الجند رفضوا الأعتراف به وتحالفوا مع محمد بن سليمان الكاتب, الذي دخل الفسطاط ومنها إلى العاصمة القطائع التي حرقها عن آخرها عام 905 وهدمها ولم يبق منها سوى المسجد, وهكذا انتهت دولة الطولونيين.

أثناء هذه الصراعات عاد الجنود إلى إبتزاز الأقباط ونهبهم, كذلك عاد الخليفة إلى فرض الضرائب من جديد على الرهبان والعجزة, كذلك مضاعفة الضرائب على الأقباط لذا ذهب وفد منهم لمقابلة الخليفة يرجوه تخفيف الضرائب فاستجاب لهم وعفى الرهبان والعجزة من جديد.

 

 

 

 

 

 

الكنيسة القبطية تحت حكم الدولة الأخشيدية

(935ـ969)

مقدمة

بسقوط الدولة الطولونية عام 905م عادت مصر لتصبح من جديد تحت حكم الخلافة العباسية, ومارس الخلفاء حقهم في تعيين وعزل ولاة مصر, لكن لم تتوقف الاضطرابات الناتجة عن ضعف الخلافة العباسية, ظل الأمر كذلك حتى أعلن أحد الولاة من جديد استقلاله بحكم مصر عام 935, وتأسيس دولة تنسب لاسمه هي الدولة الأخشيدية.

أسس الدولة الأخشيدية محمد بن طغج الأخشدي, الذي أعلن التمرد على سلطة الخليفة العباسي, معلناً استقلاله بحكم مصر وتأسيس دولته الأخشيدية.

 

ملامح حكم الأخشيديين

1. الأزمة المالية

لم يشر المؤرخون المسيحيون في كتاباتهم على تسامح الأخشيديين, كما اشادوا سابقاً بتسامح الطولونيون, ويدللون على عدم تسامحهم بما فعله محمد بن طغج الأخشيدي حينما عجز عن دفع مرتبات الجند من إبتزاز أموال الأقباط و فرض الإتاوات عليهم, مما إضطرهم إلى بيع ممتلكات الكنيسة للوفاء بمتطلباته. يذكر مؤرخون آخرون أن مصر في ذلك الوقت تعرضت لمجاعة عظيمة وغلاء شديد نتيجة نقص فيضان النيل لمدة ثلاث سنوات مما أدي لإنتشار المجاعة وموت عدد كبير جداً من المصريين وكانت الأزمة عامة على الجميع وليس فقط على الأقباط. كذلك عاصر المجاعة السابقة هجوم النوبيين على مصر ونهبها.

 

2. عدم فرض التمايز على أهل الذمة

تذكر الدكتورة سيدة اسماعيل الكاشف في كتابها (مصر في عصر الأخشيديين), أنه لم يسمع في العصر الأخشيدي شيئاً عن التزام أهل الذمة بالقوانين الخاصة بمخالفة هيئتهم لهيئة المسلمين في اللباس والركوب. كما تذكر أن العلاقة بين المسلمين وأهل الذمة في العصر الأخشيدي ظلت طيبة في معظم الاحيان.

 

3. الربط بين الأقباط والبيزنطيين

كانت المشاغبات من جانب المسلمين ضد أهل الذمة تنشأ حينما يحاول المسلمون تحجيم سيطرة أهل الذمة على الأمور المالية, لكنها كثرت وتوالت حينما توالى البيزنطيون في انتصاراتهم ضد المسلمين في الشام ودمشق, فحينما دخل البيزنطيون الشام عام 960 قام العامة من المسلمين بتخريب الكنائس في مصر, ولكن هجمات الغوغاء هذه لم تكن بتحريض من السلطة والتي لجأت في كثير من الأحيان لاستخدام العنف مع الغوغاء لقمعهم ومنعهم عن الأقباط.

 

4. وصول الأقباط  للمناصب العليا

أمتازت فترة الحكم الأخشيدي بتولي الأقباط الأمور المالية والإدارية في الدولة ووصل الأمر إلى تعيين كافور الأخشيدي لأبو اليمن قزمان بن مينا وزيراً له, وظل وزيراً له طيلة فترة حكمه.

كذلك كان غالبية مسؤولي الترسانات وعمال المراكب في عهد كافور من الأقباط, فسمح الحاكم لهم باقامة القداسات في مواقع عملهم وعلى المراكب.

 

5. المناظرات الدينية

بدأت في عهد الأخشيدين ظاهرة عقد المناظرات الدينية بين اصحاب الديانات المختلفة, وتستمر هذه المناظرات وتصل إلى مرحلة متقدمة في عهد الخلافة اللاحقة (الفاطمية).

تجدر الاشارة هنا إلى أحد مشاهير كتاب الأقباط في عصر الدولتين الأخشيدية والفاطمية وهو الأسقف ساويرس بن المقفع صاحب كتاب سير البطاركة

ولد نحو عام 915 م  من والد لقب بالمقفع (أي منحني الرأس دائماً), تدرج في وظائف الدولة الأخشيدية حتى أصبح كاتباً, ويدل هذا على براعته في اللغة العربية.

لقب من العرب باسم أبي البشر بن المقفع الكاتب نسبة إلى وظيفته, بعد أن وصل إلى مراكزمتقدمة في عمله ترك كل شئ وترهبن في أحد الأديرة (لم يذكر أحد اسم هذا الدير, ولكن يرجح أنه في نفس منطقة اسقفيته فيما بعد), عكف اثناء حياته في الدير على دراسة الكتاب المقدس وسير الأباء.

أهتم بجمع سير البطاركة السابقين وصياغتها من المخطوطات التي وجدت باليونانية والقبطية في أديرة أبو مقار بوادي النطرون, ودير نهيا بالقرب من الجيزة (احد الأديرة المندثرة), وقد اتم عمله وهو في سن الثمانين. يرى البعض في ابن المقفع أول من كتب كتب مسيحية باللغة العربية.

اختير اسقفاً على مدينة الأشمونين (غروب مركزملوي حالياً) والتي عرفت في العصر البيزنطي باسم هرموبوليس. منذ القرن الرابع المسيحي شاع صيت هذه المدينة بكثرة كنائسها واديرتها, وقد كانت كذلك أيضاً وقت اسقفية ساويرس مدينة عامرة بالكنائس والأديرة.

قد تكون سيامته تمت أواخر أيام البطريرك مقارة, البطريرك ال59 (932ـ953) ولكن هذا ايضاً غير مؤكد.

اشتهر ساويرس بعقد المناظرات الدينية مع المسلمين واليهود ولكن سنتعرض لهذا لاحقاً عند دراستنا للدولة الفاطمية.