المزمور السابع عشر: دعوتك يا الله

المؤلف: الأب بولس جرس 

دعوتك يا الله

أولاً: تقديم المزمور:

المزمور السابع عشر هو مزمور مسياني، مزمور توسّل أنشده المرنّم عندما ضايقه أعداؤه ولاحقوه ظلماً وقام شاول ورجاله على داود مسيح الرب للقضاء عليه ففر هارباً إلى برية معون (1 صموئيل 23: 25).وظل بعيداً ينتظر حكم الله العادل في قضيته داعياً إياه أن يعلن على الملأ براءته.

المرنّم إنسان يتّقي الربّ ويتألّم من الاضطهاد بسبب أمانته للعهد، فيفرغ آلام قلبه أمام الرب موقناً أن الحقّ سيظهر. نحن هنا أمام حالة خاصّة، حالة البريء الذي يُلاحق ظلماً، فيلجأ إلى الرب طالباً عنده ملاذاً، فيخلّصه الله ويحفظه وينصره على طالبي حياته، فالله دوماً مخلّص البائسين الملتجئين إليه.

نشعر بكلمات المزمور كصلاة صراخ: اسمع، أصغِ، أصخ. ونلمس فيها مطالبة بالعدالة: القضاء والاستقامة، امتحنت قلبي واختبرتني بالنار. ونقرأ عن أعداء يظلمون البريء البائس ويحاصرونه ويكمنون له في الخفاء، كما يكمن الأسد لفريسته.

نجد تقارباً بين هذا المزمور والمزمور السابق، حتى ليحسبهما البعض كتوأم، فكلاهما يرى في الله وهيكله الملجأ والملاذ، وكالمزمورين السابقين يعرض هذا المزمور شروط الدخول إلى هيكل الله المهيب.

يرى البعض أن المزامير من 16-24 تمثل مجموعة مسيانية متكاملة، كل مزمور منها يقدم نبوءة واضحة عن السيد المسيح المخلص، وأروع هذه التنبؤات ما ورد عن صلب وآلام الرب المسيح في المزمور الثاني والعشرين. ولقد طبق  القديس أغسطينوس كل ما ورد في هذا المزمور على السيد المسيح. إذ يقول: "بجدر بنا أن ننسب هذا المزمور لشخص ربنا المتحد مع الكنيسة التي هي جسده".مثلما حسب القديس جيروم وبعض الآباء الآخرين أن كل ما جاء في المزمور يخص السيد المسيح وشعبه، لدرجة يشعر الإنسان في الحال عند قراءة هذه الصلاة الثمينة، أنها تخص شفتي من هو أعظم من داود، فحيث كُتبت هذه الصلاة بروح الله فإن سمة الطلبة الموجودة فيها لا تخص داود وحده، بل تنطبق كلماتها بالأكثر على حياة الرب يسوع المسيح وآلامه. هو الكامل والبار يتشفع عن شعبه، إذ يتقدم بدعواهم من خلال بره وكماله طالباً خلاصاً، والآب يسمع لشفاعاته.

ثانياً: نص المزمور وتقسيمه:

         نقسم المزمور إلى أقسام خمس على النحو التالي:

القسم الأول:  الرب ملجأ البريء المضطهد: دعاء المؤمن ليسمع الله صلاته ويحكم بالعدل. ( 1- 2):

1 – اسمع يا رب الحق، وأنصت إلى صيحتي. أصغ إلى صلاتي يا رب من شفتين لا تعرفان الغش.

2- أحكم ببراءتي يا رب فعيناك تريان الصواب.

القسم الثاني: المرنّم يُعلن أنه بريء (3- 5)

3 – لو أنك امتحنت قلبي وتفقدّته في الليل واختبرتني، لما وجدت فيّ مذمة ولا هي تخرج من فمي.

4 – للناس أعمالهم وأما أنا فلزمت كما أوصيت سبيل فرائضك.

5 – تمسكت بالسير في دروبك فلا تحيد عنها خطواتي.

القسم الثالث: صلاة جديدة: ليسمع الله ويهب الخلاص والحماية للمؤمن (6- 9):

6- دعوتك يا الله فاستجب لي. أمل أذنك واسمع كلامي.

7- اختر تقيك يا رب، يا مخلص المحتمين بك من أعدائهم بيمينك.

8- احفظني مثل حدقة العين وفي ظل جناحيك استرني

9- من أشرار يسدون طريقي وأعداء ألداء يحجزون علىَّ.

القسم الرابع: يشكو المرنّم أمره إلى الله مصوّراً أعداءه وشرورهم (10- 12):

10- يغلقون قلوبهم عن الرحمة، وأفواههم تنطق بالكبرياء.

11- يتبعونني ولآن يحيطون بي ونصب أعينهم إلقائي  على الأرض.

12- هم كالأسد الكامن للافتراس وكالشبل المتوثب في مكمنه.

القسم الخامس: يصلي أن يعاقبهم الله وينتقم له منهم معبّراً عن ثقته بالله:  (13- 15)

13- قم يا رب في وجوههم واصرعهم ونجني من الشرور بسيفك،

14- هم رجال صنعتهم بيدك ومنحتهم نصيبهم في الحياة وملأت بطونهم من خيرك. يشبعون مع بنيهم ويتركون ما يفضل عنهم لبني البنين.

15- وأنا في براءتي أعاين وجهك، وأشبع في يقظتي من حضورك.

ثالثاً: تفسير المزمور:

القسم الأول:  الرب ملجأ البريء المضطهد: دعاء المؤمن ليسمع الله صلاته ويحكم بالعدل. ( 1- 2):

1 – اسمع يا رب الحق، وأنصت إلى صيحتي. إصغ إلى صلاتي يا رب من شفتين لا تعرفان الغش:

"صلاة لداود". توجد خمس مزامير تحمل نفس العنوان، وهي مزامير (17، 86، 90، 102، 142). وقد دُعيت صلوات لأنها مفعمة بالتوسل، فهو قوامها والعنصر الأساسي فيها.

لقد أتقن داود النبي فن الصلاة، حتى دعا نفسه "أما أنا فصلاة"، عرف كيف يلجأ إليها على الدوام، خاصة وهو رجل آلام وأوجاع، يشعر بالحاجة المستمرة إلى ملاذ يلجأ إليه فرارا من أعدائه الأشرار أو من ضعفاته الشخصية.

هذا المزمور بالتحديد هو صرخة داود أثناء مطاردة شاول له، يطلب النبي من الله أن يستمع ويصغى وينصت، مكرراً طلبه ثلاث مرات في آية واحدة، ويُقصد بهذا التكرار اللجاجة والإلحاح في الطلب، والإصرار على اللجوء إلى آخر غير الله؛ فهو المخلص الوحيد.

v   اسمع يا رب الحق:

هو رب العدل، والحق من أسمائه وصفاته، لذا يشعر المرنّم أنة واقف أمام القاضي العادل الذي يعرف الحق ويحكم به، فلابد إذن أن يستمع إليه. والنبي يناديه بكلمات اسمع وأنصت وأصغ وهي كلها كلمات تتطلب انتباها ووعياً كاملا.

 فيستخدم أولاً الفعل " اسمع" و السمع عملية تلقائية لا تتطلب مجهوداً فطالما هناك أذنان للسمع فهما تسمعان.

أما الفعل  الثاني "أنصت"  وهو يعني توجيه الانتباه إلى ما تسمعه الأذن من أصوات.

 أما الفعل الثالث فنراه يستخدم " إضغ " مما يتطلب مجهوداً في توجيه الأذن  كأعلى درجة من التركيز. وكأن المرنّم يحتاج أن يكرس له الله أذنيه ويصغى إليه وحده، فيعيره الانتباه  ليتفهم شكواه.

v   وأنصت إلى صيحتي:  

الصراخ أو الصياح تعبير عن صلاة مجلجلة نافذة تخترق الصمت وهذه النوعية من الصلاة تعبر عن عواطف شديدة منزعجة "وأنت فلا تصل لآجل هدا الشعب ولا ترفع لأجلهم صراخاً ودعاءً ولا تلح على "لأني لا أسمعك"( أرميا 7 :16)، وصرخ يسوع بصوت عظيم قد أكمل واسلم الروح"."( متى 27 :50) وحيث أن المعرفة متبادلة بين الله والمرنّم، فان هذه الشكوى حقيقية ولست موضع شك، كلاهما يعلم أنها كذلك، فهذا يعانى آلام المطاردة والحصار وذاك ينظر من علو سماه ويسمع ويعرف ويفحص؛ شفتا داود لا تعرفان الفساد وأذنا الرب تكرهان الكذب.

فلماذا الصلاة إذن وما فائدة الصراخ؟

حتى لو كان الله عالم بما نشكو، ملم بتفاصيل الصلاة، إلا أننا يجب أن نصلى ونطلب معونته ونصرخ نحوه بصدق القلب وصدق الكلمة.

2- احكم ببراءتي يا الله، فعيناك تريان الصواب.

v   فعيناك تريان الصواب (أمامك يخرج قضائي)

لا يبني داود صلاته على براءته وطهارة يديه وبره بل "يسكب قلبه" (مزمور 62 :8) وهو  في هذا الموقف عينه،  يعلم أنه بريء بلا ذنب أو جريمة، فهو لم يقترف أبداً الشر في حق شاول الملك أو بيته، في حياته أو حتى بعد وفاته، وقد كان يوناثان ابنة أوفى وأحب أصدقاءه  ورثاه  مع أبيه شاول حين سقطا  في القتال بمرثية تعتبر في ذاتها مزموراً رائعاً (2 صموئيل ا:20-27 ) وأكرم الشخص الوحيد الذي بقي حياً من بيت شاول وجعله يأكل على مائدة الملك، برغم إعاقته الجسدية والعقلية (2 صموئيل : 19: 25-31) لذا فشعوره بالبراءة من أي ذنب تجاه من يطارده ويطلب نفسه، يجعله وثقا أن حكم الله سيكون في صالحه لأنه يعرف بره وسلامة موقفه وللبر في اللغة العبرية كلمتان مترادفتان:

الأولى: تختص بوصف السلوك البشري: تصف البر أمام الناس "كان أيوب رجلاً باراً وكاملاً يتقى الله ويحيد عن الشر فرأى الناس صلاح أيوب واستقامته وبره".

والثانية: وتختص بوصف السمات الإلهية: تصف بر الله، " يحمل بركة من عند الرب وبراً من إله خلاصه" (مزمور 24: 5)، "بري قريب وخلاصي آتي  وذراعاي تحكمان الشعوب" (أشعياء 51 :5).

والمرنّم هنا يعني أن الله من خلال بره الذاتي يكتشف مدى صدق النبي وبر سلوكه.

القسم الثاني: يُعلن المرنّم براءته: (3- 5):

3- لو أنت امتحنت قلبي؛ وتفقدته في الليل واختبرتني، لما وجدت بي مزمّة ولا هي تخرج من فمي:

كلمة "جربت" تُستخدم للتعبير عن امتحان الذهب بالنار (زكريا 13: 9)، الأمر الذي يفوق حدود الفحص العادي إلى التفتيش في أعماق النفس البشرية. وهذا النوع من الفحص والامتحان عملية لا يقدر عليها سوى الله وحدة فهو فاحص القلوب والكلى وبقدرته أن يعرف باطن الإنسان.

سيكون حكم الله حسب فحصه لأعماق الإنسان؛ فحين يرى قلباً صادقاً مخلصاً، لا يحمل كراهية أو بغضة حتى ضد المفترين عليه، ويستشعر شوقاً كيانياً وكأنه يقول مع بطرس الرسول للرب: "يا رب أنت تعلم كل شيء، أنت تعرف إني أحبك" (يوحنا 21: 17)،.ومع أغسطينوس"خلقتنا يا الله وقلوبنا مضطرمة في داخلنا حتى نستريح فيك"؛ حينئذ يشرق نور الله على النفس الطاهرة ويحول ظلمتها إلى بهاء نوره.

v   وتفقدته في الليل: "تعهدّته ليلاً "

يحمل الليل الظلام والخوف من المجهول الذي لا يمكن رؤيته  ويحجبه الظلام  وهكذا يشعر الإنسان  الذي يحيا مع الرب بان هذا هو زمان الهدوء والسكينة وفترة العزلة والتوحد للصلاة والتهجد بينما تختطفه مشاغل النهار ولا تترك له وقتاً للتفكير والتأمل، وباقترابه من الرب ومراجعته ما دار خلال النهار (فحص الضمير) لا يشعر بأنه وحيد في عملية الفحص والمراجعة، بل الله حاضر معه، ينير ظلمته ويشاركه الفحص، وان كان فحص الصدّيق لضميره فحصاً دقيقاً، فان فحص الله أعمق وأدق حيث يصل بنظره إلى عمق أعماق الإنسان، إلي كبده، كليتيه، قلبه وعقلة  وضميره.

v   "ليلاً "

حتى وإن لم يكن الليل مجال الفحص، فهو قرين الظلام لكن، ليس عسيراً على الله أن يفعل ذلك فهو ليس محتاج لنور النهار كما نحتاج نحن ليفحص ويختبر ويعرف….كذا يعنى الليل حالة النوم والاسترخاء للمرنّم، فهو ليس في موقف ترقب وحّذر بحيث يستطيع أن يخفى مشاعره  أو ويدارى ذنوبه، وحتى وهو نائم، تلازمه البراءة والطهارة ولا يوجد فيه عيب أو خطيئة.

الليل بالنسبة إلى آباء البرية والنساك هو مقياس الحياة الروحية، في الليل تنفتح السماء أمام عيني الإنسان ليهيم في حب الله ويصلي وفيه تنكشف القلوب. فالإنسان الملتهب القلب بالحب طول النهار، يجد لذته عندما يحل الليل، في التمتع بالاختلاء والصلاة وقراءة الكتاب المقدس والتأمل الروحي،  وقبل أن  يضع رأسه على وسادته يهيم بفكره حيث يوجد قلبه وهناك كنزه، فيردد في قلبه: "إني لا أدخل إلى مسكن بيتي، ولا أصعد على سرير فراشي، ولا أعطي لعينَّي نوماً أو لأجفاني نعاساً، ولا راحة لصدغي، إلى أن أجد موضعاً للرب" (مزمور 132).

أما من ارتبك بهموم الحياة فلا يجد في الليل لذة بل عناءً، فهو يعاني من الأرق، وكأن الليل بظلامه الرهيب،  ليس للراحة بل لاختبار عربون الجحيم الذي لا يُطاق. ومن يقضي يومه في الملذات الحسية والجسدية، ينغمس بالأكثر في الهواجس والأفكار المثيرة لجسده وعقله متى حلّ الليل… وهكذا يكشف الليل للإنسان حاله الداخلي.

v     لما وجدت بي مزمة ولا هي تخرج من فمي:

بإشراقة فرح وتهليل داخلي، يجتاز النبي بنجاح لحظة الامتحان الرهيب بالوقوف أمام الله، إذ ينتهي فحص الضمير بصحبة الله في ظلمة الليل، حيث لم يجد الرب بعد الفحص في أعماق قلب الصديق ما يلام عليه من فكر أو قول أو فعل. والصدّيق يؤكد بدوره أن المزمّة، أي القول السيئ والشتيمة والكذب والنميمة لم تخرج من فمه. وربما قصد المرنّم بقوله: "لا يتكلم فمي بأعمال البشر"، أو في النص العبري: "لا يتعدى فمي…" أنه وإن مرّ به فكر إدانة من جهة إنسان – وإن كان عدوه – فإن هذا الفكر لا يمكن أن يجتاز إلى فمه وتنطق به شفتاه، ولا يتحول إلى كلمات إدانة وبالتالي إلى خطيئة، إنما يحبسه ليغلبه بعمل الله فيه. لذا يطلب "ضع يا رب حافظاً لفمي وباباً حصيناً لشفتي"     ( مزمور 141: 3 ).

4– للناس أعمالهم أما أنا فلزمت كما أوصيت سبيل فرائضك:

أعطى الله الإنسان حرية الإرادة والاختيار، أعطاه حتى أن يخالفه، يهمله ويترك طريقة فيسير بعقله حتى لو وصل به الأمر إلى إنكار وجود الله،  كما في المزمور (قال الجاهل في قلبه لا إله)، لكنه لم يتركه أبداً في ظلمة الجهل، بل أنار عليه بنور الشريعة، التي كالمصباح تهدى خطي من يتبعها " كلمتك مصباح لخطاي ونور لسبلي" (مزمور 119 : 105).ولم يجبر الناس على إتباعه لكنه وعد أن من يتبعه بحرية" من أراد أن يتبعني…" ( متى16: 24) فلن يُخذل أبداً. فمن يحفظ الشريعة تحفظه الشريعة ومن يسير في درب الرب ويتبع فرائضه وأحكامه يكون كشجرة مثمرة ولا يعوزه شي ويستمتع بالسكنى معه وينال كل الخيرات. والنبي يعلن هنا أنه قد حدد اختياراته وقرر من كل كيانه أن يتبع ما أوصى به الله في الشريعة وأن يلتزم بالسير في مخافة الرب كل حين.

5تمسكت بالسير في دروبك،  فلا تحيد عنها خطواتي:

تحدث النبي عن قلبه الصالح ثم عن لسانه العفيف الذي لا ينطق بالمزمة، وأخيراً يتحدث عن سلوكياته وأعماله، فهو قد حفظ نفسه من طريق الشر ليسلك طريق الله ويعيش حسب مشيئته الإلهية؛ ويضيف أن ذلك لم يتحقق بقدرته الشخصية وإنما بإرشاد الله ومعونته حتى لا تزل قدميه. ثم يكشف المرنّم عن الفارق بين كلام الله وكلام الأبرار والأشرار أيضاً، فشفاه الأشرار تُصدر افتراء واتهامات باطلة ضد أبناء الله، يلجأ المرنّم إلى الله كي يبرره منها. وشفتا المرنّم (الأبرار) تتحفظان عن ذم الناس فلا يوجد فيهما غش، وهناك انسجام بين القلب والقول والعمل. أما شفتا الله فتحفظان أولاده، إذ تقدما كلمته روحاً وحياة؛ تقود إلى الطرق الإلهية وترشد وتهب قوة وثباتاً، وهي ميثاق الله ووعده القادر أن يثبت أبدياً. وقد تبدو صعبة لكن بلا زلّل أو سقوط.

v   تمسكت:

 التمسك يعنى الإصرار، وهو عنصر مهم في الاختيار…. فمن السهل على المرء أن يختار الصواب، كما اختار المرنّم  أن يسير حسب وصايا الرب وفرائضه، ولكن الصعب هو التمسك بهذا الاختيار والمحافظة علية وعدم الابتعاد عنه مهما كلف الأمر. فإذا كان للناس أعمالهم وللأبرار أعمال أخرى  وإذا كان للأشرار طرقهم، وللصديقين سبيل آخر، فليس هذا نهاية المطاف  فالأشرار لن يتركوا الأبرار يمضون في سبيلهم مع الرب، لأن ذلك يزعجهم ويزلزل كيانهم وكأن مجرد وجود الأبرار دينونة للأشرار وشوكة تؤرق نومهم، لذا نراهم يسعون لزعزعهم وجعلهم يحيدون عن طريق الرب، فيعلن النبي تمسكه بدرب الرب مهما كلفه  ذلك.

القسم الثالث: صلاة جديدة: ليسمع الله ويهب الخلاص والحماية للمؤمن (6- 9):

 6 ـ دعوتك يا الله فاستجب لي. أمل أذنيك واسمع كلامي:

       يحتاج المؤمن إلى دعم مستمر من النعمة كي يحافظ على تمسكه بالرب وبطرقه لأسباب ثلاث:

1 ـ الضعف البشرى الكامن في داخله.

2 ـ قوه الشر المتمثلة في الدنيا وشهواتها.

3 ـ سعار الأشرار الذين يريدون أن ينحرفوا بالأبرار عن طريق الحق.

     أمام هذه القوى الثلاث يحتاج المؤمن إلى " ربط " مستمر مع الله القدوس لينال من لدنه عوناً ومدداً، لذا يطلب النبي من الرب أن تظل أذنيه مائلتان نحوه، أي أن يسمعه جيداً وهذا التوجه الجسماني يعبر عن حميمة فعندما نميل بجسدنا لنرهف السمع لشخص يحدثنا نبدى اهتماما ونعطى إصغاء ونعلن استعدادا للمشاركة، وهذا هو ما يطلبه النبي المرنّم، أن يميل الله نحوه ويصغى إلى دعواه وصلاته ويكون مستعداً في كل حين لتلبية طلباته.

7ـ اختر تقيّك يا رب،  يا مخلص المحتمين بك من أعدائهم بيمينك:

يتقدم النبي خطوة جسورة ، فبعد أن أعلن اختياره طريق الرب وتمسكه به، يطلب أن يدعمه الرب باختيار متبادل لأنه تقيّه وأن يمسكه يمينه القوية فيدعمه ويخلصه من كل شدة قد يتعرض لها بهجوم الأعداء، ويعلن معرفته الجيدة بالرب انه "مخلص المحتمين به".    

8- أحفظني مثل حدقة العين وفي ظل جناحيك أسترني:

v   احفظني كحدقة العين :

مصطلح جميل يمثل أرق وأعز  وصف للحماية الكاملة والغيرة والعناية الفائقة ، وهو يتكرر عدة مرات في الكتاب المقدس في سفر التثنية ( 32 : 10) نجد " وجده في أرض قفر وفي خلاء مستوحش خرب، أحاط به وصانه كحدقة عينه " كذلك في سفر الأمثال ( 7 : 2، 9، 20 : 20) وفي زكريا " لأن من يمسّكم يمس حدقة عيني .." ( زكريا2 : 8 )  هذه الصورة الجميلة لعناية الله الفائقة هي ما يطلبه المرنّم ويسعى إليه، فلا يوجد جزء من جسم الإنسان يحتاج إلى رعاية وعناية مثل العين، وقد وضعها الله في مكان أمين، فهي مستقرة بين عظام بارزة كحصن لها، هدفها التمتع بالرؤيا الصادقة لتدير الجسم كله، تنذر بالمخاطر وتكشف عن الطريق. هكذا يحفظ الله النفس كالعين، يحوطها بكلماته كعظام قوية، وإذ تتقدس النفس (البصيرة الداخلية) يسلك الإنسان في طريق الله بلا لوم. ويحيط الجفن بالعين كغطاء وتشكل الرموش سياج، وهكذا يسيّج الرب بنعمته حول خائفيه، ويحمي الذين يتقونه من زوابع الشر. وكأنهم أورشليم التي تحوطها الجبال من كل جانب.  يتصرف المرنّم هنا كطفل يحمل مشاعر رقيقة نحو الله، إذ يرى نفسه كالعين في حمى الرب كجزء من كيانه، الجزء الأكثر حماية وعناية، والرب يستجيب.

v   في ظل جناحيك :

هذه صورة أخرى من صور العناية الربانية، فما أروع صورة الطائر الذي يرف بأجنحته على أفراخه حاملاً الغذاء والرعاية والحماية والدفء وهي أيضاً صورة مكررة في المزامير وفي الكتاب المقدس، وتعبر عن:

1 – حضور أصيل: فلا وجود ولا حياة لأفراخ الطير دون وجود الطير نفسه فهو من أوجدها.

2 – اعتماد مطلق: لا حياة لأفراخ الطير ولا حول أو قوة لهم دون أبيهم فهو راعيهم.

3 – ثقة كاملة: لا يتطرق إليها الشك في قدرة الأب على الحماية وصد العدوان فهو حاميهم.

4 – تغذية للبقاء: يطعمها وبعولها ويغذيها حتى ينبت ريشها وتقدر أن تحلق في الهواء.

المحبة والرحمة هما جناحا الله، وكما يقول القديس أغسطينوس: "لتحمني محبتك ورحمتك واهبة النعم كدرع!"، وظل جناحي الله هما تشبيه للطائر الأم (أشعياء 49: 2؛ هوشع 14: 7؛ مراثي 4: 20)، أو إشارة إلى جناحي الكاروبيم المظللين على تابوت العهد المقدس، كرمز لحضور الله مع شعبه (خروج 25: 20-22). كثيراً ما ترد في الكتاب المقدس نسبة الأجنحة لله (مزمور 17: 8؛ 91: 4؛ تثية 32: 11؛ متى 23: 37)، فجناحا الله يمثلان قوته وبركاته. ويقول  القديس غريغوريوس أسقف نصيص "هكذا يرى النبي نفسه كفرخ طير صغير لا حياة ولا حماية ولا غذاء ولا شراب ولا بقاء بدون العناية الأبوية… تقوته وتحميه وتطعمه وتسقيه" . وحين نرفض الفساد والشهوات العالمية ينمو فينا جناحا القداسة والبر من جديد.

9- من أشرار يسدّون طريقي وأعداء يحجزون علىّ:

كل هذه الخصائص الإلهية وُجدت في الإنسان حينما كان يشبه الله في كل شيء، لكن انحرافه إلى الشر سلبه أجنحته، ومن ثم أُعلنت نعمة الله لنا لأنارته.

بعد وصف ما يحتاجه الإنسان البار من رعاية وحماية الرب ، يصف ما يتعرض له من مخاطر، فهناك من يريد تخريب … والعملية التخريبية عملية رهيبة تعني تدمير ما هو قائم وصالح وجيد وتعني تعطيل مسيرة ، وإيقاف نمو، تعني وأد مشروع وإطفاء أمل، والخراب علامة النهاية، وحين يستجدي الأنبياء غضب الله على الأعداء في المزامير يستخدمون لتكن ديارهم خراباً فالخراب علامة التدمير والانحلال… والأشرار هنا لا يريدون تدمير مملكة داود وعرشه فحسب، بل نفسه وروحه وجسده أنهم يطلبون خراباً كاملاً ودماراً تاماً، وليس لداود أو غيره من البشر وسيلة يصد بها شر هؤلاء الأعداء، سوى  اللجوء إلى الله والاحتماء به والجلوس تحت ظل جناحيه والاختباء في حدقة عينيه، حيث لا يستطيع أي عدو الاقتراب أو محاولة التفكير في المساس بهم.  

القسم الرابع: يشكو المرنّم أمره إلى الله مصوّراً أعداءه وشرورهم (10- 12):

10- يغلقون قلوبهم عن الرحمة، وأفواههم تنطق بالكبرياء:

يصف الأعداء الأشرار ويصل إلى مكمن الشر المتمثل في: 1 – انغلاق القلب             2 – الكبرياء

1- انغلاق القلب: ويعني انقطاع الاتصال بين الله والإنسان… فالقلب كما رأينا في المزامير هو المعبر عما في الضمير وإذا أغلق الإنسان ضميره وأسكته أو قتله،  يفقد القدرة على الاتصال بالله، وبالتالي على رؤية ما يريد الله له أن يراه أو سماع ما يريد الله له أن يسمع… فيظل منغلقاً على أفكاره الشريرة ويمتلئ قلبه بالشيطان كما ملأ الشيطان قلب يهوذا حين أغلقه عن محبة معلمه وسيده … فصار الشيطان له سيداً وصارت أعماله كلها شر وعار وخيانة وتخريب، حتى القبلة رمز المحبة والسلام، تحولت في فمه إلى علامة الخيانة والتسليم.

2- الكبرياء: سبق أن تحدثنا في العديد من المزامير عن هذه الرذيلة الفظيعة التي تفصل الإنسان كلياً عن الله… فهو الذي أنزل المستكبرين عن الكراسي ورفع المتواضعين ( لوقا 1: 52 ) وهو الذي أهبط الملائكة من السماء للكبرياء، وأخرج آدم من الفردوس للكبرياء، وبلبل ألسنة أهل بابل للكبرياء، إنها انغلاق العقل  والقلب أمام الله … فبعد انغلاق القلب يصير انغلاق العقل علامة الموت الأكيد للنفس البشرية. لذلك حين يصف داود العدو بأنه أعمى قلباً وعقلاً يعني أنه لا يرى الله ولا يرى أخوته ولا يعرف الرحمة، فهو لا يسمع ولا يحس ولا يتذوق إلا صوت ملذاته وشهواته وهدفه هو الوصول إلى تحقيقها ولو سحق البشر جميعاً في سبيل ذلك .

11- يتبعونني والآن يحيطون بي ونصب عيونهم إلقائي على الأرض:

بعد أن فرغ من وصفهم شخصياً ينتقل إلى وصف ما يتبعه الأشرار من مخططات وما يدبرون من مكائد هدفها إسقاط الأبرار والإيقاع بهم في الوحل لتلويث حياتهم الطاهرة وفصلهم عن راعيهم وحاميهم بعد أن كانوا في ظل جناحيه يحيون وتحت رعايته يسكنون.

12- هم كالأسد الكامن للافتراس وكالشبل المتوثب:

يواصل النبي وصفه للأشرار، ويسمهم بصفات الحيوان لأكثر شراسة:

1-  الأسد: الذي يفرم فريسته ويحولها إلى "كفتة"

2-  الشبل المتوثب: الذي لقلة خبرته لا يطيق الصبر بل يكاد يثب من مكمنه لشدة شوقه إلى الافتراس وتعطشه إلى دماء ضحاياه…

القسم الخامس: يصلي أن يعاقبهم الله وينتقم له منهم معبّراً عن ثقته بالله:  (13- 15)

13- قم يا رب في وجوههم واصرعهم، ونجني من شرهم بسيفك:

قـــــــــــم: النداء الذي يتردد بقوة في المزامير وقد سبق تقديم تفسيره في المزمور ؟؟

تقـــــــدم: اسبقه فأنت الأسرع وتقدم عليه فهذا مقامك.

اصرعه: أقضِ عليه فهو لا يستحق الحياة لأنه يتربص بالبريء ويفترس بلا رحمة أو ضمير.

نج نفسي: ما قومتك كالجبار وما إسراعك كالمتسابق وما ضربتك التي تصرع العدو، هباءً وهدراً أو اعتداءاً… إنها للخلاص.

وكأنه يقول أنت تقوم يا رب لتخلص شعبك، وتسرع يا رب لتفدي ملتمسيك، وتصرع العدو لتنجي من براثن الموت الذين يحتمون بك طلبة عميقة تعبر عن شعورين متناقضين :

1-  شعور بالرعب والجزع: يدرك ويرى ويسمع العدو ويشعر بتربصه وتوثبه وقوته وسرعة انقضاضه ورهبة الوقوع بين براثنه وقوة أنيابه ومخالبه… وبأنه وحده أمامه هالك لا محالة.

2- شعور بالثقة العميقة: أعرف بالفعل قوة العدو وأدرك مقدار ضعفي لكني أومن أني  لست وحدي  وأن هناك من يحميني، أشعر بعين ترقبني بحب وتحفظني في حدقتها وأتلمس جناحاً يظلل علىّ ويسترني.

14- هم رجال صنعتهم بيدك ومنحتهم نصيبهم في الحياة وملأت بطونهم من خيرك، يشبعون مع بنيهم ويتركون ما يفضل عنهم لبني البنين:

يقارن بين نصيبه من أمن وحماية ورعاية وحب وحنان، ونصيب الأشرار من خيرات الدنيا حيث يملئون بطونهم بالطعام حتى التخمة ويخزنون في الأهراء "كلي يا نفسي وتمتعي أمامك خيرات كثيرة لأزمنة عديدة"… فهم أناس همهم الثروة، والمتعة الحسية الزائلة. ويقدمون لأولادهم نفس المبادئ والسلوكيات العدوانية والشهوانية التي نشئوا عليها جيلاً بعد جيل.

15- وأنا في براءتي أعاين وجهك واشبع في يقظتي من حضرتك:

هذا حال المرنم وتلك صلاته يكفيه أن ينظر إلى وجه الرب فيمتلئ قلبه فرحاً وينطق لسانه بالتهليل ولا يعود يهتم بعطش أو يشعر بالجوع، والبر أي العدل والاستقامة وتوجه القلب إلى الرب كما كزكريا وأليصابات "بارين أمام الله، سالكين في جميع طرقه" ( لوقا 1: 6 ).

v   أشبع إذا استيقظت بشبهك :

الشعور بالشبع والارتواء هنا يختلف عما ذكره في الآية السابقة فالشبع هنا شبع الأرواح لا شبع البطون وهو شبع يعقب اليقظة أي لا يناله الغافلون اللاهون بشهوات بطونهم، ولا يناله الذين يبحثون لأنفسهم عن آبار مشققة، ويتوجهون نحو إله آخر.  يكفي المرنّم أن ينظر إلى شبه صورة الرب لينال الرضا الكامل ويشعر بتحقيق جميع آماله ويعيش الكفاية والاكتفاء في جميع أمور حياته. وفي هذا يقول القديس أغسطينوس: "هكذا يختم المرنّم المزمور بالتمتع برؤية الله والشبع بمجده الإلهي، فإن هذا هو غاية إيماننا، أن نراه ونشترك في أمجاده…فالتأمل في الله وجهاً لوجه قد وعد به لنا ليكون نهاية سعينا ومنتهى مسراتنا".

رابعاً: تطبيق المزمور:

أولاً: كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور؟

 نستطيع القول أن المزمور ينطبق على حياة الرب يسوع فالمسيح هو من عاش حياته على الأرض في ظل العناية الأبوية التي صاحبته في كل خطواته…

·        فمنذ الحبل به، دبر الملاك له أبّاً ارضياً وراعياً عفيفاً قاده ليحفظ "نفس الطفل الإلهي" ممن يطلبونها ليقضوا عليها. (متى 2: 20).

·       وفي كل لحظات الكرازة والمعجزات كان يردد "أعرف أنك تستجيب لي في كل حين".

·          علمنا أن تكون لنا نقس الثقة في الآب " الذي يقوت طيور السماء " (متى 6: 26)  لا تخافوا إذن لأنكم أفضل من عصافير كثيرة " (متى 10: 31) .

·        علمنا الاعتماد على عناية الرب الأبوية والوثوق في أنه الراعي الذي يقودنا إلى المياه المتدفقة، مياه الحياة الأبدية وُيربضنا في المراعي الخصبة ويحمينا فلا يخطفنا أحد من يديه .

   كذلك عاني الرب يسوع من هؤلاء الأشرار الذين ظلوا يطلبون نفسه ويضطهدونه من لحظة الميلاد حتى بستان الزيتون، حيث استطاعوا أن يقبضوا عليه ويصلبوه، ظانين أنهم تخلصوا منهم إلى الأبد " يحسن أن يموت واحد ولا تهلك الأمة بأسرها"،  لكن الرب أقامه منتصراً على ذرية (إبليس): "أنتم من أب هو إبليس" (يوحنا 8: 44)؛ لهذا دبروا مؤامراتهم ليُباغتوا البار ويهلكوه.

ويقول عنهم القديس أغسطينوس باختصار، هؤلاء الأعداء الأشرار:

·       لا يهدفون إلى التمتع بنفع خاص بهم بل بالحري تدمير حياة الآخرين بلا سبب.

·       منغلقون داخل قلوبهم السمينة؛ هذا تعبير يشير إلى الغرور والترف. لا همّ لهم إلا الحياة المدللة المرفهة، ضيقوا الأفق والقلب بسبب قسوتهم وافتقارهم إلى الحب.

·        متكبرون حتى في أحاديثهم، لأنه من فضلة قلوبهم القاسية تتكلم ألسنتهم.

·        ينصبون فخاخاً لاصطياد الآخرين.

·       المضطهدون وحوش مرعبة وقد دعا القديس بولس نيرون أسداً (2 تيموثاوس 4: 17).

·       عداوتهم وعنفهم ليس عن احتياج، لأن الله لا يحرم حتى الأشرار من عطاياه الأرضية. بل على العكس يعيشون في ترف، بطونهم مملوءة بخيرات الله، يتركون ما يفضل عنهم لأطفالهم، بل عن حقد ورفض للخير.

     عاش المسيح شعور المحنة "أعبر عني هذه الكأس"، وعاش شعور الثقة "أعرف أنك معي في كل حين". كان داود باراً بلا عيب، يتبع الحق والعدل من جانبه، بريئاً من الأخطاء المُتهم بها؛ غير أن السمات الواردة هنا: عدلي بريّ، شفتين بلا غش تنطبق على السيد المسيح أولاً، إذ هو البار الكامل، وشفتاه بلا غش (1 بط 2: 22)، يشفع ببره عن شعبه، والآب يستمع على الدوام إلى شفاعته.

    والمسيح أخيراً  كرأس للجسد هو المتضرع، لأجل الكنيسة، وخاصته، متشفعاً ، لأنه "في كل ضيقهم تضايق" (إشعياء 63: 9)، ويعتبر كل من يمس شعبه يمسه ويؤلمه قائلاً لشاول: "شاول شاول، لماذا تضطهدني؟" (أعمال 9: 4).

ثانياً: كيف نعيش هذا المزمور ‏في حياتنا كمسيحيين:

لا اختلاف على أن هذا المزمور هو أيضا تجسيد للطوبى التي يحياها المسيحي الحقيقي:    

   نحن أيضاً كأعضاء في جسد المسيح يليق بنا أن نحيا بالبر، لأن الآب لا يمكنه أن يتعامل معنا ما لم نكن أمناء معه بالتمام ولنا برّ المسيح. وهو يعرف دوافعنا الحقيقية؛ قد نخدع أنفسنا أحياناً، لكننا لا نقدر أن نخدع الله.

    لا يمكننا فهم الدفاع بالبر هنا كتعبير ساذج عن البر الذاتي، فهو ليس مجرد تأكيد من جانب الإنسان العابد على خلوه من الخطية، إنما محاولة لتبرير الإنسان من اتهامات معينة ظالمة، لا نعني أننا بلا خطية، وإنما نعني أن صوت دم السيد المسيح واستحقاقاته أعظم من صوت الاتهامات الباطلة ومن صوت الخطية التي تشهد علينا، صوته أقوى، لأنه صوت برّ المسيح، الحق الإلهي!

    في برّ المسيح نسمع صوت الرسول: "طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها، كان إيليا إنساناً تحت الآلام مثلنا وصلى صلاة أن لا تمطر فلم تمطر على الأرض ثلاث سنين وستة أشهر "( يعقوب 5: 17)، وكأنه ببر المسيح نحمل مفتاح السماء، ويستجيب لنا الآب نفسه!

   "فليست هي بشفتين غاشتين" يعلن المرنّم أنه لا ينطق في صلاته بالشفاه المجردة، وإنما من  خلال انسجام الشفتين مع إخلاص القلب الداخلي، وأمانة العمل؛ وكأن المرنّم يعلن أن صلاته تخرج من كيانه كله: الفكر الداخلي وارتباط القلب والكلمات مع العمل.

     صاحب الشفتين الغير غاشتين :يحمل إخلاصاً داخلياً وصدقاً في تصرفاته الظاهرة، فلا يسقط تحت التوبيخ الإلهي فإذا كانت شفتا الغش مكروهة عند الناس فكم بالحري تكون مكروهة لدى الرب؟! الله لا يطلب صلوات الشفاه الغاشة، وإنما يطلب سكب النفس (1 صموئيل 1: 15) وسكب القلب (مزمور 62: 8). وإذ تلجأ النفس إلى الله تجد في الحضرة الإلهية راحتها، فتطلب منه أن يتسلم بنفسه قضيتها ويعلن أحكامه فيها، لأنها أحكام عادلة ومستقيمة.

   يرى داود النبي نفسه كمدينة يحيط بها الأعداء من كل جانب، لقد أغلقوا عليه كل منفذ ولم يطلبوا أقل من تحطيم حياته تماماً؛ لم يكن أمامه إلا أن يرفع عينيه إلى فوق ليجد معونة من قِبل الله. يرى نفسه ومن معه أشبه بالفريسة التي يتعقب الصياد خطواتها لكي يصطادها؛ أو كفريسة يخطط الأسد لينقضّ عليها ويفترسها.بعدما تحدث النبي بصيغة الفرد عاد وتحدث بصيغة الجماعة، وكرمز للمسيح يعلن أن العدو لا يطلب مسيح الرب وحده وإنما يريد أن يلتهم كل كنيسته. يرى بعض الآباء أن الأشرار هنا هم صالبو يسوع الذين سمن قلبهم بالترف وقد انغلق عن معرفة الحق، لهم القلب السمين الضيق، أما أفواههم فتنطق بالكبرياء عوض تمجيد إسم الله.

    المسيحي يحيا هذه الثقة في الكنيسة على مر التاريخ، أبواب الجحيم لن تقوى عليك، وهو يعرف أنه مبني على صخر يسوع الحجر الذي رزله البناءون فصار رأساً للزاوية.

     يعاني المسيحي كل يوم من مكائد إبليس الذي يتربص به كأسد زائر يلتمس فريسة، وكثيراً ما يحاصره ويغربله مثل الحنطة… فإذا صرخ إلى الرب طالباً حمايته ورفع وجهه إلى الصليب طالباً ستراً في جراحات المخلص، فإنه ينال كل نعمة ويحصل على الغفران الكامل.

         يحيط العالم بالإنسان المسيحي ويحاصره بكافة المغريات ليترك المسيح ويتبع شهوات العالم.

     يعيش المسيحي نفس المشاعر أمامه قوة العدو وطغيان الظلم وجبروت إغراءات العالم لكنه يلتمس نعمة المسيح ويحتمي بكنيسته المقدسة ويتغذى بأسرارها ويتقوى بإرشاداتها ويتلذذ ببنوتها ويشعر بقوة يمده به إخوته المؤمنين الذين سبقوه في الجهاد والذين معه على الأرض .

    يقول القديس أثناسيوس الرسولي "من يشترك في الإلهيات يعود إليها دائماً جائعاً، والجائع ينال دون أن ُيخزى، وكما وعد الله: "لا يُجيع الرب نفس الصديق" (أمثال 10: 3)؛ "طعامها أبارك بركة، مساكينها أشبع خبزاً" (مزمور 132: 15). نسمع صوت مخلصنا أيضاً: "طوبى للجياع  والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون" (متى 5: 6).

خامساً: خاتمة المزمور

تعتبر المناسبات الحزينة والمؤلمة مناسبات صلاة وتعزية فكأننا نسمع الرب بالفعل يقول" اطلبوا وجهي " فنصرخ "وجهك يا رب التمس " (مزمور27:8) وهكذا  لا تصير الصلاة شيئا روتينا يتركز في كلمات وطقوس ومناسبات بل تصير حياتنا كلها صلاة "إما أنا فصلاة" (مزمور109 :4) وكأنّا نسمع صوت الرب يسوع "صلوا كل حين ولا تملوا" (لوقا8: 1)

نحتاج إلى هذا المزمور  كاحتياجنا إلى آلامنا المكنونة ونحن أبرياء، لا لننطلق إلى ما وراء آفاق تلك الأرض فنبلغ الأبدية فحسب، وإنما لكي ندخل إلى قلب يسوع الذي أُتهم ظلماً (يوحنا 8: 46)، ذاك البريء الذي "لم يعرف خطية صار خطية لأجلنا" (2 كورنثوس 5: 21). وحينما نتلو المزمور السابع عشر فإننا نصليه أيضا من أجل جميع ضحايا الظلم في كل مكان في العالم كما نصليه أيضاً من أجل تلك المرات التي قد نكون أساءنا فيها الحكم وظلمنا إنساناً بريًْ…

نتذوق عبر صلاة هذا المزمور خبرة داود النبي وكل ما به حلَّ من ظلم واضطهاد، ونشعر وكأنه قد أُلقي به في أتون نار ملتهب، لكنه عوض أن يهلك خرج منه  دون أن يلحق به ضرر وتمتع بنعمة الاحتماء تحت ظل جناحي الرب، ومعاينة بهاء وجهه الإلهي!

إنه لأمر خطير أن يتّهمنا الغير، وأخطر من ذلك أن يتهموننا زوراً، لأننا لكننا نؤمن أن الرب ربط قضيّته بقضيّة الأبرياء المضطهدين " طوبى للمضطهدين لأجل البر" ووعد المحتمين به أنههم سيحكم لهم وسينتصرون. لقد شهد على المسيح شهود زور يوم المحاكمة. ولكن يسوع لما يطلب الانتقام من الذين اتهموه باطلاً، بل صلَّى من أجل مضطهديه. ونحن بصلاة هذا المزمور لا نطلب انتقاماً بل خلاصا من أعدائنا بل خلاص الإنسان الظالم نفسه "صلوا من أجل الذين يضطهدونكم" نطلب منه النجّاة من الشرير وكل شر لنضع حداً للشرّ في العالم. ولا ننسى أن الجياع إلى الحق والعدل سوف يُشبعون (متى 5: 6). "لأنهم أمام عرش الله والحمل لن يجوعوا ولن يعطشوا، فالحمل الذي في وسط العرش يرعاهم ويهديهم إلى ينابيع ماء الحياة (رؤيا7: 15-17).

صلاة

دعوتك فاستجبت

هذه شهادتي وتلك خلاصة خبرتي معك و قصة حياتي:

كثيراً ما تعرضت لتجارب العدو

وكثيرة هي الفخاخ التي نصبت في طريقي

ومراراً عديدة أعلن علىّ حرباً سافرةً

واكتنفني وحاصرني لأسقط في الوحل

ولم أعد أذكر عدد الحفر لكثرتها وكأن ليس في العالم غيري ولا همّ له سواي!!

وفي لحظات أليمة من مسيرة  حياتي:

رأيته رابضاً كالأسد أمامي

لمست توثبه كشبل وسرعة انقضاضه كذئب

شممت رائحته الطاغية تزكم أنفي

سمعت زئيره الممتلئ تهديداً وإرهاباً ثقب إذني

وشاهدت فمه فاغراً وأنيابه مستعدة لالتهامي عرفت غلاطة قلبه المثقل بالخطيئة يكره البر

وروحه الشريرة لا تعرف الرحمة

 وكبرياءه العتيدة لا يدرك لنفسه حدوداً.

أدركت حينها  

أن لا مفر من بطشه ولا طاقة بمواجهته وحدي،

عرفت أني بدونك لا أستطيع شيئاً،

حينئذ صرخت كطفل  أدعوك  ربي

اسمع يا رب للحق، أنظر يا رب للعدل،

التفت اللهم للاستقامة أصخ إلى صلاتي تعرّف على تنهدي واحكم ببراءتي، وانتصر لي.أعني لأصمد أمام هجماته، قــــم  يا رب وخلصني.

دعوتك فاستجبت

قلت قم ، فقمت يا رب لنجدتي

قلت أصرعه، فرأيته ساقطاً من السماء كالبرق

قلت نجني، فرأت عيناي خلاصك…

يا مخلصي بك وحدك أتبرر، وبدونك أهلك،

لتسندني كلمات شفتيك، ولتقدني وعودك الإلهية، فأسلك طريقك الضيق الآمن، أعبر فيه إلى حضن أبيك!

 أشكرك إلهي لأني دعوتك فاستجبت وخلصتني.

أشكرك لأنك تحفظني كحدقة العين،

وتسترني بظل جناحيك من ضربات العدو.

أرني وجهك، أشبعني بجمالك يا ربي ومخلصي. آمين

الفهرس

 

 المؤلف: الأب بولس جرس