عمل التبشير يتألف من أن الله البعيد يضحي قريبًا

عظة الأب الأقدس لدى احتفاله بصلاة الغروب في كاتدارائية أوستا

أوستا، الاثنين 28 يوليو 2009 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي النص الكامل لعظة البابا بندكتس السادس عشر لدى ترؤسه مساء الجمعة 24 يوليو الاحتفال بصلاة الغروب في كاتدرائية أوستا.

* * *

صاحب النيافة،

أيها الإخوة والأخوات الاعزاء،

أود أن أشكركم نيافتكم بشكل خاص لأجل الكلمات اللطيفة التي قدمتم من خلالها تاريخ هذه الكاتدرائية العظيم، التي جعلتني أشعر أننا نصلي هنا، ليس فقط في هذه اللحظة، بل أننا نستطيع أن نصلي مع كل العصور في هذه الكنيسة الجميلة.

وأشكر جميع الذين حضروا للصلاة معي ولكي يظهروا للعلن شبكة الصلاة هذه التي تربط الجميع دائمًا.

في هذه العظة المقتضبة أود أن أقول كلمة عن الصلاة التي نختم بها صلاة الغروب هذه، لأنه يبدو لي أنها تفسر المقطع من الرسالة إلى الرومانيين، الذي قرأناه الآن، وتحوله إلى صلاة.

تتألف الصلاة من قسمين: التوجيه، ومن ثم الصلاة المؤلفة من طلبين.

فلنبدأ بالتوجيه الذي يتألف بدوره من قسمين: يجب أن نجعل "الأنت" الذي نتوجه إليه ملموسًَا أكثر لكي نستطيع أن نقرع بقوة أكبر على قلب الله.

في النص الإيطالي، نقرأ ببساطة: "الآب الرحيم". النص اللاتيني الأصلي هو أوسع؛ يقول: "الله الكلي القدرة والرحيم". في رسالتي العامة الأخيرة، حاولت أن أبين أولوية الله في الحياة الشخصية، وفي حياة التاريخ والمجتمع والعالم.

بكل تأكيد العلاقة مع الله هي علاقة شخصية جدًا والشخص هو كائن علائقي، وإذا لم تكن العلاقة الأساسية – العلاقة مع الله – حية، وإذا لم تكن معاشة، لا تستطيع العلاقات الأخرى أن تجد هيكليتها الصحيحة. ولكن هذا الأمر ينطبق أيضًا على المجتمع، وعلى البشرية بحد ذاته. هنا أيضًا إذا نقص الله، وإذا تم الاستغناء عن الله، إذا كان الله غائبًا، تنقص البوصلة التي تبين الكل الذي تشكله هذه العلاقات، وينقص التوجيه الذي يبين الاتجاه الذي ينبغي أخذه.

الله! يجب علينا من جديد أن نحمل واقع الله إلى عالمنا هذا ، وأن نعرف به وأن نجعله حاضرًا. ولكن كيف لنا أن نعرف الله؟ خلال الزيارات إلى الأعتاب الرسولية، أتحدث دومًا إلى الأساقفة ، خصوصًا الأفارقة منهم، ولكن أيضًا إلى أساقفة آسيا، وأميركا اللاتينية، حيث ما زالت هناك الديانات التقليدية، أتحدث إليهم عن هذه الأديان بالضبط. هناك العديد من التفاصيل، المختلفة طبعًا، ولكن التي تحمل أيضًا عناصر مشتركة. الجميع يعرفون أن هناك إله، وأن الله كلمة مفردة، وأن الآلهة ليسوا الله، أن الله موجود وهو الإله. ولكن في الوقت عينه يبدو أن هذا الإله هو غائب، بعيد جدًا، يبدو وكأنه لا يدخل في حياتنا اليومية، بل يتوارى، ولا نعرف محياه. وهكذا يهتم الدين في أغلب الأحيان بالأشياء، بالسلاطين الأقرب، بالأرواح، بالأجداد…، لأن الله بالذات هو بعيد جدًا ولذا يترتب على المرء أن يدبر أمره بالتعامل مع هذه القوى القريبة.

وعمل التبشير يتألف من أن الله البعيد يضحي قريبًا، وأن الله لم يعد بعيدًا، بل بات قريبًا، وأن هذا "المعروف-المجهول" يجعل نفسه معروفًا حقًا الآن، يبين وجهه ويكشف عن ذاته: يضمحل الغطاء الذي يخفي وجهه، ويبين عن وجهه الحق. ولذا، بما أن الله بالذات بات الآن قريبًا، صرنا نعرفه، وهو يكشف لنا محياه، ويدخل في عالمنا. لم تعد هناك حاجة لكي ندبر أمرنا مع هذه القوى، لأنه هو القوة الحقة، هو الكلي القدرة.

لا أعرف لماذا حذفوا من الترجمة الإيطالية كلمة "كلي القدرة"، ولكن هو واقع مختبر أننا نشعر بأننا مهددون نوعًا ما من كلية القدرة: تبدو وكأنها تحد حريتنا، وتبدو وكأنها عبء ثقيل جدًا. ولكن يجب أن نتعلم أن كلية قدرة الله ليست غوغائية، لأن الله هو الخير، وهو الحقيقة، ولذا الله يستطيع كل شيء ولكنه لا يستطيع أن يتصرف ضد الخير، ولا يستطيع أن يتصرف ضد الحقيقة، لا يستطيع أن يتصرف ضد الحب أو ضد الحرية، لأنه هو بالذات الخير، هو الحب، وهو الحرية الحقة.

ولذا فكل ما يقوم به لا يمكن أن يكون ضد الحقيقة، الحب أو الحرية. العكس هو الصحيح. الله هو حارس حريتنا، وحارس الحب وحارس الحقيقة. العين التي ترانا ليست عينًا شريرة تراقبنا، بل هي حضور حب لا يتخلى عنا أبدًا ويهبنا الضمانة أن الخير هو الكيان، وأن الخير هو حياة: هو عين الحب التي تمنحنا الهواء للعيش.

الله الكلي القدرة والرحين. إن صلاة رومانية ترتبط بنص كتاب الحكمة تقول: "أنت يا الله، تبين كلية قدرتك في الغفران والرحمة". إن قمة كلية قدرة الله هي الرحمة، والغفران. في مفهومنا الاعتيادي الدنيوي للقدرة، نفكر بامرئ يملك موارد كثيرة، بشخص له كلمته في الاقتصاد، بشخص يملك رؤوس الأموال، تمكنه من التأثير في عالم السوق. نفكر بشخص يملك قدرة عسكرية، ويستطيع أن يشكل تهديدًا. ما زال سؤال ستالين: "كم سرية يملك البابا؟" يميز الفكرة العامة المتوسطة للقوة. يملك القوة من يستطيع أن يهدد، من يستطيع أن يدمر، من يملك الكثير من أمور العالم. ولكن الوحي يقول لنا: "الأمور ليست كذلك"؛ القوة الحقة هي قوة النعمة، والرحمة. في الرحمة يبين الله عن القوة الحقة.

وعليه فالقسم الثاني من هذه الصلاة يقول: "لقد خلصت العالم، بالآلام، من خلال عذابات ابنك". لقد تألم الله، وبالابن يتألم معنا. وهذه هي قمة قوته القادرة أن تتألم معنا. بهذا الشكل يبين عن قوته الإلهية الحقة: لقد أراد أن يتألم معنا، ومن أجلنا. لسنا متروكين وشأننا في آلامنا. الله، من خلال ابنه، تألم أولاً وهو قريب منا في آلامنا.

مع ذلك يبقى السؤال الصعب الذي لا يمكنني أن أفسره الآن بشكل موسع: لماذا كان ضروريًا أن يتألم من أجل خلاص العالم؟ كان ضروريًا لأن العالم يتضمن محيطًا من الشر، من الظلم، من الكره، من العنف، ويحق لضحايا الكره والظلم أن يصلوا إلى العدالة. لا يستطيع الله أن يتجاهل صراخ المظلومين هذا. الغفران ليس مرادفًا للتجاهل، بل هو يعني التحويل، أي أن على الله أن يدخل في هذا العالم وأن يواجه محيط الظلم بمحيط أكبر من الخير والحب. وهذا هو حدث الصليب: منذ ذلك الحين، ضد محيط الشر، هناك نهر لامتناه وبالتالي أعظم من كل الظلم في العالم، نهر الصلاح، والحق والحب. وهكذا يغفر الرب محولاً العالم ويدخل في هذا العالم لكي يكون هناك حقًا قوة، نهر من الخير أعظم من كل الشر الذي قد يتواجد.

وبالتالي يضحي ما نوجهه إلى الله موجهًا إلينا: أي أن الله يدعونا لكي نقف إلى جانبه، يدعونا إلى الخروج من محيط الشر، والبغض، والعنف، والأنانية، وأن نتطابق مع نهر حبه وأن نلج فيه.

هذا هو بالضبط مكنون القسم الأول من الصلاة التالية: "فلتقدم لك كنيستك ذاتها كذبيحة حية ومقدسة". هذا الطلب، الموجه إلى الله، هو موجه إلينا أيضًا. إنه إشارة إلى نصين من الرسالة إلى أهل روما. نحن بالذات مع كل كياننا، يجب أن نضحي عبادة، وذبيحة، وأن نعيد عالمنا إلى الله وأن نحول العالم بهذا الشكل.

إن عمل الكهنوت هو أن يكرس العالم لكي يضحي قربانة حية، لكي يضحي العالم ليتورجية: لكي لا تكون الليتورجية عملاً يجري على هامش واقع العالم، بل لكي يضحي العالم بالذات قربانة حية، وليتورجية. هذه هي النظرة الكبيرة لتيار دو شاردن: في النهاية سنكون بصدد ليتورجية كونية، حيث يضحي الكون قربانة حية.

نصلي إلى الرب لكي يساعدنا على أن نكون كهنة بهذا المعنة، لكي نساعد على تحول العالم إلى عبادة لله، بدءًا من ذواتنا. فلتتحدث حياتنا عن الله، ولتكن حياتنا ليتورجية حقًا، إعلانًا لله، بابًا يضحي من خلاله الله البعيد قريبًا، ونقدم ذواتنا حقًا إلى الله.

ثم الطلبة الثانية. نصلي: "فليختبر شعبك دومًا ملء حبك". يقول النص اللاتيني: "أشبعنا من حبك". وبهذا الشكل يشير النص إلى المزمور الذي أنشدناه، حيث يقول: "افتح يدك وأشبع جوع كل حي". كم من الجوع في العالم، جوع إلى الخبز في أصقاع كثيرة من الأرض: تحدث صاحب النيافة أيضًا عن آلام العائلات هنا: جوع إلى العدالة وإلى الحب. ومع هذه الصلاة نصلي إلى الله: "افتح يدك وأشبع حقًا جوع كل حي. أشبع جوعنا إلى الحقيقة، وإلى حبك".

آمين.

* * *

نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية

حقوق الطبع محفوظة لدار النشر الفاتيكانية.