باريس، الأربعاء 26 أغسطس Zenit.org 2009
ننشر في ما يلي النص الكامل لمقالة الأب بيار نجم المريمي "دور مريم في تنشئة الكاهن".
* * *
مقدمة
"مريم هي صورة الكنيسة في الإيمان والمحبة والإتّحاد الكامل بالمسيح". يقول القديس أمبروسيوس. وقد كانت على مرّ الأجيال رفيقة الكاهن تلميذ ابنها، وقد ركّزت الكنيسة الكاثوليكيّة كما شقيقتها الأرثوذكسيّة على دورها في حياة الكاهن وفي الروحانيّة الكهنوتيّة.
نتأمّل اليوم في دور مريم العذراء في تنشئة الكاهن الروحانية. ولكن قبل أن نبدأ، لا بدّ من التذكير بنقطتين أساسيّتين:
1) لا يجب أن نفهم أن مريم هي صورة لكهنوت المسيح، فالكهنوت المسيحي يستمد معناه وغايته من المسيح الكاهن الذي قدّم ذاته على الصليب من أجل كنيسته، بينما مريم هي صورة الكنيسة وأمّها، قدمت ذاتها لله بكليتها، وهذه الكلّية تحتوي المشورات الإنجيلية، حبّاً بالمسيح العروس والفادي.
2) من ناحية أخرى علينا أن نسعى الى اكتساب روحانيّتين: روحانية مريمية من ناحية وروحانيّة كهنوتيّة من ناحية أخرى، فنجعلها مستوحاة من مريم في ما يخصّ حياة المعموديّة والحياة التقويّة، ومن المسيح في ما يخص الكهنوت. فإن كان هناك إنقسام في الروحانية، يعني ذلك إنقساماً في الهويّة، فالروحانية التي نكتسبها هي هويتنا التي نتعاطى من خلالها مع الله في حياتنا الروحية، ومع البشر في حياتنا الرسولية، أي في تجسيدنا عملاً لحبّنا لله الثالوث. إن كانت الروحانية المريمية هي روحانية عروس المسيح، الكنيسة، فأنا أرتبط بها من حيث دخولي في عهد حب مع الله الرأس من خلال التزامي بالإنجيل على مثال الكنيسة العذراء تقدّم ذاتها نقية لعريسها، وإن كانت الروحانية الكهنوتية تأخذ هوّيتها من المسيح عروس الكنيسة فإن هذه الهوّية الروحية المسيحانية تتكوّن فيّ وتبدلني لأضحي مكرسّاً على مثال المسيح رأس الكنيسة. أأقدر أن أكون على خلاف المسيح؟ إن كان هو رأس الجسد السرّي أي الكنيسة (ومريم صورتها) وليس الرأس والجسد معاً، أيحق لي أن أحمل أنا الميزتين معاً؟
المجمع الفاتيكاني الثاني
مرّة الأولى يقدّم مجمع مسكوني خلاصة واسعة للعقيدة الكاثوليكية حول المكان الذي تحتلّه مريم في سرّي المسيح والكنيسة"( Paul VI, Discours de clotûre de la III session du Vatican II, 21) يقول البابا بولس السادس. فبعد قرون طويلة من التصارع بين الكنيسة الكاثوليكية وحركات الإصلاح البروتستناتية، ذهب كلّ واحد منهما فيها الى أقصى النقيض في العصور الوسطى: بين تهميش جذري لدور العذراء مريم من قبل البروتستانت، وجعلها محورية في العقيدة الكاثوليكية وفي الحياة التقوية الكاثوليكية حتى كاد الأمر يصل الى فصل سرّ مريم عن سرّ المسيح، وكادت مريم تحجب دور المسيح في حياة الكنيسة، جاء المجمع الفاتيكاني الثاني يُظهر الدور الحقيقى للعذراء مريم في حياة المؤمن المسيحي: "لا يمكن التكلم عن المسيح، ولا عن جسده السرّي (الكنيسة) دون التكلم عن العذراء مريم.
لا يمكننا الخوض الآن في تعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني، إنما ماذا يهمّنا الآن في الموضوع الذي نتأمل حوله؟ نقطتان أساسيتان تطرق اليهما بولس السادس: المكان الذي تحتلّه مريم في سرّي المسيح والكنيسة.
إن حقيقتنا الكهنوتية تتمحور في هذين السرّين: سرّ المسيح كنقطة إنطلاق ووصول وسرّ الكنيسة كهدف الكهنوت: ليقدّس ويعلم الكنيسة ويقودها الى المسيح رأس الرعاة. في هذين السرّين نجد لمريم مكاناً مميّزاً.المجمع الفاتيكاني الثاني لم يقدم للكنيسة حقيقة جديدة حول أهميّة مريم، إنما ألقى الضوء من جديد على شخص مريم وأهميّتها في التعليم منذ الرسل حتى يومنا، حقيقتها التي اسأنا فهمها كثيراً ودورها الذي إستعملناه في إطار خاطيء حتى أصبحت مريم نقطة إختلاف بين المعمّدين بدل أن تكون نقطة التقاء.
دور مريم الكهنوتي في العهدين
* في العهد القديم
إن دور العذراء مريم في العهد الجديد نفهمه فقط على ضوء أحداث العهد القديم.
البشارة على ضوء العهد القديم:
خروج 19/ 3-10
3 وصَعِدَ موسى إِلى الله، فناداه الَربُّ مِنَ الجَبَلِ قائلاً: "كَذا تَقولُ لآلِ يَعْقوب وتُخبِرُ بَني إِسْرائيل: 4 قد رأَيتُم ما صَنَعتُ بالمِصرِيِّين وكَيفَ حَمَلتُكم على أَجنِحَةِ النُسور وأَتيتُ بِكُم إِلَيَّ. 5 والآن، إِن سَمِعتُمِ سَماعاً لِصَوتي وحفَظِتُم عَهْدي، فإِنَّكم تَكونونَ لي خاصَّةً مِن بَينِ جَميعِ الشُّعوب، لأَنَّ الأَرضَ كُلَّها لي. 6 وأَنتُم تَكونونَ لي مَملَكةً مِنَ الكَهَنَة وأُمَّةً مُقَدَّسة. هذا هو الكَلامُ اَّلذي تَقولُه لِبَني إِسْرائيل". 7 فجاءَ موسى ودَعا شُيوخَ الشَّعب وجَعَلَ أَمامَهم هذا الكَلامَ كُلَّه، كَما أَمَرَه الرَّبّ. 8 فأَجابَ كُلُّ الشَّعبِ وقال: "كُلُّ ما تَكَلَّمَ الرَّبُّ بِه نَعمَلُه". فنَقَلَ موسى كَلامَ الشَّعبِ إِلى الرَّبّ.
10 وقالَ الرَّبُّ لِموسى: (( اِذهَبْ إِلى الشَّعبِ وقَدِّسْه اليَومَ وغَداً، ولْيَغسِلوا ثِيابَهم، 11 وَيكونوا مُستَعِدِّينَ لِليَومِ )) الثَّالِث، فإِنَّه في اليَومِ الثَّالثِ يَنزِلُ الرَّبُّ أَمامَ الشَّعبِ كُلِّه على جَبَلِ سيناء
الشعب الإسرائيلي، بواسطة هذه النعم التي قالها (كُلُّ ما تَكَلَّمَ الرَّبُّ بِه نَعمَلُه)، أخذ على عاتقه الدخول في شعب الله الكهنوتي:
– الكهنوت هو الوساطة بين الألوهة والإنسانية، بين إرادة الرب وحاجات الشعب نفسه: فإِنَّكم تَكونونَ لي خاصَّةً مِن بَينِ جَميعِ الشُّعوب.
– الكهنوت هو الوساطة بين الله رب العهد والشعوب الأخرى من خلال الشعب الكهنوتي: لأَنَّ الأَرضَ كُلَّها لي.
– الكهنوت هو دخول في علاقة حبّ مع الله ومع الشعب: الرب يدعو والشعب يجيب، حَمَلتُكم على أَجنِحَةِ النُسور وأَتيتُ بِكُم إِلَيَّ هي مبادرة يأخذها الله إذ يختار كاهنه، يدخل معه في عهد حر، دعوة الى قبول مخطط الرب على حساب المخطّط البشري، ، إِن سَمِعتُمِ سَماعاً لِصَوتي وحفَظِتُم عَهْدي، فإِنَّكم تَكونونَ لي خاصَّةً مِن بَينِ جَميعِ الشُّعوب.
– الكهنوت هو القداسة، والقداسة في الكتاب المقدّس لا تعني فقط الناحية الأخلاقية الأدبية، أو الناحية الروحية، القداسة معناها الفصل. القدّوس هو المنفصل، الله هو القدّوس لأنه المنفصل عن بطبيعته عن كل ما هو غير إلهي. القداسة بمعناها الأول هي قطع حبل السرة، وأول فعل تقديس للطفل الإسرائيلي كان فصله عن أمه من خلال قطع حبل السرّة، فيصبح مفصولاً لله. الله يقول لشعبه إذاً: وأَنتُم تَكونونَ لي مَملَكةً مِنَ الكَهَنَة وأُمَّةً مُقَدَّسة أي أمّة مفصولة عن كل ما هو خارج الله وموضوع في تصرّف نشر وصيته الى الأرض كلّها لأَنَّ الأَرضَ كُلَّها لي.
– الكهنوت هو ذو دورٍ تحويليّ، هو أن يكون شعب إسرائيل، الشعب الملوكي، في خدمة تحويل الواقع من واقع مادّي مغلق على ذاته، الى مادّية أسرارية منفتحة على النعمة ومحتوية لحقيقة إلهية: فإِنَّه في اليَومِ الثَّالثِ يَنزِلُ الرَّبُّ أَمامَ الشَّعبِ كُلِّه على جَبَلِ سيناء. الرب في عمله هذا لم يلغِ حقيقة الشعب المادية بل حوّلها لتصبح مكان إلتقاء الله بشعبه الكهنوتي.
* في العهد الجديد
أخذت هذه الحقيقة بعدها الأكمل من خلال نصوص إنجيلية تلعب فيها مريم دوراً أساسيّاً:
في إنجيل لوقا (بشارة الملاك) وفي إنجيل يوحنّا (عرس قانا)( لا يجب أن نفهم من خلال هذه المقاربة أن الإنجيليين قلّدوا قصة سيناء في واقع العهد الجديد فننفي الحدث التاريخي، تأملنا هو في التشابه اللغوي والأدبي والّلاهوتي الذي إعتمده الكاتب ليربط الحقيقة التاريخية لأحداث العهد الجديد مع أحداث القديم):
1) لوقا 1/ 26-38 بشارة الملاك لمريم وأوجه الشبه مع نص الخروح:
– الوسيط بين الله وشعبه (موسى) والوسيط بين الله ومريم (ممثلة شعب الله الجديد).
– الوسيط يعلن لمريم مخطط الله لشعبه من خلالها كما أعلن عن مخطّطه لكل الأرض من خلال شعب إسرائيل.
– مريم خضعت لدعوة الرب وقبلتها قائلة: أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ كما قال شعب الله كُلُّ ما تَكَلَّمَ الرَّبُّ بِه نَعمَلُه.
– بمريم تجلى الرب إبن داود ملك إسرائيل لشعبه كما تجلى مجد الرب على سيناء. إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، يقول الملاط تماماً كما في سفر الخروج "فإِنَّه في اليَومِ الثَّالثِ يَنزِلُ الرَّبُّ أَمامَ الشَّعبِ كُلِّه على جَبَلِ سيناء".
– لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى، أي يكون مفصولاً لخدمة الله وإعلان إسمه وإرادته تماماً مثل الشعب الأُمَّة المُقَدَّسة الذي إختاره الله على الجبل.
ماذا نستنتج إذاً:
– مريم أصبحت ممثلة شعب الله الجديد الناطقة بإسم البشرية/ الكنيسة في قبولها دور مَملَكةً مِنَ الكَهَنَة وأُمَّةً مُقَدَّسة.
– مريم هي المثال في قبول الدعوة الى الكهنوت العام، تعلّمنا قبول الدعوة الى القداسة، أي الإنفصال كليّاً عن كل ما هو خارج الله ليس هرباً من المادة والعالم إنما لإعطاء المادة البعد الإلهي: إي إن يحل الله في واقعنا من خلال وضع إرادتنا في خدمة إرادته ، كما حلّ على جبل سيناء من خلال قبول شعب الله المختار إرادة الله وكما جعلت مريم هذا القبول يأخذ كماله من خلال وضع ذاتها بكلّيتها في تصرف الله ليحلّ الله بالجسد هذه المرة في الكون الذي هو ملك الله (لأَنَّ الأَرضَ كُلَّها لي).
– مريم لا تأخذ دور إبنها عظيم أحبارنا (عبرانيين) فهو الذي يحّول الطبيعة من مادية ميتة الى مادة تحمل النعمة، من مادية مغلقة على الجسد الى مادية إسرارية تحمل حقيقة روحية. بهذا المعنى، مريم تحضر الواقع المادّي لإستقبال المسيح الكاهن الذي يحّوله الى نعمة. بقبولنا مشيئة الله التي يدعونا بها الى الكهنوت، نضع إرادتنا في خدمة إرادة الله، ليتكّون فينا بالنعمة كما تكوّن بالعذراء بالجسد، ونحن بأسمه، وكمسحاء آخرين، بشخص المسيح وبإسم الكنيسة، نمارس كهنوتنا، لنحوّل الحقيقة المادية الى حقيقة أسرارية تكون وسيلة خلاص للكنيسة المجاهدة على الأرض. مريم إذاً لا تعطينا الوسم الكهنوتي، إنما هي القادرة على أن تخلق فينا إستعداداً لقبول المسيح المتجسّد: بهذا المعنى نفهم معنى دور مريم العذراء في تنشئتنا الكهنوتية.
2) يوحنّا 2/ 1-12 عرس قانا الجليل والتجلي على جبل سيناء:
لم يغب عن بال يوحنا حدث تجلي الرب على جبل سيناء حين كتب نصّ عرس قانا، بل إعتمد أن يلبس نصّه رمزية خاصة به يقدر أن يفهمها من قرأ العهد القديم وفهمه بعمقه.
رمزية النص إستناداً الى التعابير اليوحنوية:
– اليوم الثالث: هو يوم القيامة، يوم إعلان المسيح مجد الوهته كإبن الله المنتصر.(تك 41/18 إخوة يوسف يتحرّرون في اليوم الثالث، خر 15/22 أسرائيل يسير ثلاثة أيام نحو الحرّية؛ يونان 2/1 يونان ثلاثة أيام في بطن الحوت، خر 19/ 10. 16 تجلّي الرب على الجبل).
– العرس: هو رمز العهد الذي أقامه الله بينه وبين إسرائيل (أرم 51/ 5 فإِنَّ إِسْرائيلَ ويَهوذا لم يَتَرَمَّلا مِن إِلهِهما، مِن رَبِّ القُوَّات وإِن مُلِئَت أَرضُهما إِثماً على قُدُّوسِ إِسْرائيل)، حز 16 (وكانَت إِلَيَّ كَلمَةُ الرَّبِّ قائِلاً: 2 ((يا ابنَ الإِنْسان، أَخبِرْ أُورَشَليمَ بقَبائِحِها، 3 وقُلْ: هكذا قالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ أُورَشَليم: أَصلُكِ ومولدُكِ مِن أَرضِ الكَنْعانِيِّين، وأَبوكِ أَمورِيٌّ وأُمُّكِ حِثِّيَّة. 4 أَمَّا مولدُكِ فإِنَّكِ يَوم وُلِدتِ لم تُقطع سُرَّتُكِ ولم تُغسَلي بِالماءِ تَنْظيفًا، ولَم تمَلَّحي بِالمِلْح، ولم تُلَفِّي بِالقُمُط. 5 لم تَعطِفْ عَليكِ عَينٌ فيُصنَعَ لَكِ شَيءٌ مِن ذلكَ ويُشفَقَ علَيكِ، بل طُرِحتِ على وَجهِ الحَقْلِ قَرَفًا مِنكِ يَومَ وُلدتِ.6 فمَرَرتُ بِكِ ورَأَيتُكِ مُتَخَبِّطَةً بدَمِكِ، فقُلتُ لَكِ في دَمِكِ: عيشي . 7 وَجَعَلتُكِ رِبْواتٍ كنَبتِ الحَقْل، فنَمَيتِ وكبِرتِ وبَلَغتِ سِنَّ ذُروَةِ الجَمال، فنَهَدَ ثَدْياكِ ونَبَتَ شَعَرُكِ، لكِنَّكِ كُنتِ عُرْيانَةً عُريًا. 8 فمَرَرتُ بِكِ ورَأَيتُكِ، فإِذا زَمانكِ زَمانُ الحبّ، فبَسَطتُ ذَيلَ رِدائي علَيكِ وسَتَرتُ عَورَتَكِ، وأَقسَمتُ لَكِ ودَخَلتُ معَكِ في عَهْدٍ ، يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ، فصِرتِ لي.) وكتاب النبي هوشع أيضاً يتكلم عن الرب الذي دخل في عهد زواج مع الشعب فخانه الشعب).
– الإمرأة: رمز إسرائيل وعروس يهوة كما رأينا. هي إبنة صهيون التي ترمز الى إسرائيل(De la Potterie I., Maria nel Nuovo Testamento, in Dizionario di Teologia Biblica, ed. San Paolo, Milano6 1988, 915) .
– الماء: هي مياه الخلق، مياه الطوفان، مياه الغسل، مياه تطهير اليهود (كما في عرس قانا)، مياه المعمودية، مياه جنب المسيح. هي بالإجمال رمز الطبيعة البشرية الخاطئة المحتاجة الى تطهير (معمودية وغسل) مياه الشر (أمواج البحيرة التي داسها المسيح).
– الخمر: هو رمز فرح العهد الجديد إي الإنجيل (أش 25/ 6 وفي هذا الجَبَلِ سيَضَعُ رَبُّ القُوَّات لِجَميعِ الشُّعوبِ مَأدُبَةَ مُسَمَّنات مَأدُبَةَ خَمرَةٍ مُعَتَّقَة مُسَمِّناتٍ ذاتِ مُخٍّ ونَبيذٍ مُرَوَّق، يوئيل 4/ 18 وفي ذلك اليَوم تَقطُرُ الجِبالُ نَبيذاً وتَفيضُ التِّلالُ لَبَناً حَليباً).
3) أوجه الشبه مع نص الخروج:
– اليوم الثالث أظهر الله مجده على الجبل وحَدَثَ في اليَومِ الثَّالِثِ عِندَ الصَّباحِ أَنْ كانَت رُعودٌ وبُروقٌ وغَمامٌ ونَزَلَ الرَّبُّ على جَبَلِ سيناءَ ويسوع أظهر مجده في قانا.
– إفعلوا ما يأمركم به قالت مريم للخدم و كُلُّ ما تَكَلَّمَ الرَّبُّ بِه نَعمَلُه قال شعب إسرائيل(Paul VI, Marialis Cultus, 57).
– الإمرأة في قانا هي شعب إسرائيل الموجود على الجبل .
* ماذا نستنتج إذاً؟
بالإضافة الى ما قلناه حول إنجيل البشارة بحسب لوقا، يعطينا يوحنّا أبعاداً رمزية أخري في إنجيله:
– مريم ليست فقط إسرائيل الجديدة تدخل في عهد مع الرب لتصبح شعباً كهنوتياً، إنما يأخذ دورها بعداً تعليمياً لخدمة سرّ إبنها، هي تقول للخدم (diako,noij ) تعبير يستعمل للخدمه الليتورجية، وبالتالي شمامسة، إفعلوا ما يأمركم به، فاشتركوا في تحويل المادة الميتة الى خمرة العهد الجديد (دم العهد الجديد). لم تشترك هي في التحويل، لم تقم بعمل كهنوتيّ إنما ذكرّت الخدام الكهنوتيين بضرورة وضع إرادتهم في تصرف المسيح ليشتركوا في كهنوت العهد الجديد، كهنوت إبنها. من هنا أيضاً نفهم دورها في تنشئة الحياة الكهنوتية، هي أم المسيح الكاهن تصوّر أيضاً في رحمها جنين كهنوت كل واحد منّا، تنشئنا على خلق تربة خصبة لكهنوت الخدمة من خلال كونها معلّمة ومنشئة روحية لعيشها الكهنوت العام بالطريقة الأمثل.
– جديد يوحنّا أيضاً هو التشديد على الفصل بين عمل المسيح في قانا وعلاقته البنوية بالعذراء مريم. يوحنّا يشدد على أن مريم، بتقديمها ساعة المسيح من خلال طلب التدخل، شدّد على علاقة المسيح الكهنوتية بمريم ممثلة الكنيسة، وبالتالي فإن مريم تطلب التدخّل المسيحاني لبس إنطلاقاً من شخصها التاريخي بل من دورها المميّيز في سرّ المسيح. دور سيبرز أكثر تحت الصليب، مجدّداً أمام عنصري الدم والماء الكهنوتيين، حيث تُنادى مجدّداً بيا إمرأة، وتكرّس أم يوحنا التلميذ الكاهن الذي يأخذها الى خاصّته، أي الى حقيقته ودوره كرسول كاهن: دور مريم في عمل يسوع الذي جوبه بالرفض في عرس قانا لأنه سابق لأوانه (لم تأت ساعتي بعد يو 2/ 4) قد نالته في النهاية تحت الصليب، عندما حانت ساعة هذه الساعة، ساعة آلام وموت وقيامة المسيح الكاهن. في كونها أم التلميذ تظهر مجدّداً صورة مريم الإمرأة، صهيون الجديدة، التي بعد آلام المخاض تلد مجدّداّ الشعب الى الفرح (يو 16/ 21 و أش 49/ 22، 54/ 1، 66/ 7- 11)( Brown, R. E., The Gospel According to John, vol. 2, New York: Doubleday, 1970, pp. 925-926). وبالتالي تبرز مجدّداً مريم بدور "كهنوتي" وكعنصرً لا ينفصل عن الروحانية الكهنوتية.
التعرف أكثر فأكثر إلى المخلص بمساعدة مريم، ماذا أكتسب في روحانيتي الكهنوتية
1) التواضع الذي كان ميزة مريم الكبرى، أم الله تخدم الكنيسة في عرس قانا، عرس المسيح وكنيسته.
2) الطواعية والرغبة في الخدمة، الكاهن الحاضر دوماً للتفتيش عن حاجات الجماعة وسدّ حاجتها الى خمر المسيح، كلمة الإنجيل وكلمة الإفخارستيا. مقتدياً بمريم "يضحي الكهنة مطواعين للرسالة التي إقتبلوها بالروح القدس. يجد الكهنة لهذه الطواعية مثالاً رائعاً في القديسة مريم العذراء: مُقتادة من الروح القدس، أعطت ذاتها بكلّيتها لسر إفتداء الإنسانية، أم الكاهن الأزلي، سلطانة الرسل، عضد خدمتهم الكهنوتية، يحق لها من الكهنة الإكرام البنوي والتقدير والحب"( Concile Vatican II, Presbyterorum Ordinis, 18).
3) الأمومة الكهنوتية نحو الجماعة، الكاهن في الوقت نفسه بإسم المسيح وبشخصه أب يلد الجماعة الى الحياة الأبدية من خلال عطية التقديس التي نالها، وأم تلد الى النعمة وتشعر بما ينقص الجماعة وتسعى الى سدّ العوز. هي عطية نحصل عليها من المسيح الأب والأم، الذي أخرج من حشاه الكنيسة على الصليب، وحنا كأم على الجماعة. مريم تساعدنا على أن نفهم كيفية إكتساب صفات المسيح هذه.
4) السهر على تحقيق إكتمال جسد المسيح السرّي- الكنيسة.
5) الصلاة والتأمل في سرّ المسيح على مثال مريم الصامتة الكبرى تحفظ كلمة الله وتتأمّل به في قلبها.
6) أن نقبل كلمة الله في داخلنا بالنعمة كما قبلتها هي بالجسد، ونلدها للجماعة كلمة خلاص أبدي على مثال مريم أم الله.
التعرف أكثر فأكثر إلى المخلص بمساعدة مريم
بقلم الأب بيار نجم المريمي
باريس، الثلاثاء 18 أغسطس 2009 (Zenit.org). – عن موقع "شريعة المحبة":
1) التواضع الذي كان ميزة مريم الكبرى، أم الله تخدم الكنيسة في عرس قانا، عرس المسيح وكنيسته.
2) الطواعية والرغبة في الخدمة، الكاهن الحاضر دوماً للتفتيش عن حاجات الجماعة وسدّ حاجتها الى خمر المسيح، كلمة الإنجيل وكلمة الإفخارستيا. مقتدياً بمريم "يضحي الكهنة مطواعين للرسالة التي إقتبلوها بالروح القدس. يجد الكهنة لهذه الطواعية مثالاً رائعاً في القديسة مريم العذراء: مُقتادة من الروح القدس، أعطت ذاتها بكلّيتها لسر إفتداء الإنسانية، أم الكاهن الأزلي، سلطانة الرسل، عضد خدمتهم الكهنوتية، يحق لها من الكهنة الإكرام البنوي والتقدير والحب"( Concile Vatican II, Presbyterorum Ordinis, 18).
3) الأمومة الكهنوتية نحو الجماعة، الكاهن في الوقت نفسه بإسم المسيح وبشخصه أب يلد الجماعة الى الحياة الأبدية من خلال عطية التقديس التي نالها، وأم تلد الى النعمة وتشعر بما ينقص الجماعة وتسعى الى سدّ العوز. هي عطية نحصل عليها من المسيح الأب والأم، الذي أخرج من حشاه الكنيسة على الصليب، وحنا كأم على الجماعة. مريم تساعدنا على أن نفهم كيفية إكتساب صفات المسيح هذه.
4) السهر على تحقيق إكتمال جسد المسيح السرّي- الكنيسة.
5) الصلاة والتأمل في سرّ المسيح على مثال مريم الصامتة الكبرى تحفظ كلمة الله وتتأمّل به في قلبها.
6) أن نقبل كلمة الله في داخلنا بالنعمة كما قبلتها هي بالجسد، ونلدها للجماعة كلمة خلاص أبدي على مثال مريم أم الله.
في آباء الكنيسة
أستند في هذا القسم الى عمل رينيه لورنتين:Lorentin R., Marie, L’Eglise et le Sacerdoce, Etude théologique, 2 Vol., Paris 1952-53, pp. 9-95
لقد فصل الآباء بين دور مريم "الكهنوتي" أي أن تكون بكليّتها مكرّسة في خدمة كهنوت إبنها، وبين كهنوت الخدمة الذي ناله الرسل وحدهم كسرٍّ ولم تشترك فيه مريم.
– إبيفانيوس يقول: "ونصل الى العهد الجديد: إن كان موضوعاً من قبل الله أن تكهن النساء أو أن تمارس أي وظيفة قانونية أخرى في الكنيسة، لكان من الأجدر بمريم أن تحصل على كهنوت العهد الجديد… هي التي أضحي حشاها هيكلاً ومنـزلاً حقق فيه الرب مخطّط تجسّده… إنما الرب لم يرتض بهذا…"( Epiphanius, Adv. Haer. 79,3 in PG 42, 744).
في هذا القول لا نجد تهميشاً لدور مريم ومواصفاتها الكهنوتية، كهنوت الخدمة، التي تستمدها من المسيح وتضعها في تصرف نشر ملكوته، كهنوت يشترك فيه كل معمّد. بهذا المعنى نقول أن مريم هي المعلّمة المثلى لكيفية عيش كهنوت الخدمة هذا.
– يقول بروكلّس: أيها الهيكل، الذي فيه أصبح الله كاهناً
دون تغيير في الطبيعة، إنما برحمته لبس
ذاك الذي هو (كاهناً) بحسب رتبة ملكيصادق(Proclus Cost., I Hom. Mater Dei, in PG 65,684).
– وباسيليوس: "إفرحي أيتها الممتلئة نعمة… لأنك هيكل يليق بالله حقّاً، معطّر برحيق العفّة، ففيك سوف يحلّ عظيم الكهنة، الذي هو على رتبة ملكيصادق… دون أمّ من الله الآب، ومنك أيتها الأم دون أب"( Basilius Seleuc., Hom. Mater. Dei, in PG 85, 444).
– وإندراوس الكريتي: "أيها الخباء المبنيّ لا بأيدي بشر إنما من الله، دخل اليه الله الأوحد وعظيم الأحبار الأول مرة واحدة في ملء الأزمنة، ليمارس داخلك، بسرّ محجوب، الخدمة الكهنوتية i`erourgh,swn من أجل الجميع"( Andreas Cret., IV Hom. de Nativitate, in PG 97, 877. cf Rom 15,16).
– أمّا ثيودورس الإستوديتي فقال : "إفرحي أيتها الإبنة، يا إيتها الصبية الكاهنة (او أيضاً الصبية الكهنوتية) التي رحيق عطرها وزينتها مُدهشة لذلك الذي يقول في النشيد: براعمها حديقة رمّان…"( Theodorus Studites, Homilia in Nativitatem Mariae (olim sub auctore Ioanne Damasceno), in PG 96, 693).
– إبيفانيوس: "أيتها العذراء، يا كنـز الكنيسة العظيم، التي نالت نصيبها السرّ الكبير… أدعُ العذراء كاهناً (i¸ere/a ) ومذبحاً معاً، هي حاملة المائدة أ الخبزَ السماوي، المسيح، لمعفرة الخطايا"( Pseudo Epiphanius, in laudes sanctae Mariae Deipare, in PG 43, 497).
ولم يقتصر الأمر على آباء الشرق، فالغربيون منهم قالوا بهذا أيضاً:
– أيرونيموس يقول: "هذه هي البوابة الشرقية التي تكلّم عنها حزقيال إنها مغلقة دوماً… بها شمس البر وكاهننا بحسب رتبة ملكيصادق يدخل ويخرج"( Hieronymus, Epist. 48, in PL 22,510) .
من هنا نستنتج أن المجمع الفاتيكاني الثاني لم يقدّم جديداً حول دور مريم العذراء في سرّي المسيح والكنيسة، بل سلّط الضوء على هذه الناحية من دور مريم في روحانية كاهن المسيح، ليس فقط الكهنوت العام، إنما بشكل خاص كهنوت الخدمة.
إن الفصل الثامن من الدستور العقائدي في الكنيسة نور الأمم قد أعاد الإعتبار الى الدور الذي كانت تلعبه العذراء مريم منذ تأسيس الكنيسة: علاقة لا تنفصل عن سرّي المسيح والكنيسة، لا بل كانت الضمانة لكل تلميذ وتلميذ سائر خلف المسيح أن إتبّاع المسيح ليس مستحيلاً، فكان دورها الأم والمعلّمة في الحياة الروحية لكل مؤمن ولكل كاهن.
إن فصل سرّ مريم عن سرّ المسيح إبنها قد خان الرسالة التي شاء الوحي أن يوصله الى الكنيسة، أي إن لا وجود لمريم خارج المسيح ولا قيمة لدورها إذا فُصل عن سرّ الكنيسة. التشديد على البعد التقوّي المريميّ قد أفقد اللاهوت المريمي إشعاعه وجعله مّغلَقاً على ذاته، وأسهم في إرساء هوة يَصعب ردمها بين الكنيسة الكاثوليكية والجماعات المعمّدة.
مع الفاتيكاني الثاني عدنا الى نقاؤة الأصل، الى التأمل في البعد المسيحاني لشخص ولدور مريم العذراء، وبالتالي صار يمكننا التكلّم عن دور تقوم به في تنشئة دعوتنا الكهنوتية:
– مريم معلّمة في حياة الكاهن الروحية: هي التي عاشت حتى الأعماق دعوة المسيح إبنها لها، تأملت في سرّه في صمت واحتجاب، في إختبار روحي عميق علمت من خلاله أن الصلاة هي نقطة إنطلاق لكل عمل آخر(cf. Concile Vatican II, Presbyterorum Ordinis, décret sur le ministère et la vie des prêtres, 12). هي تساعدنا على المحافظة على التوازن بين الحياة الروحية والعمل الرسوليّ، دون إهمال لأي منهما، فالحياة الروحية هي مصدر كل عمل محبّة، وكل عمل رسالة لا تكون المحبّة أساسه لا يمكن أن يكون كهنوتياً: فالكهنوت هو أن أحمل للآخر بواسطة خدمة المحبّة، كلمة الله وبشرى الحياة لكلّ متعطّش.
– مريم معلّمة في حياة الرسالة الكهنوتية: هي التي وضعت ذاتها في تصرف نشر كلمة الله بطريقة فائقة الطبيعة: لقد قبلت في جسدها كلمة الله المتجسّد، فانطلقت تخدم أليصابات. هي التي تساعدنا على أن يكون عملنا الرسولي وإنطلاقنا نحو الآخر نتيجة حتمية لحياة الروح التي يجب أن ننميّها في حياتنا.
– مريم معلّمة في الحياة الإجتماعية للكاهن: هي التي تعلّمنا أن لقاءنا لكل آخر هو لقاء للمسيح إبنها. من خلالها نقدر أن نتعلّم أن قداسة الجماعة البشرية هي هدف عملنا الكهنوتي، على مثال المسيح الذي قدّس المحيطين به. بمريم يتعلّم الكاهن أن دافع حقيقته الكهنوتية هو الإنطلاق نحو الأخر ليحوّل وجوده من وجود ماديّ بحت الى الحياة بالنعمة.
– مريم معلّمة في حياة الأسرار التي يحقّقها الكاهن: هي التي أشارت للخدم أن يفعلوا ما يأمرهم المسيح كيما يحوّلوا مادية الماء الى فرح الخمر، خمر العهد الجديد. هي ضمانة، الى جانب يسوع وعلى ضوءه، على إمكانية التحويل الأسراري في حياة الكنيسة، ففيها تمّ التحوّل الأول، أضحت بجسدها ودمّها الإنسانيين، محتوية لنعمة الله المتجسدة: هي المثال والضمانة على إمكانية التحوّل الجوهري رغم إختلاف الطبائع. "بحياتها كاملة، بدت مريم إمرأة إفخارستية، والكنيسة التي تنظر الى مريم كمثال لها، خي مدعوّة الى الإقتداء بها في علاقتها مع هذا السّر السامي القداسة"( Jean Paul II, Ecclesia de Eucharistia, sur l\’Eucharistie dans son rapport à l\’Église, 53)، فمريم قد مارست إيمانها الإفخارستي حتى قبل تأسيس سرّ الإفخارستيا، إذ قدّمت حشاها البتولي لتجسّد كلمة الله. "إن كانت الإفخارستيا تعيدنا الى الآلام والقيامة، فهي تكمّل أيضاً سر التجسّد. ساعة البشارة قبلت مريم إبنَ الله في حقيقة الجسد والدّم الجسدية، مستبقة فيها ما سوف يتحقق تحت شكل السرّ في كل مؤمن يقتبل تحت شكل الخبز والخمر، جسدَ المسيح ودَمَه"( Idem, 55).
– مريم معلّمة في حياة الأيمان والإلتزام بمخطط الله في حياة الكاهن: رغم عدم الفهم الإنسانيّ الكامل لهذا المخطط الإلهي. ساعة البشارة مريم إحتارت، وخافت وتساءلت، إنما آمنت بالرب، وبأن ما يقوله سيكون. لم تفهم مريم كل شىء مباشرة، بل كانت تراقب، وتتأمّل بأحداث المسيح وعمله في داخلها، هي إختارت المغامرة، آمنت بالرب ولم تخش إتّباعه. تعلّم كل كاهن أن المغامرة مع المسيح ممكنة فقط من خلال الإيمان، هي قفزة من يقين المحسوس الى مجهول الإيمان، هي إخضاع لقدرة العقل لثقة الإيمان، تماماً مثل مريم حين قالت: "فليكن لي بحسب قولك". إيماننا بهذا المعني يضحي "إستمرارية لإيمان العذراء مريم"( Idem, 55)
– مريم معلّمة الكاهن في النظر الى الملكوت السماوي دون الهروب من الإلتزام الأرضي: بإنتقالها بالنفس والجسد الى السمّاء، تنشّئ الكاهن على الإنطلاق من البعد السماوي للسعي الى تحقيق ملكوت الله على الأرض، ملكوت المحبة والسلام والمصالحة. مريم تذكّر الكاهن أن البعد الرسولي لخدمته لا يمكن أن يكون مُغلقاً على الواقع الأرضي، ولا يمكن أن يفصل بين التوق الى السماء وعمله في خدمة المحبّة. تغيير الواقع الأرضي لا يكون إلا إنعكاساً لرغبة الكاهن في إحلال مُلك الله الأبدي. إنطلاقاً من حبّها لله إنطلقت مريم نحو القريب، رافقت ورعت وخدمت الجماعة الرسولية إلتي صارت على الصليب أمّا وابنه لها في الوقت نفسه. وفي نهاية مسيرتها على الأرض، حملت العذراء الى الوطن السماوي، الى بيتها الأبوي هذه الجماعة نفسها، يقيناً منها أن البعد السماوي وحده يعطي الجماعة الرسولية ملئها وسبب وجودها. الكاهن مدعوّ أيضاً للإيمان بإن البعد السماوي هو هدف خدمته الرسولية، يعمل ليحمل الجماعة الى دخول البيت الأبوي، لا ليدخل نفسه ملكاً في جماعة المؤمنين المجاهده على الأرض. تأمل وإنتظار المجد الإلهي لا يُبعد الكاهن عن الحياة وعن كل مقوّماتها، بل على عكس، إن دعوته تحدوه الى إكتشاف معنى الحياة الأعمق(يوحنّا بولس الثاني، رسالة الى الكهنة بمناسبة خميس الأسرار، 4 نيسان 1996، رقم 7).
– الكاهن على مثال مريم، في الكنيسة، مع الكنيسة وفي خدمة الكنيسة: في دورها المميّز تنشئ مريم إبنها الكاهن على دوره الوظيفيّ في جسم المسيح الكهنوتي، فلا يقع في خطرين متناقضين: خطر إختذال الكنيسة في شخصة كونه الرأس من ناحية، وفي تماهيه مع حقيقة كونه عضواً في الكهنوت العام فيضحي مساوياً من حيث الوظيفة لكل معمّد آخر.
– "الكهنة يمارسون وظيفة المسيح الرأس والراعي، وهم بإسم الأسقف، يجمعون عائلة الله بأخوّة تجتمع بروح واحد… ليمارسوا هذه الوظيفة، وسائر الوظائف الكهنوتية الأخرى، يقتبلون سلطان روحي، أعطي لهم للبنيان"( Concile Vatican II, Pesbyterorum Ordinis, décret sur le ministère et la vie des prêtres, 6).
– الكهنة هم في الوقت عينه، مع كلّ المسيحيين، تلاميذ الربّ، الذين دُعيوا بنعمة الله لهم للإشتراك في ملكوته. بين كلّ المعمّدين، الكهنة هم أخوة بين إخوتهم، أعضاء في جسد المسيح الواحد الذي أوكل الى الجميع بناءه (Idem, 9).
الخطر في حياتنا الكهنوتية يكمن في حصر دورنا في واحد من هاتين الميزتين: في الأولى فنقع في الإكليريكية البحتة ونعرض للخطر حقيقة الكهنوت العام (كما حدث في العصور الوسطى)، وفي الثانية فنقع في العلمانية الكنسية ونهمّش دور كهنوت الخدمة، كما حدث في الإصلاح البروتستانتي وفي بعض أنماط تفكير معاصرة داخل الكنيسة الكاثوليكية التقدمية، وبعض تيّارات لاهوت التحرير. "إن تجارب علمنة الكهنة تخلق ضرراً للكنيسة، إنما هذا لا يعني أن على الكاهن أن يبقى بعيداً عن العلمانيين، عليه أن يكون بقربهم إنما ككاهن، دوماً من منطلق خلاصهم والتقدّم نحو ملكوت الله"( يوحنّا بولس الثاني، رسالة الى الكهنة بمناسبة خميس الأسرار، 27 آذار 1986، رقم 10).
مريم التي نالت حظوة لم ينلها بشري عرفت أن تحيا في الإعتدال بين كهنوتها العام كمعَمدّة بالروح القدس، نالت ضمنه كهنوتاً روحيّاً مميّزاً إذ تمّ في حشاها الإتحاد بين الطبيعتين في المسيح، عمل نكمّله ككهنة خدمة في الوليمة الإفخارستية، وبين دورها كابنة للمسيح إبنها من خلال كهنوت الرسل. هي أم الكاهن أشارت الى الشمامسة ليقوموا بما يأمرهم به الرب في عرس قانا، ولم تفعله هي، جلّ ما فعلته هي الضراعة من أجل الجماعة المحتاجة، واحتجبت في العشاء السرّي فلم تغتصب دور التلاميذ. هذا التناغم بين كونها أم المسيح بالجسد وابنته بالنعمة(Dante Alighieri, Divina commedia, Paradiso 33,1) يقدر على أن ينشيء الكاهن على عيش كهنوته كأب ورأس للجماعة، وابناً لها في الوقت عينه، دون أي نقص في عيش البعدين حتى العمق. هكذا يكون الكاهن مع مريم في جسم الكنيسة السرّي مع جماعة المعمّدين، مع الكنيسة الضارعة للسّيد والحاضرة في الكون من خلال كهنوت الخدمة، تبدّله من حقيقته المادية، ماء تطهير قانا، وتهيئه ليفتح أبوابه على حضور الله الروحي، وعلى رسالة العهد الجديد محوّلة الماء الى خمرة فرح، وفي خدمة الكنيسة من خلال وظيفة الرأس الخادم الذي جاء ليَخدُمَ لا ليُخدَم ويقدّس كنيسته بالأسرار بواسطة موهبة وضع اليد. وعندما نعرف كيف نعيش هذا التناسق بين البعدين، "نقدر أن نضمن إشتراك جميع الرّجال والنّساء في رسالة المسيح الثلاثية الأبعاد: النبوية والكهنوتية والملوكية"( يوحنّا بولس الثاني، رسالة الى الكهنة بمناسبة خميس الأسرار، 13 نيسان 1995، رقم 7).
– مريم تعطي للنذور الرهبانية بعدياً كنسيّاً أسراريّاً في حياة الراهب الكاهن:
"كل صفات التنشئة الكهنوتية تقدر أن تجد لها مرجعاً في مريم،( Omnis species formationis sacerdotalis referri potest ad Beatam Virginem Mariam ) كإنسانة أستجابت لنداء الله أكثر من أي إنسان آخر، جعلت نفسها خادمة وتلميذة للكلمة حتى قبلت (conceperit قبلت وحبلت) في قلبها وفي حشاها الكلمة المتجسّدة لتعطيه للإنسانية، قد دعيت لتكون معلّمة (vocata est ad educandum ) الكاهن الأوحد والأزلي، الذي جعل نفسه مطواعاً وخضع لسلطتها الأبوية. بمثلها وبشفاعتها تكمل العذراء الفائقة القداسة السهر على إزدهار الدعوات وعلى الحياة الكهنوتية في الكنيسة"( Jean Paul II, Pastores dabo vobis , exhoration Apostolique post synodale sur la formation des prêtres dans les circonstances actuelles, 82).
* * *
الأب بيار نجم، راهب ماروني مريمي. درس الفلسفة في جامعة الروح القدس – الكسليك (لبنان) واللاهوت في جامعة مار توما الأكويني الحبرية في روما. ثم تخصص باللاهوت الكتابي في المعهد البيبلي الحبري في روما. وهو يقوم الآن بدراسة لنيل شهادة الدكتورا في باريس. وهو مؤسس ومدير موقع "شريعة المحبة" الذي تكرم علينا بهذه المقالة.