أسطورة التقدم الأفقي

الفاتيكان، الثلاثاء 15 سبتمبر 2009 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي النص الكامل لمقالة روبير شعيب*: "أسطورة التقدم الأفقي".

* * *

مقدمة: سوء فهم مأساوي

إذا ما نظرنا إلى رسم "خلق آدم" للفنان الشهير ميكال أنجلو في الكابيل "سيستينا"، لا يمكننا إلا أن نتذكر كلمات سفر التكوين البسيطة والغامضة في آن: "خلق الله الإنسان على صورته فمثاله" (تك 1، 26 – 27). إن التقليد المسيحي – بحسب ما يشهد الخبير الكبير الكاردينال هنري دو لوباك – لم يتوقف يومًا عن استباط غنى عميق من هذه الآية، واجدًا فيها راية فخر ونبالة للبشرية، وركيزة لعظمة الإنسان.

اختلف تفسير الآباء لهذه "الصورة والمثال" فأراد بها البعض العقل (الوغوس)، الحرية، خلود النفس، السيطرة على الطبيعة، إلخ… وكان آباء الكنيسة يدعون المسيحيين إلى عيش شعار معبد دلف: "اعرف نفسك" (gnôthi seauton) من خلال معرفة الذات لا ككون مصغّر (microcosmo)، ولا كخليقة مائتة حقيرة (كما فهمها على سبيل المثال سقراط أفلاطون)، بل كصورة الصورة، كابن في الابن.

في تجسده وحد الابن الكلمة في أقنومه الطبيعتين، الإلهية والبشرية، وسنح بهذا للعهد الجديد أن يتحدث عن "الله القريب"، العمانوئيل – الله معنا" – وسمح لنا أن نلقي نظرة إلى العظمة التي رفع إليها الله الإنسان.

إن هذه العظمة بالذات، التي ميزت المسيحية عن التيارات النيوأفلاطونية التي كانت تحتقر المادة والخليقة عادة، كانت مصدر عرفان في وجدان الكنيسة والمسيحيين، وحافزًا إلى نشيد تعظيم كنسي لعظائم الرب في خليقته ونحوها.

انطلاقًا من هذه العظمة التي يسبغها الوحي البيبلي على الإنسان، وخصوصًا وحي العهد الجديد في يسوع المسيح، بات ممكنًا الكلام عن "الأنسية" أي "المذهب الأنسي" أو النهضة الأنسية (umanesimo). اكتشاف عظمة الإنسان فتح المجال واسعًا للنقلة النوعية في الفكر البشري نحو الأنثروبولوجيا، والتي ولدت بدورها حضارة العصر الحديث (modernità) (Cf. A. Manaranche, Déclin ou sursaut de la foi, Paris 2002). يشرح المؤلف اليسوعي أندريه مانارانش، على خطى كبار المفكرين مثل فون بالتازار، أن هذه النهضة باتت ممكنة لأن الله أخلى ذاته (kenosi) حبًا وفتح المجال أمام ظهور عظمة الإنسان. ولكن، كما في كل فعل محبة – والمحبة تحترم الحرية ولا تغتصبها – في انفتاحه على الخليقة عرض الله ذاته بشكل إرادي – إذا جاز التعبير – لمجازفة محبته التي يمكن قبولها كما يمكن رفضها.

بعض أن استعرضنا في مقالة سابقة بعنوان (الأسطورة المنطقية) نتائج ما نود اعتباره "الحداثة الأولى"، سنتوقف في هذه المقالة على اعتبار "الحداثة الثانية"، والتي يشكل محورها لا الثنائي "الإيمان-العقل" بل الثنائي "الإيمان-التقدم" عانين بالتقدم التقدم الأفقي، التقدم في البعد التاريخي-الزمني-الخلائقي.

سنلاحظ في هذه المقالة حركة الإنسان الحديث في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والتي نجد فيها ملامح "مثل الابن الضال"؛ ابن تمسك بقوة بمواهب الأب ليبني بعزلة وانفراد طوباوية (utopia) التقدم المستقل عن الله.

إن هذه الظاهرة موجودة بشكل خاص في الدين المسيحي، لأن المسيحية، من بين الأديان السماوية هي الوحيدة التي ليست متمحورة حول الله (teocentrica) بشكل حصري، بل هي بحسب تعبير فلاديمير سولوفيوف ديانة الألوهية-المؤنسنة (divinumanità) (Cf.  V. Soloviëv, Lezioni sulla divinumanità, Milano 1990)، وبالتالي هي الديانة حيث الله بحرية وبمجانية ومدفوعًا من محبته نحو خليقته، يخلي ذاته ويفسح للإنسان كامل المجال لكي يختار معالم وجوده ويكون بطل سيناريو خياراته.

بالعودة إلى آية سفر التكوين (1، 26 – 27) التي بدأنا فيها المقالة، نلاحظ في القرن الثامن عشر وعلى مشارف القرن التاسع عشر، تحولاً في إدراك هذه الهوية المسيحية المبنية على مفهوم الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. يقول الكاردينال دو لوباك: "إن المفهوم المسيحي للإنسان، الذي تم قبوله قبلاً كتحرير، بدأ يبدو كنِير ثقيل. وفكرة الله التي رأى فيها الإنسان عربون عظمته، بدأت تبدو له كفكرة معادية، مناهضة لكرامته" (H. De Lubac, Le drame de l’humanisme athée, Paris 2000, 20).

هذا التحول في حدس إيجابية الإيمان المسيحي، وفساد مصوِّرة العلاقة بين الله والإنسان ولد في حضن طوباوية التقدم. ولكن ما الذي أدى إلى استثناء الإيمان المسيحي من بحث الإنسان عن التقدم؟ ولماذا قام الإنسان الحديث بفصل حتمي بين الله والتقدم؟ بكلمات أخرى، لماذا ربط التقدم بالتحرر والاستقلالية المطلقة عن الله، علمًا بأن ما من ديانة مثل المسيحية دعت الإنسان، وما زالت تدعوه، إلى عيش كامل لدعوته كخالق مع الله (co-creatore)؟

للجواب على هذه الأسئلة بشكل موضوعي وعلمي، يتوجب علينا أن نتبحر قدر الإمكان بالنقاط الأساسية التي ساهمت في تشويش وتشويه صورة الله في الوجدان الأوروبي بشكل خاص، وإلى ولادة الإلحاد الأنسي، أو بحسب تسمية الكاردينال دو لوباك "الأنسية الملحدة".

 

الإلحاد حبًا بالإنسان

إن مفهوم الله الذي كان قد توصل إليه اللاهوت العقلي وريث المذهب العقلي الحديث كان ضيقًا جدًا ولا يستطيع أن يستوعب الإله المالئ الكل، وباردًا جدًا لا يستطيع أن يحمل حرارة الروح القدس، ومستفيضًا في التجريد فلا يستطيع أن يلائم الإله الحي.

لا يصعب علينا أن نلاحظ بسهولة أن الكثير من لاهوت الدفاع (apologetica) بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر قد دافع عن الإله الغلط – إله الربوبية (deismo)، إلهًا متحجرًا، لا يهتم بالعالم وبالخليقة، إلها "مملاً". وبدفاعها، دون إرادتها، عن هذا الإله، خلّت بعض تيارات اللاهوت الدفاعي المعالمَ الشخصانية  للإيمانَ المسيحي والتي تقوم على ترابط غير منفصم في مثلث محكم هو: العقل-الحرية-النعمة، مثلثٌ يتجلى في إله الوحي المسيحي، إله تاريخ الخلاص لا العقل المنفصل والهيولي اللاشخصاني، إله الخبرة المتكاملة.

لقد قامت بعض تيارات اللاهوت الدفاعي باستبدال إله الوحي الكتابي بالإله الربوبي وأخلت الأول من تشابك وتعقيد كيانه بالنسبة لعقلنا، وخلقت الله على صورة الإنسان الحديث فمثاله؛ إلهًا يُختزل بالعقل الذي هو بدوره صورة العقل المحدود في حججه المنطقية.

إن رفض الحداثة للمسيحية ينبع بالتحديد من هذا الإطار اللاهوتي الذي بات يميز بشكل واسع ويفصل بشكل حازم بين المعطيات الاختباربية والصوفية والتفكير النظري.

كان بونافنتورا وتوما الأكويني في القرن الثالث عشر يستطيعان التحاور مع المعطيات الفلسفية المعاصرة لهم، وأن يستخدموا ما تقدمه لهم الفلسفة والثقافات الأخرى لتبيان الحقيقة الموحاة بفضل خبرة روحية عميقة تغذي تفكيرهما النظري.

يقول القديس بونافنتورا في مؤلفه القصير " De reductione artium ad theologiam" الذي كتبه في عام 1255 أن الفنون الميكانيكية، التي تنيرنا حول الأشكال الخارجية (lumen exterius)؛ والمعرفة الحسية، التي تتعلق بالوقائع الجسدية، التي هي أدنى من الوقائع الروحية (lumen inferius)؛ والمعرفة الفلسفية، التي تبحث عن الأسباب الحميمية والخفية في كل الوقائع (lumen interius): هذه الفنون جميعها تمهد "علمًا أسمى" (lumen superius)، وهو العلم الموجود في الأسفار المقدسة، والذي من خلال معاني الكتاب المقدس الأربعة – المعنى الحرفي، والمعاني الروحية الثلاث (المجازي، الخلقي، والأخيري) – ينيرنا بشأن الحقائق المتعلقة بالخلاص: ولادة الابن في الأزل وتجسده وتجسده في الزمن؛ التصرف الذي يجب اتباعه للوصول إلى الحياة الأبدية؛ ضرورة اتحاد النفس بالله من خلال التطلع. وعليه يبين القديس، من خلال الأسلوب الذي يميز ذلك الزمان، أن ما من فصل بين الخبرة الدنيوية والخبرة الروحية، فكل الخبرات الدنيوية والفكرية والفلسفية والجمالية ، إذا ما تبعنا خطها بأمانة تقودنا إلى الخبرة الروحية، ومن هنا معنى عنوان هذا الكتيب: "اختزال الفنون في اللاهوت" أو "تحول الفنون إلى اللاهوت".

ولكن، في العصر الحديث، مع الفصل والطلاق الذي تم بين التفكير النظري والخبرة المسيحية، أضحى تفكير الإيمان تنظيرًا مجردًا، وضعفت خبرة الروحانية المسيحية، وبات كلاهما فريسة سهلة للروح النقدي الحديث. إن أزمة الإيمان الكبرى التي نجدها في القرون الأخيرة تتلخص في ما يلي: إن الشخص الذي يقوم بفعل الإيمان بات  مختزلاً الآن بعقله فقط، والفلسفة التي كانت خادمة اللاهوت (ancilla theologiae) بات سيدته التي تحكم عليه. والعلوم التي كانت ثانوية وخاضعة للتعليم المقدس في مفهوم جامعة الدروس (universitas studiorum) في العصر الوسيط، اجتاحت حقل اللاهوت وجعلت فعل الإيمان وعيش الإيمان واقعًا ثانويًا.

يقول اللاهوتي دوبوي بشأن العلوم الثانوية: "إن هذه العلوم باتت تحتل في حقل البحث والتعليم الحيز الأكبر، لا بل أخذت كل الاهتمام. وفي هذه الحالة تعرض اللاهوت إلى ما يشبه الانفجار. إذا ما أردنا ان نكون عادلين يجب أن نصرح بأن اللاهوت يحتاج للإيمان، بين هذه العلوم لا تتطلبه بالضرورة… فمن دون إيمان لا يمكن أن يوجد لاهوت" (M. Dupuy, “La notion de spiritualité”, in Dictionnaire de spiritualité, ascétique et mystique, doctrine et histoire, XIV, Paris 1990, 1166-7).

إن هذا المفهوم بالذات أضحى بحسب اللاهوتي اليسوعي مايكل باكلي أرضية خصبة لنشأة الإلحاد الحديث. إن تعبير الإلحاد [أتيمولوجيًا: اللا ألوهة] (ateismo) يظهر في الوجدان بمعنى أتيمولوجي ورمزي جدلي، ففهمه يرتكز لا محاله على تعبير [ألوهة] (teismo)، بحيث أنه نفي له. بكلمات أخرى، إن الإلحاد لا يمكن أن يقوم إلا على أساس ما ينفيه أي على أساس مفهوم وفكرة حول الله.

 

الإلحاد المحب للبشر (filantropico)!

الإلحاد الحديث الذي هو خاصية أوروبية بالإجمال والذي ولد في حضن المسيحية، لم يتولد ببساطة من عوامل اجتماعية-اقتصادية أو منطقية نتيجة للتحرر السياسي وللاستقلالية الحديثة، كما ولم يولد فقط نتيجة للتقدم البشري والصناعي والتكنولوجي. بالطبع هذه العوامل ساهمت في نشأة هذه الظاهرة التي لا سابق لها، ظاهرة الإلحاد المجتمعي. ولكن المفارقة الكبيرة والملاحظة التاريخية المؤسفة هي أن المحرك المصيري والكامن للإلحاد الحديث كان تقديم فكرة عن الله غير لائقة به تعالى. يكتب اللاهوتي اليسوعي باكلي (M. J. Buckley) الذي كرس ردحًا طويلاً من حياته ومن أبحاثه للتعمق في ظاهرة الإلحاد: "إن الإلحاد قد نشأ انطلاقًا من الجهود عينها التي كانت تريد محاربته، وذلك إذا ما اعتبرنا جدليًا، ليس فقط معناه الأتيمولوجي، بل أيضًا بنيته ووجوده" (M. J. Buckley, “Ateismo” in Dizionario di Teologia Fondamentale = DTF, Assisi 1990,84).

وما يؤثر فينا بشكل خاص في هذا الإلحاد هو طابعه الدراماتيكي، وصدقه الأخلاقي، وأنه إلحاد ينشأ في حضن الدين، في حضن ما كان يهدف إلى الدفاع عن وجود الله. فالإله الذي كانت بعض تيارات اللاهوت الدفاعي تسعى إلى الدفاع عنه وعن وجوده لم يكن يستحق اسم الله، لأنه كان زوسًا مستوحشًا" بحسب تعبير س. موور، لا يهمه إلا الجدل والنقاش.

بحسب تحليل هنري دو لوباك، الإلحاد الحديث ليس إلحادًا "شعبيًا"، و "لا مجرد إلحاد نقدي" يهدف إلى التدمير دون أن يستطيع أن يقدم عوضًا عما هدمه؛ بل هو إلحاد يقدم نفسه كـ "إيجابي، مركب، وبنّاء. يجمع بين حلولية ذي طبيعة صوفية ووعي صافٍ لمستقبل البشرية" (H. De Lubac, Le drame de l’humanisme athée, op.cit., 7). ويعتبر اليسوعي الفرنسي الراحل أن الوجوه النموذجية لهذا الإلحاد هي: أوغوست كومت، لودفيخ فويرباخ (وابنه ‘الروحي‘ كارل ماركس)، وفريدريخ نيتشه.

ولا يخالف تحليل المرتد الروسي نيكولاي بردياييف عن تحليل دو لوباك، إذ يقول فيلسوف المنفى الروسي في تحليله النفسي للإلحاد في روسيا أن الفكر الروسي يرفض المراوغة والمقاييس المنقوصة في حل مشاكل الحياة ويتميز بميل محب للبشر (filantropico) يرفض ألم الأبرياء، ويعتبر أن هذا هو أساس الإلحاد الروسي. فهذا الإلحاد بحسب بردياييف ليس إلحادًا مشككًا أو لا أدريًا، بل هو إلحاد ينبع عن مشكلة أخلاقية: فقبول الله يعني قبول جميع أنواع الألم في الخليقة التي خلقها هذا الإله، ولذا، يُعرض الروسي عن الوصايا الإلهية محبةُ بالخليقة (راجع   N. Berdjaev,  Psicologia del nichilismo e dell’ateismo russi in Id. Il problema del comunismo, Brescia 1945, 79).

سنستعرض الآن نظرة فويرباخ، ماركس ونيتشه، محاولين أن نرى كيف يقدم هؤلاء الفلاسفة معاييرهم الرامية لتطور البشرية، وكيف يقدمون نفي الله كشرط ضروري لهذا التطور. سيساعدنا الاستعراض الموضوعي لنظرتهم الأنثروبولوجية والفلسفية إلى اكتشاف "المصورة الإلهية" المشوهة التي هي في أساس نظرتهم واقتراحهم الفكري والاجتماعي.

فويرباخ: تعويض البشرية عن ألوهتها المنفية

لا بد لنا، إذا ما ألقينا نظرة إلى كتابات لودفيخ فويرباخ، أن نتأثر ببساطة تعبيره، وأسلوبه الذي يقارب ببساطته وإيجازه البساطة الإنجيلية! ومع ذلك، فتاريخيًا، يشكل فويرباخ المعلم الكبير لكبار ملحدي عصرنا مثل ماركس، نيتشه، وأيضًا سارتر؛ ولذا من الضرورة بمكان أن نتوقف على اعتبار فكره وكتاباته، لأنه انطلاقًا من تفاؤله الأنثروبولوجي، ومن "دينه الإنساني" يمكننا أن نحوز على بعض المفاتيح التفسيرية لقراءة وفهم المفكرين اللاحقين.

لقد اعتبر فويرباخ أن رسالته الحيوية هي البحث المعمق في جوهر الظواهر الدينية لإعطاء الإنسان عظمته السليبة، التي نسبها خطأً إلى إله خيالي. سنسلط الضوء على بعدين في نظرة فويرباخ: الشعور بالنقص والدين، والإسقاط (proiezione) والدين.

 

الشعور بالنقص والدين

 

يصل فويرباخ إلى الأنسية وإلى الطبيعية التي تميز مذهبه من خلال انتقاد الدين. إذا ما أردنا أن نتخيل صيغته لآية التكوين (1، 26)، يمكننا أن نراها هكذا: "خلق الإنسان الله على صورته فمثاله". يتبنى فويرباخ نتائج التجريد العقلي [راجع الأقسام السابقة من المقالة]، ولكنه يقوم بخطوة إضافية إلى الأمام مصرحًا أن سر الله ليس إلا سر الإنسان المنفي عن ذاته. ولذا لا يكتفي فويرباخ بصياغة ديانة متحررة من هيكليات الأسرار والوقائع الغامضة، كما فعل كانت ودي شربوري، وتولاند وسبينوزا، ولكنه يقوم بنقد أكثر جذرية فيقول أن الدين هو الوهم الأكبر الذي يستطيع الإنسان أن يخدع نفسه به، ويأخذ على عاتقه مسؤولية "إيجاد سر اللاهوت في الانثروبولوجيا".

هناك بعد هام في فويرباخ وهو تسليط الضوء على البعد "العاطفي" للدين. فبحسب الفيلسوف الألماني، الله لا يأتي أولاً كجواب على حاجة معرفة، بل يعبر في المقام الأول عن وجهة نظر عملية وشخصانية: يعبّر عن "التوق إلى الخلاص".

تحت تأثير المذهب التقوي البروتستانتي (pietismo protestante)، يشدد فويرباخ على العاطفة أو الإحساس (بالألمانية: das Gefühl) كحاسة الدين. ويصرح أن جوهر سر الله ليس إلا جوهر الإحساس والشعور البشري.

إذا أخرجنا أطروحة فويرباخ هذه من إطارها التهجمي والعدائي، المناهض لله وبشكل خاص للمسيحية، لاحظنا أن فكر فويرباخ يعبر عن حدس عميق لأمور باتت بديهية لدى الكثير من اللاهوتيين، أعني أهمية البعد العاطفي في الخبرة الدينية. لقد تحدث عن هذا البعد مفكرون كثيرون نذكر من بينهم باسكال وشلايرماخر (Schleiermacher)، وفي الزمن المعاصر (بيار أنجلو سيكويري، جورجيو ماتزانتي، فرنشسكو بيلوني، مايكل بول غالاغر…).

ولكن ما يلقي وشاحًا قاتمًا على اكتشاف فويرباخ هو طابعه السلبي الذي لا يرى في الشعور أو العاطفة في الدين بعدًا إيجابيًا بل بعدًا انسلابيًا (alienazione). فبحسب الفيلسوف، يدخل الشعور في حقل الدين بطريقتين: أولاً كـ "رغبة بالإشباع"، وثانيًا كـ "علاقة اتكالية" على قوى فائقة قادرة أن تشبع الرغبات. هذا الاتكال هو منبع "الانسلاب" الذي هو الدور الكبير الذي يلعبه الدين في حياة الإنسان.

يعطي فويرباخ دورًا هامًا للبعد السيكولوجي في تحليله للدين بدل الانكباب على التحليل العقلي والأخلاقي الذي رأيناه في مفكري القرنين اللذين سبقاه. فالانسلاب هو أن يختبر الإنسان أنه "محروم من أمر هو خاصته ومن جوهره أصلاً، وذلك لصالح واقع وهمي" (J. Daniélou, “La foi en l’homme chez Marx", in Chronique sociale de France 1938, 163ss.).

هذا الانسلاب يظهر في واقع حزين حيث "الإنسان الفقير يملك إلهًا غنيًا"، وحيث يضحّي الإنسان بكل عظمة كيانه من أجل هذا الإله. يقول فويرباخ: "في التضحية يظهر جليًا كل جوهر الدين. جوهر التضحية [أو الذبيحة] هو الشعور بالاتكالية – الخوف، والشك بإمكانية النجاح المستقبلي، والندم على الذنوب – ولكن النتيجة، وغاية الذبيحة، هي إمكانية الشعور بالذات – الشجاعة، اللذة، ضمانة النجاح، الحرية والطوباوية" (L. Feuerbach, L’essenza della religione, Roma 1994, 48).

من وجهة النظر اللاهوتية، لا يمكننا إلا أن نرى الصورة الجريحة التي يحملها ويقدمها فويرباخ عن الله. بالطبع، ليس المسؤول الوحيد عن هذه الصورة، فهذه الصورة عن الله هي صورة قدمها ويقدمها الكثير من المسيحيين واللاهوتيين الذين يتبعون – بعلمهم أو بجهلهم – ما يسميه الأب فرنسوا فاريون اليسوعي "روحانية المذبحة" (spiritualité du massacre)، حيث يضحي الله مغتصب حياة الإنسان، بدل أن يكون نبعها الزاخر.

الإسقاط والدين

هناك بعد آخر يميز نظرة فويرباخ الوجودية والفكرية للدين وهو اعتباره الخبرة الدينية كاعتراف بجوهر كياني (Cf. Ibid., 22): أنا إله نفسي (Ego mihi deus). كل ما ينسبه الإنسان إلى هالة الفائق الطبيعة، ليس إلا تمثيلاً خياليًا لما هو الإنسان بطبيعته. كل الاستعدادات الطيبة لا تأتي من العلاء بل من الأسفل، لا من القمة بل من عمق الطبيعة. تكريم الله يعتمد على تكريم الإنسان لذاته، وليس إلا تعبيرًا عنه. الكائن الإلهي الذي يظهر في الطبيعة ليس إلا الطبيعة عينها، فالكائن الإلهي ليس إلا انطباعًا عن ألوهة الطبيعة وتعبيرًا عنها (Cf. Ibid., 28).

في تفسيره لظاهرة "نشأة الآلهة" (teogonia) يستعين فويرباخ بمفهوم "الانسلاب" (alienazione) الهيغيلي. ولكن بينما يطبق هيغيل هذا المفهوم على الروح المطلق، ينقله فويرباخ من إطار الفكرة إلى إطار الواقع، إلى إطار الإنسان بلحمه وعظمه. الانسلاب بالنسبة لفويرباخ ينبع من كون الإنسان يحرم نفسه مما هو خاصته لكي يُسقطه على واقع وهمي. الإله الغني والمتسامي للإنسان البائس والفقير، ما هو بالواقع إلا الإنسان بالذات. يقرّ الإنسان في كيان الله بما ينفي في كيانه البشري، وبهذا الشكل يضحي الدين "مصاص دماء البشرية"، كائنًا "طفيليًا" يتغذى من جوهر البشرية، من جسدها ودمها.

نرى هنا وجهة نظر معاكسة للافخارستيا، فبدل الإله الذي يعطينا حياته من خلال جسده ودمه، بالنسبة لفويرباخ، هي الألوهة التي تتغذى من جسد ودم البشرية، والإنسان يكسر جسده وروحه ويسفك دمه لحياة الآلهة: نحن بصدد ملء الوهم والانسلاب بحسب فويرباخ!

ولكن من الأهمية بمكان أن نلاحظ كيف أنه بالنسبة لفويرباخ هذا الانسلاب كان ضروريًا ولا بد منه، لأنه يشكل بحسب الجدلية الهيغيلية المرحلة الثانية من الجدلية، مرحلة النفي، الذي يعرف في النظام الهيغيلي بـ "النقيضة" (antitesi)، التي هي السبيل الضروري للوصول إلى "التأليف" (sintesi).

عمليًا، بعد الانسلاب، الذي سمح للإنسان بأن ينظر وجهًا لوجه إلى عظمته، يجب على الإنسان أن يمسك بقبضته بخيوط وجوده، وألا يترك هذه العظمة خارج ذاته بل أن يتبناها في كيانه بالذات، وأن يعتبر ببساطة بألوهة بشريته، تمامًا كما اعترف سابقًا بالإله الذي تخيله خارج ذاته. يلخص فويرباخ بالذات هذه العملية الجدلية بالقول: "كان الله فكرتي الأولى، العقل فكرتي الثانية، والإنسان فكرتي الثالثة والأخيرة" (Feuerbach, Pensées diverses, citato in H. De Lubac, Le drame de l’humanisme athée, 27).

الإنسان ليس إلا مجموعة الصفات التي تشكل عظمة الإنسان. والإله المسيحي يشكل كمال هذا المفهوم، ولهذا لم يختبر الإنسان الإنسلاب بقدر ما اختبره في المسيحية، فهذه الأخيرة هي أسوأ الأديان لأنها أسماها وأعظمها (H. De Lubac, op. cit., 27). سر الله ليس إلا سر الإنسان الذي يضحي موضوعيًا ويسمح للإنسان أن يتبناه وأن يصل إلى "التأليف" في ذاته ومن أجل ذاته (sintesi in sé e per sé)، بعد أن اغتنى من مثلث الجدلية الذي جعله يخرج من الدين الطبيعي الحلولي (panteista)، ليمر بمرحلة الدين الذي يؤمن بأله شخصاني، فيصل أخيرًا إلى الأنسية حيث لا إله إلا الإنسان، أو بكلمات فويرباخ "الإنسان هو إله الإنسان" (Homo homini Deus) (L. Feuerbach, L’essenza del cristianesimo, Milano 1971, 27).

خلاصة

إذا ما نظرنا إلى نظام فويرباخ، لا يمكننا إلا أن نُعجب بحبه لتحرير الإنسان ولتحقيق كيانه بالكامل. فهو يقدم المسودة الأولى لما نود أن نسميه "أقصوصة التقدم الكبرى". ويلخص الكاردينال دو لوباك بشكل جيد نية فويرباخ الذي يقول أن "لكي لا نضحي بالحب لأجل الله، لا بد أن نضحي بالله لأجل الحب" (H. De Lubac, op. cit., 29; Cf. L. Feuerbach, L’essenza del cristianesimo, 73).

بالواقع، كما سبق ورأينا في نظرتنا في مقالة سابقة إلى العقل العملي الكانطي، وإلى اختزال الدين بالأخلاقيات السبينوزية، كذلك في فويرباخ نرى أن "المبدأ الذي يلخص حقيقة الدين هو مبدأ الفعل الملموس: إنها شريعة المحبة، التي تسلب الشخص من ذاته لترغمه على إيجاد الشركة مع أشقائه" (L. Feuerbach, L’essenza del cristianesimo, 35ss).

هذا العرض الموضوعي لنظرة فويرباخ أراد أن يكون نقلاً أمينًا للغضب العارم في قلب فويرباخ نحو دين وإله، بحسب نظرته، حرم الإنسان من ألوهته. وهذه النظرة، التي لا يقبل بها أي مؤمن تعمق في إيمانه، هي تعبير بليغ عن "سوء الفهم" الذي يتحدث عنه دو لوباك في تقديمه لمأساة الإلحاد المعاصر، حيث الإله الذي كان مصدر رجاء وعامل تحرير، بات مصدر يأس وملل وأضحى نيره العذب نيرًا ثقيلاً على كاهل بشرية انسلبت عن ألوهتها الحقة في ألوهة خيالية. هذا التشديد والإصرار يجعلنا نشعر بأن هجوم فويرباخ على الدين وعلى المسيحية بشكل خاص ليس من نتاج العقل بقدر ما هو من نتاج المصورة. نحن بصدد إلحاد العاطفة أكثر منه أمام إلحاد العقل.

ولكن الدرب ما زال طويلاً قبل التوصل إلى نتائج تحليلية وافية. فقبل جذب خيوط الخلاصة، ما زال يترتب علينا استعراض فكر كارل ماركس وفريدريخ نيتشه.

ماركس: تعويض البشرية عن اجتماعيتها المنفية

فويرباخ كان، كما يشير اسمه "نهرًا من النار" اجتاحت نيراته – بحسب شهادات تاريخية – الكثير من النفوس. ولكن تلميذه الأهم على الإطلاق هو كارل ماركس. لم يعالج فويرباخ مواضيع اقتصادية، ومع ذلك، يمكننا بعدل أن نعتبره "الأب الروحي" للاشتراكية الماركسية (H. De Lubac, op. cit., 33). يكفينا أن نعرف أن ماركس يعتبر فويرباخ "لوثرًا آخر في تاريخ التحرر البشري".

ماركس هن إذًا الابن الروحي لفويرباخ، ولكن بينما سعى هذا الأخير إلى اكتشاف ركائز الانسلاب البشري في الدين، سلط ماركس اهتمامه على الانسلاب البشري في المجتمع. واهتم بشكل أقل بالموضوعات الفلسفية العامة، مركزًا على الواقع الاجتماعي. لقد نزع ماركس عن إنسان فويرباخ الهالة التي بدت كتصوف أنسي، لكي يراه في واقعه الاجتماعي والاقتصادي الخام.

بالنسبة لمؤلف "رأس المال"، الإنسان ليس كائنًا مجردًا، منعزلاً عن العالم. "الإنسان هو عالم الإنسان، هو الدولة، والمجتمع… والبؤس الديني يعبر عن البؤس الحقيقي، وعن الثورة ضد هذا البؤس الحقيقي. الدين هو صرخة البائس، وهو شعور عالم يفتقر إلى القلب، وهو أيضًا روح واقع خالٍ من الروحانية. بكلمة الدين هو أفيون الشعب" (K. Marx, Per la critica della filosofia del diritto di Hegel, citato da H. De Lubac, op. cit., 35).

انطلاقًا من هذه النظرة، يقدم ماركس مسودة لتقدم الإنسان في إطار متحرر ليس فقط من الدين، بل أيضًا من البورجوازية للوصول إلى الاشتراكية التي هي كبح لكل أشكال الانسلاب، إلهية كانت أو أرضية. في هذه الاشتراكية، الدين هو دين العمال، وهذا الدين هو "دون الله، لأنه يسعى إلى إعادة ترميم ألوهية الإنسان". بالنسبة لماركس "نقد الدين هو الشرط الأساسي لأي نقد آخر" (راجع كوستي بندلي، إله الإلحاد المعاصر، بيروت 1968، 3).

بكلمة أخرى، إلحاد ماركس هو إلحاد مبدأي وافتراضي (postulatorio). وهذا النقض التهديمي للدين هو باسم الإنسان ينطلق من مُسَلَّمَة مشتركة عند كل الملحدين محبي البشرية في العصر الحديث: لا بد من تدمير الله إذا ما أردنا بناء الإنسان؛ لا بد من قتل الله إذا ما أردنا قيامة الإنسان. فحيث هناك الله، يستحيل وجود الإنسان ووجود الحرية. يحمل ماركس شعلة الإنسان البروموتوييّ التي أطلقها فويرباخ ويضيف إليها عنصر "الإلحاد المناضل".

يصرح ماركس أن إلحاده المناضل هو مرحلة عابرة، وأن ديانته التي ستكون اللا-تديّن، ستضحي الديانة الوحيدة للشيوعية، ولن يعود هناك حاجة للنضال ضد الله، لأن عدم الإيمان به سيضحي أمرًا طبيعيًا للغاية، ولذا سيتخطى الإنسان معاداة الألوهة (anti-teismo)، وهو الرفض المناضل لله، ليصل إلى الإلحاد (a-teismo)، وهو رفض مسالم وطبيعي لله. وعليه فإن رفض ماركس لله هو ضروري ونافع لفترة من الزمن، وذلك لتربية وعي ثوري في الطبقة العاملة (Cf. P. Evdokimov, “L’amour fou de Dieu et le mystère de son silence", in L’amour fou de Dieu, Paris 1973, 16).

ولذا نلاحظ كيف أن ماركس يستعين بلازمة الانسلاب الديني التي يقدمها فويرباخ ليبين كيف أن هذا "الانسلاب" يُستخدم كـ "تعزية" في وسط بؤس العالم الحقيقي، فالدين هو "قلب عالم يفتقر إلى القلب"، وهو "الأفيون" الذي يخدّر الطبقة الكادحة لكي يحول دون ردة فعلها الثورية في وجه الظلم والانسلاب الاجتماعي. من هذا المنطلق، يضحي الدين الحارس لـ "بنية الخطيئة" التي هي استغلال الفقير. وفي هذا الأمر، لا يمكننا إلا أن نعترف بأن ماركس لم يخطئ بالكلية. فكم من الخبرات الدينية تتصور نفسها كخلاص من العالم، بدل أن تكون خلاصًا للعالم. كم من الأشخاص والجماعات تتمسك بالله انطلاقًا من نزعة هرطوقية مانوية تجعل من احتقار العالم والحياة شعارها. وما هذا إلا موقف يناهض منطق الله الذي يخلق ويرى الخليقة جيدة جدًا، ومنطق التجسد، حيث الله يخلص العالم، لا يخلص من العالم.

خطأ ماركس، بالنسبة لنظرتنا المسيحية هو التوسّل الإيديولوجي للنقد السليم، وتعميمه على كل الخبرات الدينية. خطأه الاجتماعي هو الخطأ النفسي الذي ارتكبه فرويد. فكما بنى فرويد نظرياته حول الدين كمرض عصاب انطلاقًا من خبراته مع أشخاص يعانون من العصاب ولا انطلاقًا من الشخصية والنفسية السليمة، كذلك ماركس بنى نقده للدين كعنصر تخدير وانسلاب، لا انطلاقًا من جوهر المسيحية بل انطلاقًا من ممارسة مغلوطة للمسيحية هي بالواقع نقيض هذه المسيحية عينها. فالمسيحية، بحسب الفهم العميق لرسالة يسوع المسيح هي "رسالة تحرير اجتماعي أيضًا" (راجع غوتيريز، ويوهان بابتيست ميتز). يكفينا النظر إلى بعض الأمثلة، مثل استنكار إشعيا أمام المحرقات التي تقدمها أيدٍ "ملطخة بالدماء"، فيقول باسم الرب: "ما فائدتي من كثرة ذبائحكم يقول الرب؟ قد شبعت من محرقات الكباش وشحم المسمنات وأصبح دم اكيران والحملان والتيوس لا يرضيني […] حين تبسطون أيديكم أحجب عيني عنكم وإن أكثرتم من الصلاة لا أستمع لكم لأن أيديكم مملوءة من الدماء. فأغتسلوا وتطهروا وأزيلوا شر أعمالكم من أمام عيني وكفوا عن الإساءة. تعلموا الإحسان والتمسوا الحق قوموا الظالم وأنصفوا اليتيم وحاموا عن الأرملة" (أش 1، 1. 15 – 17).

ويسوع يبدأ حياته العلنية معلنًا "التحرير": "أتى [يسوع] الناصرة حيث نشأ، ودخل الـمجمع يوم السبت على عادته، وقام ليقرأ. فدفع إليه سفر النبي أشعيا، ففتح السفر فوجد الـمكان المكتوب فيه: "روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر الفقراء وأرسلني لأعلن للمأسورين تخلية سبيلهم وللعميان عودة البصر إليهم وأفرج عن الـمظلومين وأعلن سنة رضا عند الرب". ثم طوى السفر فأعاده إلى الخادم وجلس. وكانت عيون أهل الـمجمع كلهم شاخصة إليه. فأخذ يقول لهم: "اليوم تمت هذه الآية بمسمع منكم"" (لو 4، 16 – 21؛ راجع أيضًا أش 61، 1 – 2؛ صف 2، 3) هذا دون أن ننسى نص "الدينونة الأخيرة" التي سترتكز على أعمال الرحمة العملية مثل إطعام الجياع، إلباس العراة،زيارة المساجين… (راجع مت 25). وإذا ما نظرنا إلى رسائل بولس رأينا العناية نفسها  بالفقراء واليتامى وبالكنائس الفقيرة. والأمر نفسه نجده في رسالة القديس يعقوب: "التدين الطاهر النقي عند الله الآب هو افتقاد الأيتام والأرامل في شدتهم" (يع 1، 27).

ولذا نرى أن ماركس يعاني من تأثير مفهوم مسبق مناهض للدين، وحكم مسبق عن الخبرة الدينية، إذ رأى أن تدمير الدين، كون هذا الأخير واقعًا خياليًا، هو شرط لا بد منه للتخلي عن الغبطة المزيفة للوصول إلى السعادة الحقة. يقول ماركس في كتابه "العائلة المقدسة": "تدمير الدين هو التمهيد لتدمير وادي الدموع الذي يسبغ على الدين هالته" (راجع كوستي بندلي، إله الإلحاد المعاصر، 14).

يقدم ماركس المادة كعنصر أول في عقيدة إيمانه. المادة أزلية، ديمانية بالكامل، وهي في تطور مستمر. والنزعة الأخيرة من جدلية المادة هي الكائن البشري. والإنسان العامل، في تطوره التاريخي، هو مدعو لاستخدام المادة الأولى لبناء العالم الاجتماعي المرتكز على الاقتصاد.

يجد الإلحاد الماركسي ركيزته في أعمدة ثلاثة، في أساطير ثلاث (I. Fuček, “Marxismo”, in R. Latourelle-R. Fisichella (edd.), Dizionario di teologia fondamentale, Assisi 1990, 687-688) تبين جوهر التبشير الماركسي، وحجج رجائه. فهو:

أنسي: له أهدافه الأنثروبولوجية المتمحورة حول الإنسان (antropologiche e antropocentriche). هدفه أن يجعل الإنسان أكثر استقلالية وحرية.

علمي: لأنه يزعم، باسم العلم، أن ينكر وجود الله واضعًا الأساس لمادية جدلية تطورية تلبس زيًا اصطناعيًا من العلمية. يكتب اللاهوتي الأرثوذكسي بافل أفدوكيموف معلقًا على هذا المزاعم الماركسية: "الماركسية تحل مشكلة الله دون أن تكون أبدًا قد عالجت هذه المشكلة، وتستبدله بقانون إيمانها: ‘أنا أؤمن بالمادة المكتفية بذاتها، اللامتناهية، غير المخلوقة، والتي تتحرك بحركة أزلية‘؛ فلسفيًا، إن فكرة التحرك الذاتي (automouvement) هي من أسخف الأفكار الفلسفية الخاطئة".

اجتماعي: لأنه يريد الكلام عن العدالة، كثورة ضد الاستغلال، ضد الفقر وضد كل أنواع الكبح الاجتماعي. يبشر ماركس بخلاص اجتماعي يريد أن ينقل وعد الخلاص في الآخرة إلى الحياة الحاضرة.

إذا ما أردنا أن نختصر المسيرة التي قمنا بها حتى الآن نقول أنه بعد أن وضع فويرباخ ركائز سرده في أسطورة ألوهة الإنسان، ترجم ماركس نتائج هذا الاعتبار في السرد الاجتماعي. تلبس أسطورة التقدم مع ماركس حلة تفاؤل تاريخي فردوسي مصبوغ بلكنة دينية، وعتبة هذا الفردوس كانت المطهر الفويرباخي (H. De Lubac, op. cit., 39). وكما في فويرباخ، نجد في سطور ماركس رفضًا مسبقًا (a priori) للدين، رفضًا لا منطقيًا بل إيديولوجيًا، وليد صورة جريحة عن الدين، ومرة أخرى نعي أن حوارنا مع الإلحاد يجب أن يبنى لا على الجدل المنطقي بل على التوعية لجراح المصورة الدينية التي تحتاج البلسمة والتطهير.

نيتشه: تعويض البشرية عن حياتها المنفية

الشخصية الثالثة التي نعتبرها في تحليلنا للإلحاد الأنسي هو فريدريخ نيتشه. إن مؤلف "هكذا قال زاردشت" هو شخصية مليئة بالتناقضات الحياتية والفكرية إذ ينتمي في آن إلى الحداثة وما بعد الحداثة: فأحيانًا هو أنسي متفائل، وأحيانًا أخرى هو شاهد فذ لفشل المشروع الأنسي. يبشر نيتشه بتقدم البشرية نحو "الإنسان المتفوق"، ويعيش في الوقت عينه خيبة ما بعد الحداثة في اعترافه بفشل مشروع التقدم. ومن هذا المنطلق يدعو نيتشه الإنسان إلى اعتناق عدميته وإلى عدم خلق إله ليخلص وجوده المنعدم جوهريًا.

في صرخته "الله مات"، التي يرددها على لسان المجنون في "المعرفة الجذلة" (Die fröhliche Wissenschaft)، يعرب نيتشه عن إدراكه أن البشرية، من خلال قتل الله، "قد محت الأفق باسفنجة"، وها هي الآن "تائهة دون وجهة" (Cf. F. Nietzsche, “La gaia Scienza”, in Opere 1882/1895, 1993, 121-2).

أما بالنسبة لنظرة نيتشه حول الله وحول نشأة فكرة الله، فهو يعتبر أن الدين ينشأ عن "ازدواجية نفسانية" حيث الله ليس إلا مرآة يرى فيه الإنسان انعكاس صورته. الإنسان، في محطات قوية وخاصة من حياته، يعي بشكل واضح "قوة" الحب الموجودة فيه، ولكن، بسبب الخوف من قدراته، لا يجرؤ أن ينسب إلى ذاته هذه القوة وهذا الحب، ويُسقِطه على كائن فائق الطبيعة، وهنا تنشأ الإزدواجية النفسانية حيث ينسب الإنسان إلى ذاته كل ما هو بائس وحقير، ويُسقط على الله كل ما هو سامٍ ورائع (H. De Lubac, op. cit., 42).

هناك مفارقة في فهم نيتشه للعلاقة بين الدين والحياة، فمن ناحية يصرح بأن الدين – مع الميتافيزيقا [الماورائيات] والأخلاق والعلم – ليس إلا "أكذوبة" تساعدنا على "الإيمان بالحياة". الدين بالنسبة لنيتشه هو خليقة الإنسان وثمرة "إرادته الفنية، الإرادة الكاذبة، ورغبة الهرب من الحقيقة، ورفض الحقيقة" (Cf. F. Nietzsche, “La volontà di potenza”, in Opere 1882/1895, 1993, 1041)، يبتكره الإنسانُ لكي يستطيع أن يبقى على قيد الحياة في ظل تفاهة وعدمية الوجود.

ولكن من ناحية أخرى، يعتبر نيتشه أن مفهوم الله قد ابتكر "ضد مفهوم الحياة، فهو يتضمن الخلاصة المريعة لكل ما هو مضر، وَسَام، وكل الأخلاق المعادية للحياة" (F. Nietzsche, “Ecce homo”, in Opere 1882/1895, 1993, 898). لذا، ومن باب الترتيب المنهجي، يمكننا أن نرى في شذرات كتابات نيتشه تطورًا جدليًا في مرحلتين:

المرحلة الأولى هي عندما يخلق الإنسان الدين لكي يجعل الحياة ممكنة: يعتبر نيتشه أن الإنسان لا يتحلى بشجاعة مواجهة الحياة في وحدة الموحشة، ولهذا يخلق الله؛ ومن هذا المنطلق نجد ربطًا حميمًا بين الله والحياة (الحياة في هذا الإطار هي مجرد بقاء على قيد الحياة، وعدم الانتحار):

"الله ضروري، ولهذا يجب أن يكون موجودًا.

ولكنه ليس موجودًا.

لذا تستحيل الحياة" (F. Nietzsche, “La volontà di potenza”, op. cit., 1012)

المرحلة الثانية تتألف من أن الإنسان يستخدم الدين لكي يخزن فيها كل ما هو "مناهض للحياة" ومناهض للغرائز. وبالتالي يجعل الحياة غير ممكنة. باسم الله، يفرض المرء على ذاته نهجًا أخلاقيًا غير إنساني يفرغ الإنسان من غرائزه. وفي المسيحية يبلغ إفراغ الإنسان لذاته لصالح الله ذروته. وهنا نلاحظ كيف أن نيتشه يعرض بشكل معكوس مفهوم إفراغ الذات أو إخلاء الذات (kenosis) الكريستولوجي والمسيحي (راجع فيل 2، 7) مصرحًا أن في الواقع ليس الله هو من يخلي ذاته لأجل الإنسان، بل هو الإنسان الذي يفرغ ذاته "آخذًا صورة العبد" (فيل 2، 7). والمسيحية هي قمة الانحطاط لأنها علمت البشر أن يحتقروا الغرائز الحياتية الأولية؛ وابتكرت "خدعة وجود نفسٍ وروحٍ لكي تدنس الجسد"، وعلّمت البشر أن يروا "أمورًا دنسة في أصول الحياة والجنس، وسعت إلى جعل مبدأ ضرورة النمو، ومبدأ الأنانية الصارمة (والكلمة عينها باتت تشهيرية!) مبدأ الشر". وبالمقابل، بحسب تحليل نيتشه، اعتبرت المسيحية "قيمًا سميا مواجهة الغرائز… واللامبالاة (اللاهوى)، وفقدان الثقل، وامّحاء الشخصية، وحب القريب" الذي يعتبره نيتشه "مرض القريب".

إن أخلاق التضحية والإماتة المسيحية بالنسبة لنيتشه هي "أخلاق الانحطاط". فهذه الأخلاق هي "من نتاج فرط حساسية البؤساء، التواقون إلى الانتقام من الحياة".

إذا ما قارنّا نظرة نيتشه إلى نظرة الفيلسوفين اللذين استعرضناهما آنفًا (فويرباخ وماركس)، نرى أنه يقوم بخطوة أخرى إلى الأمام: فهذان الأخيران يحاربان الدين ولكن من منطلق نظري، ويحفظان من إرث الدين التعاضد و "حب الإنسان". أما مع نيتشه فنجد ذواتنا في ثورة أكثر جذرية وأكثر غضبًا؛ فهو لا يثور على إله المسيحيين وحسب، بل أيضًا على كل الإرث الأخلاقي الذي خلفته المسيحية، ويبشر بـ "الإنسان المتفوق" (Übermensch) الذي لا يعيش من أخلاقيات "قطيع النعاج"، بل من أخلاقيات الأسود، أخلاق القوة والسلطان.

هذا ويضع نيتشه مسودة يحاول معها أن يعيد أواصر "خطوبة" الإنسان مع العالم، الذي كان قد طلقه إثر الحرب الرابحة التي خاضتها المسيحية ضد التكريم الوثني للكون (Cf. K. Löwith, Dio uomo mondo da Cartesio a Nietzsche, Napoli 19662, 103).

بالواقع، إن مقولة "الله قد مات" الشهيرة، ليست، في فكر نيتشه، نظرية ماورائية بل هي عملية طبيعية يموت فيها الله لأن البشر يكفّون عن تغذية وجوده في ضمائرهم. سيحوز العالم بيئته الحياتية، وبشكل طبيعي وعفوي، لن يعود هناك مكان لله، لأن الله – بحسب نيتشه – هو إله الميتافيزيقا، إله الأدبيين، وإله المسيحيين؛ وهذا الإله هو خاسر طبعًا يستحق الموت لكي يفسح للإنسان الديونيزي أن يشعر بنبض الحياة، وبرعشة المغامرة.

موت الله هو إلى حد ما "فجر"، فخبر موت "الله العجوز" ليس مدعاة للكآبة أو اليأس بل هو بالنسبة لنيتشه خبرة جذلة تشابه انسياب خيوط النور في فجر جديد". خبر الموت هذا هو بشرى سارة "تملأ القلب عرفانًا، ودهشة، وتوقعًا وانتظار". فالأفق، بعد أن زال وجه الله "يظهر لنا حرًا من جديد"، و "تستطيع سفننا أخيرًا أن تبحر متحملة وقر المجازفة؛ باتت كل أشكال مجازفة المعرفة ممكنة، والبحر، بحرنا هو مفتوح أمامنا من جديد، إن بحرًا مثل هذا ربما لم يوجد من قبل قط"(F. Nietzsche, “La gaia Scienza”, op. cit., 172).

نلمس في هذا المقطع من "المعرفة الجذلة" الحبور الذي يتوقعه نيتشه من إدراك البشر أخيرًا أن الله قد مات. فهذا الموت هو مرادف لانفتاح على الحياة، على اعتراف بالعالم وتبحر في معرفته، وأيضًا قبول تسليم الإنسان لوحشة خطيرة خالية من الدين والأخلاق (راجع: I. Sanna, L’antropologia cristiana tra modernità e postmodernità, Brescia 20043, 162). هذه الوحشة الدينية والأخلاقية تتطلب من الإنسان نضج اعتناق شظف وفراغ الحياة دون أن يحتاج إلى الارتماء في أحضان إله تعزية مزيف.

نحن بصدد "اعتزاز وتفاخر الإنسان، إنسان المتفوق الذي يقتل الله: "ما تسمونه أنتم عالمًا، يجب عليكم أن تخلقوه أولاً… لو كان هناك آلهة، كيف لي أن أتحمل ألا أكون إلهًا ؟ لذا ليس هناك آلهة… الله هو فرضية؛ ولكن من يستطيع أن يشرب كل ضيق هذه الفرضية دون أن يموت؟… الله فكرة تلوي كل ما كان مستقيمًا وتهز دعائم كل ما يقف بقدرته الذاتية" (F. Nietzsche, “Così parlò Zarathustra.  Un libro per tutto e per nessuno”, in Opere VI/I, Milano 19864, 100, citato da I. Sanna, op. cit., 163).

"ديونيسيوس ضد المصلوب": هكذا ينهي نيتشه كتابه "هوذا الإنسان" (Ecce Homo)؛ يفضل أن يموت الله لكي يعيش الإنسان (F. Nietzsche, “Ecce homo”, op. cit., 1993, 899).

لقد غيّر ديكارت فلسفيًا هيكلية العلاقة بين الإنسان والله، وحوّل كانط معنى هذه العلاقة، أما نيتشه، فقد قام بخطوة أبعد من كليها إذ نفى هذه العلاقة ودمرها. لقد أزال نيتشه الله من صيغة الأدبيات البشرية وحمل الحداثة إلى أقصى نتائجها المتطرفة.

إن نفعية فكرة الله التي قدمتها الحداثة تهدف "إلى تأليه الإنسان. وهذا الأمر كان ممكنًا إما من خلال جعل الإنسان كمرحلة من مراحل صيرورة الله (سبينوزا) أو من خلال جعل الله مرحلة من مراحل صيرورة الإنسان (فويرباخ)" (Cf. W. Kasper, “Autonomia e Teonomia.  Sulla collocazione del cristianesimo nel mondo moderno”, in Teologia e Chiesa, Brescia 1989, 168). ونيتشه يقود أفكار فويرباخ إلى خلاصاتها القصوى: فيصرح مع فويرباخ أن الله هو إسقاط، هو خليقة المخيلة على صورة الإنسان، ولكنه يضيف أيضًا: إذا كان بإمكان الإنسان أن يخلق الله، فهذا يعني أنه يستطيع أن يقتله، أن يفنيه!

لهذا نفهم لماذا يشكل "موت الله" محطة أساسية في مسيرة "الإنسان المتفوق": فموت الله يرسم بدء تحقيق حرية الإنسان، وتسامي البشرية نحو التفوق.

ولا يغيب عن تحليل نيتشه حالة العدمية وفراغ المعنى التي يجد فيها الإنسان ذاته إثر موت الله. ولكن بدل أن تكون هذه العدمية حالة كآبة، يعتبرها نيتشه حالة "جذل" وحبور، فالعدمية الناتجة عن موت الله هي عدمية الأقوياء الذين يقبلون الحياة بواقعيتها، مع أنوارها وظلالها. في هذه النظرة، الله ليس ضروريًا لا أنطولوجيًا (ديكارت) ولا أخلاقيًا (كانط): الله منسي ولا نفع له، ببساطة…

خاتمة: كم من ملحد ينكر إلهًا يسبقه على إنكاره المسيحيون بالذات

نصل إلى ختام مقالتنا ولا بد أن نتوقف لحصاد بعض الخلاصات بعض استعراض ربما بدا قاحلاً وتكنيكيًا. لقد حرصنا على النظر بموضوعية إلى فكر الفلاسفة الثلاثة الذين اعتبرناهم، وبالتالي كان عدلاً أن نقدم فكرهم بطريقة لائقة دون الإجحاف بحقهم وبحق ذكائهم ومسيرتهم من خلال عرض ساخر أو متحيز.

كما سبق وأشرنا هذه المقالة تأتي كمتابعة لسابقتها (الأسطورة المنطقية). وقد لاحظنا في إطار هذا التحليل لأسطورة التقدم الأفقي تحولاً في جدول الأولويات والأهداف: فبينما نشأ نقد العقلية للدين باسم الحقيقة (verum)، جاء نفي الدين وإله المسيحيين في إطار نظريات التقدم باسم الخير (bonum)، خير البشرية، وباسم التعويض، وباسم تنوير أنسي (illuminismo umanista) يهدف إلى عتق الإنسان من ديكتاتورية الآلهة وتسليمه مفاتيح ملكوته الأنسي حتى يبني دينًا على صورته فمثاله.

سنقوم في مقالة مقبلة بتمييز روحي مدقق لنتائج ولمكنونات اقتراحات فويرباخ، ماركس ونيتشه، ولكن، في هذا المقام، نود أن نعرض بشكل ملخص نقطة التلاقي بينهم: يقوم الفلاسفة الثلاثة بإنكار الله معتبرين إياه "عدو الطبيعة البشرية"، أنثروبولوجيًا، اجتماعيًا وحيويًا (غرائزيًا).

يلاحظ اللاهوتي اليسوعي مايكل باكلي أن مفهوم "عدو الطبيعة البشرية" هو مشهور جدًا في التقليد الروحي (النسكي، الصوفي واللاهوتي) المسيحي، ويتم استعماله للإشارة إلى الشيطان (M.J. Buckley, Denying and disclosing God.  The ambiguous progress of modern atheism, New Haven 2004, 98).

بالعمق، لقد توصل هؤلاء الثلاثة إلى الاتفاق على التصريح بأن إله المسيحيين هو في نهاية المقام، الإله الشيطاني عدو الإنسان، لأن الشيطان هو معادٍ للبشرية. هذا ما يفهمنا أن هؤلاء الفلاسفة الثلاثة، آباء الإلحاد المعاصر – والذين يعيشون بالتالي في ‘جينات‘ الملحد المعاصر ومذاهب الإلحاد العملي والنظري الحالية – إنما يحملون في مخيلتهم وذهنهم صورة مشوهة عن الإله الحق "محب البشر" (philanthropos). وإذا ما اعتبرنا أن هؤلاء الفلاسفة ليسوا مجرد أشخاص مفردين بل ممثلي تيارات فكرية ووجودية متفشية، لا يمكننا إلا أن نقشعر بسبب تفشي نظرة مشوهة كهذه عن الله، إله يسوع المسيح. إن هذا الإله المعادي للبشرية هو إله ينكره المسيحيون قبلهم. ويصدق اللاهوتي خوان آرياس عندما يكتب كتابًا بعنوان "لا أؤمن بهذا الإله".

ولكن ما يجمع بين هؤلاء الفلاسفة أيضًا هو ثقة عمياء ولا محدودة في مقدرات الإنسان، ثقة قد تبدو لنا ساذجة. ولكنها كانت موقفًا منتشرًا في عصرهم، عصر الاكتشافات الجغرافية، والصناعية حيث بدا الأفق اللامتناهي غنيمة محببة وبسيطة أمام إنسان يعيش تقدم مضطرد نحو الأفضل. لقد ظن فلاسفتنا، لدى رؤيتهم قدرة الإنسان الخلاقة في حقول المادة أنه يستطيع أن يخلق معنى وجوده العميق. ولكن هذه الثورة الأنسية كانت حلمًا سبح في خيالاته رجالات نسوا "الصلاة والسحر".

لقد ظنوا أن إسهامهم سيصل أخيرًا إلى نشوة صيرورة الإنسان إلهًا للإنسان (homo homini deus) بحسب مقولة فويرباخ، ولكن التاريخ ضرب عرض الحائط هذا الوهم ومزقت شذراته الأحلام، واكتشفت الأجيال التالية من جديد أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان (homo homini lupus) بحسب مقول فيلسوف الاجتماع توماس هوبز.

بعد هذه المسيرة المطولة في ضمير الحداثة سنتوقف في مقالة مقبلة على التمييز الروحي لأسطورة التقدم الأفقي. كانت الغاية من هذه المقالة أن نسير نحو جذور حاضرنا، لكي نتمحص في وعوده، حتى نتمكن بشكل أفضل أن نعي أن قلبنا يتوق إلى أمر أعمق من التقدم الصناعي، أو التقني، أو التكنولوجي. هذه المقالة هي بمثابة فحص ضمير ومسيرة منهجية تربوية للإجابة على السؤال الأول الذي يطرحه الله على آدم في سفر التكوين: "أين أنت؟ (تك 3، 9) والسؤال الذي يطرحه يسوع في إنجيل يوحنا: "ما تطلبان؟"  (يو 1، 38؛ 18،4)، سؤالان ضروريان للوصول إلى الإجابة على السؤال الجوهري: "من تطلب [ين]" (يو 20، 15).

* * *

– روبير شعيب يعلم "الكريستولوجيا" و "مدخل إلى الفكر اللاهوتي الآبائي" في مدرسة الرسالة في فلورنسا إيطاليا، ويقوم حاليًا بكتابة أطروحة دكتورا في اللاهوت الأساسي في جامعة الغريغوريانا الحبرية في روما حول موضوع "حواس ومعنى الإيمان"، ويواظب في إيطاليا ولبنان على إلقاء محاضرات ذات طابع بيبلي، روحي ثقافي ولاهوتي