بندكتس السادس عشر لطلابه القدامى

"الشريعة، ككلمة محبة، لا تتناقض مع الحرية"

كاستل غاندولفو، إيطاليا، الخميس 17 سبتمبر 2009 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها بندكتس السادس عشر خلال القداس الذي أقامه في 30 أغسطس الماضي لمجموعة من تلاميذه السابقين. هذا النص نشرته دار الصحافة الفاتيكانية في 14 من سبتمبر الجاري.

***

إخوتي وأخواتي الأعزاء،

في الإنجيل، نصادف أحد أهم المواضيع في تاريخ البشرية الديني: مسألة طهارة الإنسان أمام الله. من خلال النظر إلى الله، يدرك الإنسان أنه "فاسد" وأنه في وضع يعيق وصوله إلى القدوس. وبالتالي يبرز السؤال عن كيفية أن يكون الإنسان طاهراً ويخلص نفسه من "الدنس" الذي يفصله عن الله. لذلك، وفي ديانات كثيرة، ظهرت شعائر تطهيرية – سبل تطهير روحية وجسدية. نجد في إنجيل اليوم شعائر تطهيرية متجذرة في تقليد العهد القديم، وإنما موهوبة من جانب واحد. وبالتالي، فإنها لم تعد تخدم في انفتاح الإنسان على الله، ولم تعد سبل تطهير وخلاص، بل أصبحت عناصر نظام مستقل من الأعمال يتطلب متخصصين ليتحقق بالكامل. لم يعد بلوغ قلب الإنسان ممكناً. فالإنسان الذي يسير ضمن هذا النظام إما يشعر بأنه مستعبد وإما يقع في كبرياء القدرة على تبرير نفسه.

إن التفسير المتحرر يقول أن هذا الإنجيل يظهر أن يسوع استبدل العبادة بالأخلاق – أنه وضع العبادة جانباً مع كل ممارستها العقيمة. إن العلاقة بين الإنسان والله باتت مبنية فقط على الأخلاق. وإن صح الأمر، فهذا يعني أن المسيحية هي أخلاق بجوهرها أي أننا بذاتنا نجعل أنفسنا أطهاراً وصالحين من خلال أعمالنا الأخلاقية. إن تعمقنا في التفكير في هذا الرأي، من البديهي أن ذلك لا يمكنه أن يشكل إجابة يسوع الكاملة عن سؤال الطهارة. لو أردنا سماع رسالة الرب وفهمها بالكامل، لا بد لنا من الإصغاء التام من غير الاكتفاء بتفصيل معين وإنما بالانتباه إلى رسالته كلها. بمعنى آخر، لا بد لنا من قراءة الإنجيل كله، قراءة العهدين القديم والجديد.

إن قراءة اليوم الأولى المأخوذة من سفر التثنية تعطينا جانباً مهماً عن الإجابة وتجعلنا نمضي قدماً. هنا نسمع أمراً لربما مفاجئاً لنا، وهو أن إسرائيل عينها مدعوة من قبل الرب لتكون شاكرة له وتشعر بالعزة المتواضعة لكونها تعلم مشيئة الله وتتمتع بالحكمة. ففي تلك الحقبة، كان العالم اليوناني والآخر السامي يبحثان عن الحكمة: كانا يبحثان عن فهم المسائل الهامة. فالعلم يزودنا بمعلومات كثيرة ويفيدنا في جوانب عديدة، لكن الحكمة هي معرفة المسألة الجوهرية – معرفة علة وجودنا وكيفية عيشنا فنعيش حياتنا بالطريقة المناسبة. تلفت القراءة المأخوذة من سفر التثنية إلى أن الحكمة في النهاية مطابقة للتوراة – لكلمة الله التي تكشف لنا الأمور الجوهرية، والتي يجب أن نعيش من أجلها وبموجبها. لذلك فإن الشريعة لا تبدو كاستعباد وإنما هي – شبيهة لما يرد في المزمور 119 – مصدر فرح كبير: إننا لا نتلمس طريقنا في الظلمة، ولا نسير عبثاً في رحلة بحثنا عن الصلاح. إننا لسنا بقطيع ضل طريقه لأنه من دون راعٍ. لقد أظهر الله نفسه. إنه بنفسه يدلني على الطريق. إننا نعلم مشيئته والحقيقة المهمة في حياتنا. يقول لنا الله أمرين: من جهة أنه أظهر نفسه ويرينا الطريق القويم، ومن جهة أخرى أن الله قريب منا يصغي إلينا، يستجيب لنا ويرشدنا. بذلك أيضاً، نلمس موضوع الطهارة: مشيئته تطهرنا، وقربه يرشدنا.

أعتقد أنه من المهم التفكير في فرح إسرائيل بمعرفة مشيئة الله ونيل هبة الحكمة التي تشفينا والتي لا نستطيع إيجادها بأنفسنا. هل يخيم بيننا اليوم في الكنيسة شعور فرح مماثل بمقربة الله وهبة كلمته؟ إن أي إنسان يتمنى إظهار شعور مماثل، سرعان ما يُتهم بنزعة الانتصار. مع ذلك، ليست قدرتنا الذاتية هي التي تحدد لنا مشيئة الله الحقيقية. إن هبة غير مستحقة هي التي تجعلنا متواضعين وفرحين في الوقت عينه. إن فكرنا في ارتباك العالم أمام مسائل الحاضر والمستقبل العظيمة، فلا بد من أن نمتلئ فرحاً لأن الله كشف لنا عن وجهه ومشيئته. إن ظهر هذا الفرح في نفوسنا، سيؤثر أيضاً في قلوب غير المؤمنين. من دون هذا الفرح، لا نكون مقنعين. مع ذلك، حيثما وجد هذا الفرح، تمتع بقدرة تبشيرية. وفي الواقع يطرح هذا السؤال في أنفس البشر: ألا يرشد هذا الفرح إلى اقتفاء أثر الله نفسه؟

كل ذلك يطرح في النص المأخوذ من رسالة يعقوب والذي تقترحه علينا الكنيسة اليوم. أحب رسالة يعقوب بخاصة لأننا نطلع بفضلها على تقوى عائلة يسوع. لقد كانت عائلة متدينة بمعنى أنها عاشت الفرح الوارد في سفر تثنية الاشتراع بفضل مقربة الله الموهوبة لنا في كلمته ووصاياه. إنه نوع من المراعاة التي تختلف تماماً عن تلك التي نجدها لدى الفريسيين في الإنجيل الذين جعلوا منها نظاماً باطنياً ومستعبِداً. إنه طقس مختلف عن ذاك الخاص ببولس، كحاخام، الذي تعلم: إنه طقس اختصاصي كان – كما نلاحظ في رسائله – يعرف كل الأمور، وكان فخوراً بمعرفته وعدالته، لكنه عانى من عبء الإرشادات، بحيث لم تعد الشريعة الدليل الفرح إلى الله لا بل ضرورة لا تتحقق.

في رسالة يعقوب، نجد هذه المراعاة التي لا تنظر إلى ذاتها وإنما تنظر إلى الله القريب الذي يمنحنا قربه ويرينا الاتجاه القويم. تتحدث رسالة يعقوب عن شريعة الحرية الكاملة وتعني بذلك فهماً جديداً وعميقاً للشريعة التي أعطانا إياها الرب. يعتبر يعقوب أن الشريعة ليست ضرورة تتطلب منا الكثير، وتقف أمامنا غير مكتفية أبداً. ويشير إلى وجهة النظر التي نجدها في جملة في كلمات يسوع الوداعية: "لا أسميكم عبيداً بعد، لأن العبد لا يطلعه سيده على ما يفعله. ولكني قد سميتكم أحباء لأني أطلعتكم على كل ما سمعته من أبي" (يو 15، 15).

إن من أُظهر له كل شيء ينتمي إلى العائلة. لم يعد عبداً وإنما حراً لأنه، في الواقع، فرد من هذه العائلة. هذا ما حصل لاسرائيل في فكر الله نفسه على جبل سيناء. حصلت بطريقة عظيمة وحاسمة في العلية، وبشكل عام، من خلال عمل يسوع وحياته وآلامه وقيامته. ففيه أعطانا الله كل شيء وأظهر لنا نفسه بالكامل. لم نعد عبيداً وإنما أصدقاءً. لم تعد الشريعة أمراً لغير الأحرار وإنما اتصالاً مع محبة الله – لنصير أفراداً من هذه العائلة، مما يحررنا ويجعلنا "كاملين". بهذا المعنى، يخبرنا يعقوب في قراءة اليوم أن الرب خلقنا من خلال كلمته التي غرسها في قلوبنا كقوة للحياة.

هنا يجري الحديث أيضاً عن "الديانة الطاهرة" التي تكمن في محبة القريب – وبخاصة محبة الأيتام والأرامل والمحتاجين إلينا – والابتعاد عن فساد العالم الذي يلوثنا.

إن الشريعة ككلمة محبة ليست نقيضة للحرية بل تجديداً لها من خلال الصداقة مع الله. يظهر أمر مماثل عندما يقول يسوع لتلاميذه في حديثه عن الكرمة: "أنتم الآن أنقياء بسبب الكلمة التي خاطبتكم بها" (يو 15، 3). ونرى الأمر عينه في الصلاة الكهنوتية: أنتم مقدسون بالحق (يو 17، 19). ترد الآن البنية السليمة لعملية التطهير والطهارة: لسنا نحن من نخلق الأشياء الجيدة – سيكون ذلك مجرد نزعة أخلاقية – وإنما الحق هو الذي يأتي للقائنا. إنه الحق بذاته. الطهارة هي حدث حواري. تبدأ بفعل أنه يأتي للقائنا – هو الحق والمحبة –، ويأخذنا بيدنا ويتحد بنا. بقدر ما نسمح لأنفسنا بالتأثر به، ويصبح اللقاء معه صداقة ومحبة، نكون بفعل طهارته أشخاصاً أنقياء، أشخاصاً نحب بمحبته، أشخاصاً نعرّف الآخرين على طهارته ومحبته.

لخص أغسطينوس كل هذه العملية بهذه العبارة الرائعة: "Da quod iubes et iube quod vis"  "امنح ما تأمر به واطلب ما تشاء".

نرغب الآن في رفع هذا التوسل إلى الرب والصلاة: أجل، طهرنا بالحق. أنت الحق الذي يطهرنا. فلنصبح من خلال صداقتنا معك أحراراً وأبناء الله بحق. امنحنا القدرة على الجلوس إلى مائدتك ونشر نور طهارتك وصلاحك في هذا العالم. آمين!

ترجمة وكالة زينيت العالمية

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2009