بكركي، الأحد 25 أكتوبر 2009 (Zenit.org).
ننشر في ما يلي العظة التي تلاها البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير أثناء القداس الاحتفالي الذي ترأسه في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي.
* * *
ليل الناصرة
ان النجّار يسوع، ابن يوسف ومريم، كان يسكن، تحت حكم طيباريوس قيصر ، قرية الناصرة التي لم يذكرها أي تاريخ والتي لا تأتي على ذكرها الكتب: وكانت تحتوي على بعض بيوت محفورة في صخرة التلّ، أمام سهل عسقلون. ولا تزال بقايا هذه المغاور قائمة. وقد خبّأت احداها هذا الطفل ، هذا الولد اليافع، هذا الرجل، الذي نشأ بين رجل عامل، والعذراء. وعاش في ذاك المكان ثلاثين سنة، ليس في صمت العبادة والمحبة: ظلّ يسوع في وسط عشيرته بين الأقاويل، والحسد، والمآسي الصغيرة التي كان محورها سلسلة الأقارب العديدين، والجليليين الأتقياء ، أعداء الرومان وهيرودس، والذين، بانتظار انتصار اسرائيل، كانوا يصعدون في مناسبة الأعياد الى القدس.
وكان هناك، منذ ابتداء حياته الخفية، اولئك الذين كانوا، يوم اجترح عجائبه الأولى، يقولون انّ به مسّا، ويريدون القاء القبض عليه. وان الانجيل يعطينا أسماءهم وهم: يعقوب، ويوسف، وسمعان، ويهوذا…والى أي حدّ كان يشابه جميع الأولاد الذين هم في سنّه، ان شكّ الناصريين يدلّ على ذلك ، عندما وعظ لأول مرّة في مجمعهم. ولم يصدّقوه وراحوا يقولون: "أفليس هو ابن النجّار ، ابن مريم؟ أوليس أخوته (أي أبناء عمه) هم فيما بيننا؟ " هكذا كان أبناء الجيران يتحدّثون عنه الذي رأوه يكبر ، أو الذين لعب معهم، والذين لا يزال ينفّذ أوامرهم: انه النجّار ، أو أحد النجّارين أو الثلاثة في القرية.
ومع ذلك، كسائر محلات النجارة في العالم ، ان هذا المحل في أحدى الساعات أصبح مظلما فأقفل بابه ونوافذه التي كانت تعطي على الشارع. وكان هؤلاء الثلاثة في الغرفة وحدهم يجلسون حول طاولة كان موضوعا عليها بعض الخبز.فالرجل اسمه يوسف، والمرأة اسمها مريم، والولد اسمه يسوع. ولاحقا، بعد أن غادر يوسف هذا العالم، ظلّ الآبن وامه أحدهما تجاه الآخر ينتظران.
ماذا عساهما كانا يقولان؟ "وكانت مريم تحفظ كل هذه الأشياء وتستعيدها في قلبها. وهذا النص هو من لوقا ، والثاني من الأنجيلي عينه. وكانت أمّه تحفظ كل هذه الأشياء في قلبها…." لا يبرهنان فقط أنه تقبّل من مريم كل ما كان يعرف عن طفولة المسيح. فهما ينفذان بخط من نار ظلمة هذه الحياة القائمة بين ثلاثة ، ثم بين اثنين، في حانوت النجّار.لا شك في أن المرأة لا يمكنها أن تنسى شيئا من السرّ الذي تمّ في جسدها ، ولكن مع مرّ السنين، التي حجبته دون أن تتحقق المواعيد التي أعلن عنها الملاك ، كان هناك من حوّل عنه تفكيرها لأن النبؤات كانت مبهمة ومخيفة.
قال جبرائيل " هوذا أنت تحبلين وتلدين ابنا وتدعينه يسوع . ويكون كبيرا ، ويدعى ابن العليّ وسيعطيه الرب الأله عرش داود أبيه. وسيملك الى الأبد على بيت يعقوب، ولن يكون لملكه انقضاء.
واذا بالولد قد أصبح يافعا ، شابا، رجلا، وذاك الجليلي المنكب على منضدة العمل. لم يكن كبيرا؛ لم يكن ليدعى ابن العليّ ، ولم يكن له عرش، ولكن مقعد خشبي صغير، قرب النار في مطبخ صغير، حقير. واليكم شهادة لوقا: وكانت مريم تحفظ هذه الأشياء وتستعيدها في قلبها .
كانت تحفظها في قلبها، دون أن تبوح بها حتى أمام ابنها ربما… ولم يكن هناك من حديث بينهما غير ممكن. وكانا يلفظان بالأرامية العادية كلمات الناس العاديين ، الكلمات التي تدلّ على الأشياء العادية ، مثل الأدوات، والطعام، ولم يكن هناك كلمات تدلّ على ما تمّ في هذه المرأة. وكانت العائلة تتأمّل في السرّ في سكوت. وان التأمّل في الأسرار قد ا بتدأ هناك، في ظل الناصرة حيث كان الثالوث يتنفّس.
على العين، في المغسل، من كانت العذراء تحمله على الظنّ أنها عذراء ، وأنها ولدت المسيح؟ ولكنها، لدى قيامها بهذه الأشغال، ما من شيء كان يحوّلها عن أن تستعرض في قلبها كنزها: سلام الملاك ، والكلمات التي فاه بها لأول مرّة: " السلام عليك، ياممتلئة نعمة الرب معك، مباركة أنت في النساء، وهذه ستتكرّر مليارات المرات الى أبد الآبدبن… وهذا، ان مريم الوضيعة كانت تعرفه ، هي التي كانت فريسة الروح القدس، قد تنبأت يوما أمام نسيبتها اليصابات:" ستطوّبني جميع الأجيال! "
بعد مضي عشرين سنة، ثلاثين سنة، هل كانت امّ النجار تعتقد أن الأجيال المقبلة ستطوّبها؟ وكانت تتذكّر الوقت الذي كانت فيه حبلى، وذاك السفر في البلدان الجبلية، في مدينة تدعى يهوذا. ودخلت بيت الكاهن زكريّا، الذي كان أخرس، وزوجته اليصابات.والولد الذي كانت هذه المرأة العجوز تحمله في أحشائها قد ارتجف فرحا، وهتفت اليصابات:" مباركة أنت في النساء"…"
بعد عشرين سنة، ثلاثين سنة، هل كانت مريم تعتقد أنها مباركة بين جميع النساء؟ ولم يحدُُُث شيئا، وماذا يمكنه أن يحدث لهذا العامل المتعب، لهذا اليهودي الذي لم يعد شابا ، والذي لا يعرف غير أن يصقل الألواح ويتأمّل في الكتاب المقدس، ويطيع ويصلّي؟
ان شاهدا واحدا بقي من بين الذين شهدوا ظهور الله منذ البدء، في ذاك الليل المبارك؟ أين كان الرعاة واؤلئك الرجا ل العلماء الخبراء بقضايا النجوم الآتون من وراء البحار ليعبدوا الصبي ؟ ان كل تاريخ هذا العالم بدا كأنه يخضع لأحكام الله الأبدي. واذا كان قيصر أمر بتعداد سكان الأمبراطورية والأراضي الخاضعة له كفلسطين في أيام هيرودس ، كان ذلك لكي يسير زوجان على الطريق التي تذهب من الناصرة الى القدس وبيت لحم ولأن ميخا كان قد تنبأ :" أنت يا بيت لحم افراتا، صغيرة في منزلتك بين أسباط يهوذا، منك سيولد ملك اسرائيل…".
وأمّ هذا العامل النجّار، التي أثقلتها الشيخوخة ، كانت تبحث في الظلام الحالك عن الملائكة الذين بعد أيام البشارة لم يفتأوا يملأون حياتها. وكانوا هم الذين، طوال ليلة الميلاد المقدسة، قد دلّوا الرعاة على طريق المغارة، ومن أعماق هذه الظلمات عينها، حيث كانت المحبة ( أي الطفل يسوع) ترتجف من البرد في مزود ، وعدوا الناس ذوي الأرادة الصالحة بالسلام على الأرض . وكان ملاك أيضا أمر يوسف في الحلم أن يأخذ الصبيّ وأمّه ويهرب بهما الى مصر من غضب هيرودس. … غير أنه بعد العودة الى الناصرة ، انغلقت السماء، وغاب الملائكة.
وكان يجب أن يترك ابن الله يختفي في عمق في جسد انسان. ومن سنة الى سنة، كان على أمّ النجارأن تظنّ أنها قد حلمت، لو لم تكن دائما في حضرة الآب والآبن ، وهي تستعيد مرّة ومّرتين في قلبها ما تمّ من شؤون.
الشيخ سمعان.
وكانت ربما تبذل جهدها لتحيد بفكرها عن أمر واحد من هذه الأحداث .كانت هناك كلمة لفظت في الهيكل كانت ربما في بعض الأحيان تواجه تجربة نسيانها. وفي اليوم الأربعين بعد ولادة الصبي ، عادا الى القدس لتذهب مريم لتتطهّر وتقدّم للرب هذا الولد الذكر الذي كان يخصّها كسائر اول المولودين وكان يجب أن يفتدوا بزوجي يمام. واذا بشيخ يدعى سمعان يأخذ الولد بيديه . وطار فرحا فجأة بالروح القدس وقال: ليتركه الرب يذهب بسلام لأن عينيه رأتا الخلاص، النور الذي ينير الأمم، مجد اسرائيل… ولكن لماذا أستدار هذا الشيخ والتفت الى مريم فجأة ؟ لماذ تنبّأ :" أمّا أنت فسيجوز سيف في نفسك" ؟
وهذه العبارة لم تتركها أبدا.: هذه العبارة، هذا السيف. دخلت فيها في تلك الساعة، وظلّت منغرسة فيه. لأنها كانت تعرف أنها لا يمكن أن تطال الاّ من خلآل ابنها، وأن كل ألم وكل فرح لا يأتيانها الاّ منه. ولذلك أن كل ما يستمر في مريم من ضعف بشري ربما كان مدعاة فرح لأن السنوات تمرّ دون أن تتبدّد ظلمة بيتهم الحقيروحياتهم الفقيرة. ولعلّها كانت تحلم بأنه ليس مطلوبا أكثر من هذا لحضور الذي يجهله العالم لخلاصه ،أكثر من هذا التكفين المجهول لاله في الجسد ، ولم يكن لها ما تخشاه غير سيف الألم من البقاء وحدها، بين الخلائق، شاهدة لهذا الحب الكبير.
2- الصبي بين العلماْء
وكانت حياة يسوع عادية، وشبيهة بحياة سائر الناس، بحيث ان لوقا فاخر في مستهلّ انجيله "بأنه اضطلع على كل شيء منذ الأصل" ولم يجد شيئا ينقله عن صبوّة المسيح سوى هذه الحادثة ، وهي أنه لدى ذهابهم الى القدس مع والديه، وكان الصبي لا يجاوز الثنتي عشرة سنة في مناسبة عيد الفصح: وعندما عادت مريم ويوسف الى الناصرة ،كان الصبي قد تركهما. فظنّا لأول وهلة أنه بقي مع الأقارب والمعارف وسارا من دونه طوال النهار. ثم أستبد بهما القلق. وبعد أن بحثا عنه دون جدوى طوال النهار لدى هذه أو تلك المجموعة، فعادا، قلقين جدّا، على أدراجهما. وظنّا، على مدى ثلا ثة أيام، أنهما فقداه، ودخلا القدس.
وعندما اكتشفاه أخيرا في الهيكل ، جالسا بين العلماء الذين سرّوا بكلامه ، فلم يفكّرا بمقاسمتهم العجب ووجهت اليه أمّه ، ربما لأول مرّة، تأنيبا بقولها له:" يا ابني ، لمذا فعلت معنا هكـذا ؟ لقد كنا نبحث عنك أنا وابوك معذّبين؟
ولأول مرّة، ، ان يسوع لم يجب كما كان يجب أن يجيب أي ولد آخر. ولم يجب بلهجة تلميذ المدرسة العادي. دون وقاحة، ولكن كما لو لم يكن له عمر، كما لو كان فوق عمره سألهما بدوره:
لماذا تطلبانني ؟ ألا تعرفان أنه ينبغي لي أن أكون في ما خصّ أبي ؟
كانا يعرفان ذلك ، دون أن يعرفا. وشهادة لوقا قاطعة: لم يفهم الوالدان ما قاله لهما الصبي ومريم، أمّ كسائر الأمّهات، تأكلتها الهموم، والهواجس… وأي أمّ تتدخل بسهولة في سرّ دعوة ؟ وأي أمّ في بعض الساعات، لا تجزع أمام هذا الكائن الذي يكبر والذي يعرف إلى أين يريد أن يذهب ؟ ، لكن هذه الأم المختارة ، المستنيرة منذ البدء، كانت تحفظ في قلبها ما لم تكن تلك المرأة البسيطة تفهمه . ومع ذلك، ان كلمات هذا الولد بدت لها قاسية. ان ابنها يسوع وجّه اليها عبارات عذبة، قبل الكلمات الاخيرة التي فاه بها على الصليب.
أيها الأخوة والأبناء الأعزّاء،
منذ أيام ووسائل الأعلام تتناقل موضوع تعيين موظّفين في بلدية بيروت ، وقد تعاقب على التصريح أشخاص ومسؤولون من فئة واحدة، فاننا نلفت نظر المعنيين الى أن أي تعيين لا يراعي التوازن الوطني سيكون له أثر سلبي على المواطنين.