الحوار الإسلامي- المسيحي ما بين القديس فرنسيس الأسيزي واليوم

جل الديب، الاثنين 07 ديسمبر 2009 (Zenit.org)

ننشر في ما يلي مداخلة أمين عام اللجنة الوطنية الإسلامية – المسيحية للحوار الأمير حارس شهاب ، التي ألقاها خلال المؤتمر الفرنسيسكاني العام في لبنان

يكثرُ الكلام في هذه الآونة عن الحوار الإسلامي – المسيحي، وتنعقد المؤتمرات المُتعدِّدة بِوَتيرة لا تتوقّف، وفي دُوَل مختلفة من العالم، حتى تلك التي نعتبرها غريبة عن العلاقات الإسلامية – المسيحية على أرض واقعها الديمغرافي، والكلّ يُدلي بِدَلوِهِ في الموضوع وعلى مستويات مُتباينة من المعرفة.

ولكنّه من المؤكّد، أن الكلّ يعتبر نفسه معنياً بِشَكل مباشر أو غير مُباشر بمستقبل هذه العلاقات بين أتباع الديانَتَين الذين يُشكِّلون نصف سكّان العالم. وعندما نستذكر التعددية التي أصبحت السِّمة المُشتركة عند كلّ المجتمعات تقريباً، نُدرك أهميّة هذه العلاقات وتأثيرها على مستقبل السلام العالمي.

ربما أصبح الحوار ومُنتَدياتُه سِلعة رائجة بل موضة، والموضة لها حقبات وفصول تمرّ بها وتَبطل، ثم تعود. ولكنّ الحوار يستمدّ رواجه من الحاجة إليه، فَبِدونِه يسود العنف وترجع المجتمعات إلى بَداءَتِها حيث كان الإنسان في علاقته مع جاره لا يتّكِل إلاّ على القوّة لتأكيد وجوده وحماية رزقه وعائلته.

نحن نعرف أنّ علاقتنا بالإسلام كثيراً ما مَرَّت بِمراحل سالَت فيها الدماء والكُلّ دفع الثمن، ولكننا كثيراً ما نُهمِل الصفحات المُشرقة البنّاءة في هذه العلاقة والتي عليها يجب أن نبني للأجيال الصاعدة مُستقبلاً يعيشون فيه في عالمنا هذا، في وطننا لبنان خصوصاً، ليس فقط جنباً إلى جنب، بَل كتِفاً إلى كَتِف ويَداً بيَد لمواجهة التحديات المشتركة التي تَعنينا  على حدٍّ سواء.

وهذه الصفحات المُشرقة لها جذورٌ ضاربة في عُمق التاريخ، حتى في فجر الإسلام الذي غزا في البدء المنطقة العربية حيث كانت المسيحية مُنتشرة بِقوّة، قبل أن يمتدَّ إلى العالم، ولا يمكن لأحد أن يغفل حوار النبي محمد مع مسيحيي نجران، ولكن شتّان بين الأمس واليوم مع التأكيد على وجود علامات  مُشجِّعة تشقّ طريقها وَلَو بصعوبة نَحو تَثبيت هذا الحوار لكي يأتي ثماراً تفيد منها الإنسانية جمعاء.

في زحمة هذا الحديث عن الحوار لا بدّ من وقفةِ تأمّل ونقدٍ، أين نحن منه ؟، أين أصبحنا وما هي آفاق المستقبل ؟، فالأسئلة تنصبّ : ما هي الأمور التي لم نَقُم بها وهل كان بالمُستطاع القيام بها ؟ إنّ ما جرى تطبيقه على الأرض لا يتناسب وحجم الأدبيّات التي صدرت عن المعنيّين بالعلاقات الإسلامية – المسيحية في كلّ أنحاء العالم، وهناك هُوَّة تفصل بينها وبين المَعيوش اليومي. كلام الطاولات لم يَنْزل إلى ارض الواقع والزَّرْع لم ينبُت بعد، والشعور أنّ واقِعها يتأرجح ما بين التراجع والمراوحة في افضل الأحوال، خصوصاً عند المسيحيين، فهذا الشعور يُرافقه كذلك شعور آخر بأنّ طريق الحوار إنّما هو طريق الخطّ الواحد، ذات الاتجاه الواحد، وأنّ المسيحيين قدّموا أكثر بكثير ممّا حصلوا عليه بالمقابِل، فالمعاملة بالمِثل غير مُتكافِئة على الإطلاق. ولكن لا يجب أن نُقلِّل من أهميّة ما جرى تحقيقه من قِبل بعض الأنظمة العربية من خطوات إيجابيّة، تُشكِّل نقلةً نوعيّة مُقارنةً بما كانت عليه الحالُ سابقاً، وعلينا ألاّ نستعجل الأمور فالأنظمة لا تمتلك القدرة الكافية لتُطبِّق ما تُريد تحقيقه، فالوَعي الشعبيّ لا يتناسب مع الرغبة بالتغيير، ومردُّ ذلك في أكثر الأحيان،  إلى جَهل حقيقة موقف الدين الإسلامي من المسيحية. هناك حاجة إلى التركيز على شرح هذا الموقف من قِبل المرجعيّات الدينية الإسلامية، وكلّ تلك الأمور تُرتِّب علينا مسؤولية إضافية، لا بُدّ من تحمّل أعبائها لأنّ هذه رسالتنا في العيش معاً.

لا أحد يتحدّث عن الحوار دون أن يذكر روح أسيزي  L\’Esprit d\’Assise وهي العبارة التي أطلقها البابا الراحل يوحنا بولس الثاني في 27 تشرين الأول 1986 في خطوته الجبّارة في الانفتاح على الديانات الأخرى. لقد أصبحت روح أسيزي مُلهِمةً لنا كلّنا وهي تأخذنا بعيداً في التاريخ إلى القديس فرنسيس الأسيزي مؤسِّس الرهبانية الفرنسيسكانية، هذه الرهبانية التي ندين لها في لبنان بالكثير الكثير لِعطاءاتها المُتعدِّدة في شتى الحقول والتي أعطت في الماضي ولا تَزال رهباناً قدّيسين نَذروا أنفسهم لِخدمة الشعب، لا سيّما المُحتاج طِبقاً لِتعاليم المسيح، ولَنا من الطوباوي الأب يعقوب، مؤسِّس جمعيّة راهبات الصليب، ورَهبنة مار فرنسيس للعِلمانيين، في حياته وخصوصاً في عَملِه في حَقل الربّ ، خيرُ دليلٍ على ذلك.

نعود إلى العام 1219 وكانت الحرب تدور رحاها بين جيوش الفَرنجة وجيوش المُسلمين. ورغم احتدام المعركة ذهب القديس فرنسيس مع رفيق دربه، المُنوّر، لِمقابلة السلطان الأيوبي الكامل مُتسلِّحاً بإيمانه وحاملاً كلمة المسيح.

طبّق القديس فرنسيس في حواره مع السلطان عدداً من المبادئ شَدَّد عليها في ما بعد في قانونه الرهباني، فذهب إلى السلطان وهو ابن أخ صلاح الدين الأيوبي، وناقشه في الدين بمحبّة وتواضع ولكن بصلابة الإيمان كذلك، دون مجاملة وخطاب محاباة، كالكثير ممّا يُمارس حالياً. حدّثه دون عنف أو شجار ولا تعالٍ، فالمسيح علّمنا التواضع أيضاً، والصليب هو رمز التضحية، وقد لَقِيَ بدوره لدى القائد المُسلِم كلّ انفتاح وتسامح. وتجربة القديس فرنسيس دفعته إلى أن يخصّ العلاقة بين الرهبان والمسلمين إذا ما رَغِبوا بالعيش بينهم، ببعضٍ من تعاليمه فيعاملونهم بمحبّة وتقدير واحترام، ويحافظون بذلك على الوجود المسيحي في الشرق، وهذا ما فعله أعضاء الرهبانية منذ القِدَم وحتى يومنا هذا، فالعلاقات الإنسانية السليمة تؤسِّس لتحقيق هدفٍ روحي سليم وسامٍ، ولعلاقات تضامن وتكامل بين أفراد المجتمع مهما كانت انتماءاتهم الدينيّة.

أين نحن اليوم من المبادئ الأسيزيّة على ضوء التساؤلات التي يطرحها مسيحيّو الشرق وهم أبناء أصيلون لِهذه المنطقة العربيّة التي نفتخر بالانتماء إليها. إنّ الحضور المسيحي في لبنان خصوصاً والعالم العربي عموماً، هو علامة الغنى الروحي والحضاري الذي يميز شرقنا وعلى مثول الله في حياتنا. والمسيحيون هم في صلب مجتمعاتهم ليسوا خارجها ولا على هامشها، إنّهم جزءٌ مُكوِّن من هذا الشرق وهم يأبون أن يكونوا محشورين بين نقيضين: الزوال أو الانعزال.

إنّ المسيحيين في منطقة الشرق الأوسط ألفوا ذواتهم بين مقولتين: الأمة الإسلامية، والقومية العربية. وإذا كانت الأولى قد غربتهم وصنّفتهم بما ليسوا فيه ومنه، فإنّ الثانية التي ميّزت نظرياً بين الانتماء القومي والديني، لم تتمكن من التحرر من الإسقاطات التيوقراطية، ممّا أشكل عليها فتعثرت لاهثة بين الأسلمة والعلمانية. وذلك في وقت لا يمكن للمسيحيين فيه أن يكونوا في عزلة عما يحيط بهم في بلدانهم، فهناك منظومة من التحديات تمثل أمامهم وعليهم مواجهتها،  ومنها : التراث، الحداثة، الوحدة في التنوع والتنوع ضمن الوحدة، الهويّة، المواطنة، صوغ رؤية جديدة لعلاقة الدين بالمجتمع، العدالة، الحريات العامة، حقوق الإنسان وسواها من المسائل العضوية التي تساهم في إحداث تغيير جذري في المفاهيم عبر ارتقاء وتطور تدريجيين. ولا بدّ لنا من التنويه بخطوة إيجابية تتعلق بالحرية الدينيّة، وهي سماح السلطات بتشييد عددٍ من الكنائس في منطقة الخليج العربي، ممّا يُشكِّل انفتاحاً كبيراً ذا مردودٍ عالٍ في حياة الفرد والمجتمع.

لقد عاد الدين إلى الشأن العام بعدما حاول الغرب إقصاءه من خلال الفصل بين الدين والدولة واعتماد العلمنة. لقد أصبح اليوم على أيّ دولة أن تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الدينية في الكثير من الحقول، لا سيما الثقافية والاجتماعية والتربوية منها والتي تهدف إلى خدمة الخير العام والتزام مبادئ العدالة والمحبة في مقاربة المعضلات التي تواجهنا. وقد تزامن هذا التبدّل مع بروزٍ للحركات الأصولية وللتطرّف المستظلّ بالدين والرافض للحوار ولقبول الآخر ممّا يُهَدِّد العلاقات الإنسانية، ويقود حتماً إلى الصراع. لقد أصبح لزاماً علينا أن نُبلور رؤية مشتركة إسلامية – مسيحية تستشرف آفاقاً يتمّ فيها استئصال روح التعصّب والطائفية ، وتشجّع على العمل لتحقيق أهداف مشتركة تُسهم في قيام دول الحق من خلال أنظمة تؤمّن العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.

إنّ أيّ عمل في موضوع العلاقات الإسلامية –  المسيحية يجب أن ينطلق من حقيقة ما نختبره في مجتمعاتنا، كي تأتي الأفكار التي نتوصّل إلى بلورتها في سبيل استشراف المستقبل مبنيّة على المشهد الآنيّ، آخذين بالاعتبار أيضاً الذاكرة المُشتركة وضرورة تنقيتها من ترسّبات الماضي، فلا يكون الفكر في وادٍ والواقع في وادٍ آخر حتى ولو كان هذا الواقع مريراً، إذ أنّ الحقيقة كفيلة بالتحرير من الكثير من العقد، وهي مختلفة بين دولة عربية وأخرى.

اللافت أن المسيحيين في العالم العربي هم في  تراجع ديموغرافي مستمرّ، على الرغم من أنهم كانوا وما زالوا جزءاً أساسياً مُكوِّناًَ لهذه  المنطقة التي ولدوا فيها وعاشوا، والتصقوا بأرضها، فشاركوا في صنع تاريخها ويُصرّون على المشاركة اليوم في صنع حاضِرها ومستقبلها. ومن ينكر على المؤسسات الكنسية مثلاً الدور الباني والكبير الذي اضطلعت به في النهضة التي شكلت بداية التاريخ العربي الحديث منذ أوائل القرن التاسع عشر وحفظت لغة الضاد في أديرتها، وحالت دون اندثارها، فأحيتها.

إنّ لبنان مكوّن من ثمانيـة عشر طائفة،  وروح الدستـور أن لا تُـلغي الدولة الطوائف وتبتلعها، كما لا تُحاول هذه الأخيرة أن تُسَيّـس الدين. لقد طوّر اللبنانيّون من خلال عيشِهم الواحد أفكاراً مُتقدّمة في الحوار والديمقراطيّة مع نزعة قويّة ومُستمرّة إلى الحريّة والتمسّك بها في مظاهرها المُختلفة.

لقد اكتسبنا خبرة طويلة في مجال الحوار الإسلامي – المسيحي تدفعُنا إلى حمله كمشروع بديل إلى عالم يبحث عن محاور صراع جديدة، حيث تتّجه الأنظار إلى مجابهة محتملة بين المسيحية والإسلام إذا لم تتضافر الجهود لدرء هذا الخطر الذي يُطلّ برأسه من خلال موجات التطرف والتعصب.

إنّ دور المسيحيين في لبنان اليوم كما في غيره من الدول العربية  يكمن أولاً في مواجهة حملة تشويه الإسلام وبالتالي  تغيير الصور النمطية الشائعة ، والمساهمة ثانياًً في جعل بلدهم منارةً لنهضةٍ عربيّة جديدة ومُلحّة تُخرج منطقتنا من حالة الإرتباك في القرار الذي أوصلها إلى المأزق الواقعة فيه. ولكنّّ هذا الدور يرتبط بأوضاعهم الداخلية  إذ لا يُعقل أن يُطلب منهم تأديته إذا كانوا في حالة ضغط ومعاناة وقلق على مستقبلهم.

أصبح من المُلِحّ أن تتوقف هجرة المسيحيين، وهي لا يمكن أن تُفَسَّر بأسبابٍ اقتصادية فقط، وإلاّ لكانت طالَت جميع فئات المجتمع وبالنِسب ذاتها تقريباٍ، بدلاً من أن تطال فئة واحدة فقط. والإنسان لا يتخلّى طواعيةً عن وطنه وتُراثه وعائلته ومحيطه الذي نشأ وتربّى فيه، لكي يذهب إلى البلاد البعيدة في غُربةٍ موحِشة مهما كانت مخمليّة. وإنه لَمِن المفارقات الغريبة أن ينقرض الوجود المسيحي في المنطقة التي شهدت ولادة المسيحية، بينما نرى معظم الديانات تنتشر وتزدهر في البقعة التي شهدت فيها النور. ولم يعد قول إنّ طمأنة المسيحيين هي مسؤولية المسلمين، فهذه الطمأنة يجب أن تأتي عن طريق قيام دُوَل تتعاطى مع مواطنيها من خلال أنظمة تؤمِّن العدالة والمساواة للجميع، فحينذاك فقط تستقيم الأمور.