الهي الهي لماذا تركتني؟ – 9

 

للأب هاني باخوم

 

نائب مدير اكليريكة امّ الفادي في لبنان

 

وحملت هاجر وولدت ابناًُ وسمّاه ابراهيم اسماعيل، اي "الرّبّ استمع لي". نعم، هكذا سمّاه ابراهيم "الرّبّ استمع لي"، لانّ الرّبّ استمع، لكن لمن؟

 عندما حملت هاجر من ابراهيم، هانَت سَيِّدتُها في عَينَيها (تك 16: 4). كلمة "هانَت" هي التّرجمة لتعبير عبري معناه الحرفي "فقدت قيمتها عندها"، اي فقدت مكانتها الّتي كانت عليها من قبل. عندما حملت هاجر، لم تعد تنظر الى ساراي، ومعنى اسمها "السّيّدة"، كسيّدة. وهذا ما جرح ساراي كثيراً، لانها رأت نتيجة أفكارها. فهي التي اقترحت بأن يأخذ زوجها خادمتها ويرفعها لتعطيه ابناً، والآن ترى العاقبة: خادمتها أخذت مكانها، بالاحرى هي اعطت مكانها لخادمتها. فتشعر بالاهانة، ترى مكانتها تتزعزع، كيانها مهدّد. وأمام هذا تنسى رغبتها في الحصول على الابن. لم يعد هذا مهما، "المهم ان احافظ على كياني". فتذهب وتطلب تدخل ابراهيم، الذي يسمح بفعل ما تشاء مع هاجر.

"فأذلَّتها ساراي، فهربت هاجر من وَجهها" (تك 16: 6). ووجدها ملاك الرّبّ، الذي دعاها لتعود وتضع نفسها تحت يد سيدتها، لانّ الرّبّ سيكون معها ويكثر من نسل ابنها حتّى لا يحصى لكثرته. وقال لها:"ستسمي ابنك ((اسماعيل)) لأنّ الرّبّ استمع إلى صوت شقائك". نعم الرّبّ استمع لهاجر، إلى صوت شقائها. وان هو استمع إليها فلأنها بالتّأكيد قد صرخت. صرخت وعبّرت عن شقائها، كيف؟ من المحتمل انها قالت "الهي، الهي لماذا تركتني؟". الكتاب لا يقول كيف صرخت، لكن ما يقوله هو ان الرّبّ استمع لصوت شقائها وانقذها من الموت في الصّحراء ووعدها بنسل لا يحصى.

وولدت ابناًُ وسماه ابراهيم اسماعيل. كان عمر ابراهيم حينذاك سِتٍّ وثمانين سنة.

"ولمّا كان أبرام ابن تسع وتسعين سنةً، تراءى له الرّبّ" (تك 17: 1). مرّت ثلاثة عشر سنة على مولد اسماعيل، ، وكلّ اعتاد على وضعه. ابراهيم اصبح له ابن. ساراي لها ابن خادمتها، وخادمتها تنعم بمرتبة ارفع من سواها بين الخادمات ، فالابن ابنها. الحياة استقرت، الكلّ تأقلم مع الوضع الجديد، واقتنع ان هذا هو الحلّ الانسب. الكلّ اكتفى بما حدث وقَبِلَ ان تستمر الحياة بهذا الشّكل. الابن موجود الآن، وسيكون له ابن ايضاً، وهكذا اصبح النّسل مضموناً. هناك من سيرث ابراهيم، ويعيله في كبره. هكذا ركدت واستقرت مياه الطّوفان.

لكن ان كان هذا ما يجب ان يكون لم انتظر ابراهيم كلّ هذه السنين؟ لماذا لم يحصل على الابن من الخادمة منذ البدء؟ لماذا كان عليه ان يخرج من ارضه، ان يترك عشيرته وبيت ابيه؟ لماذا كان عليه ان يذهب الى مصر؟ ان كان حلّ المسألة بسيط هكذا فلم كلّ هذه الأحداث؟

الرّبّ يتراءى من جديد لابراهيم، ويعده مجدّداً بالنّسل، فيقول له: نعم، نسلي من اسماعيل، فيقول الرّبّ: لا. ابنك من ساراي.

الرّبّ لا يقبل ان يخضع ابراهيم للأمر الواقع، ان يقلّل، ويَحُدّ من دعوته، ان يًحَجِّم من رسالته وهويته. ابراهيم دُعي لشيء اكبر بكثير، اكبر من ان ينال ابن من قوته الذّاتية.  وُعد بنيل النّسل من احشاء امراته العاقر، كي يظهر ان الرّبّ هو القادر على اعطاء الحياة من عمق الموت والعقم. ابراهيم ليس مدعواً فقط للحصول على ابن، لكن لرؤية قدرة الله، من خلال ذلك. ان يكون في عهد مع من هو قادر على احياء الموتى، واعطاء الحياة من الاحشاء اليابسة. هذا هو الوعد؛ ان يرى ابراهيم الحياة، وان كانت في حالته ان يرى ابن يخرج من عمق العقم.

الابن ما هو الا علامة مرئية لقدرة الله وسلطانه على الموت والحياة. لذا فالوعد بالابن ما هو الا وعد برؤية الله ومجده. لكنّ ابراهيم، من خلال اسماعيل، اكتفى بالعلامة، بالابن، لكنّه لم يرى الله بعد.

الانسان مدعو لاكثر من حياة عاديّة. الانسان لم يُخلق كي يكتفي بحياة هادئة او سهلة وبسيطة، يتزوج ام لا. ينجب ام لا، يكبر الابناء، يعلمهم، وبعدها يموت. كل هذا مقدس، ولكن هناك شيء اساسي قَبله؛ الانسان مدعو لرؤية الله على هذه الارض واختباره، ان يرى مجده ويتعرف عليه. ان يعرف من هو الله القادر ان يقيم من عمق الموت وهذا ما يستحيل على الانسان فعله؟ فالانسان مدعو ان يختبر ذلك من خلال احداث حياته، في الزواج، في البتولية، في تربية الابناء وتعليمهم، وحتى في موته. اي انّ كلّ هذه الاشياء ما هي الا مساحة مكانية ووقتية كي يدخل الانسان في علاقة مع الله، كي يرى الله. لكن المشكلة تبدأ عندما يكتفي الانسان بتلك العلامات وينسى هدفها، اي عندما يكتفي باسماعيل.

لذا الله يتراءى مجدّداً لابراهيم. لكن ماذا سيفعل هذا الأخير امام تجديد الوعد؟ وماذا سيطلب الرّبّ منه هذه المرة؟ …للمرة القادمة.