الكنيسة الكاثوليكية والحرب

بقلم الأب فرنسوا عقل المريمي

الفاتيكان، الاثنين 14 ديسمبر 2009 (Zenit.org).

 عرفت البشريّة الحروب منذ جريمة القتل الأولى في التّاريخ حين أردى "الأخ الأوّل" أخاه.

إنّها النّزعة "القايينيّة" الأنانيّة المختبئة في عمق باطنيّة الإنسان غير الواعية، تجنح فيه أحيانا نحو السّيطرة على الأشخاص والأشياء. مركّب "تنازع البقاء" هي، وتسلّط المرء على أخيه الإنسان عن غير وجه حقّ. إنّها تلك الرّغبة "الذِئبيّة" المكنونة في طبيعة الكائن البشريّ المجروحة بالخطأ الأصليّ، تهدّد تهديدا مبطّنا ودائما المجتمع الإنسانيّ بمختلف فئاته، وغنى تنوّعه، بتحويله إلى غابة "ذئاب متطوّرة" حيث يصبح الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان Homo homini lupus.

وها ذاكرة التّاريخ القديم والحديث ما زالت تضجّ بصخب الحروب وغبار المعارك. فكم من قبائل ذبحت قبائل، وكم من شعوب أبادت غيرها، وكم من إمبراطوريّات سحقت أخرى واستعمرت مدنا واستعبدت أمما. فمن حروب الرّومان إلى غزوات البرابرة والتّتر، إلى حملات الفرنج، إلى هجمات صلاح الدّين وفتوحات المماليك وتيمورلنك والعثمانيّين ونابوليون بونابارت، ناهيك عن الحربين الكونيّتين وغيرها الكثير من الصّراعات والمعارك والخلافات…

 قد تدفع الحروب التّاريخ والطّبيعة إلى التّطوّر كما اعتقد هيغل Hegel، ولكنّ للتّقدّم الفعليّ وسائل أخرى سلميّة وحضاريّة، ترتبط بالفكر والعلم والثّقافة، أكثر منها بالعنف والقوّة والتّسلّط.

أمّا الكنيسة التي ذاقت طعم الاضطهاد والتّنكيل والاستشهاد، فهي عينها قد اضطرّت في مرحلة معيّنة من التّاريخ أن تدافع عن نفسها، وعن أبنائها ومقدّساتها، فأطلقت العنان في البداية، لحملات الدّفاع عن المقدّسات، بتأثير ذهنيّة تلك الحِقب وظروفها، فانحرفت حملاتها عن مسارها الأساسيّ، إذ تداخلت فيها مطامع الملوك ومصالح الحكّام فلمست حقيقة قول السّيّد: "من يأخذ بالسّيف بالسّيف يؤخذ".

أدركت الكنيسة حينها، أنّ القوّة ليست خير وسيلة للدّفاع عن الحقّ. والحرب وإن غيّرت معالم الجغرافية أحيانا، فهي لا تطوّر مسار التاريخ أبدا، بل قد تعود به إلى الوراء.

لذا، منع المجمع اللاتيرانيّ الثّاني عام 1139، في القانون 29، تحت طائلة الحرم الكنسيّ، مهارة النّبّالين والقذّافين المميتة والمنبوذة من الله في المعارك بين المسيحيّين (Conciliorum Oecumenicorum Decreta, a.c.d. G. Alberigo – G. L. Dossetti- P. P. Joannou- C. Leonardi – P. Prodi, dell’Istituto per le scienze religiose, EDB, Bologna 1996, p. 203).

بناءً على ما تقدّم، سنحاول في هذا البحث المقتضب، استقراء مواقف الكنيسة الكاثوليكيّة المقدّسة وتعليمها، بما يتعلّق بإشكاليّة الحرب والسّباق إلى التّسلح بين الدّول، وتسليط الضّوء على مفهوم السّلم ولاهوت السّلام.

I-                 شجب الحرب بصورة عامّة

ما انفكّ شبح الحروب يجتاح كلّ يوم بعض بلدان العالم. والحروب على أنواع؛ فمنها "الأهليّة" التي تشتعل بين فئتين أو أكثر من الشّعب الواحد، ومنها "الخاطفة" التي لا تدوم طويلا، ومنها "الباردة" وهي بمثابة صراع دائم أو طويل الأمد، و"الاستنزافيّة" التي تعتمد خطط المناوشات المتقطّعة، ومنها "الدّينيّة"، و"النّفسيّة" و"الاقتصاديّة" و"الإعلاميّة"… إنّ هذه الأنواع المختلفة من الحروب وغيرها ما لم نذكره، تندرج جميعها في خانة العنف الذي ترفضه المسيحيّة بصورة عامّة. وعليه، كم كان مصيبا قول غاندي Gandhi الشّهير: "العين بالعين يصبح العالم أعمى"؛ ممّا حمل المفكّر الفرنسيّ أوليفييه لاكومب Olivier Lacombe على القول: " حضّ غاندي المسيحيّين على أن يتذكّروا أنّ الإنجيل فعّال". 

وبما أنّ الكنيسة عادةً، تمنح قضيّة حقوق الإنسان الطّبيعيّة الأولويّة القصوى، فالأعمال التي تتنافى مع هذه الحقوق هي بصريح العبارة إجراميّة وممقوتة. وما الطّاعة العمياء المتجسّدة في منطق -نفّذ ثمّ اعترض- بكافية لتبرير من ينفّذ تلك الأوامر.

عالجت الكنيسة إشكاليّة الحرب إبّان المجمع الفاتيكانيّ الثّاني المسكونيّ، في الفصل الخامس من الدّستور الرّعويّ "فرح ورجاء" تحت عنوان "صون السّلام وبناء جماعة الأمم"؛ فشجبت بربريّة الحروب بصورة عامّة وأدانتها (ك ع 77) (سوف نستعمل في سياق البحث المصطلح  "ك ع" للدّلالة على وثيقة فرح ورجاء) ، لأنّها خطر داهم يهدّد النّاس في كلّ زمان ومكان، بقدر انغماسهم في الخطيئة وأعمال الشّرّ التي هي نفسها حرب ضدّ الخير والسّلام الدّاخلي (ك ع 78).

أعلنت الكنيسة موقفها بوضوح، برفضها تلك الحروب التي قد تبيد شعبا بأجمعه أو أمّة بأكملها أو أقلّيّة عنصريّة لأيّ سبب كان. إنّها أعمال إجراميّة رهيبة وينبغي أن تكون محرّمة (ك ع 79). فالأعمال الحربيّة التي تهدف، دونما تمييز إلى هدم مدن كاملة أو مناطق واسعة بما فيها من سكّان، هي بمثابة جريمة ضدّ الله والإنسان، ويجب أن تشجب بشدّة من دون أيّ تردّد (ك ع 80).

ثمّ دعت الكنيسة كذلك، إلى التمسّك بالاتفاقيّات الدّولية المتعدّدة حول كلّ ما يرتبط بالحرب في حال وقوعها، كتلك التي تعنى بمصير الجنود الجرحى والأسرى. وناشدت الجميع بالتّمسك بها وتطويرها قدر الإمكان، كيما تحدَّ من وحشيّة الحروب بطريقة أفضل وبفاعليّة أكبر.

لذا يجب العمل بدون توقّف على نشر ثقافة السّلام ونبذ الحروب، بغية القضاء على ذهنيّة العنف والقوّة العمياء المدمّرة.

II-              الحرب العادلة وحقّ الدّفاع المشروع

قد يتساءل البعض أحيانا، أن هل ثمّة حرب عادلة؟ ومن يقرّر صحّة عدالتها؟ أليس الأمر نسبيّا إلى درجة كبيرة؟ وألا يختلف مفهوم العدالة بين شعب وآخر أم بين أتباع هذا المذهب وذاك؟

ربّما يسلّم المنطق البشريّ بعدالة الحرب فيعتبرها حقّا ممكنا ومشروعا للدّفاع عن النّفس أو مقاومة اضطّهاد ما، أو ضدّ جيش محتّل غاصب، كما هو واقع الأمر بالنّسبة إلى الكثيرين من القادة والمنظّرين.

ففي العهد القديم كانت الوصيّة الخامسة "لا تقتل" محصورة في القتل المتعمّد فقط، ولم تكن لتعني قطّ المقاومة المسلحّة في وجه الظّلم والعنف.

أمّا في العهد الجديد فقد سأل بعض الجنود يوحنّا المعمدان قائلين: "ونحن ماذا نعمل؟ فقال لهم. لا تظلموا أحدا، ولا تفتروا على أحد، واكتفوا بأجوركم" (لو 3/14). ويسوع نفسه أعجب بإيمان قائد المئة الرّوماني التّابع لجيش الاستعمار والاحتلال، والذي لا يؤمن بوحدانيّة الله، فلم يلمه على حمل السّلاح بل شفى له ابنه المفلوج، لأنّه لم يجد مثل إيمانه في إسرائيل.

وقد ناقش آباء المجمع الفاتيكانيّ الآنف الذّكر في إحدى الجلسات المجمعيّة، إشكاليّة الحرب العادلة وغير العادلة، فطالب بعضهم بإلغاء الأسلحة العصريّة، والتّخلّي عن منطق التّمييز التّقليديّ ما بين "الحرب العادلة" و"غير العادلة" (Cf. I padri presenti al Concilio Ecumenico Vaticano II, (a.c.d.) Segreteria generale del Concilio, p. 267)؛ فيما نادى البعض الآخر بعدالة هذا النّوع من الحروب والمقاومة الجماعيّة للاضطهاد، من أجل تحقيق السّلام.

وارتأى يومها الكاردينال ألفريدو أوتّافياني (Alfredo Ottaviani)، أنّ على المجمع مناقشة كلّ الوسائل والمبادرات المطروحة، لدفع عمليّة السّلام إلى الأمام، وإيجاد بعض الحلول السّلميّة للصّراعات والخلافات بين الشّعوب.

لذا، رأت الكنيسة أنّه من الضّروريّ جدّا، بثّ ثقافة جديدة في مجتمعاتنا المعاصرة، هي  ثقافة رفض العنف، التي يجب أن تندرج في مناهج التّربية المدنيّة والدّينيّة، كوسيلة فعّالة لحضّ الشّعوب على الاعتراف المتبادل بالحقوق والواجبات فيما بينها، وتجنّب كلّ صراع طبقيّ أو عرقيّ وجلّ أنواع الأنظمة الأمبرياليّة السّياسيّة والاقتصاديّة، وتنمية روح الأخوّة بين النّاس (Cf. G. F. Svidercoschi, Storia del Concilio, Milano 1967,   P. 654)، من دون التّنكّر لنظريّة حقّ الدّفاع المشروع، شرط أن تكون الجماعة السّياسيّة المعنيّة، قد استنفدت كلّ إمكانيّات الحلول السّلميّة؛ مع ضرورة التّمييز المطلق ما بين القيام بالحرب بهدف الدّفاع العادل عن الشّعوب وبين الرّغبة في فرض السّيادة على أمم أخرى تحت ستار شعارات وهميّة فارغة وأعذار كاذبة، وحجج واهية. فاستخدام القوّة لأغراض سياسيّة أو عسكريّة لا يمكنها أبدا أن تكون تبريرا لتحقيق السّلام (ك ع 79).

III-          شروط الدّفاع المشروع وملحقاته

نستنتج ممّا تقدّم أنّ ثمّة شروط محدّدة ينبغي لها أن تتوفّر من أجل شرعيّة أي عمل دفاعيّ يعتمد على القدرات العسكريّة.

وعليه يكون الدّفاع المسلّح شرعيّا في الحالات التّالية:

أ‌-       في حال غدت الجماعة السّياسيّة ضحيّة ظلم واضح يكون بمثابة حافز صريح وصارخ لدفاع مشروع؛

ب‌-   بعد استنفاد جميع الحلول السّلميّة الممكنة عمليّا، من دون أدنى وصول إلى النّتيجة المرتجاة؛

ج- عندما تكون كلّ النّتائج السّلبيّة التي يسبّبها الكفاح المسلّح أقلّ خطرا من الظّلم الذي ينبغي القضاء عليه؛

د- إن كان ثمّة أمل كبير جدّا في كسب الحرب من أجل كسب السّلم فالسّلام؛

ه- إن كان من المؤكّد أنّ الدّفاع المسلّح سوف يؤول إلى احترام قدسيّة حقّ الشّعب المظلوم.

أمّا في حال اشتعال الحرب بين دولتين، وهذا أمر غير محبّذ عموما، فعلى الجيشين تجنّب قتل المدنيّين.

كما أنّه من السّذاجة بمقدار أن تلقى مسؤوليّة القتل في الحروب على الجنديّ المحارب وحده في ساحة الوغى، وهو مأمور مسكين ينطلق من مبدأ "نفّذ ثمّ اعترض" تلقّنه منذ اليوم الأوّل لدخوله معترك الحياة العسكريّة، كما لا يجب أن يتحمّل المسؤوليّة وحدهم أولئك العمّال الذين يُستخدمون في مصانع الأسلحة لتركيب الصّواريخ وصناعة القذائف والقنابل، بل بالحريّ تلك الرّؤوس الكبيرة التي تخطّط للحرب والعنف والدّمار وراء كواليس الحياة اليوميّة (راجع، تيودول ري-مرميه، الخلقيّة، (تعريب أمين مرعي)، منشورات معهد الليتورجيّا في جامعة الرّوح القدس، الكسليك-لبنان 1993، ص. 365-369).

 

IV-          نزع السّلاح

إن التّقدّم الملموس للتّسلّح المتطوّر جدّا والخطير، يزيد إلى حدّ بعيد من هول الحرب وفسادها. فباستخدام الأسلحة العصريّة المذهلة، تستطيع الأعمال الحربيّة أن تسبّب خراباً واسعاً دونما تمييز، يتجاوز حدود الدّفاع المشروع تجاوزاً بعيداً.

وعليه، فقد دعا البابا بولس السّادس مراتّ عديدة، إلى نزع السّلاح الحربيّ بصورة شاملة كي لا يؤدّي إلى خطأ لا يُغفر. لكنّ ذلك يجب أن يكون عملا جماعيّا وإلاّ يضحي جريمة إذ يحرم طالبي السّلام من الدّفاع عن أنفسهم (Commission Pontificale “Iustitia et Pax”, Chemins de la Paix, Messagges Pontificaux pour les jounées mondiales de la Paix (1968-1986), Cité du Vatican 1986, pp. 90-91). "فكلّ سباق مرهق إلى التّسلّح يغدو عثارا لا يمكن التّغاضي عنه" (Cf., A.A.S., LIX, 1967, p. 283).

أمّا خادم الله البابا يوحنّا بولس الثّاني فقد أكّد بدوره "أنّ النّزاع المسلّح هو في حال حدوثه، شرّ محتّم" ناهيك عن تهديد الحرب النّوويّة (Cf., Giovanni Paolo II, Incontro con i giovani nello stadio del prater di Vienna, 10 settembre 1983). كما أنّ "الرّدع القائم على التّوازن في الظروف الرّاهنة، ليس غاية في ذاته، ولكنّه خطوة على طريق نزع السّلاح تدريجيّا فيمكن أن يعتبر مقبولا أدبيّا (Cf. Message du Pape Jean-Paul II, à la 11º session extraodinaire de l’Assemblée Générale des Nations Unies, sur le désarmement,  7 Janvier 1983).

لذا، يجب تقليص كمّيّة اقتناء الأسلحة النّوويّة حفاظا على سلامة العائلة البشريّة، بانتظار إلغائها على وجه كامل (Giovanni Paolo II, (a.c.d. Angelo Montonati) Parole sull’uomo, Fabbri editori, corriere della sera, Bergamo 1995, p. 244).

 فبدل إنفاق الأموال الطّائلة لصنع الأسلحة المتطوّرة، يجب العمل بتواصل من أجل مداواة البؤس في العالم. فالسّباق إلى التّسلّح هو جرح بالغ الخطورة في جسم الإنسانيّة، وهو يؤذي الفقراء كثيرا. فها صوت الكنيسة يصرخ بين الفينة والأخرى في براري السّباق إلى التّسلّح، معلنا أنّ العناية الإلهيّة تشاء أن تتحرّر البشريّة ممّا كانت تفرضه الحرب عليها قديما (ك ع 81).

V-             لاهوت السّلام

تعني كلمة "سلام" في اللاتينيّة Pax، وهي تتحدّر من الجذر نفسه لعبارة Pactum أي "العقد".  وهناك من يعتقد أنّ السّلام غياب الحرب. بل إنّ "فلسفة السّلام" التي طالما دوّت أصداء مبادئها في أروقة المدارس الرومانيّة قديما Si vis pacem, para bellum  أي "إن أردت السّلام فحضّر للحرب"، لم تعد مقبولة في لاهوت كنيسة اليوم. كما ليس السّلام في السّباق إلى التّسلح لصدّ أعداء ربّما لم يوجدوا بعد ولكن يحتمل ظهورهم؛ أو من أجل خلق ما يسمّى "توازن القوى" للحفاظ عليه. فهذا لا ينتج عنه سلام حقيّقيّ ومستقرّ. بل إنّه عمل البرّ والصّلاح والخير، ومشروع بناء متواصل ترصف حجارته يوما بعد يوم؛ إنّه نشر الحبّ بين البشر وترسيخ أسس العدالة بين الشّعوب، عبر أناس ما انفكّوا يتوقون إلى عدل أكمل، ممّا يتطلّب سهر السّلطات الشّرعيّة على تحقيقه في كلّ مكان (ك ع 78).

فالسّلام الحقيقيّ المبدئيّ بالنّسبة إلى الكنيسة، هو عطيّة من الله؛ وصورة لفرح تجسدّ الكلمة الإلهيّ، ونتيجة لتجسّده كإله السّلام الحقيقيّ وأميره الذي صالح بصليبه النّاس جمعيهم مع الله الواحد والثّالوث ومع أنفسهم والآخرين، ثمّ أفاض روح الحبّ في أفئدتهم بعد قيامته من بين الأموات. لذا، على البشر جميعهم بخاصّة المسيحيّون منهم، أن يتمّموا الحقّ بالمحبّة ويكونوا سعاة سلام توّاقين إليه، جادّين في سبيل تحقيقه بعيدا عن شتّى أنواع العنف (ك ع 78).

كما يجدر العمل بشتّى الوسائل على تغيير الذّهنيّات من خلال التّربية ونشر ثقافة السّلام عبر احترام العدل وضمان الحقوق، والصّلاة المتواصلة لأله الحبّ الحقيقيّ.

أمّا الكنيسة فهي نفسها الصّوت المطالب بالسّلام، على ما يؤكّد البابا بندكتوس السّادس عشر (البابا بندكتوس السّادس عشر، إرشاد رسوليّ سرّ المحبّة، حاضرة الفاتيكان، تعريب ونشر اللجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام جلّ الدّيب- لبنان، رقم 49) ، مكمّلا ما سبق وأعلنه خادم الله البابا يوحنّا بولس الثّاني في رسالته "أعطيكم رعاة" أنّ السّلام مسؤوليّة شاملة، ينتظر أنبياءه وصانعيه الذين لا يمكن أن نحرم منهم. وإنّما يقوم على العدل، والانفتاح على الغفران ومحبّة الأعداء. فلا إمكانيّة لسلام حقيقيّ إلاّ بالغفران (البابا يوحنّا بولس الثّاني، الإرشاد الرّسوليّ رعاة القطيع، حاضرة الفاتيكان 2003، تعريب ونشر اللجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام جلّ الدّيب- لبنان، رقم 67).

الخاتمة

قالت الأم تريزا دي كالكوتا Teresa Di Calcutta: "السّلام يبدأ بابتسامة".

إنّها ابتسامة ذلك السّلام الدّاخليّ النّابع من حياة روحيّة سليمة وعميقة. ابتسامة الاعتراف الصّادق بوجود الآخر، وبحقوقه وبفرادته وباختلاف رأيه ومعتقده.

لم يعد مقنعا ما ادّعاه نيتشه Nietzsche! فالقوّة ليست هي الحقّ، بل الحقّ هو القوّة. وكم تحتاج مجتمعاتنا اليوم إلى التّفكير مليّا بكلمات الرّئيس الأميريكيّ الرّاحل جون كنيدي John Kennedy حين قال: "على البشريّة أن تضع حدّا للحرب وإلاّ فإنّ الحرب ستضع حدّا للبشريّة" (راجع، تيودول ري-مرميه، الخلقيّة…، ص. 389).

فالأرض كبيرة جدّا، وهي تتسّع لجميع الشّعوب والدّول والدّيانات والثّقافات. و"لكل شعب دعوته"، على حدّ قول الكاردينال روجيه إتشيغاراي Roger Etchegaray. ما من شعب يمكنه إلغاء الآخر بل إنّه لا يملك أصلا حقّ القيام بذلك؛ لأنّ الشّعوب برمّتها، أعضاء في جسد البشريّة الواحدة. وكلّ شعب كما يؤكّد موريس بلونديل Maurice Blondel يحمل فكرة مميّزة يريد أن يجسّدها في العالم، هي عقله ورسالته ونفسه. إنّها دعوة عالميّة شاملة إلى التّكامل، والسّباق إلى التّسلّح بالإيمان والأخلاق والعقل والفكر والعلم والثّقافة وعمل الخير والقضاء على الظّلم والجهل والفقر والقهر. فالسّلام لا يكمن في أكذوبة "توازن القوى" بحسب المصطلح المعروف. بل في توازن القيم الخلقيّة ونشر العدالة واحترام الاختلاف؛ وإلاّ فالسّلام على السّلام.

أمّا كنيسة يسوع، فتعتبر البشريّة عائلة واحدة وإن أرهقتها أوزار الحروب الأهليّة والمحلّيّة والعالمية وعواقبها. ينبغي لهذه العائلة اليوم شجب الحرب بصورة عامّة وتجنّبها والبحث العميق عن السّلام الحقيقيّ عبر اعتبار الشّخص البشريّ قيمة كبرى، ومحورا في حدّ ذاته، إذ تغدو حرّيّته وكرامته وحقوقه أولويّة في ذهنيّة تقدّميّة جديدة تدفع البشريّة إلى بلوغ ملء قامتها وحلم كمالها؛ فتتحقّق بذلك نبوءة آشعيا النّبي: "يطبعون من سيوفهم سككا ورماحهم مناجل فلا ترفع أمّة على أمّة سيفا ولا يتعلّمون الحرب فيما بعد" (آشعيا 2: 4).

* * *

الأب فرنسوا عقل، راهب مارونيّ مريميّ يعمل في مجمع الكنائس الشّرقيّة في الفاتيكان، حائز على  دكتوراه في القانون الكنسيّ، من جامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، وبكالوريوس في الفلسفة واللاهوت من جامعة الرّوح القدس –الكسليك- في لبنان، وجامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، ودبلوم في الدّراسات العربيّة والإسلاميّة، في المعهد البابويّ للدّراسات العربيّة والإسلاميّة في روما. من مؤلّفاته: "شِعْر وْصَلا"، صدر عام 2001، و"أضواء على العلاقات السّياسيّة والقانونيّة بين البطريركيّة المارونيّة والدّولة اللّبنانيّة"،  صدر عام 2007.