إعلان بطلان الزواج المسيحيّ، مفهومه وأسبابه القانونية

 

الاب د. ريمون جرجس – دمشق- عن ابونا

مقدِّمة

نواجه اليوم ظاهرة معلومات إحصائيّة مُدَمِّرة، التي تُظهر نُموّاً مستمراً ومتزايداً من عدد طالبي إعلان بطلان أو الاِنفصال أوالطلاق المدنية والكنسيّة في أرجاء العالم، وخصوصاً في السنوات الأولى من الحياة الزّوجيّة حيث يصبح التعايش أمراً مستحيلاً. تجاه هذه الظاهرة نودّ أن ندرس مفهوم إعلان بطلان الزواج المسيحي وأسبابه من وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية وبشكل خاص، من منطلق الشرع الكاثوليكي.

مفهوم "إعلان بطلان" زواج

صحيح أنّ الكثير من المؤمنين يعتبرون طبيعة "إعلان بطلان" بمثابة طلاق لمعالجة واقعية فشل الحياة الزَّوجية؛ لكن هذا غير صحيح لأنَّ هناك فرقاً بين الطلاق وإعلان بطلان وذلك في الهدف والآثار وحتى في الأسباب. فالطلاق (كما تمارسه الكنائس الشرقيّة غير الكاثوليكيّة في الكثير من الحالات والقضايا الزواجيّة، مع أنّها  تؤمن بعدم انفصام  في الزواج)  في المفهوم الكاثوليكي يتخذ الصفة اللا أخلاقية أيضاً من البلبلة التي يدخلها في الخليّة العائليّة وفي المجتمع. وهذه البلبلة تستتبع أضراراً جسيمة: للزوج الذي يهمل، وللأولاد الذين يؤذيهم افتراق والديهما وتأرجحهم غالباً بينهما، وبسبب تأثيره الذي يجعل منه عدوى وآفةً اجتماعيّة حقيقيّة1. فالطلاق يُعتبر تناقض مع طبيعة الزوجيّة السِّريّة ومع مبدأ "ما جمعه الله لا يفرقه الإنسان" الذّي يهدف إلى حلّ رباط زواج قائم. أمّا مفهوم "إعلان بطلان" فهو محدد في الشرع العام للكنيستين اللاتينية والشرقيّة والذي يتعلق بفعل الرّضى وعناصره الجوهرية، وبالإجراءات الشكلية القانونيّة وبالموانع الكنسية؛ وتكون سابقة لفعل الرّضى أو مرافقة له أو قد طرأت بعد الزواج. فالإعلان عن بطلان الزواج للأسباب المذكورة، لا يمكنها أن تتعارض مع مبدأ عدم انحلال الزواج2. فإنَّ فرضيّة وجود عيب في الرضى الزواجي منذ البدء والذي أفَسَد نتائجه الرابطة الزوجيّة من الأصل، يجيز تدخّل المحكمة الكنسية المختصة لكي تنظر في الطلب القانوني المقدّم من المدعيّ وفقاً للأصول والأحكام الكنسيّة لتعلن بطلان الزواج. فالكنيسة ليس لديها سلطة في بطلان زواج قائم، إنمّا تعلن أن الزواج لم يكن قائماً، عبر المحكمة الكنسيّة المختصّة. أي أنّ الزواج لم يتمّ منذ الأصل. في هذه الحال يحقّ للمتعاقدين أن يعقدا زواجاً آخر، على أن يتقيدا بالواجبات الطبيعيّة الناجمة عن قران سابق"3.

ويُرجع القانون 1360 حق الطعن في الزواج إلى الزوجين، وهذا عندما يستند طلبهما إلى سبب يختص بهما فقط. وعلى القاضي الكنسي أن يحتاط لأمر التواطؤ بين الزوجين، تخلصا من عقد الزواج، بوضعهما موانع اتفقا على تقديمها للمحاكم، وبذلك يُعتقان من وثاق الزواج بعد عقده. لذا يقول قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في خطابه أمام أعضاء الروتا رومانا "إنّه ينبغي أن نذّكر أنّ الزوجين، اللذّين يقع عليهما الحقّ في رفع دعوى بطلان زواجهما، ليس لديهما الحقّ للبطلان و لا لصحته. لكن لديهما القدرة القانونيّة على تقديم قضية بطلان زواج إلى السلطة الكنسية المختصة ملتمسين قراراً بهذا الخصوص"4. لذلك يجب التمييز بجلاء بين انحلال الزواج بالتطليق-وهو ما يقع لأسباب لاحقة على الزواج-وبين الانحلال الذي يرجع لسبب من أسباب البطلان قد يكون قائماً قبل الزواج أو حادثاً بعده، ومن شأنه انهيار أحد أركان الزواج الجوهرية.

أسباب قانونية للاعلان بطلان زواج

الزواج كفعل قانوني: "يجب أن يكون صادراً عن شخص ذي أهلية، وأن تتوفّر فيه المكوّنات الأساسيّة لهذا الإجراء، وجميع الشكليّات والمتطلبات، التي يشترطها القانون لصحة هذا الإجراء"(ق.لاتيني 124 بند 1؛ ق. ش 931). و الفعل إذا أنجز بمقتضى الشرع مع احتوائه على عناصره الخارجية يفترض أنه صحيح. لكن قد يبدو الزواج المحتفل به  صحيحاً وفقاً للشرع الكنسي، ولكنّه في الحقيقة باطل، إما بسبب مانع مبطل لم ينتبه إليه، وإمّا لعيب جوهري في مضمون الرّضى أو في الصيغة القانونيّة. والفعل غير الصحيح  هو فعل ليس له قيمة قانونيّة، فلا ينتج مفاعيله القانونيّة، أو انه ينتج مفاعيل أخرى بطريقة غير مباشرة كما هو في القانون 128.

1-الموانع الإلهيّة والكنسيّة:

من الشروط لصحّة فعل الزواج وفقاً لشرع العامّ الكاثوليكيّ هو أن يكون المعمّد ذي أهلية لإتمام الافعال الإنسانيّة وأهلية لمارسة الحقوق التي يتمتّع بها (ق.لاتيني 96؛ 11)؛ وأنَّ الشرع يمنع الأشخاص غير المؤهّلين، لأسباب قانونية صراحةّ الاحتفال بالزواج. فالمبدأ المذكور في القانون 790 أنَّ المانع المبطل يجعل الشخص غير أهل للاحتفال بالزواج على وجه صحيح. فإذا  تمّ الاحتفال بالزواج  بوجود سبب ما يمنع الإنسان بأن يمارس الحقّ الطبيعي والمرتكز على واقع أو ظرف موضوعي خاص يعتبر الزواج باطلاً وكأنه لم يكن. والمانع نهي قانوني له مصدران: الشرع الإلهي الطبيعي أو الوضعي؛ فهذا الشرع يشمل جميع الناس وهو غير قابل للتفسيح؛ والشرع الكنسي، يشمل فقط أبناء الكنيسة أو الطائفة وهو قابل للتفسيح. هناك حالات من الموانع ذُكرت في القانون 789 تمنع الاحتفال بالزواج بدون ترخيص من الرئيس الكنسيّ المحلّي5. ولكن لا تُصنَّف من الموانع المحرَّمة، لأنها لا تجعل الشخص غير قادر على الاحتفال بالزواج. وهناك موانع محرمة تنهي نهياً شديداً عن عقد الزواج. ولكن الزواج لا يضحي باطلاً إذا عقد مع وجود هذا المانع. و موانع مبطلة مبنيّة على أسباب ثابتة لا تزول تمنع من حصول الزواج بصورة عامة، وتحول أيضاً دون صحّة عقده، فتجعل الشخص غير أهل لإبرام الزواج مع أي شخص كان وتجعل عقد الزواج باطلاً 6. ويجب أن يتَّضح لرعاة النفوس، وفقاً لاحتياجات المكان و الزمان، قبل الاحتفال بالزواج، عدم وجود ما يحول دون صحّة الاحتفال به وجوازه (ق. 785 البند 1)، وأنَّ كلا الزوجين حُرّ من الموانع المقرَّرة حسب شرعه العام والخاص.

يُعدّد الشرع العام اللاتيني اثني عشر مانعاً مبطلاً (ق. 1083-1094)؛ بينما الشرع العام الشرقي الكاثوليكي  ثلاثة عشر مانعاً (800-812). و يوجد بين التشريعين بعض القوانين المختلفة والتي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار، لأنَّ الجهل أو الغلط في القوانين المبطلة أو المعدمة للأهلية لا يعيقان مفعولها (ق. 1497). و خصوصاً أنّ هذا الاختلاف التشريعي القائم بشكل واضح بين الشرع العام اللاتيني و الشرع العام الشرقي، يمكنه أن يكون قائماً بين الكنائس الشرقية الكاثوليكيّة، مما يجعل الزواج المحتفَل به بوجود مانع و إن تعلّق بواحد فقط من الطرفين، غير صحيح إذا لم يُعطَ التفسيح (ق. 790 البند 2). وهذه القوانين هي:

مانع الخطف (ق. 806) هو المانع المُبطِل للزَّواج، يقوم بأن ينتقل الرجل بالمرأة رغماً عنها إلى مكان غير آمن أو بأن يضغط عليها في مكان ما لينتزع منها رضاها بالزواج؛ القانون الشرقي لا يمييز بين الرجل و المرأة، و يتحدث بشكل عام عن شخص مخطوف ليتزوجه. أما القانون الغربي فيميز بشكل صريح و يتكلم عن الرجل الخاطف و المرأة المخطوفة (1089).

مانع قرابة المصاهرة الذّي يبطل الزواج في الدرجة الثانية من الخطّ المنحرف (ق. 809) بينما في الشرع اللاتيني محدّد فقط في أي درجة من الخطّ المستقيم (ق. 1092).

مانع الحشمة (ق. 810) الذّي يصدر عن زواج باطل أو عن التسري الشائع. و التسري concobinato هو علاقة بين رجل و امرأة كعلاقة الزوجين تكون معروفة و شائعة و مستمرة و دون أن يجمعهما عقد زواج كنسي. و لتحقيق هذا المانع يجب أن يكون هناك زواج باطل أي له هيئة زواج بحيث يُعقد وفقا للصيغة القانونية و لكن تنقصه عناصر مهمة جوهرية ليصبح صحيحاً. فإذا حضر الزواج شاهد واحد مثلاً أو صدرت بركة الإكليل عن كاهن غير صالح يكون الزواج في هذه الحالة باطلاً. و مانع الحشمة سواء صدر عن الزواج الباطل أو التسري الشائع أو المشتهر يبطل زواج الرجل بأقارب المرأة الدمويين و زواج المرأة بأقارب الرجل الدمويين في الدرجتين الأولى و الثانية في الخط المستقيم.

مانع القرابة الروحية: هو عدم الأهلية على عقد زواج بين العراب و الطفل المعمّد ووالديه بداعي سرّ العماد (ق. 811 البند 1). قد ألغي هذا المانع في الشرع اللاتيني العام. في حالة وجود قرابة روحية بين طرف لاتيني مع طرف شرقي هل يمكن الاحتفال بالزواج بشكل صحيح؟ وفقاً للقانون 790 البند 2، لصحّة الزواج يُطلب التفسيح للطرف الشرقي الذي يمكن إعطاؤه سواء من قبل الرئيس الكنسي الشرقي أو الرئيس الكنسي اللاتيني.

مانع الزواج مع غير المعمّدين: القانون 803 ينظم حالة المؤمنين الكاثوليك الذي يحتفلون بزواج مع طرف غير معمّد، ويؤكد على وجود مانع كنسي للاختلاف الديني سواء كان أحد الطرفين عند الاحتفال بالزواج يُعتبر في العرف العامّ معمّداً، أو إذا كان عماده مشكوكاً فيه والآخر غير معمّد. وفقاً للشرع اللاتيني 1086 يُعتبر المسيحيّون الكاثوليك المنفصلون عن الكنيسة معفيين من مانع الزواج باختلاف الدين، هذا الاعفاء غير مقبول في الشرع الشرقي ق. 803 البند . 

فالزواج بين الكاثوليك، أحدهم ينتمي إلى كنيسة متمتّعة بحكم ذاتي و الآخر إلى الكنيسة اللاتينية، موانع الطرف الشرقي تُحكم حسب الشرع الشرقي، وموانع الطرف اللاتيني حسب الشرع اللاتيني. إنَّ معالجة مانع مطلق للزَّواج كالسن مثلاً ليس هناك أدنى شك أنَّه يجعل الشخص غير أهل للاحتفال بالزواج إذا لم يُعط التفسيح من السلطة المختصّة. بينما لمعالجة مانع نسبيّ (كقرابة المصاهرة بين أرمل ينتمي لكنيسة اللاتين وزوجة الأخ التي تنتمي للكنيسة الشرقية، أو: القرابة الروحية بين أم شخص مُعمّد شرقي و عرّاب لاتيني)، فالراعي اللاتيني الذي تم الاحتفال بالزواج أمامه، قد لا يطلب بالضرورة التفسيح، بسبب عدم الذكر في التشريع اللاتيني موانع المصاهرة في الخط المنحرف و القرابة الروحية وفقاً للقوانين الشرقية 809 البند 1 و 811 البند 1. فإذا لم يُعطَ التفسيح فالزواج باطل، تطبيقاً للقانون 790 البند 2 الذي أقرَّ عدم صحّة الزواج، إذا تعلّق المانع بواحد من الطرفين. هذا المبدأ أُسِّس على الحق الطبيعي كما كان مذكوراً في الشرع اللاتيني القديم سنة 1917 ق. 1036 البند 3، الذي لم يندرج في الشرع اللاتيني الجديد. النهي المؤقت عن الزواج: القانون 794 البند1، بوسع الرئيس الكنسي المحلّي في حالة خاصّة، لكن لمدّة محدودة فقط و لسبب هامّ أن ينهي عن الزواج المؤمنين الخاضعين له أينما مكثوا، و كذلك سائر مؤمني كنيسته المتمتّعة بحكم ذاتي، المقيمين حالياً ضمن حدود منطقة الإيبارشية. و هذا ما يتوافق مع القانون اللاتيني 1077 البند1. أما في البند 2 من ق. 794 يوجد اختلاف بين التشريعين، فالبطريرك، ضمن حدود أراضي الكنيسة البطريركية، يمكنه أن يضيف لهذا النهي بنداً مُبطِلاً. هذا المانع المؤقت يُلزم الكاثوليكي الشرقي حتى و إن كان خاضعاً للرئيس المحلّي اللاتيني. أما الرئيس المحلّي اللاتيني فلا يمكنه إضافة بنداً مُبطِلاً للنهي. و يجدر بالذكر الإمكانية المعطاة من القانون 792 حيث يسمح للكنيسة المتمتعة بحكم ذاتي أن تَسنّ في الشرع الخاص موانع مبطلة، لأسباب بالغة الأهميّة و بعد تبادل الآراء مع الأساقفة الإيبارشيّين المعنيّين بالأمر، من كنائس أخرى متمتّعة بحكم ذاتي، و استشارة الكرسي الرسولي. في هذه الحالة، نجد أنفسنا أمام قضية صحّة الزواج المحتفل به بين كاثوليك شرقيين، أحدهما خاضع للمانع حسب الشرع الخاص لكنيسته، بينما الأخر حُرّ.

2- الرّضى الزواجيّ

الزواج المسيحي، كعهد له مفاهيم ومعالم قانونيّة تشكل كيانه، والمحتفلون يجب أن يلتزموا بها بشكل مطلق، فلا يمكنهم تحديد أو نفي الزواج بوضعه القانوني. ولقد أقرَّ المجمع الفاتيكاني الثاني أنَّ الضابط القانوني للمؤسٍَّسة الزواجية يقوم على العلاقة الحتميّة السببيّة بين الرضى الزَّوجي القائم على أساس كلمة "عهد" بين شخصين تم تصميمه لحظة تبادل الرضى بين الزّوجين اللذّين أظهرا النيّة في تأسيس مجتمع حياة زوجية؛ و موضوع الزواج، الذّي يجعل الرضى الزواجيّ في التصميم زواجيًّا و يجب أن يتم تنفيذه في مسار الحياة الزَّوجيّة. نقرأ في العدد 48: إنَّ الشركةَ الحميمية في الحياة و الحبّ الزوجيّ… قائم على رِضى شخصيّ غير قابل للنقضَ والتراجع. و هكذا فالعمل الإنسانيَُ الذّي يتبادلُ به الأزواجُ العطاء و التقبُّل هو توافقٌ ترابطيٌَ ثبَّتَتْه الإرادة الإلهية…و الرجلُ و المرأةُ اللذان برباط الزواج "ليسا هما اثنين من بعدُ، بل جسدٌ واحد" (متى 19: 6)، يتعاونان و يُساند أحدهما الآخر بما بيْنهما من اتّحادٍ حميم في الشَّخص و العمل…و هذا الاتّحاد الحميم، في كونه عطاءٌ متبادلٌ بين شخصين، و كذلك خيرُ البنبن، كُلُّ ذلك يقتضي أمانةً تامةً عند الزوجين، و ارتباط الواحد بالآخر ارتباطاً لا ينفصم". فالعلاقة بين فعل الرضى، الذّي يُبنى على أساسه الزواج، والوضع الزواجي الذّي ينبثق من الفعل، أدى بالضرورة إلى الانتقال من التفكير المؤسّساتي للزّواج إلى التفكير الشخصاني بدون الفصل بينهما. لأنّه لا يمكن الفصل بين الإرادة في الزواج وموضوع الزواج "إن من يعقد زواجاً يفترض أنه أراد الزواج، و موضوع الزواج هو أن يريد بفعل إرادة صريح كل ما بدونه لا يمكن أن يقوم زواج"7. على هذا الضوء ينبغي معالجة صحّة الزواج ليس فقط بالعودة إلى العناصر الأساسية المكوَّنة للعهد الزَّوجيَ، بل أيضاً الأخذ بعين الاعتبار مسار الحياة الزَّوجية، لأنَّها ليست حقيقة معزولة عن حياة الإنسان الشاملة و كأنّ لها مقاييسها وغاياتها المطلقة، بل هي حقيقة بشريّة إنسانية تتبع الإنسان.

يقول البابا يوحنا بولس الثاني في خطابه أمام قضاة محكمة الروتا الرومانية في 2/4/1980: "طبعاً إن الرضى الزواجيّ يصنع العقد، و لكن الرضى لا يُعتبر صحيحاً، و بمعنى آخر، لا يكون زواجيّاً، إلاّ إذا وجد العنصر الأساسي الذّي يضمن له صحّته، و هو الحب". و في خطابه الموجّه إلى القضاة في 28/1/1982 يقول: "إن مهمتكم هي في خدمة الحب. والزواج هو عطاء متبادل بواسطة تبادل الرضى. هذا الرضى، و إن أعطي في زمن محدّد فإن له امتداداً مدى الحياة. هذا الرضى هو تبادل شراكة في الحياة وو الحب كما أن الحب الذّي تحكمه الإرادة يتوجّه ليصبح موضوع عهد الزواج".

فهناك علاقة بين الفعل (إقامة عهد) الذّي يُبنى على أساسه الزواج، والوضع الزواجي الذّي ينبثق من الفعل (مسيرة الحياة الزَّوجيّة).هذا التفكير الجديد أُدخِل في الشرع الجديد للكنيسة اللاتينية 1983، والشرع الشرقي الجديد، سنة 1991 اللذّين استخدما في تعريف الزواج العبارات ذاتها كعبارة "مشاركة في الحياة" مشيراً لشموليّة الحقوق والواجبات الزوجين. فالجوهرالأساسي للمؤسّسة الزّوجيّة قائم على العهد الذّي يقطعه الزوجان لإقامة شركة في الحياة تعود لخير الزوجين بالدرجة الأولى والتي تكتمل كلياً بإنجاب الأولاد. ولأنَّ الرضى الزواجيّ هو الذّي يصنع الزواج وهو حق طبيعي، أيضاً المشاركة في الحياة هي حق طبيعي كما تبنّى ذلك توجيهات الدستور العقائدي "فرح و رجاء". في هذا الإطار نجد أن شريعة الزواج الجديدة أصبحت تشمل، موضوع الرضى الذّي هو الزوجان نفساهما إضافة إلى فعل الرضى الزواجيّ كمرحلة التصميم، وأصبح مسار الحياة الزّوجيّة كمرحلة التنفيذ جزءاً لا يتجزأ من الرضى الزواجيّ المتبادل.

بناء على هذا الضوء يجب المحافظة بقوة على القيم القانونية للزواج بأنَّ الزواج يصبح له وجود من خلال الوثاق الزواجي، و لدى معالجة قضية زواجية، يجب الانطلاق من تحديد جوهر و طبيعة الرضى الزواجيّ، بحيث أن الذّين يتزوجون لا يتبادلون رضاهم حول حقوق وواجبات نظرية و غريبة، تنظّمها الشرائع و تحدّدها القوانين، بل حصراً وتحديداً حول شخصهما، بحيث تتكون بينهما علاقة شخصانية. هذا الواقع الجديد سيؤدي بالضرورة من الوجهة القضائية إلى توسيع الأسباب لصحّة الزواج، أكان يتعلق بمؤسسة الزواج أو بشخصية الطرفين. في الحقيقة ظهرت أسباب لبطلان الزواج بشكل أوسع و منها نذكر: بطلان الزواج لعدم القدرة على تحمل مسؤوليات الزواج لأسباب ذات طبيعة نفسية نسبيّة؛ بطلان الزواج لفقدان الحب المؤدي لخير الزوجين؛ بطلان الزواج لعدم تضمين الرضى الزواجيّ التأكيد الإيجابي على المشاركة في الحياة كلّها. لذا لم يعد بطلان الزواج محصوراً بأسباب تطال صحّة عناصر السرّ ساعة الاحتفال به، بل بأسباب عدم إمكانية تنفيذ هذا السرّ.

فعل الرّضى الزواجيّ:

الرّضى وفق الشرع الكنسي الكاثوليكيّ هو "فعل إنساني"، الخاص بالانسان بقدر ما يشعر بالسيادة أثناء قيامه به بإرادته وبعقله. والافعال الانسانيّة هي تلك الأفعال الحرّة التي تنجم عن إرادة حرّة على ضوء التعقل الحرّ، وفي حالة نقص أحد هذين العنصرين أو بوجود عيب في أحدهما، فلا يمكن الحديث عن فعل إنساني كامل. والعيب يستند على الأهمية التي يمنحها الشرع الطبيعي أوالإيجابيّ. ويميّز الشرع الكنسي بين العيوب التي لها أهمية والعيوب التي لها أهمية ضئيلة؛ فيجعل البعض الفعل باطلاً، والبعض الآخر يجعله قابلا للإبطال 8. التعقل والإرادة ليسا بملكيتين متميّزتين، بل أنّ فعلهما ليس بكيانين منفصلين ومنغلقين في نفسهما، إنما هو فعل واحد في الوقت نفسه "حكم مراد" و"إرادة مقدّرة"، فلا يوجد فعل تعقل غير مرتبط بالإرادة والعكس صحيح أيضاً9. فالعقل ككينونة وكقوّة الإنسان، والإرادة كملكية الإنسان، تجعله قابلاً لأن يحرك نفسه سواء نحو غايته محاولاً تحقيقه، أم نحو الوسائل التي تهدف للغاية نفسها، ونحو موضوع محدّد.

والرّضى كفعل إرادي، قبل بلوغه لكمال الفعل المقرّر والمقصود، هو مسبوق بسلسلة من أفعال جزئية في العقل، أو أربع مراحل: 1-التصوّر؛ 2-المناقشة؛ 3-القرار؛ 4-التنفيذ، طبقاً للحكمة المعروفة:  لا أحد يستطيع إرادة شيء إذا لم يعرفه. ومرحلة القرار هي من بين هذه المراحل الأربع التي يمكن أن تكوّن الفعل الإرادي، ولكن الفعل الإرادي لا ينتهي إلاّ في مرحلة الرابعة، أي في مرحلة التنفيذ. لذلك، يصبح الرّضى ثمرة التقييم الحرّ سواء مع أم ضد لمختلف الإمكانيات، أي أنّه يصبح ثمرة حكم عقلي عملي، معدّ بشكل ملموس لشخص محدّد ولزواج محدّد.

وأيضاً من مكوّنات أساسيّة للفعل الرضى الزواجيّ، الإرادة، لأن الأمر يخصّ أفعالاً إرادية ذات طبيعة تعاقديّة، الذي ينتج فاعليته القانونيّة، أي الزواج، باستمراره أو كحالة حياة، في زمن محدّد، ويُصبح لا رجعة فيه وخالياً من قدرة هدم الشيء الذي ولّده، في اللحظة التي فيها أعطى بداية للفاعلية القانونيّة، أي الوثاق الزوجيّ. فالإرادة تتميّز، في فكر المعاصر، بأنّها ملكة قيادة الشخص، هي التي تحرّك الشخص السويّ في عمله ونشاطه، مستعينة في ذلك بالعقل-في الفكر وفي النظرة إلى الكون والحياة والإنسان…-وبالوجدان- في العلاقات والمعاملات10. فالشخص يعي بشكل كامل ما يفعله ولماذا يتممه. فالرّضى الزواجيّ هو من الأفعال الإنسانيّة، الناتجة عن عمل العقل وعمل الإرادة.

في هذا المجال، يقوم اختصاص المشرّع أو التنظيم القانوني الكنسيّ على منح قيمة قانونيّة للإرادة، التي هي السبب المباشر للعلاقة الإلزامية بين الزوجين. ويتم الاعتراف بقيمة إرادة الشخص عندما تعمل الإرادة طبقاً للشروط قرّرت من الشرع. لذا، لكي يعترف الشرع بمفاعيله القانونيّة، على الفاعل أن يتمم في لحظة إقامة الفعل، جميع الشررط الضرورية المطلوبة من الشرع. وأنّ التطابق مع أنظمة الشرع يجعل الفعل مستحقاً لكي يكون عنده تأثير قانوني. والرّضى كونه فعلاً إنسانياً، يعمل بحريّة، فهو يتجّه نحو إنتاج مفاعيل قانونيّة محدّدة الخاصّة بالفعل.

وتعليم المجمع الفاتيكاني الثاني، في الدستور الراعوي فرح ورجاء أكّد بوضوح أنّ الرّضى علة فاعلة للزواج، في حالة إصداره ينتج مفعول قانوني يخرج عن سلطة الزوجين والكنيسة (في حالة الزواج المكتمل). وعلّة الفاعلة للزواج هو وثاق الزوجين، أي الرّضى الشخصي غير قابل للإلغاء: "دون رضى المتعاقدين، لا وجود للزواج". فالزواج قائم في اللحظة نفسها التي يتبادل فيها الزوجان الرّضى الزوجيّ بشكل قانوني صحيح. وتقوم الفاعلية القانونيّة على تغيير واقعة موجوة مسبقاً، مما يؤدي إلى قيام حالة  قانونيّة جديدة. لهذا السبب الرّضى ينتج فاعليته الطبيعية "الزواجيّة" في لحظة ظهوره الشرعي، الفاعلية التي تستمر في الوجود بشكل مستقل عن الرّضى الذي أوجده، لهذا السبب الرّضى بالمعنى القانوني لا يمكن إلغاؤه.

"صحيح أنّ المتعاقدين هما، من خلال رضاهما السيادي،  وأنه لا وجود لسلطة بشرية أخرى يمكنها أن تنوب عنهما، يؤسّسان الوثاق الزواجيّ، لكن هذا لا يعني أنّ سلطة الاتّحاد الدائمة تنتمي في الإرادة. الرّضى ليس ببساطة قرار اتّحاد إلى الأبد في وحدة دائمة، حصريّة وخصبة، كما لو كان قرار إعطاء وقبول بشكل متبادل للحقوق وللواجبات التي تنجم عن الحياة الزواجيّة، بطريقة تدعو اليوم للتخلّى عن إمكانيّة الإلغاء في المستقبل تلك الإرادة التي تظهر في الوقت الحاضر، تقريباً كتخلّ عن ممارسة الحرية الخاصّة في المستقبل. الإرادة لديها سلطة اتّحاد ليس لذاتها، لكن الإرادة هي أداة من خلالها تتحقق قوّة التي هي مطبوعة في الطبيعة نفسها لشخص-الرجل ولشخص المرأة. الرّضى الزواجيّ هو العلة الفاعلة للوثاق الزواجيّ، لكنها علّة لا تعمل في فراغ، موحّدة حقيقتيين مختلفتيين ولذا يجب أن تحافظ على وحدتهما لكي لا ينفصلا. لهذا السبب الإرادة لها قوّة الاتّحاد، وليس لديها قوّة الانفصال".

2- عنصر الإرادة غير كاف، فمن الضروري وجود موضوع، دافع من أجله تقرّر الإرادة. والدوافع التي من أجلها يحتفل بالزواج عديدة ومتنافسة فيما بينها أحياناً بقدر ما أنها مرتبطة بجوهر الزواج ويكون لها التأثير بسهولة جداً على الرّضى. فمن يتزوّج رغبة بأن يكون لديه أبناء يختلف عمن يريد الزواج لسبب العيش بالقرب من الوالدين، أو في تلك المدينة، وهذا لن يكون الدافع الرئيسي للرّضى. كما يجب التمييز بين الدوافع التي تجعل من الزواج وسيلة للوصول إليها والدوافع التي تشير إلى الزواج في ذاته: هذه الدوافع تستطيع بسهولة أن يكون لديها تأثير مباشر على الرّضى، حتى وصولها إلى أن تكون جوهرية، لذلك، ينسب لها الشرع أهمية كبيرة في بعض الحالات. ومن جهة أخرى، قد يرتبط الدافع بالخصائص الجوهرية للزواج. فإذا كان حكم أو رأي خاطئ حول إحدى هذه الخصائص دافعاً لأن يريد أن يتزوّج، يمكن بسهولة الافترض أنّ مثل هذا الغلط قد دخل في الرّضى أيضاً. فكلّما كان الدافع المحرّك قريباً من الجوهر، فالاحتمال الكبير هو أنه يحدّ من الإرادة. والإجراء الذي تم اتخاذه بدافع الجهل أو الخطأ، يُعَدّ باطلاً، إذا تناول هذا الإجراء ما هو جوهري في الأمر، أو عدّ شرطاً لا بد منه؛ وإلا عدّ صحيحاً، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك. أما الإجراء، الذي تم اتخاذه بدافع الجهل أو الخطأ، فيمكن أن يعطي الحقّ في إقامة دعوى لإبطاله، بموجب أحكام القانون. فالغلط حول حقائق أخرى، حتى وإن كانت غير منفصلة عن الجوهر، ليس لها ثقل البطلان. فالسبب للتقليل من قيمة الغلط بخصوص الخصائص الجوهرية لا يقع على التصنيف أو في قوّة  الغلط نفسه، لكن في التمييز الواضح والمختلف الوجود بين تطابق جوهر الزواج وخصائصه الجوهرية. فضآلة الغلط بخصوص الخصائص الجوهرية المقرّرة في القانون 1099 لا تخلق استثناء المبدأ العام المقرّرة في القانون 126، لأن هذه الخصائص كونها مرتبطة بشكل غير منفصل عن جوهر الزواج تبقى متميّزة عنها.

والأسباب أو العيوب قد تكون ظاهرية، على سبيل المثال الخوف والخدعة، وداخلية كالجهل والغلط؛ ويمكن أن تؤثر على الإرادة، كالخوف، وعلى العقل كالخدعة والجهل والغلط. كما توجد بعض العيوب يمكنها أن تكون قوة ضاغطة صادرة عن عوامل خارجية لا يمكن مقاومتها مثل الإكراه والخوف (ق. 825) ؛ اضطرابات نفسيّة بسبب خطر وشيك أو في المستقبل؛ عنف أخلاقي ينبثق من الخارج و يؤثر على نفسيّة الشخص والتي تجمّد فعل الإرادة الحرة أو تنزعها بقصد انتزاع الرّضى. و لكن الفعل المنجز من الشخص بخوف هو صحيح لأنه يحتوي على جميع العناصر الضرورية.  و يجب أن تكون هذه العوامل المذكورة سبباً لعقد الزواج و بدونه لا يتمّ العقد11. فالعيوب الصادرة عن العوامل الداخلية للشخص، والتي تؤثر بعضها على العقل هي: الجنون، الجهل، الغلط، الغش؛ وبعضها تؤثر على الإرادة (العنف الجسدي) و بأمور جوهرية تتعلق بطبيعة الزواج (ق. 819). بسبب هذه العيوب، الفعل القانوني يمكن اعتباره غير قائم (ينقصه عنصر أساسي و جوهري؛ مثلاً الرسامة الكهنوتية للمرأة) أو باطل (ينقصه شرط جوهري مقرّر من الشرع، مثلاً الصيغة القانونيّة للزّواج) أو عديم المفعول (ينقصه الشرط الذّي يطلبه الشرع لكي ينتج الفعل مفاعيل قانونيّة، مثلاً تثبيت السلطة المختصة لطلب إنسان مكرّس ذي النذور المؤقتة قدّم بطلب استقالته، وفقاً للقانون 499)؛ أو غير صحيح، أو قابل للبطلان12. كما أن هناك أسباباً أخرى تعطل الرّضى القائم بحد ذاته، في حال أصبح السبب لدى المتعاقد شرطاً أساسياً بدونه لا يتم الاحتفال بالزواج. 

3- الصيغة القانونية للزَّواج:

الحفاظ على الشكليات والمتطلبات الجوهرية المطلوبة من الشرع. الشكلية أو شكل الفعل، ليس دائماً ضرورياً لصحة الفعل القانوني، إلاّ في حالات مذكورة في الشرع. والسبب في ذلك أنّ الشكل لا ينتمي لجوهر الفعل القانوني، ففي بعض الحالات يمكن منح التفسيح من الشكل أو من الصيغة القانونيّة للفعل القانوني، وفي حالة عدم منح التفسيح يُعَدّ الفعل القانوني غير صحيح. وقد حدّد الشرع الكنسيّ الصيغة القانونيّة التي من خلالها يُوضع الفعل القانوني، ليس لهدف إثبات انعقاد الزواج بشكل علني فقط وإنَّما لإظهار الطابع المقدّس والسرّيّ للزواج من خلال احتفال ديني يتمذ في وسط الجماعة الكنسيّة التي إليها ينتمي الزوجان. في الكنيسة اللاتينية، الصيغة القانونية تستوجب الرضى المتبادل فقط بحضور كاهن وشاهدين، بينما الصيغة القانونية الشرقية فهي تتضمّن مع الرّضى الزواجي عنصر جوهري و هو "بركة" تمنح من قبل كاهن أو رئيس كنسي مختصّ؛ وهذه الصيغة القانونية تنتمي في الشرع الشرقي الكاثوليكي والارثوذكسي إلى جوهر فعل الزواج القانوني، فمن دونه يُعتبر الزواج غير قائم. نقرأ القانون الشرقي الكاثوليكي: 828  البند 1- ليست زيجات صحيحة إلا التي يحتفل بها بطقس مقدس، أمام الرئيس الكنسي المحليّ أو الراعي المحليّ، أو الكاهن الذّي منحه أحدهما صلاحية مباركة الزواج، وأمام شاهدين لا أقل، ولكن وفقاً لأحكام القوانين التالية ومع عدم الإخلال بالاستثناءات المذكورة في القانون 832 والقانون 834 البند 2. البند 2- بالطقس المقدس يعني هنا اشتراك الكاهن بحضوره وبركته. هذه الصيغة القانونيّة لها طابع شخصي أي أنَّها تلزم المعمّد حتى و لو كان خارج أراضي الكنيسة المتمتّعة بحكم ذاتي والتي ينتمي إليها.

الزواجات بين الشرقيين وإن كان أحد الطرفين ينتمي إلى الكنيسة الأرثوذكسية لا تعتبر صحيحة إلاّ إذا احتفلت برتبة مقدسة، أي التي يُحتفل بها بحضور وبركة الرئيس الكنسيّ المحليّ أو الخوري المحليّ، أو كاهن حصل من أحد هذين الاثنين على صلاحيّة مباركة الزواج وبحضور الشاهدين فقط. فالمحتفلون –أساقفة أو كهنة- هم شهود على الرضى المتبادل بين الزوجين، و لكنّ بركتهم ضروريّة أيضاً لصحّة السرّ"13. والكاهن الشرقي له حضور فعّال وجوهري، ليمنح البركة بموجب الطقس الكنسي، كخادم حقيقيّ للسرّ، فإذا لم يحضر فلا يحسب الزواج كنسياً، لأن حضوره لصحّة الزواج وبالطقس المقدس يُعبر عن الطابع المقدس للزَّواج وكعنصر قانوني أساسي للصيغة الاحتفال العادية للزَّواج. فمهمّة الكاهن المختص هي بمثابة عمل ليتورجى وإداريّ، فحضوره وتدخّله لمباركة زواج يبقيان عنصرين أساسيين لصحّة الزواج في الحالات العادية14.

بينما الاحتفال الليترجيّ للزَّواج والبركة الزوجيّة في الكنيسة اللاتينية لا يُعتبران عناصر أساسية لصحّة الزواج. فتدخّل الكاهن الممثل عن الكنيسة في الاحتفال بالزواج يُعتبر عملاً قانونياً حيث يطلب ويقبل الرضى الزَّوجي (ق. 1108 البند2) والذي يمكن أن يُنجز بواسطة مؤمن علماني رجل أو امرأة بمهمّة خاصّة (ق. 1112). وكما أنَّ الكنيسة اللاتينية تمنح للشماس الإنجيلي صلاحيّة حضور ومباركة الزواج وفقا للقانون اللاتيني 1111 البند 115. فالزواج بين طرف لاتيني وشرقي كاثوليكي، إذا أحتُفِل به في الكنيسة اللاتينية، يُعمل بالصيغة المقرَّرة وفقاً للقانون 1108 اللاتيني وذلك لصحّة الزواج؛ أمّا إذا تَمّ الاحتفال به في كنيسة شرقية كاثوليكية، فيُعمل بالصيغة المقرَّرة وفقاً للقانون 828 أيضاً لصحّة الزواج، آخذين بعين الاعتبار أن بركة الكاهن في الشرع الشرقي عنصر جوهري للصيغة القانونية للاحتفال بالزواج.

فإذا تمّ احتفال بالزواج بحضور شماس أو علماني مُفوّض من الأسقف المحلّي اللاتيني في كنيسة شرقية كاثوليكية أو أرثوذكسيّة يعتبر غير صحيح (ق. لاتيني 1127 البند 1؛ ق. 834 البند2). إنَّ الرئيس الكنسي اللاتيني لا يمكنه إعطاء التفسيح من الصيغة القانونية إلى مؤمن شرقي وفقاً للقانون 916 البند5 ليعقد زواجاً مختلطاً16. إنّما له صلاحية للتفسيح في حالة انعقاد زواج مختلط يكون أحد طرفيه كاثوليكياً لاتينياً فقط (ق. 1127 البند2): يجوز للرئيس الكنسيّ المحليّ، لأسباب خطيرة أن يُعفي الطرف الكاثوليكيّ الخاضع له من التقيّد بصيغة الزواج التي يقرّها الشرع، مع مراعاة شرع الكنائس الشرقية (ق. 835)، و بعد استشارة الرئيس الكنسيّ في المكان الذي يُقام فيه الزواج. من أسباب هذا الإعفاء المحافظة على تناغم الأسرة، و الحصول على موافقة الأهل على الزواج، و تمسّك الطرف غير الكاثوليكي بدينه، و صلة القربى بينه و بين خادم من كنيسة أو جماعة كنسيّة أخرى17. فمراعاة لشرع الكنائس الشرقية (فيما يخص الزواجات المختلطة) التفيسح من الصيغة القانونيّة يُعطى من الكرسي الرسولي و من البطريرك بشكل حصريّ.

الرئيس الكنسي المحليّ أو الراعي المحليّ ما داما هما في حكم الوظيفة القانونية، ضمن حدود أراضيهما يستطيعان أن يحضرا و أن يباركا بشكل صحيح الزواج في "أي مكان"، حتى في الأماكن المنتمية إلى كنيسة أخرى متمتّعة بحكم ذاتي18، "شريطة أن يكون أحد الطرفين منتمياً إلى كنيستهما المتمتّعة بحكم ذاتي"( ق. 829 البند 1) ، أي إلى كنيسة الرئيس الكنسي المحليّ أو الراعي المحليّ، وذلك لتجنّب أي شك حول اختصاصهما في تلك الأماكن و الايبارشيات حيث يعيش مؤمنون بالطقس المختلف.

إنّ عبارة "غير الخاضعين" تُشير إلى المؤمنين المنتمين إلى كنيسة متمتّعة بحكم ذاتي للرئيس الكنسيّ المحلّي أو الراعي و لا تُشير للمؤمنين المنتمين إلى كنيسة أخرى متمتّعة بحكم ذاتي. في هذه الأماكن، يبارك الرئيس الكنسي المحليّ أو الراعي المحليّ الزواج على وجه جائز، ما لم يرفض ذلك صراحة الرئيس الكنسي الذّي يمارس سلطانه في ذلك المكان (ق. 831 البند 1 رقم 3). لجواز الزواج يُطلب الاحتفال به ضمن منطقة الرعيّة حيث أحد الطرفين لديه موطن أو شبه موطن (ق. 911-917) أو المكوث لمدّة شهر (30 يوماً)؛ أو في حال الرحّيل، فالزواج يجب أن يُحتفل به في الرعيّة حيث الطرفان يمكثان. في حالة أن الزوجين يريدان الاحتفال بزواجهما في مكان أخر، يُطلب دائما لجواز الاحتفال الترخيص من الرئيس الكنسيّ أو راعي موطن أو شبه موطن أحد الطرفين (ق. 831 البند 1 رقم 2). الترخيص ليس بمثابة صلاحية و إنما إذن. اختلافاً عن الشرع اللاتيني الجديد، الشرع الشرقي الجديد يُعطي الأسبقية لمباركة الزواج إلى راعي العريس ما لم يقتض الشرع الخاصّ غير ذلك (ق. 831 البند 2) حسب التقاليد و عادات كلّ كنيسة متمتّعة بحكم ذاتي و حسب متطلبات أحوال الأشخاص. و لكن لسبب صوابي، يمكن الاحتفال بالزواج بمباركة راعي العروس19.

إن الشرقيين الذّين لديهم إقامة أو شبه إقامة في أراضي الكنيسة اللاتينية، هم خاضعون للرئيس الكنسي المحليّ اللاتيني مع كل ما يخص بالآثار القانونية وفقاً للقانون 916 البند 5، لكنهم ليسوا خاضعين بشكل مباشر لكاهن الرعية اللاتيني المحلّي. فجميع الكهنة الذين لديهم تفويض من الرئيس الكنسيّ المحلّي اللاتيني يستطيعون حضور و مباركة الزواج بشكل صحيح وفقاً للقانون اللاتيني 383 البند 2. و بالمقابل، وفقاً للقانون 830 البند1، يمكن للرئيس المحلّي و للراعي ذي الطقس الشرقي منح صلاحية مباركة زواج بين الشرقيين لكهنة كنيسة اللاتين. وفقاً لدليل تطبيق مبادىء الحركة المسكونية و قواعدها سنة 1993، يجوز لكاهن كاثوليكيّ أو لشماس إنجيليّ، بموافقة مسبّقة من الرئيس الكنسيّ المحليّ، أن يشترك، بطريقة ما، حضوراً أو فعلاً، في الاحتفال بزواجات مختلطة، إذا دُعي إلى ذلك، و إذا تمّ الإعفاءُ من الصيغة القانونيّة20. 

الصيغة القانونيّة للزَّواجات المختلطة

في بلدان الشرق الأوسط، الزواجات المختلطة ليست بحالات استثنائية في أيامنا. فهناك العديد من الكاثوليك يعيشون كأقليّة يرغبون في زواج مختلط أي مع شخص معمّد غير كاثوليكي. فالزواج يجب أن يتمّ وفقا للعادات و التقاليد حسب طقس كنيسة الزوج. فليس للزوجين حرية الاختيار للاحتفال بالزواج بين كاهن كاثوليكي أو أرثوذكسي بين كنيسة كاثوليكية شرقيّة  و كنيسة أرثوذكسية. بدون شك لا يوجد اختلاف جوهري فيما يخص الصيغة القانونيّة إلاّ فيما يخص بعض فروقات في مفهوم الزواج. فالكنيسة الشرقية الكاثوليكية و أيضاً الأرثوذكسية، تَعًدُّ الزواج سرّاً و لا يكون صحيحاً إلاّ إذا تمّ عقدُه أو الاحتفال به كنسيا مع بركة كاهن. فالزواج المختلط بين طرف كاثوليكي و طرف شرقي غير كاثوليكي، و إنّ تَمّ في الكنيسة الأرثوذكسية كان صحيحاً(ق. 781 البند 1)، لا يمكن أن يتم الاحتفال به بشكل جائز أمام كاهن أرثوذكسي بدون أذن أو ترخيص من الرئيس الكنسي المحلّي الكاثوليكي. وهذا الترخيص، لا يعني هنا، التفسيح إن صحّ التعبير عن الصيغة، لأن بركة الكاهن الأرثوذكسي كافية لصحة الزواج. أمّا الزواج المختلط بين طرف كاثوليكي و طرف بروتستانتي، فهناك اختلاف جوهري لأنّ الجماعات المسيحية البروتستانتية تُخالف المفهوم الكاثوليكي بنكرانها سرّية الزواج و سرّيّة الكهنوت.

فالشرع الكنسي اللاتيني لا يعتبر الزواج صحيحاً إلاّ إذا تمّ عقده في الكنيسة و إلاّ فيجب الحصول على إعفاء صريح من "واجب الصيغة". أما الشرع الشرقي الكاثوليكي، في حال الزواج مع طرف بروتستانتي، ألزم أحد الطرفين بصيغة قانونيّة لصحّة الزواج وفقاً للشرع الكاثوليكي. و هي في الحالة العادية مباركة الكاهن مع العمل بالأمور الأخرى التي يقتضيها الشرع21. أو إذا تّمّ وفقاً للصيغة البروتستانتية، ينبغي الحصول على التفسيح من الصيغة القانونية المذكورة في القانون 834 من قبل البطريرك و الكرسي الرسولي فقط (ق. 835) و إلاّ كان الزواج باطلاً. فيجب على الطرفين الالتزام بصيغة قانونية موحدة متطابقة مع متطلبات الشرعين معاً، و هذا ما يتوافق مع المبدأ المُتخذ في كل الأنظمة التشريعيّة المدنيّة. و إن تمّ إجراء مراسيم هذه الزواجات في الحالة غير العادية بموجب نصوص القانون 832 البند 1 هو باطل، عملاً بالقانون 781 وحتى في الكنيسة الكاثوليكية بسبب عدم توفر الشعائر الدينية المطلوبة بمقتضى أنظمة الكنائس الشرقية غير الكاثوليكية والتي تستند إلى القانون 781. فالكنيسة الأرثوذكسية تطلُب دائماً تدخُّل الكاهن في الاحتفال الزوجي ليمنح البركة. القانون اللاتيني 1127 البند 2، ينصّ أنَّه في حالة الزواج بين اللاتين و الشرقيين غير الكاثوليك، الصيغة القانونية المقرَّرة هي للجواز؛ بينما للصحّة، يُطلب تدخل خادم السرّ. فلا يمكن الافتراض أن الرئيس الكنسيّ المحلّي اللاتيني يمكنه منح التفسيح من الطقس المقدّس، أي من بركة الكاهن في حالة زواج بين طرف لاتيني وشرقي أرثوذكسي.